والآية جامعة لأقسام الحجّة الحقّ جمعا لمواقع أنواعها في طرق الدعوة ، ولكن على وجه التّداخل ، لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين ، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض ، فالنسبة بينها التباين. أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي. وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل ، وذهنك في تفكيكها غير كليل.
فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان لأنه يتألف من المقدمات اليقينية وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه.
وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة لأن الخطابة تتألف من مقدّمات ظنّية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة. وكفى بالمقبولات العادية موعظة. ومثالها من القرآن قوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) [سورة النساء : ٢٢] فقوله : (وَمَقْتاً) أشار إلى أنّهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يسمونه نكاح المقت ، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مقنع بأنه فاحشة ، فهو استدلال خطابي.
وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلّة المسلّمة بين المتحاجين أو من الأدلّة المشهورة ، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة. وقد يكون مما يقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة. وسمّاه حكماء الإسلام جدلا تقريبا للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدّعوة بعد الإعلام بأن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم.
فلما كان التّحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجا لبيان الحكمة في ذلك بيّنت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس وليس ذلك لغير الله من الناس فما عليك إلا البلاغ ، أي فلا تيأس من هدايتهم ولا تتجاوز إلى حدّ الحزن على عدم اهتدائهم لأن العلم بمن يهتدي ومن يضلّ موكول إلى الله وإنما عليك التبليغ في كل حال. وهذا قول فصل بين فريق الحقّ وفريق الباطل.
وقدم العلم بمن ضلّ لأنه المقصود من التعليل لأن دعوتهم أوكد والإرشاد إلى اللّين