السامع تلك الأخبار الماضية والمحاورات ، فوجب عليه وجوبا اضطراريا استماعه والنظر في الأمر المقرّر في نفوس البشر ، ولذلك أخذ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة. ولذلك فلو قدّرنا أحدا لم يخالط جماعات البشر ، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا ، لما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده. وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي ، ولا عقلي نظري ، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها.
وثاني الجوابين : بالتسليم ، غير أنّ ما وقر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة ، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة ، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه ، ويتلقّى دعوته وتحدّيه ومعجزته ، فلا يشعر إلّا وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوّ ، فحرّكت فيه داعية النظر ، فهو ينجذب إلى تلقّي الدعوة ، رويدا رويدا ، حتّى يجد نفسه قد وعاها وعلمها علما لا يستطيع بعده أن يقول : إنّي لا انظر المعجزة ، أو لا أصغي إلى الدعوة. فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى ، فكان مؤاخذا ، فلو قدّرنا أحدا مرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله ، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطبا ، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحم الرسول لا تتعطّل الرسالة ، ولكنّه خسر هديه ، وسفه نفسه.
ولا يرد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هاربا حينئذ ، لا يتوجّه إليه وجوب المعرفة ، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلّا بعد أن علم أنّه قد تهيّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى ، وكفى بهذا شعورا منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى ، كما قال تعالى في قوم نوح : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) ـ أي إلى الإيمان ـ (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح : ٧].
والإظهار في مقام الإضمار في قوله : (بَعْدَ الرُّسُلِ) دون أن يقال : بعدهم ، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال.
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله : (عَزِيزاً حَكِيماً) : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة ، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليل حكمته تعالى ، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّته أن يكون غالبا من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة ، لا يسأل عما يفعل ، وغالب من طريق المعقوليّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلّا بعد الأدلّة والبراهين والآيات. وتأخير