قصّة على قصّة ، فإنّ ما حكي في هذه الآية لا يليق إلّا بالمنافقين ، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنّهم لا يؤمنون بما يبلّغهم النبي صلىاللهعليهوسلم من وعد الله بنصر المؤمنين. وأمّا على رواية السدّي فيحتمل أنّ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثا من قبائل العرب كانوا على شفا الشكّ فإذا حلّ بهم سوء أو بؤس تطيّروا بالإسلام فقالوا : هذه الحالة السوأى من شؤم الإسلام. وقد قيل : إنّ بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمت أنعامه ورفهت حاله حمد الإسلام ، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطيّر بالإسلام فارتدّ عنه ، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمّى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلىاللهعليهوسلم في شأنه : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها».
والقول المراد في قوله : (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) هو قول نفسي ، لأنّهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علنا لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم وهم يظهرون الإيمان به. أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين ، يقولون : هذه من عند محمد ، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له ، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧]. والمأمور به هو : أن اعبدوا الله ربك وربّهم. وورد أنّ قائل ذلك هم اليهود ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق ، لأنّ المعنيّ به معروفون في وقت نزول الآية ، وقديما قيل لأسلافهم (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١]. والمراد بالحسنة والسّيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنة الملائمة والكائنة المنافرة ، كقولهم : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ، وتعلّق فعل الإصابة بهما دليل على ذلك ، أمّا الحسنة والسّيئة بالاصطلاح الشرعي ، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه ، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين ، ولا تعرف إصابتهما لأنّهما اعتباران شرعيان. وقيل : كان اليهود يقولون : «لمّا جاء محمد المدينة قلّت الثمار ، وغلت الأسعار». فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثّر في حدوث السّيئات ، وأنّه لولاه لكانت الحوادث كلّها جارية على ما يلائمهم ، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدلّ على أنّهم أرادوا هذا المعنى ، وهو كلمة (عند) في الموضعين : (هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ؛ إذ