أعيد ليرتّب عليه قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) لبعد الأمر الأول بما وليه ، ومثله قوله تعالى : (اتَّخَذُوهُ) [الأعراف : ١٤٨] بعد قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً) [الأعراف : ١٤٨] الآية.
وقوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أملّ وأملى لغتان : فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة تميم ، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وقال : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] ، قالوا والأصل هو أملل ثم أبدلت اللّام ياء لأنّها أخف ؛ أي عكس ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذ أصله تقضض.
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاما على سامعه ليكتبه عنه ، هكذا فسره في «اللّسان» و «القاموس». وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة ، وإلّا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان [٥] : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان ، ولغرض الحفظ كما يقال ملّ المؤدب على الصبي للحفظ ، وهي طريقة تحفيظ العميان. فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ ، والحق هنا ما حقّ أي ثبت للدائن.
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلّا إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.
والضميران في قوله : (وَلْيَتَّقِ) ، وقوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين ، أي لا ينقص ربّ الدين شيئا حين الإملاء ، قاله سعيد بن جبير ، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن. وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية ؛ فلو أخفى المدين شيئا أو غبن لأنكر عليه ربّ الدين لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ). ويحتمل أن يعود الضميران إلى (كاتِبٌ) بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقا بالكاتب ؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.
والضمير في قوله : (مِنْهُ) عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين ، فإذا بخس منه شيئا أضرّ بأحدهما لا محالة ، وهذا إيجاز بديع.