الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا ، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إنما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك ، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به ، وما روي في الحديث الآخر في «الموطأ» و «الصحاح» : «فليذادنّ أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي». وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وإلّا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين (شَهِيداً) معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في «الكشاف».
وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلّا بعد حصولها. ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه ، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة ، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكّى ، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية ، وأن الأمّة لا تشهد على النبي صلىاللهعليهوسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع : «ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد» فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.
وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلّا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلّا رسولها ، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن ، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.
(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).
الواو عاطفة على جملة : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) [البقرة : ١٤٢] وما اتصل بها من الجواب بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة ، وما بين الجملتين من قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) إلى آخرها اعتراض.