منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.
و (الناس) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية. فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق ، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.
والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري (١) والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال عدلا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) اه. فقوله «ثم قرأ» يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية ، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا ، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ) [طه : ١٢٤ ـ ١٢٦].
ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام ، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم ، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.
وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى
__________________
(١) انظر فتح الباري (١٣ / ٣١٦). كتاب الاعتصام (١٩) باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).