وكان سيدي الجد على جانب عظيم من الصلاح والتقوى وحسن الأخلاق ، كثير التهجد ، ملازما للعبادة ، مكبا على مطالعة كتب السادة الصوفية ، واقتنى كتبا خطية نفيسة كثيرة توزعها أولاده ثم بيعت بعد ذلك ، ومنها الآن جملة وفيرة في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ، وعلى كثير منها خطه. وأنفس هذه الكتب كتاب «الجامع لآداب الراوي والسامع» للحافظ الخطيب مجلدان في عشرين جزءا ، وهي نسخة قديمة يغلب على ظني أنها محررة في القرن السادس وعليها خطوط كثير من الحفاظ وكبار العلماء ، وكتاب «أسرار التنزيل» للفخر الرازي ، و «شرح منظومة الإمام النسفي» في الخلاف ، و «جزء عبد الله بن المبارك» في الحديث ، و «شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير» وغير ذلك من النفائس.
وكان يقرأ الدروس في مسجد العمري وفي مسجد الزيتونة كلاهما في محلة الجلّوم ، وفي مسجد الشيخ حمود في محلة باب قنسرين حسبة لله تعالى لا يتناول شيئا من الوظيفة لاستغنائه بصنعته وتجارته.
وكان ملازما للزاوية الهلالية يحضر الذكر الذي يقام فيها يوم الجمعة بعد العصر ، وخطب فيها مدة طويلة. وكان مع عكوفه على المطالعة وملازمته للعبادة والتهجد وقراءة الأوراد متأنقا في ملبسه ومطعمه سخي اليد كثير الصدقة كثير التفقد لأخوانه وأصدقائه وصولا للرحم مبذول الجاه لا يرد من قصده بحاجة يقوم بذلك أتم قيام.
وكان رحمهالله بدينا مربوع القامة عظيم الأذنين أبيض الوجه مستديره ، يعلوه احمرار ، عظيم الهيبة ، مكللا بالوقار والحشمة ، تدل هيئته على صلاح عظيم وقلب نيّر. حدثني غير واحد من العارفين به والمعاصرين له بعدة كرامات عنه يطول الكلام لو ذكرتها ، وحسبه ما كان عليه من التقوى والاستقامة والتمسك بالسنة السنية. وكان يتعمم بالزنانير الهندية على نسق كثير من العلماء في ذلك العصر ، إلا في الجمعة والأعياد وعند حضور مجلس الذكر فكان يلبس العرف الذي قدمنا ذكره.
وقبل وفاته بعدة سنين سلم دار طباعته وقد كانت ملاصقة لداره الكبيرة في محلة الجلّوم لأولاده الثلاثة : عمي الشيخ عبد السلام أفندي ووالدي الحاج محمود أفندي وعمي الشيخ علي أفندي ، ولزم البيت لا يخرج إلا قليلا ، وازداد في الانكباب على المطالعة والاجتهاد