وكان مجير الدين لما أحس بالغلبة والقهر ، قد انهزم في خواصه الى القلعة ، وأنفذ إليه وأومن على نفسه وماله ، وخرج الى نور الدين ، فطيب نفسه ، ووعده الجميل ، ودخل القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره ، وقد أمر نور الدين في الحال بالمناداة بالأمان للرعية ، والمنع من انتهاب شيء من دورهم ، وتسرع قوم من الرعاع والأوباش الى سوق علي (١) وغيره ، فعاثوا ونهبوا ، وأنفذ المولى الملك نور الدين الى أهل البلد بما طيب (١٧٧ ظ) نفوسهم ، وأزال نفرتهم ، وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال ، والآلات ، والأثاث على كثرته الى الدار الأتابكية ، دار جده ، وأقام أياما ، ثم تقدم إليه بالمسير الى حمص في خواصه ، ومن أراد الكون معه من أسبابه وأتباعه ، بعد أن كتب له المنشور بإقطاعه عدة ضياع بأعمال حمص برسمه ، ورسم جنده وتوجه الى حمص على القضية المقدرة (٢) ، ثم أحضر بعد ذلك اليوم أماثل الرعية من الفقهاء ، والتجار ، وخوطبوا بما زاد في إيناسهم ، وسرور نفوسهم ، وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم ، وتحقيق آمالهم ، فأكثر الدعاء له ، والثناء عليه ، والشكر لله على ما أصاروه إليه ، ثم تلا ذلك ابطال حقوق دار البطيخ ، وسوق البقل وضمان الأنهار ، وأنشأ بذلك المنشور ، وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة ، فاستبشر الناس بصلاح الحال ، وأعلن الناس من التناء والفلاحين ، والحرم
__________________
(١) على مقربة من القلعة ، حيث قام ما عرف باسم سوق الخيل الى امتداد منطقة البحصة الحالية.
(٢) أورد ابن الأثير في كتابه الباهر : ١٠٨ «وأما مجير الدين فإنه أقام بحمص ، وراسل أهل دمشق في اثارة الفتنة ، فأنهي الأمر الى نور الدين ، فخاف أن يحدث ما يشق تلافيه ، بل ربما تعذر ، لا سيما مع مجاورة الفرنج ، فأخذ حمص من مجير الدين ، وعوضه عنها مدينة بالس ، فلم يرضها ، وسار عن الشام الى العراق ، فأقام ببغداد ، وابتنى دارا تجاور المدرسة النظامية ، وتوفي بها».