لصاحبك : ائت برجل من البصرة ، أي كائن منها ، وبين قولك : «ائت من البصرة برجل» عثرت على الفرق بين المثالين وزال عنك التردّد والارتياب».
ثم نقول : إنّ «من» إذا تعلّق بالفعل يكون إمّا ظرفا لغوا ومن للابتداء أو مفعولا به ومن للتبعيض ، إذ لا يستقيم أن يكون بيانا لاقتضائه أن يكون مستقرا والمقدّر خلافه ، وعلى تقدير أن يكون تبعيضا فمعناه : فأتوا بعض مثل المنزّل بسورة ، وهو ظاهر البطلان ، وعلى تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدّي الإتيان بالسورة فقط ، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن ، وهذا على تقدير استقامته فبمعزل عن المقصود ، واقتضاء المقام يقتضي التحدّي على سبيل المبالغة وأنّ القرآن بلغ في الإعجاز بحيث لا يوجد لأقلّه نظير فكيف للكلّ؟ فالتحدّي إذا بالسورة الموصوفة بكونها من مثله في الإعجاز ، وهذا إنما يتأتّى إذا جعل الضمير لما نزّلنا ومن مثله صفة لسورة ومن بيانيّة ، فلا يكون المأتيّ به مشروطا بذلك الشرط لأنّ البيان والمبيّن كشيء واحد ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، ويعضده قول المصنّف في سورة الفرقان : إنّ تنزيله مفرّقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلّما نزل شيء منها أدخل في الإعجاز وأنور للحجّة من أن ينزل كله جملة واحدة ، ويقال لهم : جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه» (١) أي : طوله. انتهى.
وأقول : هذا الكلام مع طول ذيله قاصر عن إقامة المرام ، كما لا يخفى على من له بالفنون أدنى إلمام ، فلا علينا أن نشير إلى بعض ما فيه ، فنقول : قوله : «وعلى تقدير أن يكون تبعيضا فمعناه فأتوا ببعض مثل المنزّل بسورة وهو ظاهر البطلان» فيه بحث ، لأنّ بطلانه لا يظهر إلّا على تقريره ، حيث غيّر النظم بتقديم معنى منّ على قوله : بسورة ، وهذا إفساد بلا ضرورة ، فلو قال : فأتوا بسورة بعض مثل المنزّل على ما هو النظم القرآني ، فهو في غاية الصحة والمتانة ، وحينئذ يكون قولنا : بعض مثل المنزل بدلا ، فيكون معمولا للفعل على ما حقّقناه سابقا حيث قرّرنا على كلام صاحب الكشاف ، فارجع وتأمّل.
ثم قوله : «وعلى تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدّي الإتيان بسورة فقط ، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن» فيه نظر ، لأنّ الإتيان من المثل لا يقتضي أن يكون من كلام مثل القرآن يكون المأتيّ جزءا منه ، بل يقتضي أن يكون من نوع من الكلام عال في البلاغة إلى حيث انتهى به البلاغة القرآنية والمأتيّ به يكون فردا من أفراده ، ولعمري إنه ما وقع في هذا إلّا لأنّه جعل المثل كلّا له أجزاء
__________________
(١) انظر الكشاف (٣ / ٩١).