سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأيّ إيثار أنبل أو أصدق من هذا الايثار ؟
واتّجه فخر هاشم مزهوّاً نحو المخيّم بعدما ملأ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشريّة التحاماً رهيباً ، فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :
لَا أَرْهَـبُ المَوْتَ إِذَا المَـوتُ زَقا |
|
حَتَّى أُوارَىٰ فِي المَصالِيتِ لِقا |
نَفْسِي لِنَفْسِ المُصطَفَى الطُّهرِ وِقا |
|
إنِّي أَنا العَبّاسُ أَغْـدُو بِالسِّقا |
|
وَلَا أَخَافُ الشَّرَ يَومَ المُلتَقَىٰ (١) |
|
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وأنّه لا يخشى الموت ، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحقّ ، وفداءً لأخيه سبط النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وأنّه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت .
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلّا أنّ وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها .
لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز :
وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُـمُ يَمِينِي |
|
إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي |
__________________________
(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ : ١٠٨ . إبصار العين : ٤٤ .