شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

منعقدا في الواقع من أوّل الأمر ، وإن كان المكلّف يعتقد بانعقاده بدوا إلا أنّه من قبيل القطع بالخطإ.

وهذا مبني على أنّ قرينة الحكمة التي هي الأساس في الإطلاق تتقوّم بعدم القيد مطلقا سواء المتّصل أو المنفصل.

وهذا ما ذكرته مدرسة الميرزا سابقا في بحث الإطلاق ، وهناك أثبتنا بطلان هذا القول ؛ لأنّه يؤدّي إلى تعطيل الأحكام عند الشكّ في وجود القيد المنفصل وضياعه لعوامل وظروف موضوعيّة.

القسم الثالث : أن يكون مفاده إثبات حكم مضادّ في حصّة من المطلق ، كما إذا جاء خطاب ( أعتق رقبة ) ، ثمّ خطاب ( لا تعتق رقبة كافرة ) ، على أن يكون النهي في الخطاب الثاني تكليفيّا لا إرشادا إلى مانعيّة الكفر عن تحقّق العتق الواجب ، وإلا دخل في القسم الأوّل.

القسم الثالث من أقسام التقييد : ما إذا كان الدليل الدالّ على التقييد يدلّ على ثبوت حكم مخالف للحكم الثابت على المطلق ، فيكونان متخالفين في الحكم بحيث يكون دليل الإطلاق مثبتا للحكم على المطلق ، بينما دليل التقييد ينفي الحكم عن حصّة معيّنة منه.

كما إذا جاء ( أعتق رقبة ) ثمّ جاء ( لا تعتق الرقبة الكافرة ) ، فإنّ الدليل الثاني ينفي ثبوت الحكم عن حصّة خاصّة من الرقبة وهي الرقبة الكافرة بالخصوص.

وهنا تارة يكون النهي الوارد في دليل التقييد للإرشاد وأخرى يكون تكليفيّا.

فإن كان نهيا إرشاديّا فمفاده هو إثبات المانعيّة ، بمعنى أنّ عتق الرقبة حكم واحد واقعا ، ولكنّه لا يشمل الرقبة الكافرة بحيث لا يكون عتق الرقبة الكافرة امتثالا لهذا الحكم ، وإنّما الامتثال يتحقّق بغيرها.

وهذا النحو يعتبر من القرينيّة الشخصيّة ؛ لأنّ المتكلّم قد أعدّ الكلام الثاني لتفسير المراد النهائي من كلامه الأوّل ، فيدخل في باب الحكومة التفسيريّة ، ويخرج عن موضوع البحث ؛ لأنّه لا يوجد تعارض أصلا بين الدليلين ولو بنحو غير مستقرّ.

والوجه في ذلك : هو ثبوت النظر الذي هو ملاك الحكومة والقرينيّة الشخصيّة ؛

٦١

لأنّ الدليل الثاني الدالّ على التقييد يكون بقوّة قولنا : ( أرشدك إلى أنّ عتق الرقبة المطلوب لا يتحقّق امتثاله بالرقبة الكافرة ).

وإن كان نهيا تكليفيّا فهنا يوجد حكمان : أحدهما يأمر بالعتق مطلقا ، والآخر ينهى عن عتق الرقبة الكافرة ، فيقع التعارض بينهما ، ولكن يقدّم دليل التقييد ؛ لأنّه على فرض اتّصاله يكون هادما للظهور في الدليل الأوّل فيكون في حالة انفصاله رافعا للحجّيّة فيه ، بمعنى أنّه بقوّة قولنا : ( أعتق رقبة ولا تعتق الرقبة الكافرة ) ، فإنّه يكون قرينة متّصلة هادمة للظهور في الإطلاق ؛ لأنّه قد ذكر القيد متّصلا ، فمع كونه منفصلا يرفع حجّيّة هذا الظهور ، وهو معنى التقديم والجمع العرفي.

وبهذا يكون القسم الثالث كالقسم الثاني في تقديم دليل التقييد على دليل الإطلاق ، ولكن مع اختلاف بينهما في بعض النكات ، ولذلك قال :

وهذا القسم يختلف عن القسم السابق في أنّ التعارض هنا محقّق على أيّة حال بلا حاجة إلى افتراض من الخارج ، بخلاف القسم السابق فإنّه يحتاج إلى افتراض العلم من الخارج بوحدة الحكم.

ويتّفق القسمان في حكم التعارض بعد حصوله ، إذ يقدّم المقيّد على المطلق في كلا القسمين بنفس الملاك السابق.

الفارق بين القسمين الثاني والثالث : تقدّم في القسم الثاني أنّه إذا كان الحكم متعدّدا فلا تعارض ، وإمّا إذا كان واحدا وكانا منفصلين فيقع التعارض ، فيكون فرض الجمع العرفي بالقرينيّة النوعيّة وهي التقييد متوقّفا على العلم بوحدة الحكم من الخارج وكونهما منفصلين.

وأمّا هنا فوحدة الحكم لا نحتاج إلى إثباتها ؛ لأنّهما لمّا كانا حكمين متخالفين فسواء كان الحكم واحدا في الواقع أم متعدّدا فالتعارض واقع لا محالة فيما إذا كان النهي تكليفيّا ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع النهي والإثبات معا سواء كانا بحكم واحد أو بحكمين ما دام الموضوع فيهما واحدا ، وهنا هكذا يقال ؛ لأنّ الرقبة الكافرة لا يمكن ثبوت الأمر والنهي عليها لا بدليل واحد ولا بدليلين.

والحاصل : أنّ القسم الثاني تتمّ فيه القرينيّة النوعيّة مع العلم بوحدة الحكم ، بينما هنا تتمّ سواء كان الحكم واحدا أم متعددا فيما إذا كان النهي تكليفيّا.

٦٢

ولكنّهما يشتركان في تقديم دليل التقييد على دليل الإطلاق لوجود القرينة النوعية فيهما على نحو واحد ؛ لأنّ ملاكها موجود فيهما معا ، وهو ما ذكرناه من كون كلّ ما يكون على فرض اتّصاله هادما للظهور فهو في حالة انفصاله رافعا للحجّيّة.

وبهذا ينتهي الكلام عن التقييد.

* * *

٦٣
٦٤

التخصيص

٦٥
٦٦

التخصيص

إذا ورد عامّ ـ يدلّ على العموم بالأداة ـ وخاصّ ، جرت نفس الأحكام السابقة للمقيّد هنا أيضا ؛ لأنّ هذا الخاصّ تارة يكون ناظرا إلى العامّ ، وأخرى يكون متكفّلا لإثبات سنخ حكم العامّ ولكن في دائرة أخصّ ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ فقير ) وقيل : ( أكرم الفقير العادل ) ، وثالثة يكون الخاصّ متكفّلا لإثبات نقيض حكم العامّ أو ضدّه لبعض حصص العامّ ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) ، وقيل : ( لا يجب إكرام النحوي ) أو ( لا تكرم النحوي ).

التخصيص : هو أن يكون لدينا دليل يدلّ على العموم بالأداة ، ثمّ يأتي دليل آخر يخرج بعض أفراد أو حصص العامّ من الحكم ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) ، ثمّ قيل : ( لا تكرم العالم الفاسق ).

وهنا دليل التخصيص على أقسام ثلاثة كالتقييد تماما :

الأوّل : أن يكون دليل الخاصّ ناظرا إلى دليل العامّ ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) ، ثمّ قيل : ( إكرام العالم مختصّ بالعادل ).

الثاني : أن يكون دليل الخاصّ متكفّلا لإثبات سنخ حكم العامّ على الحصّة الخاصّة أي في دائرة أضيق ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ فقير ) ، ثمّ قيل : ( أكرم الفقير العادل ) ، فهنا إكرام الفقير العادل كان مشمولا للدليل العامّ أوّلا ، ثمّ انصبّ عليه الحكم بعنوانه الخاصّ ثانيا.

الثالث : أن يكون دليل الخاصّ متكفّلا لإثبات حكم مناقض أو مضادّ لحكم العام ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) ، ثمّ قيل : ( لا تكرم العالم النحوي ).

والبحث في هذه الأقسام الثلاثة نظير ما تقدّم عن أقسام التقييد ولذلك قال :

ولا شكّ في أنّ الخاصّ من القسم الأوّل يعتبر حاكما ويقدّم بالحكومة على عموم العامّ.

٦٧

وأمّا الخاصّ من القسم الثاني فمع عدم إحراز وحدة الحكم لا تعارض ، ومع إحرازها يكون الخاصّ معارضا للعموم هنا كما كان المقيّد في نظير ذلك معارضا للإطلاق فيما تقدّم.

وأمّا الخاصّ من القسم الثالث فلا شكّ في أنّه معارض للعموم.

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في تقدّم الخاصّ على العامّ بملاك الحكومة ؛ وذلك لأنّه ناظر إلى دليل العالم ومبيّن للمراد النهائي منه ، فيكون من الحكومة التفسيريّة ؛ لأنّ المتكلّم قد أعدّ الكلام الثاني ليكون قرينة مفسّرة للمراد الجدّي والنهائي من الكلام الأوّل ، وهذا الإعداد لمّا كان شخصيّا من المتكلّم فيكون النظر فيه محرزا بواسطة ذكر ما يدلّ على التفسير ، وهو هنا التخصيص الذي استعمله المتكلّم في الدليل الثاني. وهذا خارج عن موضوع البحث هنا ؛ لأنّ الإعداد ليس نوعيّا.

وأمّا القسم الثاني : فتارة يعلم بوحدة الحكم في الدليلين ، وأخرى يعلم بتعدّده أو لا يعلم بالوحدة.

فإن علم بتعدّد الحكم فيهما فلا تعارض بينهما أصلا ؛ لأنّ دليل الخاصّ يكون مثبتا لحكم آخر غير ما يثبته دليل العامّ ، فيكون المكلّف مخاطبا بأمرين ، ويجب عليه امتثالان : أحدهما امتثال حكم العامّ وذلك بإكرام العالم الشامل لكلّ فرد من أفراده ، والآخر امتثال حكم الخاصّ المثبت للحكم على خصوص العادل من أفراد العامّ.

والمفروض قدرة المكلّف على ذلك وإمكان وجود ملاكين : أحدهما متعلّق بعنوان العامّ ، والآخر متعلّق بعنوان الخاصّ ، ولن يؤدّي ذلك إلى اجتماع المثلين بالنسبة لمورد الخاصّ ؛ لأنّ تعدّد الحكم فيه كان لأجل تعدّد الجهة والعنوان ، وهذا معقول في نفسه بأن يفرض وجود ملاكين بنظر المولى : أحدهما متعلّق بعنوان العالم ، والآخر متعلّق بعنوان العادل.

وإن علم بوحدة الحكم فيهما وقع التعارض بينهما ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون حكم واحد واقعا منصبّا على العامّ وعلى الخاصّ في آن واحد ؛ ولذلك يدخل المورد في موضوع البحث ؛ لأنّه سوف يتقدّم الخاصّ على العامّ بملاك القرينيّة النوعيّة ؛ لأنّه إن كانا متّصلين معا كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم وأكرم العالم العادل ) فسوف لا ينعقد العموم أصلا ؛ لأنّه إنّما ينعقد فيما إذا لم تكن هناك قرينة على خلافه ، وهنا القرينة على الخلاف

٦٨

موجودة ؛ لأنّ الخاصّ مخالف للعامّ تصوّرا ومصداقا والمفروض أنّ الحكم واحد فيهما.

وإن كانا منفصلين كما إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) ، ثمّ قيل : ( أكرم العالم العادل ) فكذلك يتقدّم الخاصّ ؛ لأنّه كان على تقدير اتّصاله هادما لظهور العامّ فيكون على تقدير انفصاله رافعا لحجّيّته.

وأمّا القسم الثالث : فتارة يكون النفي أو النهي للإرشاد وأخرى تكليفيّا.

فإن كان إرشادا فهذا معناه أنّ الحكم واحد وله امتثال واحد ، ولكن هذا الامتثال لا يتحقّق بمورد الخاصّ ولذلك أرشد إلى مانعيّته ، فكأنّه قال : ( أكرم كلّ عالم إلا العالم النحوي ) أو ( أكرم كلّ عالم وهذا مختصّ بغير النحوي ).

وإن كان تكليفيّا فهذا معناه وجود حكمين متخالفين ، فيقع التعارض بينهما في مورد الخاصّ ؛ لأنّ أحدهما يثبت الحكم له بلحاظ عمومه وشموله له ، والآخر ينفيه عنه ، وهنا يقدّم دليل الخاصّ أيضا للقرينيّة النوعيّة ؛ لأنّه على تقدير اتّصاله يكون هادما لظهور العامّ فيكون في حالة انفصاله رافعا لحجّيّته.

وعلى أيّة حال فلا خلاف في تقدّم الخاصّ على العامّ عند وقوع المعارضة بينهما ، فإن كان الخاصّ متّصلا لم يسمح بانعقاد ظهور تصديقيّ للعامّ في العموم ، وإن كان منفصلا اعتبر قرينة على تخصيصه ، فيخرج ظهور العامّ عن موضوع دليل الحجّيّة ؛ لوجود قرينة على خلافه ، وهذا على العموم ممّا لا خلاف فيه.

وإنّما الخلاف في نقطة : وهي أنّ قرينيّة الخاصّ على التخصيص هل هي بملاك الأخصّيّة مباشرة ، أو بملاك أنّه أقوى الدليلين ظهورا؟ فإنّ ظهور الخاصّ في الشمول لمورده أقوى دائما من ظهور العامّ في الشمول له.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ دليل الخاصّ يتقدّم على دليل العامّ عند وقوع المعارضة بينهما ، بحيث يتمّ الجمع العرفي بينهما على أساس القرينيّة النوعيّة ، ولكن يختلف الأمر بين كون الخاصّ متّصلا بالعامّ أو كونه منفصلا عنه.

فإن كان الخاصّ متّصلا بدليل العامّ فيكون رافعا وهادما لأصل ظهور العامّ في العموم على مستوى المدلول التصديقي لا التصوّري ؛ وذلك لأنّ المدلول التصوّري لدليل العامّ هو العموم والشمول ؛ لأنّه مدلول للأداة الموضوعة لغة للاستيعاب لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المفهوم.

٦٩

وهذا المدلول التصوّري الوضعي لا يتزعزع حتّى مع وجود القرينة على الخلاف ، وإنّما يختلّ المدلول التصديقي إمّا الاستعمالي وإمّا الجدّي على الخلاف بينهم في ذلك.

والصحيح هو اختلال المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ أداة العموم لم تخرج عن الحقيقة إلى المجاز بوجود القرينة على الخلاف ، وإنّما يخرج إرادة استيعاب تمام الأفراد.

وإن كان الخاصّ منفصلا عن دليل العامّ كان دليل العامّ منعقدا في العموم بلحاظ المدلولين التصوّري والتصديقي ، ولكن يكون الخاصّ قرينة على العامّ فيقدّم عليه ؛ وذلك لأنّ العامّ يكون حجّة في العموم والشمول ما لم يكن هناك قرينة على الخلاف ، والخاصّ يصلح لأن يكون قرينة على الخلاف في حالة انفصاله ؛ لأنّه في حالة اتّصاله بالعامّ يكون هادما لظهوره ، ففي حالة الانفصال يكون رافعا لحجّيّته.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه عندهم وإنّما وقع الخلاف بينهم في أنّ تقديم الخاصّ على العامّ هل هو بملاك القرينيّة النوعيّة الثابتة لنفس التخصيص أو أنّ الملاك شيء آخر غير التخصيص كالأظهريّة مثلا؟

وبتعبير آخر : إنّ قرينيّة الخاصّ هل ملاكها التخصيص نفسه أو أنّ ملاكها الأظهريّة من جهة أقوائيّة ظهور الخاصّ على العامّ فيكون التقديم بلحاظ أقوى الظهورين والدليلين؟ فهنا قولان :

أحدهما : تقديم الخاصّ على العامّ بملاك التخصيص.

والآخر : تقديم الخاصّ على العامّ بملاك الأظهريّة وأقوائيّة ظهور الخاصّ.

وتظهر الثمرة فيما إذا كان استخراج الحكم من الدليل الخاصّ موقوفا على ملاحظة ظهور آخر غير ظهوره في الشمول المذكور ، إذ قد لا يكون ذلك الظهور الآخر أقوى.

ومثاله : أن يرد ( لا يجب إكرام الفقراء ) ، ويرد ( أكرم الفقير القانع ) ، فإنّ تخصيص العامّ يتوقّف على مجموع ظهورين في الخاصّ : أحدهما الشمول لمورده ، والآخر كون صيغة الأمر فيه بمعنى الوجوب ، والأوّل وإن كان أقوى من ظهور العامّ في العموم ولكن قد لا يكون الثاني كذلك.

٧٠

وتظهر الثمرة بين القولين المذكورين فيما إذا فرض كون الحكم في الدليل الخاصّ متوقّفا على ملاحظة ظهور آخر غير ظهوره في الشمول لمورده ، وهذا الظهور الآخر قد يكون أقوى من ظهور العامّ وقد لا يكون أقوى منه.

ففي هذه الحالة إذا فرض كون الظهور الآخر الذي يحتاجه دليل الخاصّ ليس بأقوى من دليل العامّ ، فعلى القول بأنّ ملاك القرينيّة والتقديم في الخاصّ هو الأظهريّة والأقوائية ، فسوف تقع المعارضة بين أقوائيّة الخاصّ على العامّ من جهة ، وبين أقوائيّة العامّ على الخاصّ من جهة أخرى ؛ بخلاف ما إذا كان ملاك التقديم هو التخصيص نفسه ، فإنّه لا يتوقّف على الأقوائيّة في الظهور ، بل يتقدّم الخاصّ على العامّ حتّى لو كان من أضعف الظهورات ؛ لأنّ التخصيص موجود فيه.

ومثال ذلك : ما إذا ورد ( لا يجب إكرام الفقراء ) ، وورد ( أكرم الفقير القانع ) ، فهنا دليل العامّ نصّ صريح في نفي وجوب الإكرام عن كلّ الفقراء ، بناء على أنّ الجمع المحلّى بـ ( اللام ) من أدوات العموم ، ولكنّه شامل بعمومه للفقير القانع أي أنّه بظهوره في العموم يشمل هذا الفرد.

وأمّا دليل الخاصّ فهو وإن كان نصّا في الشمول لمورده لكونه منصبّا عليه بعنوانه الخاصّ ، إلا أنّ إثبات الوجوب له يتوقّف على إثبات ظهور صيغة ( افعل ) في الوجوب ، فهو ظاهر في الوجوب وليس نصّا فيه.

وحينئذ يكون العامّ بلحاظ الحكم ونفي الوجوب أقوى من الخاصّ ؛ لأنّه نصّ في ذلك ، بينما الخاصّ ظاهر في ذلك والنصّ أقوى من الظاهر ، ولكن بلحاظ الشمول للفرد الخاصّ المعيّن فالعامّ ظاهر في شموله له ، بينما الخاصّ نصّ في الشمول له ، وهذا معناه أنّ الخاصّ أقوى من العامّ من جهة وأضعف منه من جهة أخرى.

وعليه ، فإن كان ملاك تقديم الخاصّ هو التخصيص نفسه كان الخاصّ متقدّما على العامّ في هذه الحالة بلا إشكال.

وأمّا إن كان الملاك هو الأظهريّة والأقوائيّة فقد لا يتقدّم عليه في هذه الحالة ، بل يحتاج إلى ترجيح أقوائيّة الخاصّ على أقوائيّة العام إلى دليل من الخارج.

والصحيح : أنّ الأخصّيّة بنفسها ملاك للقرينيّة عرفا ، بدليل أنّ أيّ خاصّ

٧١

نفترضه لو تصوّرناه متّصلا بالعامّ لهدم ظهوره التصديقي من الأساس ، وهذا كاشف عن القرينيّة كما تقدّم (١).

وهذا لا ينافي التسليم أيضا بأنّ الأظهر إذا كانت أظهريّته واضحة عرفا يعتبر قرينة أيضا ، وفي حالة تعارضه مع الظاهر يجمع بينهما عرفا بتحكيم الأظهر على الظاهر وفقا لنظرية الجمع العرفي العامّة.

والصحيح من القولين المذكورين : هو أنّ ملاك تقديم الخاصّ على العامّ هو الأخصّيّة لا الأظهريّة.

والدليل على ذلك : هو أنّ أيّ خاصّ نفترضه مهما كان ظهوره ضعيفا فهو يتقدّم على العامّ ؛ وذلك لوجود القرينيّة النوعيّة فيه ، وهي أنّه على فرض اتّصاله يكون هادما لظهور العامّ التصديقي فهو يكون في حالة انفصاله عنه قرينة.

وهذا المعنى يحكم به العرف تلقائيّا ولا يتوقّف فيه حتّى لو كان ظهور الخاصّ ضعيفا جدّا ؛ وذلك لأنّ العرف والبناء العقلائي يعتمد في تشخيص مراد المتكلّم النهائي على مجموع ما يصدر منه من كلام وخطابات في المطلب الذي يبيّنه ويريد تفهيمه.

وفي هذا المجال يعتبر ذكر الخاصّ بنظر العرف قرينة نوعيّة لتفسير المراد النهائي من العامّ وإلا لكان ذكره لغوا ولا طائل تحته ، وهذا منفي بلحاظ كون المتكلّم ملتفتا إلى كلامه وإلى ما يدخل في بيان مراده وما ليس له ارتباط به.

نعم ، ما ذكرناه من كون ملاك التقديم هو الأخصّيّة لا يتنافى مع كون الأظهريّة من القرائن النوعيّة أيضا ، ولكن لكلّ منها مورده ، فنحن ننفي أن تكون الأظهريّة هي ملاك تقديم الخاصّ على العامّ ، ولكنّنا لا ننفي أن تكون الأظهريّة أيضا من جملة القرائن النوعيّة ولكن في موردها لا في الخاصّ والعامّ.

فإذا ورد دليلان أحدهما أقوى ظهورا من الآخر حمل الظاهر على الأظهر ، وكان الأظهر قرينة نوعيّة على بيان المراد من الظاهر.

والوجه في ذلك ـ هو نفس القرينيّة السابقة في التقييد والتخصيص ـ وهي أنّ ما يكون على فرض اتّصاله هادما للظهور فيكون في حالة انفصاله رافعا للحجّيّة.

__________________

(١) في النظرية العامّة للجمع.

٧٢

نظريّة انقلاب النسبة

٧٣
٧٤

[ نظريّة انقلاب النسبة ]

ثمّ إن المراد بالأخصّيّة التي هي ملاك القرينيّة : الأخصّيّة عند المقارنة بين مفادي الدليلين في مرحلة الدلالة والإفادة ، لا الأخصّيّة عند المقارنة بين مفاديهما في مرحلة الحجّيّة.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد عامّان متعارضان من قبيل : ( يجب إكرام الفقراء ) ، و ( لا يجب إكرام الفقراء ) ، وورد مخصّص على العامّ الأوّل يقول : ( لا يجب إكرام الفقير الفاسق ) ، فهذا المخصّص تارة نفرضه متّصلا بالعامّ ، وأخرى نفرض انفصاله.

نظريّة انقلاب النسبة : المقصود من انقلاب النسبة هو أن يكون لدينا دليلان متعارضان إمّا بنحو التباين وإما بنحو العموم من وجه ، ثمّ يرد مخصّص لأحدهما بحيث تصبح النسبة بعد التخصيص بالنسبة للمتعارضين هي العموم والخصوص المطلق بعد أن كانت التباين أو العموم من وجه.

وهنا وقع الخلاف فيما بينهم في أنّ ملاحظة النسبة بين المتعارضين هل هي قبل الانقلاب أو بعده؟

فإن كانت النسبة التي تجب ملاحظتها هي النسبة بين المتعارضين قبل الانقلاب فهذا معناه ملاحظة الظهورين في الدليلين أي مفاد الدليلين وظهورهما.

وإن كانت النسبة بينهما بعد الانقلاب فهذا معناه ملاحظة الظهورين في الدليلين في مرحلة الحجّيّة ، أي ما يكون حجّة من الظهورين أو ما يبقى على الحجّيّة من الظهورين لا نفس الظهورين المدلولين للدليلين.

فمثلا إذا ورد عامّان متعارضان بنحو التباين كما إذا قيل : ( يجب إكرام الفقراء ) وقيل : ( لا يجب إكرام الفقراء ) ، فهنا النسبة بينهما هي التباين الكلّي ؛ لأنّ أحدهما يثبت الوجوب للفقراء والآخر ينفيه عنهم.

٧٥

ولكن إذا ورد مخصّص لأحدهما كما إذا قيل : ( لا يجب إكرام الفقير الفاسق ) فإنّه مخصّص للعامّ القائل : ( يجب إكرام الفقراء ) ، فإذا كانت النسبة التي تجب ملاحظتها هي النسبة بين الظهورين أنفسهما فهي التباين ، ولذلك يقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما ويبقى الدليل الخاصّ على حاله ، فلا يجب إكرام الفقير الفاسق بموجبه.

ولكن إذا كانت النسبة التي تجب ملاحظتها هي النسبة بين الدليلين أو الظهورين بلحاظ الحجّيّة ، فهنا بعد تخصيص الدليل العامّ الأوّل أي ( يجب إكرام الفقراء ) بدليل الخاصّ أي ( لا يجب إكرام الفقير الفاسق ) يصبح مدلوله الحجّة هو ( وجوب إكرام الفقير العادل غير الفاسق ).

وهذا المدلول أخصّ من العامّ الثاني أي ( لا يجب إكرام الفقراء ) فيخصّصه ، فيكون الحاصل النهائي هو وجوب إكرام الفقير العادل وعدم وجوب إكرام الفقير الفاسق ، وهذه النتيجة تختلف عن النتيجة السابقة ؛ لأنّ وجوب إكرام الفقير العادل فيها لا يوجد ما يثبته بخلافه هنا.

وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال : إنّ دليل الخاصّ تارة يكون متّصلا بالعامّ الذي يراد تخصيصه به ، وأخرى يكون منفصلا عنه ، ولذلك لا بدّ من استعراض الصورتين :

ففي الحالة الأولى يصبح سببا في هدم ظهور العامّ في العموم ، وحصر ظهوره التصديقي في غير الفسّاق ، وبهذا يصبح أخصّ مطلقا من العامّ الثاني ، وفي مثل ذلك لا شكّ في التخصيص به.

الحالة الأولى : ما إذا كان الدليل الخاصّ متّصلا بالعامّ ، كما إذا قيل : ( يجب إكرام الفقراء ولا يجب إكرام الفقير الفاسق ) ، وقيل : ( لا يجب إكرام الفقراء ).

فهنا لا إشكال في انقلاب النسبة بمعنى أنّ الدليل الأوّل لا نلحظ فيه العامّ وحده ، بل نلحظه مع مخصّصه فيكون الظهور النهائي للدليل هو الذي تلحظ النسبة بينه وبين الدليل الثاني.

وهذا واضح لما تقدّم سابقا من أنّ المخصّص المتّصل يوجب هدم ظهور العامّ التصديقي بحيث لا ينعقد للعامّ ظهور تصديقي في العموم من أوّل الأمر ؛ لأنّ العامّ

٧٦

إنّما يكون ظاهرا في العموم والشمول فيما إذا لم تكن هناك قرينة على خلافه ، وهنا القرينة على الخلاف موجودة ومتّصلة به.

وحينئذ سوف ينعقد الظهور ابتداء على وفق الخاصّ ، فيكون الدليل الأوّل المشتمل على العامّ والخاصّ ظاهرا في وجوب إكرام الفقير العادل ابتداء ، ولا ظهور له في العموم أوّلا ، ثمّ ينهدم بالدليل الخاصّ ثانيا ؛ لأنّ ظهوره في العموم غير تامّ لوجود القرينة على الخلاف المتّصلة به.

وهذا معناه أو نتيجته نتيجة القول بانقلاب النسبة وإن لم يكن بالدقّة كذلك ؛ لأنّ النسبة لم تكن بين العامّين المتباينين ثمّ انقلبت ، بل النسبة انعقدت ابتداء بين الدليل الأوّل الظاهر في شموله للفقير العادل فقط وبين الدليل الثاني الظاهر في عمومه للعادل وللفاسق معا ، وهذه النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، ممّا يعني أنّ الدليل الأوّل يخصّص به الدليل الثاني للقرينيّة النوعيّة بملاك الأخصّيّة في الظهور والمدلول والمفاد.

والحاصل : أنّه في صورة اتّصال الخاصّ بالعامّ يخرج المورد عن محلّ الكلام ؛ لأنّه لا يوجد إلا نسبة واحدة بين الدليلين لا أنّه كانت النسبة بينهما التباين ، ثمّ انقلبت إلى العموم والخصوص المطلق.

وأمّا في الحالة الثانية فظهور العامّ الأوّل في العموم منعقد ولكنّ الخاصّ قرينة موجبة لسقوطه من الحجّيّة بقدر ما يقتضيه ، وحينئذ فإن نظرنا إلى هذا العامّ والعامّ الآخر المعارض له من زاوية المدلولين اللفظيّين لهما في مرحلة الدلالة فهما متساويان ليس أحدهما أخصّ من الآخر ، وإن نظرنا إلى العامّين من زاوية مدلوليهما في مرحلة الحجّيّة وجدنا أنّ العامّ الأوّل أخصّ من العامّ الثاني ؛ لأنّه بما هو حجّة لم يعد يشمل كلّ أقسام الفقراء ، فبينما كان مساويا للعامّ الآخر انقلب إلى الأخصّيّة.

الحالة الثانية : ما إذا كان الدليل الخاصّ منفصلا عن العامّ ؛ كما إذا قيل : ( يجب إكرام الفقراء ) وقيل : ( لا يجب إكرام الفقراء ) ، ثمّ ورد المخصّص المنفصل للعامّ الأوّل : ( لا يجب إكرام الفقير الفاسق ).

فهنا يكون الظهور في كلا العامّين تامّا ومنعقدا ابتداء قبل ورود المخصّص

٧٧

المنفصل ، فكلّ منهما ظاهر في العموم والشمول لكلّ أقسام الفقراء سواء العدول أو الفسّاق وأحدهما يثبت الحكم والآخر ينفيه ، وحيث إنّ الموضوع فيهما واحد فيقع التعارض بينهما بنحو التباين.

ولكن بمجيء الخاصّ الذي يعتبر قرينة نوعيّة مفسّرة للمراد النهائي من العامّ الأوّل سوف يكون هذا الخاصّ هادما ورافعا لحجّيّة العامّ في العموم ؛ تطبيقا للنكتة العرفيّة العقلائيّة المتقدّمة وهي أنّ كلّ ما يكون على فرض اتّصاله هادما للظهور فيكون في حالة انفصاله رافعا للحجّيّة.

وهنا دليل الخاصّ لو فرضنا اتّصاله كما في الحالة الأولى لمنع من انعقاد العامّ في عمومه ؛ لأنّه يعتبر قرينة متّصلة على الخلاف ، وعموم العامّ موقوف على عدم وجود مثل هذه القرينة فلا ينعقد العموم مع وجودها متّصلة ، وتنهدم حجّيّته في العموم مع وجودها منفصلة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه كما تقدّم في التخصيص.

وإنّما الكلام في ملاحظة النسبة بين الدليلين العامّين فهل تلحظ النسبة بينهما قبل ورود الخاصّ أو بعده؟

فإن قلنا بأنّ النسبة يجب أن تلحظ من زاوية المدلولين اللفظيّين في مرحلة الدلالة والإفادة والظهور ، فالنسبة بين العامّين هي التباين ؛ لأنّهما متساويان في الظهور والدلالة ؛ لأنّ أحدهما يدلّ على ثبوت الحكم للفقراء بكلّ أقسامهم ، والآخر ينفي هذا الحكم عن الفقراء بكلّ أقسامهم ، وليس أحدهما أخصّ من الآخر ، وهذا معنى عدم القول بانقلاب النسبة.

وأمّا إن قلنا بأنّ النسبة يجب أن تلحظ من زاوية المدلولين في مرحلة الحجّيّة ، فهنا الدليل العامّ الأوّل لا يكون حجّة في العموم لوجود المخصّص له ، وإنّما هو حجّة فيما عدا مورد الخاصّ.

وهذا معناه أنّ الدليل الأوّل حجّة في وجوب إكرام الفقراء غير الفسّاق أي العدول فقط ، وأمّا الفسّاق فقد خرجوا عن الحجّيّة بسبب الدليل الخاص.

وحينئذ تكون النسبة بين هذا الدليل والدليل الآخر هي العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ هذا الدليل يثبت الحكم للفقراء العدول فقط ، والآخر ينفي الحكم عن الفقراء العدول والفسّاق معا ، فيكون أخصّ منه فيخصّصه ويتقدّم عليه.

٧٨

وهذا معناه انقلاب النسبة ؛ لأنّه قبل ملاحظة الدليل الخاصّ كانت النسبة بين الدليلين هي التباين ، ولكن بعد ملاحظة الخاصّ وتخصيص العامّ الأوّل به صار العامّ الأوّل أخصّ من العامّ الثاني ، فصارت النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

والحاصل : أنّ انقلاب النسبة موقوف على ملاحظة النسبة بين الدليلين بلحاظ مرحلة الحجّيّة ، بينما القول بعدم انقلاب النسبة موقوف على ملاحظة النسبة بين الدليلين في مرحلة الدلالة والإفادة والظهور فقط.

ومن هنا وجد اتّجاهان وقولان في هذه المسألة ونظائرهما :

وقد ذهب المحقّق النائيني (١) إلى الأخذ بالنظرة الثانية ، وسمّى ذلك بانقلاب النسبة ، بينما أخذ صاحب ( الكفاية ) (٢) بالنظرة الأولى.

واستدلّ الأوّل على انقلاب النسبة : بأنّا حينما نعارض العامّ الثاني بالعامّ الأوّل يجب أن ندخل في المعارضة غير ما فرغنا عن سقوط حجّيّته من دلالة ذلك العامّ ؛ لأنّ ما سقطت حجّيّته لا معنى لأن يكون معارضا.

انتهينا إلى أنّه يوجد اتّجاهان في المسألة :

الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا ومدرسته من القول بانقلاب النسبة بمعنى ملاحظة النسبة في مرحلة الحجّيّة.

والثاني : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) والمشهور من إنكار انقلاب النسبة بمعنى ملاحظة النسبة في مرحلة الدلالة والظهور.

واستدلّ المحقّق النائيني على القول بانقلاب النسبة بما حاصله : أنّ ملاحظة النسبة إنّما هو لأجل تشخيص موضوع المعارضة بين الدليلين أو عدم وقوعها ، والتعارض بين الدليلين إنّما يكون بلحاظ ما يكشف ويحكي عنه كلّ منهما بحسب المراد الواقعي ، وحينئذ فالعامّ الذي له مخصّص لا يحكي إلا عن المقدار الذي بقي تحته لا عن العموم والشمول وإلا لكان الخاصّ لغوا.

وهذا معناه أنّ ما يكون طرفا للنسبة هو ما بقي تحت العامّ الذي يكون العامّ حجّة فيه.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٤٧.

(٢) كفاية الأصول : ٥١٥.

٧٩

وأمّا المقدار الآخر الذي خرج عن العامّ فهو ليس بحجّة فيه ، ولذلك لا يمكن أن يدخل في المعارضة ؛ لأنّ ما لا يكون حجّة لا يعارض ما يكون حجّة ، إذ التعارض إنّما يكون بين الحجّتين لا بين الحجّة وغير الحجّة.

وعليه ، فسوف تنقلب النسبة لا محالة لأنّ العامّ الأوّل ليس حجّة إلا بمقدار ما عدا الخاصّ فيعارض العامّ الثاني بهذا المقدار فقط ، وحينئذ تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لا التباين.

ولا معنى لملاحظة النسبة بين الظهورين أنفسهما ؛ لأنّ هذا معناه دخول ما ليس حجّة في المعارضة لما هو حجّة وهو باطل بداهة.

وبكلمة ثانية : إنّ ورود المخصّص لأحد العامّين يكشف عن أنّ المراد الجدّي والواقعي ليس هو العموم ، وإنّما هو المقدار الآخر غير ما أخرجه الدليل الخاصّ ، والتعارض بين الدليلين إنّما يكون بلحاظ ما يحكي عنه كلّ منهما بحسب كشفه عن المراد الجدّي الواقعي.

ولذلك تلحظ النسبة بين العامّين بعد التخصيص لا قبله ؛ لأنّه قبل التخصيص كان العامّ الأوّل ظاهرا في العموم والشمول ولكن ظهوره في ذلك لم يكن هو المراد الجدّي والواقعي ، وإلا لم يكن لوجود الخاصّ أي معنى ، فوجود الخاصّ يكشف عن المراد الجدّي والواقعي من العامّ الأوّل وأنّه ليس العموم ، بل المقدار الذي بقي بعد التخصيص.

وهذا يفرض علينا ملاحظة النسبة بعد التخصيص ؛ لأنّها النسبة الواقعيّة للدليلين بلحاظ حكايتهما عن المراد الجدّي النهائي والواقعي ، وهذا معناه انقلاب النسبة.

ونلاحظ على هذا الاستدلال : أنّ المعارضة وإن كانت من شأن الدلالة التي لم تسقط بعد عن الحجّيّة ولكنّ هذا أمر وتحديد ملاك القرينيّة أمر آخر ؛ لأنّ القرينيّة تمثّل بناء عرفيّا على تقديم الأخصّ ، وليس من الضروري أن يراد بالأخصّ هنا الأخصّ من الدائرتين الداخلتين في مجال المعارضة ، بل بالإمكان أن يراد الأخصّ مدلولا في نفسه منهما ، فالدليل الأخصّ مدلولا في نفسه تكون أخصيّته سببا في تقديم المقدار الداخل منه في المعارضة على معارضه.

٨٠