شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

موضوعه الشكّ في نجاسة الثوب بقاء ، واستصحاب طهارة الماء يلغي تعبّدا الشكّ في تمام آثار طهارة الماء بما فيها تطهيره للثوب ، فيرتفع بالتعبّد موضوع استصحاب النجاسة ؛ كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

التطبيق السادس : فيما إذا تعارض أصل سببي وأصل مسبّبي.

كما إذا تعارض استصحاب طهارة الماء مع استصحاب نجاسة الثوب فيما إذا غسل الثوب المتنجّس بماء مشكوك الطهارة بقاء ، فإنّ استصحاب بقاء الطهارة للماء يتعارض مع استصحاب بقاء النجاسة للثوب ، ولكن مع ذلك يتقدّم استصحاب الطهارة للماء ؛ لأنّه أصل سببي ، بينما استصحاب نجاسة الثوب لا يجري ؛ لأنّه أصل مسببي.

والمقصود من الأصل السببي هو الأصل الجاري في الموضوع ، فإنّ إثبات الموضوع أو نفيه يترتّب عليه شرعا إثبات الحكم أو نفيه ؛ لأنّ الحكم مترتّب شرعا على موضوعه نفيا أو إثباتا.

بينما الأصل المسبّبي هو الأصل الجاري في الحكم ، وإثبات الحكم أو نفيه لا يترتّب عليه شرعا إثبات موضوعه أو نفيه ، وإنّما يكون ذلك من خلال حكم العقل على أساس الملازمة بينهما والأصل لا يجري لإثبات اللوازم العقليّة كما تقدّم.

ومن هنا كان الأصل السببي متقدّما على الأصل المسبّبي ؛ لأنّه ينقّح موضوعه نفيا أو إثباتا في رتبة سابقة ، ومع تنقيح الموضوع يصبح الحكم معلوما تعبّدا ويرتفع الشكّ به فلا يجري.

وقيل في توجيه ذلك بأنّ الأصل السببي حاكم على المسبّبي ؛ وذلك لأنّ استصحاب نجاسة الثوب في المثال المتقدّم موضوعه الشكّ في نجاسة الثوب بقاء ، والمفروض أنّ استصحاب طهارة الماء يثبت الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الطهارة للماء ومن جملة هذه الآثار الشرعيّة طهارة المغسول به لو كان متنجّسا ، وهذا يعني أنّه يرفع الشكّ في نجاسة الثوب بقاء ويثبت طهارته ، وبذلك يرتفع موضوع استصحاب نجاسة الثوب فلا يجري.

__________________

(١) في تطبيقات بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات السببي والمسبّبي.

١٤١

ولا يقال بأنّ استصحاب نجاسة الثوب يحكم أيضا على استصحاب طهارة الماء ؛ لأنّه إذا ثبتت نجاسة الثوب فهذا معناه أنّ الماء ليس طاهرا ؛ لأنّه لو كان طاهرا لم يكن الثوب نجسا بقاء.

لأنّه يقال : إنّ استصحاب نجاسة الثوب ليس فيه نظر إلى استصحاب طهارة الماء ؛ لأنّ إثبات نجاسة الماء به إنّما هو لأجل كونه لازما عقليّا فيكون من الأصل المثبت ، فلا يثبت به هذا الأثر ؛ لأنّه لازم عقلي لا شرعي.

مضافا إلى أنّ استصحاب الحكم لا يثبت الموضوع ولا ينفيه ؛ لأنّ طهارة الماء ليست أثرا لنجاسة الثوب ، بينما نجاسة الثوب وعدمها أثر شرعي لطهارة الماء وعدمه.

ولكن يلاحظ من ناحية : أنّ هذا البيان يتوقّف على افتراض قيام الإحراز التعبّدي بالأصل السببي مقام القطع الموضوعي ، وقد مرّت المناقشة في ذلك.

ويمكن تسجيل ملاحظتين على القول بالحكومة هنا :

الملاحظة الأولى : أنّ حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي تتوقّف على افتراض أنّ الأصل السببي فيه حيثيّة الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة ، وكونه يحرز لنا الواقع ويعبّدنا ببقاء العلم ، مضافا إلى افتراض أنّ العلم فيه يقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ ارتفاع موضوع الأصل المسبّبي إنّما هو على أساس ارتفاع الشكّ فيه وعدم العلم ، وهذا يتوقّف على أن يكون الأصل المسبّبي يقوم مقام القطع المأخوذ في موضوع الأصل المسبّبي ، إذ لو اقتصرنا على كون الأصل السببي يثبت العلميّة والكاشفيّة فقط ، أي أنّه يقوم مقام القطع الطريقي في إثباته وإحرازه للواقع تعبّدا ، فهذا المقدار لا يكفي للحكومة ؛ لأنّ العلم المأخوذ عدمه في موضوع الأصل المسبّبي هو العلم الوجداني كما هو الظاهر أي الكاشف التامّ ، وحيث إنّه جزء الموضوع فلا بدّ من افتراض قيام الإحراز التعبّدي في الأصل السببي مقام القطع الموضوعي لكي يرفع هذا العلم ويلغي موضوع الأصل المسبّبي.

وقد تقدّم سابقا أنّ الأمارة لا يمكن استكشاف قيامها مقام القطع الموضوعي لقصور دليل حجّيّتها عن ذلك ، فهنا كذلك ؛ لأنّ دليل الاستصحاب وهو الروايات ليس فيه نظر إلى القطع الموضوعي ، خصوصا إذا قلنا بأنّ النكتة الموجودة في الاستصحاب وهي عدم نقض اليقين بالشكّ أو غلبة أنّ ما يوجد يبقى إنّما هي نكات

١٤٢

عقلائيّة ؛ فإنّ الارتكاز العقلائي لم ينعقد على قيام الأمارة على القطع الموضوعي لندرته وقلّة وجوده في حياتهم ، فلا يمكننا استكشافه من دليل الاستصحاب أيضا.

ومن ناحية أخرى : أنّ التفسير المذكور غير مطّرد في سائر موارد الأصل السببي على المسبّبي ؛ لأنّه يختصّ بما إذا كان مفاد الأصل السببي إلغاء الشكّ وجعل الطريقيّة كما يدّعى في الاستصحاب ، مع أنّ الأصل السببي قد لا يكون مفاده كذلك ، ومع هذا يقدّم على الأصل المسبّبي حتّى ولو كان مفاده جعل الطريقيّة.

فالماء المغسول به الثوب في المثال المذكور لو كان موردا لأصالة الطهارة لا لاستصحابها لبني على تقدّمها بلا إشكال على استصحاب نجاسة الثوب المغسول ، مع أنّ دليل أصالة الطهارة ليس مفاده إلغاء الشكّ لتجري الحكومة بالبيان المذكور.

الملاحظة الثانية : أنّنا لو افترضنا أنّ الأصل السببي يتقدّم على الأصل المسبّبي للحكومة على أساس أنّ الإحراز التعبّدي وإلغاء الشكّ موجود فيه بخلاف الأصل المسبّبي ، ممّا يجعل الأصل السببي ناظرا إلى موضوع الأصل المسبّبي ورافعا له ، إلا أنّ هذا لو سلّم فهو لا يتمّ في سائر موارد تقديم الأصل السببي على المسبّبي ، ممّا يعني أنّ النكتة المذكورة ليست هي الوجه الفنّي لتقديمه ، فإنّنا قد نجد أنّ الأصل السببي في بعض الأحيان ليس فيه إحراز تعبّدي وليس فيه جعل الطريقيّة والعلميّة وإلغاء الشكّ ، ونجد أنّ الأصل المسبّبي فيه هذه الخصوصيّات ومع ذلك يتقدّم الأصل السببي على المسبّبي.

ومثال ذلك : ما إذا كان لدينا ماء مشكوك الطهارة ولم يكن مسبوقا بحالة سابقة متيقّنة فإنّه تجري فيه أصالة الطهارة ، فإذا غسلنا به الثوب المتنجّس فسوف نشكّ في طهارة الثوب ونجاسته بقاء من جهة الشكّ في طهارة الماء ونجاسته ، وهنا كما تجري أصالة الطهارة في الماء يجري استصحاب النجاسة في الثوب ، ولكن حيث إنّ أصالة الطهارة أصل سببي ؛ لأنّه يجري في السبب للطهارة وهو الماء ، فيكون مقدّما على استصحاب النجاسة في الثوب ؛ لأنّه أصل مسبّبي ؛ لأنّ النجاسة بقاء مسبّبة عن عدم طهارة الماء المغسول به الثوب.

١٤٣

ولكن لو لاحظنا أصالة الطهارة والتي هي أصل سببي يتقدّم على الأصل المسبّبي ، لوجدنا أنّ مفاد دليلها ليس إلا التعبّد بطهارة الماء فقط من دون أن يكون فيها إحراز تعبّدي أو كاشفيّة وطريقيّة عن الواقع ؛ لأنّ أصالة الطهارة دليلها مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » وهذا لا يثبت أكثر من إثبات الطهارة الظاهريّة ؛ لأنّها مقيّدة بالعلم على الخلاف.

بينما لو لاحظنا الاستصحاب في طرف الثوب لوجدنا أنّه أصل مسبّبي ، ولكنّه يحرز لنا الواقع تعبّدا ؛ لأنّ مفاد دليل الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين ، أي الكاشفيّة والطريقية والإحراز الواقعي ، ممّا يعني أنّه يثبت العلم.

فكان اللازم ـ بناء على الحكومة ـ أن يكون الأصل المسبّبي هنا هو الحاكم على الأصل السببي ؛ لأنّ الاستصحاب لمّا كان يثبت العلم ويتعبّد ببقائه فيرتفع به موضوع أصالة الطهارة ؛ لأنّ العلم قد أخذ غاية فيها ، مع أنّ البناء الفقهي هو على تقديم الأصل السببي دائما حتّى لو كان مثل أصالة الطهارة وحكومته على الأصل المسبّبي حتّى لو كان مثل الاستصحاب.

إذا فالقول بالحكومة يفترض عدم التقديم هنا مع أنّ التقديم ثابت ، وهذا نقض واضح على الحكومة.

وهذا معناه أنّ نكتة التقديم ليست هي الحكومة وإنّما هي شيء آخر ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وهذا يكشف عن أنّ نكتة تقدّم الأصل السببي على المسبّبي لا تكمن في إلغاء الشكّ ، بل في كونه يعالج موضوع الحكم ، فكأنّه يحلّ المشكلة في مرتبة أسبق على نحو لا يبقى مجال للحلّ في مرتبة متأخّرة عرفا ، وهذا يعني أنّ السببيّة باللحاظ المذكور نكتة عرفيّة تقتضي بنفسها التقديم في مقام الجمع بين دليلي الأصلين السببي والمسبّبي.

والصحيح في وجه تقديم الأصل السببي على المسبّبي : هو أنّ السببيّة تعتبر عرفا ملاكا للتقديم كالأخصّيّة والنصّيّة والتقييد والأظهريّة ، فهي من جملة أنواع القرينيّة النوعيّة.

وبيان ذلك : أنّ الأصل السببي لمّا كان متقدّما على الأصل المسبّبي حتّى فيما إذا

١٤٤

لم يكن فيه جنبة الإحراز التعبّدي والكاشفيّة وإلغاء الشكّ ، بل حتّى ولو كان الأصل المسبّبي فيه هذه الخصوصيّات أيضا ، كشف ذلك عن أنّ النكتة في التقديم هي كون الأصل السببي يعالج المشكلة في مرتبة سابقة على الأصل المسبّبي ، فإنّه لمّا كان يعالج المشكلة في مرحلة السبب ثبوتا فالعرف يرى إثباتا أنّه متقدّم على الأصل المسبّبي الذي يعالج المشكلة ثبوتا في مرحلة المسبّب ، فتكون السببيّة بنظر العرف ملاكا للتقديم في مقام الجمع العرفي بين الدليلين المتعارضين ؛ وذلك لأنّ العرف يرى أنّ ما يكون سببا واقعا فهو يرفع مشكلة المسبّب.

وبنظره المسامحي يرى أنّ ما يكون سببا ظاهرا فهو يرفع مشكلة المسبّب أيضا ، إذ لا يرى فرقا بينهما من ناحية السببيّة وإن كان بالدقّة يوجد الفرق ، لأنّ السببيّة الواقعيّة ثبوتيّة بينما الظاهريّة إثباتيّة.

وهنا يقال هكذا : فإنّ تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي كان لأجل السببيّة الواقعيّة ، فإنّ الأوّل يحرز الواقع إحرازا تعبّديّا فهو يحرز السبب الواقعي ، بينما أصالة الطهارة التي هي أصل سببي في المثال المتقدّم لا تحرز الواقع وإنّما تثبت المعذّريّة فقط ، ولكنّها تثبت المعذّريّة بإثبات السبب ظاهرا وهو طهارة الماء ، فكانت السببيّة فيها ظاهريّة إثباتيّة ، وحيث إنّ العرف لا يلتفت إلى المطالب العقليّة والتفرقة الدقيقة وإنّما يكتفي بالنظر إلى السببيّة الموجودة فيهما ، فيحكم بتقديم الأصل السببي على المسبّبي حال تعارضهما لنكتة السببيّة (١).

__________________

(١) ويمكننا أن نضيف شاهدا على ذلك : وهو أنّ المشهور ذهب إلى تقديم الأصل السببي على المسبّبي دائما للحكومة حتّى ولو كانا متوافقين ؛ لأن الأوّل يرفع ويلغي موضوع الثاني ، مع أنّ بعض روايات زرارة الدالّة على الاستصحاب قد أجرت الاستصحاب المسبّبي مع وجود الاستصحاب السببي الموافق له ، حيث قال : وإلا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ جوابا على سؤال السائل : ( الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ ).

فهنا يوجد استصحاب الوضوء السابق ويوجد استصحاب عدم النوم أيضا ، والوضوء بقاء مسبّب عن عدم النوم وعدم النوم سبب لبقاء الوضوء ، وهنا كلاهما يثبتان عدم وجوب الوضوء مجدّدا ولكنّ الإمام أجرى الاستصحاب في المسبّب دون السبب ، وهذا معناه أنّ الحكومة لو كانت هي الملاك لم يكن استصحاب المسبّب جاريا أصلا لارتفاع موضوعه ...... باستصحاب السبب ، فإجراؤه يكشف عن كون الملاك ليس هو الحكومة ، بل هو ما ذكر من القرينيّة النوعيّة وهي إنّما تجري في حالة المخالفة والمعارضة بين الأصلين ، وأمّا في حال التوافق بينهما فلا معنى للجمع العرفي ؛ لأنّه فرع التعارض ولا تعارض بينهما حال الموافقة كما هو واضح.

١٤٥

٧ ـ إذا تعارض الاستصحاب مع أصل آخر كالبراءة وأصالة الطهارة تقدّم الاستصحاب بالجمع العرفي. والمشهور في تفسير هذا التقديم وتبرير الجمع العرفي أنّ دليل الاستصحاب حاكم على أدلّة تلك الأصول ؛ لأنّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين وإلغاء الشكّ ، وتلك الأدلّة أخذ في موضوعها الشكّ فيكون رافعا لموضوعها بالتعبّد.

التطبيق السابع : في تقديم الاستصحاب على الأصول العمليّة.

إذا تعارض الاستصحاب مع أصالة الطهارة أو البراءة قدّم الاستصحاب عليهما بلا إشكال ، كما إذا كنّا على علم بنجاسة الماء سابقا ثمّ شككنا في ارتفاع النجاسة نتيجة الشكّ في كونه اتّصل بالكرّ مثلا أو بالقليل ، فهنا استصحاب النجاسة السابقة يجري ، وأصالة الطهارة تجري أيضا ؛ لأنّ الماء الموجود الآن يشكّ في طهارته ابتداء لكونه متّصلا بماء جديد لا يعلم هل هو كرّ بمجموعهما أو لا؟

وكما إذا كنّا على علم بالوجوب سابقا وشككنا به الآن فإنّه يجري استصحاب الوجوب بقاء ، ولكن تجري في مقابله أصالة البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد.

ففي هاتين الحالتين وغيرهما من حالات التعارض بين الاستصحاب والبراءة أو الطهارة يتقدّم الاستصحاب عليهما.

وقد ذهب المشهور في تخريج ذلك على أساس الحكومة ، فإنّ دليل الاستصحاب يعتبر حاكما على دليل البراءة والاحتياط ؛ لأنّه وإن كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ، إلا أنّ دليل الاستصحاب يثبت التعبّد ببقاء اليقين ؛ لأنّ مفاد دليله هو الإحراز التعبّدي والكاشفيّة والطريقيّة ، فالواقع معلوم ومحرز بالاستصحاب.

بينما دليل البراءة أو دليل أصالة الطهارة قد أخذ العلم غاية في موضوعهما ، ممّا يعني أنّه مع تحقّق العلم يرتفع موضوعهما ، والاستصحاب يحقّق العلم ولكن تعبّدا ، ولذلك يكون حاكما ؛ لأنّه لو كان يحقّق العلم حقيقة لكان واردا كما هو واضح.

١٤٦

إذا تقديم الاستصحاب على هذه الأصول من أجل أنّ دليله مفاده التعبّد ببقاء اليقين ، وما دام اليقين موجودا فيرتفع موضوع البراءة والطهارة ؛ لأنّ أدلّتهما مغيّاة بعدم العلم ، فإذا حصل العلم ارتفع الموضوع فيهما ، وهو معنى الحكومة (١).

فإن قيل : كما أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع أدلّة البراءة وأصالة الطهارة كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.

كان الجواب : أنّ الشكّ وإن كان مأخوذا في موضوع أدلّتها جميعا ولكنّ دليل الاستصحاب هو الحاكم ؛ لأنّ مفاده التعبّد باليقين وإلغاء الشكّ ، بخلاف أدلّة الأصول الأخرى.

وقد يشكل على الحكومة بأنّ دليل البراءة والطهارة وإن كان الشكّ وعدم العلم مأخوذا فيه ، بحيث يرتفع موضوعها بحصول العلم ، إلا أنّ دليل الاستصحاب قد أخذ الشكّ في موضوعه أيضا ، كما في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، وهذا يعني أنّه بحصول العلم يرتفع موضوعه أيضا ، فيكون التوارد من الجانبين لا من جانب واحد ، وبذلك يحصل التعارض ويحكم بالتساقط ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ما دام الشكّ مأخوذا فيهما على حدّ واحد.

ويجاب عن ذلك بأنّ الشكّ وإن كان مأخوذا في دليل الاستصحاب كالبراءة والطهارة ، إلا أنّه مع ذلك يحكم بتقديم الاستصحاب عليهما ؛ وذلك لما تقدّم من أنّ مفاد دليل الاستصحاب والمجعول فيه هو الإحراز التعبّدي ببقاء اليقين وإلغاء الشكّ أي الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة في الجانب العملي ، بخلاف أدلّة البراءة والطهارة فإنّ المجعول فيهما ليس إلا تسجيل الوظيفة العمليّة والتعذير فقط ، من دون أن يكون فيهما أيّ جانب إحرازي ، وهذا معناه أنّ الاستصحاب بمفاده يلغي الشكّ فيرتفع به

__________________

(١) نعم ، بالنسبة للتعارض بين الاستصحاب وقاعدة اليد والفراغ والتجاوز تكون هي المقدّمة على الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ رفع اليد عنها يعني إلغاءها دائما ، لأنّه في موردها الغالب وجود الاستصحاب فيكون تقديمه بحكم الإلغاء لها ، وتخصيصها بالفرد النادر جدا خلاف الحكمة من تشريعها ، فتكون مقدمة لوجود نكتة الأخصيّة فيها لا الأخصيّة المصطلحة.

١٤٧

موضوع البراءة والاحتياط ؛ لأنّه يكون ناظرا إليهما ورافعا لموضوعهما تعبّدا ، وهو معنى الحكومة.

وهذا البيان يواجه نفس الملاحظة التي علّقناها على دعوى حكومة دليل حجّيّة الأمارة على أدلّة الأصول ، فلاحظ (١).

والصحيح في الجواب عن دعوى الحكومة ما تقدّم سابقا في التطبيق الخامس من تقديم الأمارة على الأصل ، حيث ذكرنا هناك أنّ دعوى الحكومة يتوقّف على إحراز النظر وهو لا يمكن إحرازه ؛ لأنّه مرتبط بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي لا يمكن إثباته من خلال دليل الأمارة الذي هو السيرة العقلائيّة أو المتشرّعيّة لعدم انعقادها على العمل بالقطع الموضوعي.

وهنا نقول الكلام نفسه فإنّ حكومة الاستصحاب متوقّفة على كون الإحراز التعبّدي فيه ليس خصوص الكاشفيّة والطريقيّة ، بل لا بدّ من إثبات كون الإحراز التعبّدي فيه ناظرا إلى القطع الموضوعي ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ دليل الاستصحاب هو الروايات وهي ـ كما قلنا ـ تشير إلى النكتة العقلائيّة والارتكاز العقلائي في البناء على الحالة السابقة ، والارتكاز العقلائي ليس منعقدا على العمل بالقطع الموضوعي ليكون الاستصحاب ينزّل اليقين بالحالة السابقة منزلته.

والأحسن تخريج ذلك على أساس آخر من قبيل : أنّ العموم في دليل الاستصحاب عموم بالأداة لاشتماله على كلمة ( أبدا ) ، فيكون أقوى وأظهر في الشمول لمادّة الاجتماع.

والأحسن في تخريج تقديم الاستصحاب على مثل البراءة وأصالة الطهارة هو أن يقال : أمّا وجه تقديم الاستصحاب على أصالة الطهارة فلأنّها مختصّة بغير النجاسة المعلومة سابقا ؛ لأنّ دليلها قاصر عن الشمول لما إذا كانت الحالة السابقة هي النجاسة ؛ لأنّ الروايات الدالّة على القاعدة إمّا ظاهرة في الطهارة المشكوكة ابتداء من دون أن تكون مسبوقة بالحالة السابقة وإمّا مجملة ، فيقتصر على القدر المتيقّن وهو غير الحالة المسبوقة بالنجاسة سابقا ، فيكون لكلّ منهما مورده الخاصّ به.

وأمّا وجه تقديم الاستصحاب على البراءة فلأنّ النسبة بينهما وإن كانت العموم

__________________

(١) في النقطة الخامسة من تطبيقات الجمع العرفي.

١٤٨

من وجه ، إلا أنّ شمول البراءة كان على أساس الإطلاق ، بينما شمول الاستصحاب كان على أساس العموم بالأداة المستفاد من كلمة ( أبدا ) ، والعموم مقدّم على الإطلاق الشمولي لنكتة النصّيّة في الشمول لمادّة الاجتماع ، فيكون أقوى ظهورا والأظهر مقدّم على الظاهر كما تقدّم للقرينيّة النوعيّة.

وبهذا ينتهي البحث عن موارد التعارض غير المستقرّ والجمع العرفي.

* * *

١٤٩
١٥٠

التعارض المستقرّ

على ضوء دليل الحجّيّة

١٥١
١٥٢

٣ ـ التعارض المستقرّ على ضوء دليل الحجّيّة

نتناول الآن التعارض المستقرّ الذي تقدّم (١) : أنّ التنافي فيه بعد استقرار التعارض يسري إلى دليل الحجّيّة ، إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجّيّة لهما معا.

وسنبحث هنا حكم التعارض في ضوء دليل الحجّيّة وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة التي عولج فيها حكم التعارض ، وهذا معنى البحث عمّا تقتضيه القاعدة في المقام.

تمهيد : التعارض المستقرّ هو التنافي بين مدلولي الدليلين أو بين الدليلين في مرحلة الدلالة ، بحيث يسري التنافي منهما إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّه لمّا لم يمكن الجمع العرفي بينهما واستقرّ التعارض فهذا يكشف عن أنّ أحد الدليلين على الأقلّ لا يشمله دليل الحجّيّة ؛ لأنّه لا يمكن التعبّد بهما والأخذ بمفادهما لمكان التنافي بينهما ، ودليل الحجّيّة ليس مفاده الأخذ بما يؤدّي إلى التنافي أو التضادّ والتكاذب.

والبحث في هذا الباب يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في حكم التعارض بين الدليلين على ضوء دليل الحجّيّة بقطع النظر عمّا تقتضيه الروايات الخاصّة ، وهذا يبحث فيه عن مقتضى القاعدة الأوّليّة في التعارض.

المقام الثاني : في حكم التعارض على ضوء الروايات الخاصّة التي تعالج التعارض المستقرّ بين الدليلين ، وهذا يبحث فيه عن مقتضى القاعدة الثانويّة للتعارض.

وينبغي التنبيه على أنّ سريان التعارض من الدلالتين إلى دليل الحجّيّة إنّما هو فيما إذا كان التعارض بين دليلين ظنّيّي السند كالخبرين مثلا ، وأمّا الدليلان القطعيّان من

__________________

(١) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟

١٥٣

حيث السند فالتعارض يبقى بين الدلالتين ولا يسري إلى السندين للقطع بصدورهما كالآيتين مثلا.

والتعارض المستقرّ يقسم إلى قسمين أيضا :

فتارة يكون التعارض بنحو التباين كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( لا تكرم العالم ).

وأخرى يكون بنحو العموم والخصوص من وجه ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( لا تكرم الفاسق ) ، فإنّهما يتعارضان في مادّة الاجتماع.

وسوف نتحدّث عن المقام الأوّل : أي مقتضى القاعدة الأوّليّة ، فنقول :

والمعروف أنّ القاعدة تقتضي التساقط ؛ لأنّ شمول دليل الحجّيّة للدليلين المتعارضين غير معقول ، وشموله لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وشموله لهما على وجه التخيير لا ينطبق على مفاده العرفي ـ وهو الحجّيّة التعينيّة ـ فيتعيّن التساقط.

المقام الأوّل : ذهب المشهور إلى أنّ القاعدة الأوّليّة هي التساقط.

واستدلّوا على ذلك بأنّ دليل الحجيّة الدالّ على حجّيّة الخبرين المتعارضين مثلا تارة يكون لبّيّا كالسيرة العقلائيّة وأخرى يكون لفظيّا كالآيات والروايات.

فإن كان لبّيّا فيقتصر في دليل الحجّيّة على القدر المتيقن ؛ لأنّ الأدلّة اللبّيّة لا إطلاق فيها ، والقدر المتيقّن من دليل الحجّيّة هو غير حالات التعارض ، فتكون حالة التعارض خارجة بنفسها عن مدلول دليل الحجّيّة وهو معنى التساقط ، وهذا لم يذكره السيّد الشهيد هنا.

وإن كان لفظيّا كالآيات أو الروايات التي يتمسّك بها كدليل على حجّيّة خبر الثقة مثلا ، فهي مطلقة بحسب النظر الأوّلي لكلا الخبرين ، ولكن في حالة التعارض لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقها ؛ وذلك لأن شمول دليل الحجّيّة لكلا الخبرين معا غير معقول في نفسه ؛ لأنّ معناه التعبّد بالنقيضين أو الضدّين وهو محال.

وشمول دليل الحجّيّة لأحدهما المعيّن أي هذا الخبر بالخصوص دون ذاك ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّنا نفترض أنّ الخبرين متساويان في الخصوصيّات ولا مزيّة لأحدهما على الآخر ، فترجيحه كذلك لا مبرّر له.

١٥٤

وشمول دليل الحجّيّة لأحدهما غير المعيّن بأن يكون دليل الحجّيّة شاملا لهما على سبيل التخيير لا التعيين ، فهذا مخالف لما هو الظاهر والمفهوم عرفا من مفاد دليل الحجّيّة وكون الحجّيّة تعينيّة لا تخييريّة ؛ لأنّ مرجع التخيير إلى الأخذ بأحدهما مشروطا بترك الآخر ، أو أن يكون الأخذ بأحدهما قيدا لحجّيّته نفسه ، وكلاهما مستحيل ، وحينئذ يتعيّن التساقط.

ونلاحظ من خلال هذا البيان أنّ الانتهاء إلى التساقط يتوقّف على إبطال الشقوق الثلاثة الأولى ، فلنتكلّم عن ذلك :

إذا قول المشهور بالتساقط ناتج عن كون الشقوق الثلاثة المحتملة كلّها غير معقولة ولا يمكن الأخذ بها ، وهذا لازمه أنّه إذا أمكننا إثبات إمكان أحد هذه الاحتمالات فلا يصار إلى التساقط عندئذ ، فتكون مقالة المشهور مرهونة بإبطال هذه الاحتمالات الثلاثة.

ومن هنا كان لا بدّ من استعراض هذه الشقوق لنرى مدى إمكانيّة إثبات بطلانها أو عدم ذلك ، فنقول :

أمّا الشقّ الأوّل ـ وهو شمول دليل الحجّيّة لهما معا ـ فقد يقال : إنّ الدليلين المتعارضين تارة يكون مفاد أحدهما إثبات حكم إلزامي ومفاد الآخر نفيه ، وأخرى يكون مفاد كلّ منهما حكما ترخيصيّا ، وثالثة مفاد كلّ منهما حكما إلزاميّا.

أمّا الشقّ الأوّل ـ وهو عدم معقوليّة شمول دليل الحجّيّة للدليلين المتعارضين معا ـ فقد يقال : إنّ شمول دليل الحجّيّة للمتعارضين قد يعقل في بعض الموارد ولذلك يكون الشقّ الأوّل غير مطّرد دائما في جميع الموارد.

وتوضيح ذلك : أنّ الدليلين المتعارضين يمكن تقسيمهما بلحاظ مفاديهما إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ أن يكون مفاد أحدهما إثبات حكم إلزامي بينما مفاد الآخر نفي هذا الحكم ، كما إذا قيل : ( يجب الدعاء عند رؤية الهلال ) ، وقيل : ( لا يجب الدعاء عند رؤية الهلال ).

٢ ـ أن يكون مفاد كلّ منهما إثبات حكم ترخيصي ، كما إذا قيل : ( يستحب

١٥٥

الدعاء عند رؤية الهلال ) ، وقيل : ( يكره الدعاء عند رؤية الهلال ) ، فإنّه لا إلزام فيهما معا ؛ لأنّه يجوز الترك كما يجوز الفعل أيضا.

٣ ـ أن يكون مفادهما إثبات حكم إلزامي ، كما إذا قيل : ( يجب الدعاء عند رؤية الهلال ) ، وقيل : ( يحرم الدعاء عند رؤية الهلال ) ، أو قيل : ( تجب صلاة الجمعة يوم الجمعة ) ، وقيل : ( تجب صلاة الظهر يوم الجمعة ).

وسوف نتحدّث عن كلّ واحد من هذه الأقسام لنرى أنّ دليل الحجّيّة هل بالإمكان شموله للدليلين المتعارضين أو لا؟

ففي الحالة الأولى يستحيل شمول دليل الحجّيّة لهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى تنجيز حكم إلزاميّ والتعذير عنه في وقت واحد.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان التعارض بين الدليلين على أساس النفي والإثبات ، فأحدهما يثبت الحكم والآخر ينفيه ، فهنا لا إشكال في عدم معقوليّة شمول دليل الحجّيّة لهما ؛ لأنّ شموله لهما يعني التعبّد بمفادهما والأخذ به ، وهذا يعني فرض اجتماع ثبوت الحكم وانتفائه ، أو تنجيز الحكم والتعذير عنه في نفس الوقت ، وهو مستحيل ؛ لأنّه من اجتماع النقيضين أو الضدّين على موضوع واحد.

وفي الحالة الثانية يستحيل الشمول ؛ لأدائه ـ مع العلم بمخالفة أحد الترخيصين للواقع ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة لذلك الواقع المعلوم إجمالا.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان مفادهما إثبات حكم ترخيصي.

فهنا تارة يعلم من الخارج بكذب أحد الترخيصين إجمالا ، وأخرى لا يعلم بكذب أحدهما كذلك.

فإن علم بكذب أحدهما إجمالا كما إذا قيل : ( لا تجب صلاة الجمعة يوم الجمعة ) ، وقيل : ( لا تجب صلاة الظهر يوم الجمعة ) فهنا نعلم بكذب أحدهما ؛ لأنّ إحدى الصلاتين واجبة يوم الجمعة لا محالة ؛ لأنّه توجد خمس صلوات في اليوم والليلة.

وعليه ، فشمول دليل الحجّيّة لهما لا يعقل ؛ لأنّه يؤدّي إلى مخالفة الواقع المعلوم إجمالا ؛ لأنّ المكلّف إذا ترك صلاة الظهر وصلاة الجمعة سوف يعلم بأنّه خالف الواقع قطعا ، إمّا لمخالفته التكليف بوجوب الظهر أو التكليف بوجوب الجمعة.

١٥٦

وقد مرّ في بحث العلم الإجمالي أنّ الأصول المؤمّنة إذا أدّت إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة فيقع التعارض بينها ويحكم بتساقطها ، وهنا يقال نظير ذلك.

وأمّا إن لم يعلم بكذب أحد الترخيصين كما إذا قيل : ( يستحب الدعاء عند رؤية الهلال ) ، وقيل : ( يكره الدعاء عند رؤية الهلال ) ، فإنّ الكراهة والاستحباب متضادّان ، ولكن لمّا لم يعلم من الخارج بكذب أحدهما فكان دليل الحجّيّة شاملا لهما ولكن شموله لهما ، يؤدّي إلى التعبّد باجتماع الضدّين ، وهو محال.

وهذا لم يذكره السيّد الشهيد ولعلّه لوضوحه كما لا يخفى.

وأمّا في الحالة الثالثة : فإن كان الحكمان الإلزاميّان متضادّين ذاتا ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة ودلّ آخر على حرمتها ـ فالشمول محال أيضا ؛ لأدائه الى تنجيز حكمين إلزاميّين في موضوع واحد.

وإن كانا متضادّين بالعرض للعلم الإجمالي من الخارج بعدم ثبوت أحدهما ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر ـ فلا استحالة في شمول دليل الحجّيّة لهما معا ؛ لأنّه إنّما يؤدّي إلى تنجيز كلا الحكمين الإلزاميّين مع العلم بعدم ثبوت أحدهما ، ولا محذور في ذلك.

وأمّا الحالة الثالثة : وهي ما إذا كان مفاد الدليلين المتعارضين حكما إلزاميّا ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون التنافي فيهما ذاتيّا ـ والمقصود من التنافي هنا الأعمّ من التناقض أو التضادّ ، بحيث لا يمكن ثبوت مفاديهما معا والتعبّد بهما ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة ودلّ دليل آخر على حرمتها ، فهنا الوجوب والحرمة متضادّان لا يمكن اجتماعهما على موضوع واحد ، والتضادّ بينهما ذاتي ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بالوجوب والحرمة معا في موضوع واحد.

وعليه ، فشمول دليل الحجّيّة لهما غير معقول أيضا ؛ لأنّه يؤدّي إلى تنجيز الحكمين الإلزاميين المتضادّين وهذا غير ممكن في نفسه ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو النقيضين أو التعبّد باجتماعهما.

الصورة الثانية : أن يكون التنافي بينهما عرضيّا ـ والمقصود من التنافي بالعرض أن يكون كلّ منهما متعلّقا بموضوع مغاير للآخر بحيث يمكن ثبوتهما معا والتعبّد

١٥٧

بهما لذاتيهما ولكن يعلم من الخارج بكذب أحدهما غير المعيّن ـ كما إذا دلّ الدليل على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ودلّ دليل آخر على وجوب الظهر يوم الجمعة ، فهنا الموضوع في كلّ منهما مغاير للآخر ، ولا مانع من اجتماعهما والأخذ بهما معا ؛ لإمكان وجوب كلا الصلاتين على المكلّف والحال أنّه يمكن فعلهما معا أيضا.

ولكن لمّا علمنا من الخارج بأنّه لا يجب إلا خمس صلوات في اليوم والليلة ، كان لهذا العلم مدلول التزامي وهو أنّ أحد الدليلين السابقين غير مطابق للواقع ؛ لأنّ الجمع بينهما يؤدّي إلى مخالفة العلم بأنّه لا يوجد إلا خمس صلوات.

وعليه ، فشمول دليل الحجّيّة لهما ليس مستحيلا في نفسه ، وإنّما محذوره مخالفة العلم من الخارج بعدم ثبوت أحدهما ، وهذا المحذور لا مانع من ارتكابه ؛ لأنّه يؤدّي إلى إلزام المكلّف بالموافقة القطعيّة وهي أمر مستحسن عقلا وعقلائيّا ، ولذلك يشملهما دليل الحجّيّة معا.

وبهذا يظهر أنّ الشقّ الأوّل لا يتمّ في موارد التعارض بالعرض بين دليلين إلزاميّين.

ولكن الصحيح : أنّ هذا التوهّم يقوم على أساس ملاحظة المدلول المطابقي في مقام التعارض فقط ، وهو خطأ ، فإنّ كلاّ من الدليلين المفروضين يدلّ بالالتزام على نفي الوجوب المفاد بالآخر ، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقيّة لأحدهما والدلالة الالتزاميّة للآخر ، وحجّيّتهما معا تؤدّي إلى تنجيز حكم والتعذير عنه في وقت واحد.

والصحيح : أنّ شمول دليل الحجّيّة للمتعارضين الإلزاميّين المتنافيين بالعرض غير معقول أيضا ؛ وذلك لأنّ المعارضة بين الدليلين ليست على أساس المدلول المطابقي فيهما ، إذ لا منافاة بين وجوب الجمعة ووجوب الظهر ، وإنّما المعارضة بالدقّة بين المدلول المطابقي في أحدهما والمدلول الالتزامي في الآخر ، بحيث يكون كلّ منهما يثبت مفاده بالمدلول المطابقي وينفي مفاد الآخر بالمدلول الالتزامي.

وتوضيح ذلك : أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمعة يثبت وجوب الجمعة بالمطابقة وينفي وجوب صلاة أخرى غيرها بالالتزام ، والدليل الدالّ على وجوب الظهر يثبت وجوب الظهر بالمطابقة وينفي وجوب صلاة أخرى غيرها بالالتزام ، وهذا المدلول

١٥٨

الالتزامي نشأ من العلم من الخارج بأنّه لا تجب إلا خمس صلوات في اليوم والليلة ، ممّا يعني أنّه لا توجد صلاة أخرى غير الصلاة التي يثبتها أحد الدليلين.

وهذا معناه أنّ الدليل الدالّ على صلاة الجمعة يثبت التنجيز لصلاة الجمعة ويثبت التأمين عن صلاة الظهر ؛ لأنّه ينفي وجود صلاة أخرى غير الجمعة فهو يثبت التأمين ، بمعنى أنّه يوجد تأمين من ناحية تلك الصلاة المفترضة.

وهكذا يقال بالنسبة لصلاة الظهر ، فيكون شمول دليل الحجّيّة لهما معا معناه التعبّد بالتنجيز والتعذير معا على موضوع واحد ؛ لأنّ كلاّ منهما ينجّز نفسه ويعذّر عن الآخر ، فالتعبّد بهما يعني التعبّد باجتماع المنجّزيّتين والمعذّريّتين معا ، وهو مستحيل ؛ لأنّ اجتماع المنجّزيّتين معا وإن كان لا محذور فيه ، لأنّه يؤدّي إلى الموافقة القطعيّة إلا أنّ اجتماع المعذّريّتين معا يؤدّي إلى محذور اجتماع الضدّين أو النقيضين معا وهو مستحيل.

وبهذا يتّضح وجه التوهّم والمغالطة فيما ذكر ؛ لأنّه كان مبنيا على إبراز المعارضة بلحاظ المدلول المطابقي فقط ، مع أنّه لا يوجد معارضة بينهما ؛ لأنّه يجوز اجتماعهما معا ذاتا ، وإنّما المعارضة بينهما بلحاظ المدلول المطابقي في أحدهما والمدلول الالتزامي في الآخر ، وشمول دليل الحجّيّة لهما يؤدّي إلى اجتماع التنجيز والتعذير معا وهو محال ؛ لكونه من اجتماع الضدّين.

فإن قيل : هذا يعني أنّ المحذور نشأ من ضمّ الدلالتين الالتزاميّتين في الحجّيّة إلى المطابقيّتين فيتعيّن سقوطهما عن الحجّيّة ؛ لأنّهما المنشأ للتعارض ، وتظلّ حجّيّة الدلالة المطابقيّة في كلّ من الدليلين ثابتة.

وقد يشكل على ما ذكرناه من كون المعارضة بين المدلول المطابقي في أحدهما والمدلول الالتزامي في الآخر فيقال : إنّ المدلولين المطابقيّين لا يوجد تعارض بينهما ؛ لأنّه لا تنافي بينهما ذاتا إذ يمكن اجتماعهما معا ، وهذا معناه أنّ منشأ التعارض بين المدلولين المطابقيّين إنّما هو وجود المدلول الالتزامي في كلّ منهما ، فلولا وجود هذا المدلول الالتزامي لم يكن هناك تعارض أصلا. وعليه فبدلا من أن ندخل المدلولين المطابقيّين في المعارضة نقول بأنّ المدلولين الالتزاميّين فيهما يحكم بتعارضهما وتساقطهما ، ويبقى المدلول المطابقي في كلّ منهما مشمولا لدليل الحجّيّة.

١٥٩

والوجه في ذلك : هو أنّ المدلولين الالتزاميّين الأخذ بهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يرخّص ويؤمّن عن الصلاة الأخرى ، فمع الأخذ بهما يعني التأمين عن الصلاتين وهذا مخالفة قطعيّة.

بينما إذا لاحظنا المدلولين المطابقيّين وجدنا أنّ الأخذ بهما يؤدّي إلى الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ نتيجتهما تنجيز كلا الصلاتين.

ومن الواضح أنّ ما يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة لا بدّ من رفع اليد عنه ، بخلاف ما يلزم منه الموافقة القطعيّة.

كان الجواب : أنّنا نواجه في الحقيقة معارضتين ثنائيّتين ، والدلالة الالتزاميّة تشكّل أحد الطرفين في كلّ منهما ، فلا مبرّر لطرح الدلالة الالتزاميّة إلا التعارض ، وهو ذو نسبة واحدة إلى كلا طرفي المعارضة ، فلا بدّ من سقوط الطرفين معا.

ويجاب عن هذا الإشكال بأنّه يتمّ فيما لو كان لدينا تعارض بين المدلولين المطابقيّين من جهة ، وبين المدلولين الالتزاميّين من جهة أخرى ، فيقال بتقديم المدلولين المطابقيّين على الالتزاميّين لما ذكر.

ولكنّ الصحيح : هو كون المعارضة بين المدلول المطابقي في أحدهما والمدلول الالتزامي في الآخر ، بحيث يقع المدلول الالتزامي طرفا في هذه المعارضة وطرفا في تلك أيضا ؛ وذلك لأنّ دليل وجوب الظهر مفاده المطابقي وجوب الظهر وهذا يتنافى مع المدلول الالتزامي في دليل وجوب الجمعة الذي مدلوله الالتزامي نفي وجوب صلاة أخرى غير الجمعة ، فيقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما ؛ لأنّ نسبتهما إلى دليل الحجّيّة واحدة ؛ لأنّ الكاشفيّة فيه بالنسبة إلى كلا المدلولين على حدّ واحد ، ولا معنى لترجيح أحدهما على الآخر في الحجّيّة أو في السقوط ، وهذا معناه أنّه لا يوجد أيّ مبرر لإسقاط المدلول الالتزامي إلا التعارض بينه وبين المدلول المطابقي الذي يسقط بدوره بسبب المعارضة ، وهكذا يقال بالنسبة لدليل وجوب الجمعة.

وعليه ، فالالتزام بسقوط أحد الطرفين من كلتا المعارضتين وبقاء الطرف الآخر فيهما لا مبرّر له ولا مرجّح ؛ لأنّ الكاشفيّة في دليل الحجّيّة بالنسبة للمدلول المطابقي والمدلول الالتزامي فيهما على حدّ واحد ؛ لأنّ الأمارة لوازمها حجّة كمدلولها المطابقي كما تقدّم.

١٦٠