شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وهذا هو معنى التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

الإجابة الأولى : أن يقال بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وذلك لوجود المقتضي وفقدان المانع.

وبيانه : أمّا المقتضي فهو أنّ هذا الفرد المشكوك فسقه في الخارج يعلم قطعا بأنّه مصداق للعامّ ؛ وذلك للعلم القطعي بأنّه فقير ، وما دام محرز الفقر فيشمله العامّ ؛ لأنّ العامّ مفاده وجوب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد الفقير ، فيكون المقتضي لوجوب إكرامه موجودا ومحرزا وهو كونه فقيرا.

وأمّا المانع فهو مفقود ؛ وذلك لأنّ المانع من تأثير المقتضي إنّما هو وجود المخصّص ، والمفروض أنّ المخصّص ينطبق على كلّ فرد يحرز ويعلم بأنّه فاسق ؛ لأنّه أخرج من العامّ الفساق من الفقراء ، فكلّ فرد من أفراد الفقير إذا كان فاسقا فلا يجوز إكرامه ؛ لأنّ الفسق يمنع من تأثير المقتضي للإكرام.

وأمّا هنا فالمانع لا يعلم بوجوده في هذا الفرد مع كون المقتضي معلوم الوجود ، فحينئذ لن يكون هناك أيّ مانع من تأثير المقتضي وشمول وجوب الإكرام لهذا الفرد.

وبتعبير آخر : إنّنا نحرز شمول العامّ لهذا الفرد باعتباره فقيرا ؛ لأنّ دليل العامّ منصبّ على عنوان الفقير بحيث يكون كلّ فرد فرد له حكم بوجوب الإكرام ، ونحرز أيضا بأنّ عنوان الخاصّ لا يشمل هذا الفرد جزما ؛ لأنّنا نشكّ في كونه فاسقا أو لا ، فلا نعلم بشمول الخاصّ له ، وحينئذ نطبّق القاعدة القائلة بأنّ كلّ دلالة محرزة لا يرفع اليد عنها إلا بدلالة محرزة أخرى على خلافها ، بحيث تكون أقوى منها ، وهنا الدلالة المحرزة هي دلالة العامّ والدلالة غير المحرزة هي دلالة الخاصّ ، فلا نرفع اليد عن دلالة العامّ ، وهذا هو المطلوب.

فيثبت جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة بمعنى بقاء العامّ على عمومه بالنسبة للمصداق المشكوك (١).

__________________

(١) وهنا قد يشكل بناء على مسلك الميرزا من تصوير حكومة الخاصّ على العامّ ؛ لأنّه في الفرد المشكوك سوف يشكّ في شمول دليل العامّ له لو كان غير فاسق ، وفي شمول دليل الخاصّ له لو كان فاسقا ، وترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح.

١٠١

والإجابة الثانية : ترفض التمسّك بالعامّ ؛ لأنّنا بالعامّ إن أردنا أن نثبت وجوب إكرام زيد على تقدير عدم فسقه فهذا واضح وصحيح ، ولكن لا يثبت الوجوب فعلا للشكّ في التقدير المذكور ، وإن أردنا أن نثبت وجوب إكرامه حتّى لو كان فاسقا فهذا ما نحرز وجود دلالة أقوى على خلافه وهي دلالة القرينة ، وإن أردنا أن نثبت الوجوب الفعلي للإكرام لأجل تحقّق كلّ ما له دخل في الوجوب بما في ذلك عدم الفسق ، فهذا متعذّر ؛ لأنّ الدليل مفاده الجعل لا فعليّة المجعول ، وهذا هو الصحيح.

الإجابة الثانية : عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وهو الصحيح والمختار لدى السيّد الشهيد ، وذلك للبيان التالي :

وهو أنّ التمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك ما ذا يراد به؟

فإن أريد به إثبات وجوب إكرام زيد على تقدير عدم فسقه ، فهذا صحيح ، ولكنّه يثبت الحكم التقديري لا الحكم الفعلي ، بمعنى أنّ هذا الحكم مفاده أنّه : ( إن كان زيد غير فاسق فيجب إكرامه ).

وهذه القضيّة شرطيّة يفترض فيها الشرط ويصبّ الحكم على الموضوع عند تحقّق الشرط ، وصدق هذه القضيّة لا يتوقّف على تحقّق الشرط في الخارج ، بل هي صادقة وإن لم يتحقّق فعلا.

وهذا معناه أنّ ما ينظر إليه العامّ هنا هو إثبات القضيّة الحقيقيّة المقدّر فيها الحكم على تقدير الشرط ، بينما المراد إثباته هو الوجوب الفعلي لزيد ؛ لأنّه هو المشكوك ،

__________________

وبكلمة ثانية : إنّ دليل العامّ يشمل الفرد المشكوك باعتباره فقيرا ولكن لا يشمله باعتبار أنّه غير فاسق ، والمهمّ هو الثاني لا الأوّل ؛ لأنّه ليس كلّ فقير يجب إكرامه ، فإنّه معلوم البطلان لوجود المخصّص ، بل الذي يجب إكرامه هو الفقير غير الفاسق ، وهذا غير محرز ولا معلوم في الفرد المشكوك ، فالعامّ كالخاصّ هنا لا يحرز موضوعهما.

ولكنّه يجاب عن ذلك بأنّ شمول العامّ للفقير غير الفاسق وعدم شموله للفقير الفاسق إنّما هو نتيجة التخصيص ، لا أنّ العامّ بنفسه قاصر عن الشمول للفقير ، بل هو بعمومه يشمل كلّ فقير خرج عن ذلك خصوص الفقير الفاسق ، أمّا ما عداه فهو باق تحته ، وهذا معناه أنّ الفرد المشكوك يعلم بدخوله تحت العامّ ويشكّ في خروجه عنه ، وهذا معناه الدوران بين دلالة محرزة ودلالة مشكوكة ، فلا نرفع اليد عن الدلالة المحرزة بالدلالة المشكوكة.

١٠٢

وأمّا الوجوب التقديري فهو معلوم بنفسه ولكنّه لا يجدي نفعا ؛ لأنّ الشكّ في ثبوت هذا التقدير في الخارج لا يزال قائما ممّا يعني بقاء الشكّ في ثبوت الحكم لهذا الفرد.

وإن أريد به إثبات وجوب إكرام زيد على تقدير فسقه ، فهذا واضح الفساد ؛ لأنّه إذا كان فاسقا فهو مشمول لدليل الخاصّ لا لدليل العامّ ؛ لأنّ دليل الخاصّ ينفي وجوب الإكرام عن كلّ فقير فاسق ، فإذا كان زيد فاسقا أو لو فرض كونه فاسقا فهو مشمول لدليل الخاصّ. ومن الواضح أنّ دلالة الخاصّ أقوى من دلالة العامّ للقرينيّة المتقدّمة ، فيكون الفرد المشكوك في هذه الحالة مشمولا لدلالة الخاصّ الأقوى.

وإن أريد به إثبات الوجوب الفعلي لإكرام زيد لوجود المقتضي لإكرامه وانتفاء المانع منه ، فهذا معناه إحراز كونه فقيرا غير فاسق ، وهذا هو المطلوب ولكنّه عين المتنازع فيه ، إذ كيف يمكن إثبات كون هذا الفرد المشكوك فقيرا غير فاسق؟!

ولا يمكن إثبات ذلك إلا بأن يكون العامّ نفسه متكفّلا للدلالة على أنّ هذا الفرد المشكوك يكون فردا من أفراده حال التمسّك بالعامّ فيه ، ممّا يعني أنّ التمسّك بالعامّ يثبت مصداقه بالفعل.

إلا أنّ هذا باطل لا محالة ؛ لأنّ العامّ لو فرض كونه مثبتا لمصداقه فهذا معناه كون دليل العامّ ناظرا إلى قضيّة خارجيّة لا حقيقيّة ؛ لأنّ إثبات المصداق الفعلي في الخارج معناه الانتقال من عالم الجعل إلى عالم المجعول.

ومن الواضح أنّ عالم الجعل إنّما يكون مفاده جعل الحكم على الموضوع المقدّر والمفترض الوجود ، بينما عالم المجعول مفاده النظر إلى تحقّق الوجوب الفعلي في الخارج عند تحقّق موضوعه خارجا ، وإثبات نظر دليل العامّ إلى كلا المفادين معا لا يمكن الالتزام به ، مضافا إلى كونه خلف التشريع للأحكام ؛ لأنّ الشارع إنّما يشرّع الحكم على تقدير الموضوع ، ولا يتدخّل في إثبات الموضوع في الخارج أو عدم إثباته.

والحاصل هنا : أنّ التمسّك بالعامّ إذا أريد به إثبات موضوعه وكون هذا الفرد المشكوك مصداقا لموضوع العامّ باعتباره فقيرا غير فاسق ، فهذا وإن كان هو المطلوب ولكن إثباته غير ممكن ؛ لأنّ دليل العامّ كغيره من الأحكام الشرعيّة ينظر إلى عالم الجعل حيث يكون فيه الحكم مجعولا على موضوعه المقدّر ، ولا نظر فيه إلى عالم

١٠٣

الفعليّة والمجعول الخارجي ؛ لأنّ هذا النظر يخرجه عن كونه حكما شرعيّا إلى كونه حكما إخباريّا عن قضيّة خارجيّة تكوينيّة ، وهي كون هذا الفرد مصداقا أو ليس بمصداق ، ومن الواضح أنّ الشارع لا يتدخّل بلحاظ كونه مشرّعا لإثبات موضوع حكمه أو عدم إثباته.

وبهذا يظهر أنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة غير ممكن.

القسم الثاني : أن يكون الشكّ في الشمول ناشئا من شبهة مفهوميّة في العنوان المأخوذ في دليل القرينة ، كما إذا تردّد عنوان الفاسق مفهوما في المثال السابق بين مطلق المذنب ومرتكب الكبيرة خاصّة ، فيشكّ حينئذ في شمول دليل القرينة لمرتكب الصغيرة.

وفي مثل ذلك يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب إكرام مرتكب الصغيرة ؛ لأنّ دلالة العامّ على حكمه معلومة ، ووجود دلالة في المخصّص على خلاف ذلك غير محرز.

القسم الثاني : في التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة وعدمه.

وهذا القسم أيضا تحته فروع أربعة كالقسم السابق ، ولكن اقتصر السيّد الشهيد على الفرع الأساسي منها ، وهو ما إذا كان المخصّص منفصلا وكان الشكّ في الشبهة المفهوميّة ناشئا من الشكّ بين مفهومين أو عنوانين النسبة بينهما هي الأقلّ والأكثر ، وأمّا فيما إذا كانت النسبة بينهما التباين وكان المخصّص منفصلا فلا يجوز التمسّك بالعامّ ، وهكذا في صورة الاتّصال فالإجمال يسري إلى العامّ بحيث لا يمكن التمسّك به في إثبات حكمه لمورد الإجمال.

وأمّا هنا فالحكم هو جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة ؛ وذلك لأنّ دلالة العامّ على ثبوت الحكم في المورد المشكوك معلومة بينما دلالة الخاصّ فيه غير محرزة.

فمثلا إذا ورد : ( أكرم كلّ فقير ) ، ثمّ ورد : ( لا تكرم الفقير الفاسق ) ، وشكّ في مفهوم الفسق ما هو؟ هل هو بمعنى ارتكاب مطلق الذنب سواء الكبير أم الصغير وهو الأكثر ، أم خصوص ارتكاب الذنب الكبير وهو الأقل.

فهنا إذا كان زيد مرتكبا للذنب الصغير فقط ، فسوف يقع الشكّ في وجوب إكرامه وعدم وجوبه نتيجة الشكّ في مفهوم الفسق ، فإنّه إذا كان عبارة عن المفهوم

١٠٤

الأكثر كان العنوان منطبقا عليه ، وإن كان عبارة عن المفهوم الأقلّ لم يكن عنوان الفسق منطبقا عليه ؛ لأنّه لم يرتكب الذنب الكبير في الفرض المذكور.

وفي هذه الحالة نقول : إنّ دلالة العامّ تشمل هذا الفرد المشكوك قطعا لكونه فقيرا ، فالمقتضي لإكرامه موجود ، وأمّا المانع وهو إثبات كونه فاسقا فهذا غير معلوم ، بسبب الشكّ في مفهوم الفسق المؤدّي إلى الشكّ في كون هذا الفرد داخلا تحت الخاصّ أو غير داخل تحته ، ممّا يعني أنّ دلالة الخاصّ فيه غير محرزة ولا يعلم شمولها له ، وحينئذ نطبّق القاعدة المتقدّمة من أنّ الدلالة المحرزة لا نرفع اليد عنها إلا مع ثبوت دلالة أقوى منها ، وهذه الدلالة الأقوى غير ثابتة ولا محرزة في مقامنا ، هذا بشكل مجمل.

وأمّا تفصيل الكلام فهو كما يلي :

فإن قيل : ألا يأتي هنا نفس ما ذكر في الإجابة الثانية في القسم الأوّل لإبطال التمسّك بالعام؟

كان الجواب : أنّ ذلك لا يأتي ، ويتّضح ذلك بعد بيان مقدّمة ، وهي :

قد يقال : إنّ هذا المورد كالمورد السابق لا يمكن التمسّك بالعامّ فيه ؛ وذلك لأنّ الإجابة الثانية هناك تأتي هنا ، فيقال : إنّ التمسّك بالعامّ إذا أريد به إثبات الوجوب على تقدير عدم الفسق ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه ولكنّه لا يجدي نفعا ؛ لأنّه يثبت الحكم التقديري ونحن نريد إثبات الحكم الفعلي.

وإذا أريد به إثبات الوجوب على تقدير فسقه ، فهذا لا يمكن الأخذ به ؛ لأنّه إذا كان فاسقا فيكون مشمولا لدلالة الخاصّ الأقوى ، وإذا أريد به إثبات الوجوب عن طريق إثبات عدم الفسق فعلا في الخارج فهذا هو المطلوب ، ولكن إثبات عدم الفسق عن الفرد معناه النظر إلى الحكم الفعلي المجعول والمفروض أنّ الحكم لا ينظر إلا إلى عالم الجعل فقط ، وبهذا يظهر أنّه لا يوجد معنى محصّل للتمسّك بالعامّ.

والجواب عن ذلك يتّضح بعد ذكر هذه المقدّمة ، وهي تشتمل على أمور ثلاثة :

إنّ المخصّص القائل : ( لا تكرم فسّاق الفقراء ) يكشف عن دخالة قيد في موضوع وجوب الإكرام زائد على الفقير ، غير أنّ هذا القيد ليس هو ألاّ يسمّى الفقير فاسقا فإنّ التسمية بما هي ليس لها أثر إثباتا ونفيا ، ولهذا لو تغيّرت اللغة

١٠٥

ودلالاتها لما تغيّرت الأحكام ، بل القيد هو ألاّ تتواجد فيه الصفة الواقعيّة للفاسق سواء سمّيناه فاسقا أو لا.

الأمر الأوّل : أنّ الأحكام تابعة للعنوان الواقعي لا لمجرّد التسمية اللفظيّة.

ففي مقامنا حيث ورد المخصّص المخرج للفسّاق ، فهذا معناه أنّه يكشف عن كون العامّ ليس موضوعه خصوص الفقير ، بل هناك قيد آخر فيه ، وهو ألاّ يكون الفقير فاسقا ، فيكون موضوع العامّ على ضوء المخصّص هو وجوب إكرام الفقير غير الفاسق.

وهذا القيد ( غير الفاسق ) دخيل في موضوع حكم العامّ ليس على أساس التسمية اللفظيّة فقط ، وإنّما بما هو يحكي عن الواقع ؛ وذلك لأنّ الأحكام وإن كانت تتعلّق بالعناوين ولكنّها تتعلّق بها بما هي حاكية وكاشفة عن الواقع ، لا بما هي مجرّد عناوين وألفاظ مجرّدة عن المضمون والمحتوى ؛ لأنّ مجرّد التسمية اللفظيّة بما هي هي ليس لها أثر إثباتي ولا سلبي ، ولهذا لو فرضنا أنّ زيدا كان مرتكبا للذنب الكبير فإذا أبدلنا لفظة الفاسق بغيرها لا يعني أنّه قد تغيّر واقع زيد ولم يعد مرتكبا للكبيرة ، وهكذا لو أبدلنا اللفظ فلا يتغيّر الحكم.

والحاصل : أنّ القيد المأخوذ في موضوع الحكم هو القيد بما يحكيه عن الصفة الواقعيّة للفاسق سواء كان اسمه فاسقا في اللغة أو تغيّر إلى اسم آخر ، فإنّ التسمية اللفظيّة مجرّد اعتبار وهو سهل المئونة.

وتلك الصفة الواقعيّة مردّدة بحسب الفرض بين ارتكاب الذنب أو ارتكاب الكبائر خاصّة ، وحيث إنّ ارتكاب الكبائر هو المتيقّن ، فنحن نقطع بأنّ عدم ارتكابها قيد دخيل في موضوع الحكم بالوجوب ، وأمّا عدم ارتكاب الصغيرة فنشكّ في كونه قيدا فيه.

الأمر الثاني : في أنّ العنوان المردّد هو الصفة الواقعيّة.

وهنا حيث إنّ قيد ( غير الفاسق ) قد أخذ في موضوع الحكم في العامّ ، وحيث إنّ مفهوم الفاسق مردّد بين عنوانين النسبة بينهما الأقلّ والأكثر ، فسوف يكون لدينا قدر متيقّن معلوم ومحرز يقينا ؛ لأنّ الأقلّ معلوم على كلّ حال ، إمّا مستقلاّ وإمّا ضمنا.

فالفاسق حيث يدور أمره واقعا بين مرتكب مطلق الذنب الذي هو الأكثر ، وبين مرتكب الكبيرة خاصّة وهو الأقلّ ، فالقدر المتيقّن منه هو الأقلّ ؛ لأنّنا نجزم بدخول

١٠٦

مرتكب الكبيرة ، في عنوان الفاسق واقعا على كلا التقديرين ، وهذا معناه أنّ عنوان الخاصّ يشمل فاعل الكبيرة ، وأمّا فاعل الصغيرة فهو مشكوك دخوله تحت العنوان المأخوذ في الخاصّ.

والحاصل : أنّ مرتكب الكبيرة يعلم بدخوله في العنوان الواقعي المأخوذ في الخاصّ ، والترديد إنّما هو بلحاظ مرتكب الصغيرة فقط ، هل هو داخل في هذا العنوان أم لا؟

وهكذا نعرف أنّ هناك ثلاثة عناوين :

أحدها نقطع بعدم كونه قيدا في الوجوب وهو عدم التسمية باسم الفاسق.

والآخر نقطع بكونه قيدا فيه وهو عدم ارتكاب الكبيرة.

والثالث نشكّ في قيديّته وهو عدم ارتكاب الصغيرة.

الأمر الثالث : في الحاصل النهائي ممّا تقدّم ، وهو :

أوّلا : أنّ التسمية اللفظيّة ليست دخيلة قطعا في العنوان المأخوذ قيدا ، فالتسمية بالفاسق أو بعدم الفاسق بما هي تسمية لفظيّة ليست لها أثر لا سلبا ولا إيجابا في ثبوت الحكم أو عدم ثبوته.

وثانيا : أنّ مرتكب الكبيرة يقطع بكونه دخيلا في العنوان الواقعي المأخوذ عدمه قيدا في موضوع حكم العامّ ، فعنوان الفاسق القدر المتيقّن منه كونه شاملا لمرتكب الكبيرة ، ممّا يعني أنّ عدم ارتكاب الكبيرة قيد دخيل في موضوع حكم العامّ ؛ لأنّ مرتكب الكبيرة مشمول للخاصّ قطعا.

وثالثا : أنّ مرتكب الصغيرة مشكوك كونه دخيلا في الخاصّ ومشكوك كون عدمه قيدا في العامّ أيضا ، وذلك للشكّ في مفهوم الفاسق الواقعي وأنّه الأقلّ أو الأكثر.

وعلى ضوء هذه المقدّمة سوف تتّضح الإجابة عن وجه إمكان التمسّك بالعامّ هنا ، فنقول :

إذا اتّضحت هذه المقدمة فنقول : إنّ العامّ في نفسه يثبت وجوب إكرام الفقير بدون دخالة أي قيد ، غير أنّ المخصّص حجّة لإثبات القيديّة لعدم ارتكاب الكبيرة ، فيعود حكم العامّ بعد تحكيم القرينة وجوبا مقيّدا بعدم ارتكاب الكبيرة ، ولا موجب لتقيّده بعدم التسمية باسم الفاسق أو بعدم ارتكاب الصغيرة ، أمّا الأوّل فللقطع بعدم قيديّته ، وأمّا الثاني فلعدم إحراز دلالة المخصّص على ذلك. وعليه ،

١٠٧

فيثبت بالعامّ بعد التخصيص وجوب الإكرام لكلّ فقير منوطا بعدم ارتكاب الكبيرة ، وهذا الوجوب المنوط نثبته في مرتكب الصغيرة بلا محذور أصلا.

ويسمّى ذلك بالتمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة للمخصّص.

والجواب أن يقال : إنّ دليل العامّ ( أكرم كلّ فقير ) مفاده إثبات وجوب الإكرام للفقير من دون دخالة عنوان آخر أو قيد آخر فيه ، ولكن بعد ورود المخصّص : ( لا تكرم فسّاق الفقراء ) يكون دخالة ( عدم الفسق ) قيدا في موضوع حكم العامّ. وهذه هي النتيجة الطبيعيّة للتخصيص ؛ لأنّه بعد تحكيم الخاصّ يصبح العامّ مقيّدا في غير المورد الذي دلّ عليه الخاصّ ، وحيث إنّ الخاصّ هنا دلّ على إخراج الفقير الفاسق فيكون العامّ مختصّا بالفقير غير الفاسق لا محالة.

ولكن تقدّم في المقدّمة أنّ التسمية اللفظيّة ( بعدم الفاسق ) ليست دخيلة في موضوع الحكم ؛ لأنّ التسمية اللفظيّة لا تحكي عن أيّ مضمون فهي خالية من المحتوى وليست إلا مجرّد لفظ.

يبقى لدينا عنوانان أحدهما مرتكب الكبيرة والآخر مرتكب الصغيرة.

والأوّل تقدّم في المقدّمة أنّنا نقطع بدخوله في الخاصّ ؛ لأنّه القدر المتيقّن على كلّ حال ، فيكون عدمه قيدا دخيلا في موضوع حكم العامّ ، ولذلك يتقيّد العامّ جزما ( بالفقير الذي لم يرتكب الكبيرة ).

وأمّا العنوان الثاني وهو مرتكب الصغيرة فقد تقدّم في المقدّمة أنّه مشكوك كونه دخيلا في الخاصّ ، ممّا يعني الشكّ في كون عدمه قيدا دخيلا في موضوع حكم العامّ ؛ وذلك للشكّ في دلالة المخصّص عليه.

وهذا معناه أنّ الفقير المذنب بالذنب الصغير مشمول لحكم العامّ لانطباقه عليه ؛ لأنّه فقير لم يرتكب الكبيرة ، وأمّا انطباق الخاصّ عليه فهو مشكوك للشكّ في دلالة الخاصّ على الأقلّ أو على الأكثر ، وهذا يحقّق لدينا دلالة محرزة ودلالة مشكوكة ، والدلالة المحرزة هي دلالة العامّ فلا نرفع اليد عنها بدلالة الخاصّ المشكوكة.

وبهذا يظهر إمكان التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة ؛ لأنّنا نثبت الحكم المنوط بعدم ارتكاب الكبيرة في مرتكب الصغيرة بلا أيّ مانع ولا محذور أصلا.

* * *

١٠٨

تطبيقات للجمع العرفي

١٠٩
١١٠

٥ ـ تطبيقات للجمع العرفي

هناك حالات ادّعي فيها تطبيق نظريّة الجمع العرفي ، ووقع البحث في صحّة ذلك وعدمه ، نذكر فيما يلي جملة منها :

١ ـ إذا وردت جملتان شرطيّتان لكلّ منهما شرط خاصّ ولهما جزاء واحد ، من قبيل : « إذا خفي الأذان فقصّر » و « إذا خفيت الجدران فقصّر » ، وقع التعارض بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الأخرى.

وهنا قد يقال بأنّ منطوق كلّ منهما يقدّم على مفهوم الأخرى ، وينتج أنّ للتقصير علّتين مستقلّتين : إمّا لأنّ دلالة المنطوق دائما أظهر من دلالة المفهوم ، وإمّا بدعوى أنّ المنطوق في المقام أخصّ فيقدّم تخصيصا ؛ لأنّ المفهوم في كلّ جملة يدلّ على انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها ، وهذا مطلق لحالتي وجود شرط الجملة الأخرى وعدم وجوده ، والمنطوق في الجملة الأخرى يدلّ على ثبوت الجزاء في حالة وجود شرطها فيكون مخصّصا.

التطبيق الأوّل : فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء.

كما إذا وردت جملتان شرطيّتان لكلّ منهما شرط خاصّ ولكنّ الجزاء فيهما واحد ، من قبيل ما إذا ورد : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) وورد : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فالشرط في الجملتين متعدّد ولكنّ الجزاء فيهما واحد.

فهنا تارة نبني على ثبوت المفهوم للشرطيّة وأخرى نبني على عدم ثبوته.

فإذا أنكرنا ثبوت المفهوم في الشرطيّة فلا تعارض بين الشرطيّتين ، بل يؤخذ بهما معا ويحكم بثبوت الجزاء على فرض تحقّق هذا الشرط أو ذاك ، فيكون لدينا علّتان مستقلّتان للجزاء.

وأمّا إذا قلنا بثبوت المفهوم للشرطيّة ، فهنا سوف تقع المعارضة بين المنطوق في كلّ

١١١

منهما مع المفهوم في الأخرى ؛ وذلك لأنّ جملة : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) منطوقها ثبوت التقصير عند خفاء الأذان ، بينما مفهومها هو عدم ثبوت التقصير عند انتفاء الأذان ؛ لأنّ المفهوم هو الانتفاء عند الانتفاء كما تقدّم في محلّه.

بينما جملة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) منطوقها ثبوت التقصير عند خفاء الجدران ، بينما مفهومها انتفاء التقصير عند انتفاء خفاء الجدران.

وحينئذ نقول : فإذا لاحظنا المنطوقين لم نجد بينهما تعارض ؛ لأنّ كلّ منطوق فيهما يثبت الجزاء على تقدير تحقّق شرطه ولا ينفي ثبوت الجزاء عند تحقّق الشرط في الآخر ، وهكذا الحال بالنسبة للمفهومين فإنّه لا تعارض بينهما ؛ لأنّ كلّ واحد منهما ينفي ثبوت الجزاء عند انتفاء الشرط المأخوذ في منطوقه ولا يتعرّض للآخر.

وأمّا إذا لاحظنا المنطوق في إحدى الجملتين مع المفهوم في الجملة الأخرى فسوف يقع التعارض بينهما ؛ وذلك لأنّ الجملة الأولى منطوقها ثبوت التقصير عند تحقّق خفاء الأذان ، بينما مفهوم الجملة الثانية هو انتفاء التقصير عند انتفاء خفاء الجدران الشامل لما إذا خفي الأذان مع عدم خفاء الجدران ، فإنّه في هذه الحالة ينفي ثبوت التقصير بينما المنطوق في الجملة الأولى يثبته.

وهكذا الحال بالنسبة لمنطوق الجملة الثانية مع مفهوم الجملة الأولى ، فإنّ منطوق الجملة الثانية هو ثبوت التقصير عند خفاء الجدران ، بينما مفهوم الجملة الأولى هو انتفاء ثبوت التقصير عند انتفاء خفاء الأذان الشامل لما إذا خفيت الجدران مع عدم خفاء الأذان ، فإنّه هنا يثبت التقصير بالمنطوق في الثانية بينما ينتفي بالمفهوم في الأولى.

وهذا التعارض وقع موردا للبحث بينهم في أنّه هل هو تعارض مستقرّ أم يمكن الجمع العرفي فيه؟

فذهبت مدرسة الميرزا إلى أنّ هذا التعارض يتمّ فيه الجمع العرفي.

والوجه في ذلك هو : أنّ المنطوق في كلّ من الجملتين يتقدّم على المفهوم في الأخرى ، وينتج من ذلك ثبوت علّتين مستقلّتين للتقصير ـ كما هو الحال فيما إذا لم يكن هناك تعارض أصلا بينها بناء على إنكار المفهوم ـ وسبب التقديم أحد أمرين :

الأوّل : أن يقال بأنّ المنطوق دائما أظهر من المفهوم ، ووجه الأظهريّة أن المنطوق

١١٢

نصّ في مورده ؛ لأنّ دلالته وجوديّة وإيجابيّة ، بينما المفهوم ظاهر في المورد ؛ لأنّ دلالته عدميّة وسلبيّة. ومن الواضح أنّ الدلالة الإيجابيّة والوجوديّة أقوى من الدلالة السلبيّة العدميّة ؛ لأنّها أقوى ظهورا.

فمثلا المنطوق في الجملة الأولى يثبت وجوب التقصير عند خفاء الأذان بالنصّ على ذلك ، بينما المفهوم في الأخرى ينفي وجوب التقصير عند خفاء الأذان فيما إذا لم تختف الجدران ، إلا أنّ هذا النفي بالدلالة السلبيّة العدميّة.

وهكذا الحال في الجملة الثانية.

الثاني : أن يقال بأنّ المنطوق أخصّ من المفهوم فيقدّم عليه من باب تقدّم الخاصّ على العامّ ، والوجه في كون المنطوق أخصّ والمفهوم أعمّ هو أنّ المنطوق في الجملة الأولى لا يشمل إلا موردا واحدا فقط وهو ثبوت التقصير عند خفاء الأذان ، بينما المفهوم في الجملة الثانية ينفي وجوب التقصير عند عدم خفاء الجدران في موردين : أحدهما ما إذا خفي الأذان ، والآخر ما إذا لم يختف الأذان ، فإنّه في كلا الموردين ينتفي وجوب التقصير بالمفهوم ما دامت الجدران قد اختفت.

وهكذا الحال بالنسبة للمنطوق في الجملة الثانية فإنّه أخصّ من المفهوم في الجملة الأولى.

وحينئذ يتقدّم المنطوق في كلّ منهما على المفهوم في الأخرى ، ومع الأخذ بالمنطوقين يثبت أنّ كلا منهما علّة مستقلّة لوجوب التقصير.

وهذا ما ذهب إليه المشهور أيضا من تقديم المنطوق على المفهوم فيكون خفاء الأذان أو خفاء الجدران علّة للتقصير.

ونلاحظ على ذلك : منع الأظهريّة ومنع الأخصّيّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الدلالة على المفهوم مردّها إلى دلالة المنطوق على الخصوصيّة التي تستتبع الانتفاء عند الانتفاء ، فالتعارض دائما بين منطوقين.

والصحيح : منع الأظهريّة والأخصّيّة أيضا.

أمّا الأوّل : فما ذكر من كون المنطوق أظهر من المفهوم دائما على أساس كونه دلالة وجوديّة إيجابيّة بينما المفهوم دلالته عدميّة سلبيّة غير تامّ ؛ وذلك لأنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم مرجعها في الحقيقة إلى دلالة المنطوق في الشرطيّة على

١١٣

وجود الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، وهي العلّة التامّة المنحصرة على رأي المشهور أو التوقّف والالتصاق والتعليق على رأي السيّد الشهيد.

وهذا معناه أنّ دلالة المفهوم مرتبطة بدلالة المنطوق وليست دلالة مستقلّة عنها ، وهذا يفترض أن يكون التعارض بين المنطوقين في الجملتين الدالّين على هذه الخصوصيّة ؛ لأنّه لو لم يكونا دالّين على الخصوصيّة أو أحدهما على الأقلّ لم يحصل التعارض أصلا ، فحصول التعارض بين الجملتين مرتبط بالمنطوقين.

وأمّا مجرّد كون المفهوم دلالة سلبيّة عدميّة وكون المنطوق دلالة وجوديّة إيجابيّة ، فهذا وحده غير كاف ؛ لأنّ عنواني المنطوق والمفهوم بما هما كذلك ليسا هما السبب والمناط في الأظهريّة والأقوائيّة ، بل لا بدّ من وجود نكتة غيرهما لإثبات الأظهريّة والأقوائيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّنا لا بدّ أن نلتزم إمّا بافتراض الشرطين علّتين مستقلّتين للجزاء ، وهذا يعني تقييد المفهوم ، وإمّا بافتراض أنّ مجموع الشرطين علّة واحدة مستقلّة ، وهذا يعني الحفاظ على إطلاق المفهوم وتقييد المنطوق في كلّ من الشرطيّتين بانضمام شرط الأخرى إلى شرطها.

فالتعارض إذا بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ، والنسبة بينهما العموم من وجه. فالصحيح أنّهما يتعارضان ويتساقطان ولا جمع عرفي.

وأمّا الثاني : فما ذكر من كون المنطوق أخصّ من المفهوم غير صحيح ؛ وذلك لأنّ المنطوق فيه إطلاق كالمفهوم.

وبيان ذلك : أنّ جملة : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) المنطوق فيها يدلّ على أنّ خفاء الأذان علّة تامّة منحصرة لوجوب التقصير سواء خفيت الجدران معه أو لا ، وهذا يعني أنّه يثبت الحكم عند ثبوت الشرط مطلقا ، فمتى ما تحقّق الشرط في جميع حالاته أي سواء وجد معه شيء أو لحقه شيء أو وجد قبله شيء فهو العلّة التامّة للجزاء وليس جزء العلّة ، وهذا ما يسمّى بالإطلاق المقابل للتقييد بـ ( الواو ) ؛ لأنّه لو كان جزء العلّة لكان اللازم التقييد بـ ( الواو ) فيقال : « إذا خفي الأذان وخفيت الجدران فقصّر » ، إذن فالمنطوق مطلق بالإطلاق المقابل للتقييد بالواو.

وهكذا الحال بالنسبة لجملة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) فإنّ المنطوق فيها مطلق بالإطلاق المقابل للتقييد بـ ( أو ) أيضا.

١١٤

وأمّا المفهوم فهو أيضا مطلق ففي جملة : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) المفهوم فيها إذا لم يخف الأذان فينتفي وجوب التقصير سواء خفيت الجدران أو لا ، وهذا معناه إثبات العلّة الانحصاريّة لخفاء الأذان وأنّه لا يوجد علّة أخرى غيره ؛ لأنّه لو كان هناك علّة أخرى لكان اللازم التقييد بـ ( أو ) ، فيقال : ( إذا خفي الأذان أو خفيت الجدران فقصّر ) ، وهذا يعني أنّ المفهوم مطلق بالإطلاق المقابل للتقييد بـ ( أو ).

وهكذا الحال بالنسبة لجملة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فإنّ المفهوم فيها مطلق بالإطلاق المقابل للتقييد بـ ( أو ) أيضا.

والحاصل : أنّ المنطوق في كلتا الجملتين مطلق بالإطلاق المقابل لـ ( الواو ) ، والمفهوم في كلتا الجملتين مطلق بالإطلاق المقابل لـ ( أو ).

ولكن لمّا كان كلا الإطلاقين لا يمكن الأخذ بهما للتنافي والتهافت بينهما ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد هذين الإطلاقين.

فإذا رفعنا اليد عن إطلاق المفهوم في الجملتين فهذا معناه أنّ المفهوم مقيّد ، ممّا يعني أنّ خفاء الأذان ليس هو العلّة المنحصرة ، وخفاء الجدران ليس هو العلّة المنحصرة ، فينتج أنّه يوجد علّتان تامّتان مستقلّتان للجزاء ، وهذا يفترض أن يكون خفاء الأذان أو خفاء الجدران موجبا للتقصير ، فيثبت التقييد بـ ( أو ) في مقابل رفع اليد عن الإطلاق في المفهوم ؛ لأنّ الإطلاق في المفهوم كان مقابل التقييد بـ ( أو ).

وإذا رفعنا اليد عن إطلاق المنطوق في الجملتين فهذا معناه ثبوت التقييد بـ ( الواو ) المقابل لإطلاق المنطوق ، فتكون النتيجة هي أنّ كلاّ من الشرطين لا بدّ من انضمامهما معا لثبوت الجزاء ، ولا يكفي ثبوت أحدهما ، أي أنّه إذا خفي الأذان وخفيت الجدران فقصّر.

وإلى هذا المطلب أشار السيّد الشهيد بقوله لأنّه إذا افترضنا الشرطين علّتين مستقلّتين فهذا معناه رفع اليد عن إطلاق المفهوم فيهما ، وإذا افترضنا كون الشرطين معا منضمّين هما العلّة فهذا يعني رفع اليد عن إطلاق المنطوق فيهما.

وبهذا يظهر أنّ التعارض بين إطلاق المنطوقين مع إطلاق المفهومين.

وهذا التعارض النسبة فيه بين الإطلاقين نسبة العموم من وجه لا العموم المطلق ؛ وذلك لأنّهما يجتمعان فيما إذا خفيت الجدران وخفي الأذان معا ، فإنّه في هذه الحالة

١١٥

يثبت الجزاء على كلّ تقدير ؛ لأنّه إذا كان خفاء الأذان هو العلّة المنحصرة الوحيدة فالمفروض أنّه موجود ، وإذا كان جزء العلّة فالمفروض أنّ الجزء الآخر موجود أيضا.

وهكذا فيما لو كان خفاء الجدران هو العلّة المنحصرة الوحيدة أو جزء العلّة ، فيكون هذا المورد مشمولا لإطلاق المنطوقين لتحقّق الشرط المأخوذ في منطوق كلا الشرطين ، ويفترق الإطلاقان فيما إذا تحقّق أحد الشرطين دون الآخر ، فإنّه يكون مشمولا للمنطوق في إحدى الجملتين بينما يكون المفهوم في الأخرى نافيا لثبوت الحكم في مورده.

وهكذا يتّضح أنّ المعارضة بين الإطلاقين مستقرّة ؛ لأنّ تقديم أحد الإطلاقين على الآخر ترجيح بلا مرجّح ، والأخذ بهما معا يؤدّي إلى التهافت والتنافي ، ولا يمكن الجمع العرفي لعدم الأظهريّة أو الأخصّيّة ، فيحكم بالتساقط وهو ما ذهب إليه الميرزا النائيني أيضا ، وبعد ذلك يرجع إلى الدليل الاجتهادي إن وجد أو إلى الأصل العملي على تقدير عدم وجود الدليل الاجتهادي.

٢ ـ إذا وردت جملتان شرطيّتان متّحدتان جزاء ومختلفتان شرطا ، وثبت بالدليل أنّ كلاّ من الشرطين علّة تامّة ، ووجد الشرطان معا ، فهل يتعدّد الحكم أو لا؟

وعلى تقدير التعدّد فهل يتطلّب كلّ منهما امتثالا خاصّا به أو لا؟

ومثاله : ( إذا أفطرت فأعتق ) و ( إذا ظاهرت فأعتق ).

التطبيق الثاني : في تداخل الأسباب والمسبّبات.

إذا وردت جملتان شرطيّتان مختلفان في الشرط ولكنّهما متّحدتان في الجزاء ، وعلم بأنّ كلّ واحد من الشرطين علّة تامّة مستقلّة للجزاء ، وفرض أنّ الشرطين تحقّقا في زمان واحد ، فهنا نواجه سؤالين :

الأوّل : هل وجود السببين معا يؤدّي إلى صيرورتهما سببا واحدا أم يبقى كلّ واحد منهما على استقلاليّته؟ وهذا معناه أنّ الأسباب المتعدّدة إذا اجتمعت هل تبقى متعدّدة أم تتّحد فيما بينها؟

والثاني : هل المسبّبين عن السببين يبقيان على التعدّد أم يتّحدان؟ بمعنى أنّ المسبّبات الناشئة من الأسباب المتعدّدة هل تتعدّد أم تصبح واحدة؟

١١٦

فمثلا إذا ورد : ( إذا أفطرت فأعتق رقبة ) ، وورد : ( إذا ظاهرت فأعتق رقبة ) والمفروض أنّ الإفطار والظهار كلّ منهما سبب مستقلّ للعتق ، فإذا أفطر في شهر رمضان وظاهر زوجته أيضا في نفس الزمان فهل يتداخل السببان أم يبقيان على التعدّد؟ ثمّ لو فرض تعدّدهما فهل يتداخل المسبّبان أم يبقيان على التعدّد أيضا؟

وينبغي أن يعلم أنّ التداخل في الأسباب معناه أنّ السببين في عالم الجعل والحكم يصبحان معا سببا واحدا من حيث اقتضائهما لحكم واحد لا لحكمين ، هذا في صورة اجتماعهما ، وأمّا في صورة افتراقهما فيكون كلّ واحد منهما سببا مستقلاّ للحكم.

وأمّا التداخل في المسبّبات فمعناه أنّه في عالم الامتثال يكون المطلوب فعلا واحدا لا فعلين.

ويلاحظ أيضا أنّ السؤال الثاني متفرّع عن السؤال الأوّل ؛ وذلك لأنّه إذا ثبت أوّلا التداخل في الأسباب فهذا معناه أنّه يوجد حكم واحد فقط ، والحكم الواحد له امتثال واحد لا محالة ، ولذلك ينتفي البحث عن السؤال الثاني وأنّ المسبّبات متعدّدة أم واحدة ، وأمّا إذا لم يثبت التداخل في الأسباب وكان كلّ شرط سببا مستقلاّ للحكم فهذا معناه أنّه يوجد حكمان ، وحينئذ يتنقّح البحث عن التساؤل الثاني وهو أنّ هذين الحكمين اللذين لهما امتثالان هل يتداخلان فيكفي امتثال واحد لهما أم يبقيان على تعدّدهما فيحتاج إلى تكرار الامتثال؟

إذا اتّضح ذلك نقول : إنّه يوجد قولان في المسألة : أحدهما ما ذهب إليه المشهور من أصالة عدم التداخل لا في الأسباب ولا في المسبّبات ، والآخر ما ذهب إليه المحقّق الخوانساري من التداخل في الأسباب المؤدّي بحسب النتيجة إلى التداخل في المسبّبات أيضا.

واقتصر هنا على قول المشهور وهو :

والمشهور : أنّ مقتضى ظهور الشرطيّة في علّيّة الشرط للجزاء أن يكون لكلّ شرط حكم مسبّب عنه ، فهناك إذن وجوبان للعتق ، وهذا ما يسمّى بأصالة عدم التداخل في الأسباب ، بمعنى أنّ كلّ سبب يبقى سببا تامّا ولا يندمج السببان ويصيران سببا واحدا.

وحيث إنّ كل واحد من هذين الوجوبين يمثّل بعثا وتحريكا مغايرا للآخر فلا بدّ

١١٧

من انبعاثين وتحرّكين ، وهذا ما يسمّى بأصالة عدم التداخل في المسبّبات ، بمعنى أنّ الوجوبين المسبّبين لا يكتفى بامتثال واحد لهما.

ذهب المشهور إلى القول بعدم التداخل في الأسباب وعدم التداخل في المسبّبات ، فهنا مطلبان :

الأوّل : في كون الأصل والقاعدة هي عدم التداخل في الأسباب.

والوجه في ذلك : هو أنّه لمّا ثبت بالدليل كون كلّ من الشرطين علّة مستقلّة وتامّة للحكم ، فهذا معناه أنّنا لا بدّ أن نرفع اليد عن إطلاق المفهوم في الجملتين كما تقدّم في التطبيق السابق فيكون المفهوم مقيّدا لا إطلاق فيه ، ويبقى إطلاق المنطوق على حاله.

وإطلاق المنطوق في جملة : ( إذا أفطرت فأعتق ) يدلّ على أمرين : أحدهما أنّ الشرط في الجملة الشرطيّة علّة تامّة مستقلّة للجزاء ، والآخر كون الشرط سببا لثبوت الحكم.

ومقتضى هذين الظهورين هو أنّ حدوث الشرط يسبّب حدوث الجزاء أو الحكم.

وهكذا الحال بالنسبة لإطلاق المنطوق في جملة : ( إذا ظاهرت فأعتق ) ، فيكون الشرط سببا للجزاء أو الحكم ، والنتيجة هي وجود سببين للجزاء أو الحكم أحدهما الإفطار والآخر الظهار.

وبتعبير آخر : إنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في أنّه متى ما حدث الشرط حدث الجزاء ، فإذا تحقّق وحدث الشرطان معا فهذا معناه حدوث السببين المستتبع لحدوث حكم لكلّ منهما.

الثاني : في كون الأصل والقاعدة هي عدم التداخل في المسبّبات.

والوجه فيه : أنّ الأسباب لمّا كانت متعدّدة وكان لكلّ سبب حكم خاصّ به فيثبت وجود تكليفين على المكلّف ، وكلّ واحد من هذين التكليفين متعلّق بعنوان غير ما تعلّق به التكليف الآخر ؛ لأنّ أحدهما متعلّق بعنوان الإفطار والآخر متعلّق بعنوان الظهار.

وحينئذ نقول : إنّ كلّ تكليف فيه بعث وتحريك نحو متعلّقه ، وهذا معناه أنّه يوجد بعثان وتحريكان ، فاللازم أن يكون هناك انبعاثان وتحرّكان أيضا ، وإلا للزم اجتماع

١١٨

المثلين على عنوان واحد وهو مستحيل ، إذ لا معنى لفرض بعثين وتحريكين على شيء واحد ؛ لأنّه من باب اجتماع المثلين على موضوع واحد ، وبهذا يكون المسبّب متعدّدا أيضا بسبب تعدّد السبب ، ولا يكتفى بامتثال واحد ؛ لأنّه على خلاف القاعدة ، بل يحتاج إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ، كما ثبت بالنسبة للأغسال المتعدّدة حيث دلّ الدليل الخاصّ على كفاية غسل واحد بقصد الجميع.

فإن قيل : إنّ هذين الوجوبين إن كان متعلّقهما واحدا وهو طبيعي العتق في المثال لزم إمكان الاكتفاء بعتق واحد ، وإن كان متعلّق كلّ منهما حصّة من العتق غير الحصّة الأخرى لزم تقييد إطلاق مادّة الأمر في ( أعتق ) وهو خلاف الظاهر.

وقد يشكل على ما ذهب إليه المشهور بما حاصله : أنّنا لو سلّمنا بأنّ الأسباب المتعدّدة لا تتداخل ، بل لكلّ سبب وجوب غير الوجوب الآخر ، إلا أنّنا لا نسلّم بعدم التداخل في المسبّبات ، بل التداخل في المسبّبات متعيّن.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الوجوبين المسبّبين عن الشرطين ما هو متعلّقهما؟ فإن كان متعلّقهما هو طبيعي العتق ، بأن كان الإفطار سببا لطبيعي العتق ، والظهار سببا آخر لطبيعي العتق أيضا ، فهذا معناه اجتماع سببين على طبيعي العتق.

ومن المعلوم أنّ امتثال الطبيعي في الخارج إنّما يكون بتحقيقه ، وتحقّق الطبيعي في الخارج يكفي فيه الفرد الأوّل ولا يحتاج إلى الفرد الثاني ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيلغو ، ولذلك يكتفى بامتثال واحد للعتق وهو معنى التداخل في المسبّبات.

وإن كان متعلّقهما هو الحصّة الخاصّة من العتق ، بأن كان الإفطار سببا لحصّة خاصّة من العتق ، والظهار سببا لحصّة أخرى من العتق ، فهذا وإن كان يؤدّي إلى عدم التداخل في المسبّبات إلا أنّه لا يمكن الالتزام به ، لوجود محذور فيه ، وهو أنّ فرض كون المسبّب في كلّ منهما هو الحصّة معناه أنّ متعلّق الجزاء في كلّ منهما صار مقيّدا ؛ لأنّ متعلّق الجزاء في قولنا : ( أعتق ) هو المادّة أي العتق فيكون المطلوب حصّة من العتق في هذا وحصّة منه غير الحصّة الأولى في ذاك.

وهذا المعنى نحو من التقييد يحتاج إلى دليل عليه ، وهنا إطلاق المادّة في الجزاء أي إطلاق العتق يرفض هذا النحو من التقييد ؛ لأنّ الإطلاق في المادّة يثبت طبيعي العتق لا حصّة منه ، فيكون الالتزام بتعدّد المسبّبات موجبا لمخالفة الظاهر بحيث يكون المراد

١١٩

الجدّي والواقعي وهو الحصّة الخاصّة غير مبيّن في الكلام ، وهذا لا يمكن المصير إليه لفرض كون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لمراده الواقعي ولم يذكر في كلامه ما يدلّ على هذا التقييد.

إذا فإطلاق المادّة يتنافي مع إرادة الحصر من العتق فيتعيّن أن يكون المراد هو طبيعي العتق فيعود الكلام الأوّل وهو يقتضي التداخل كما بيّناه.

كان الجواب أحد وجهين :

الأوّل : أن يؤخذ بالتقدير الأوّل ـ بناء على إمكان اجتماع بعثين على عنوان كلّي واحد ـ ويقال : إنّ تعدّد البعث والتحريك بنفسه يقتضي تعدّد الانبعاث والحركة وإن كان العنوان الذي انصبّ عليه البعثان واحدا.

والجواب عن الإشكال بأحد نحوين :

الأوّل : أن نلتزم بكون المتعلّق هو الطبيعي ، وهو لا يؤدّي حتما إلى الالتزام بتداخل المسبّبات ؛ وذلك لأنّه بالإمكان اجتماع بعثين على عنوان كلّي واحد.

نظير ما إذا ورد : ( أكرم العالم ) ، وورد : ( أكرم الهاشمي ) ، وفرض وجود شخص هاشمي عالم أيضا ، فيكون هناك سببان ووجوبان لإكرامه ، بمعنى أنّه يكرم من حيثيّتين وجهتين ، ولذلك إذا خالف ولم يكرمه يكون قد عصى كلا الوجوبين.

وهنا كذلك فإنّ طبيعي العتق وإن كان عنوانا كلّيّا واحدا ولكن لا مانع من فرض بعثين وتحريكين نحوه ؛ لأنّنا قلنا سابقا بأنّ كلّ شرط لمّا كان سببا مستقلاّ وعلّة تامّة للجزاء والحكم فهو يقتضي تحريكا نحوه وكذلك الآخر ، فيكون لدينا بعثان وتحريكان نحو إيجاد طبيعي العتق ، ولمّا كان كلّ سبب وتحريك وبعث له مسبّب وتحرّك وانبعاث فيكون لدينا انبعاثان وتحرّكان ومسبّبان ، وبالتالي يجب إيجاد الطبيعي مرّتين.

وما ذكر من كون الطبيعي يتحقّق بالفرد الأوّل صحيح ، إلا أنّه فيما إذا كان هناك وجوب واحد ، وأمّا إذا كان هناك وجوبان لكلّ واحد منهما محرّكيّة تامّة ومستقلّة كان تكرار إيجاد الطبيعي ضروريّا امتثالا للوجوبين (١).

الثاني : أن يؤخذ بالتقدير الثاني ـ بناء على عدم إمكان اجتماع بعثين على

__________________

(١) وربما يشهد لذلك ما ورد من لزوم تكرار الكفّارة فيما لو أفطر بالجماع وبالأكل مثلا ، أو لزوم تعدّد خصال الكفّارة فيما لو أفطر على محرّم.

١٢٠