شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

١

٢

٣
٤

الخاتمة

في تعارض الأدلّة

١ ـ تمهيد

٢ ـ قاعدة الجمع العرفي

٣ ـ التعارض المستقرّ على ضوء دليل الحجّيّة

٤ ـ حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة

٥
٦

تمهيد

ما هو التعارض المصطلح؟

٧
٨

١ ـ تمهيد

ما هو التعارض المصطلح؟

التعارض المصطلح : هو التنافي بين مدلولي الدليلين ، ولمّا كان مدلول الدليل هو الجعل فالتنافي المحقّق للتعارض هو التنافي بين الجعلين دون التنافي بين المجعولين أو الامتثالين ؛ لخروج مرتبة المجعول ومرتبة الامتثال عن مفاد الدليل كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

تعريف التعارض : التعارض لغة من العرض ، وهو ذو معان عديدة.

منها : إظهار الشيء ، فيقال : عرض الأمر أي أظهره ، وهنا يكون كلّ من الدليلين يحاول أن يظهر نفسه في مقابل الآخر.

ومنها : التمانع أيضا ، أي تعارض الأمران بمعنى تمانعا.

وأمّا اصطلاحا : فقد ذكر المشهور أنّ التعارض هو التنافي بين مدلولي الدليلين أو التنافي بين الدليلين في الحجّيّة.

وهذا معناه أنّ المدلولين للدليلين هما المتنافيان ، ولمّا كان المدلولان هما الجعل فالتنافي يقع بين الجعلين ، ولذلك فالتعارض هو التنافي بين الجعلين ، دون المجعولين أو الامتثالين ؛ لأنّ المجعول عبارة عن فعليّة الجعل في الخارج ، والامتثال هو مرحلة التحرّك والانبعاث أو الزجر والامتناع أي هو مرحلة المتطلّبات.

وهذان الأمران خارجان عن مدلول الدليل ؛ لأنّ مدلوله هو جعل الحكم على موضوعه المفروض والمقدّر الوجود.

__________________

(١) في أوّل بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

٩

وأمّا المجعول فهو حكم اعتباري انتزاعي وليس حقيقيّا ؛ لأنّ العقل عند ما يلاحظ وجود الموضوع في الخارج مع سائر قيوده وشروطه يراه فعليّا على المكلّف فيسمّى بالمجعول ، وأمّا الامتثال فهو حكم العقل بلزوم الإطاعة للتكليف والجري على وفق ما يتطلّبه في مقام العمل من فعل أو ترك.

وبتعبير آخر : إنّ التنافي يمكن ملاحظته في ثلاث مراحل :

الأولى : مرحلة الجعل أي التنافي بين الحكمين ؛ لأنّ الجعل عبارة عن الحكم الكلّي على موضوعه الكلّي المقدّر الوجود. وهو مدلول للدليل ؛ لأنّ الدليل مفاده الجعل والحكم ، كما في ( أقيموا الصلاة ) ، فإنّ هذا الدليل مفاده أو مدلوله جعل وجوب الصلاة.

الثانية : مرحلة المجعول ، أي التنافي في الفعليّة ؛ لأنّ المجعول هو الحكم الفعلي الذي صار موضوعه فعليّا ومنجّزا على المكلّف بتحقّق قيوده وشروطه ، كما في وجوب الحجّ على المستطيع فإنّه يصبح فعليّا بتحقّق الاستطاعة في الخارج.

الثالثة : مرحلة الامتثال في عالم المتطلّبات ؛ لأنّ كلّ تكليف يقتضي متطلّبات على طبقه ، فحرمة شرب الخمر تقتضي الامتناع والزجر عن الشرب.

ففي مرحلة الجعل إذا وقع التنافي بين الحكمين كان كلّ منهما معارضا للآخر ، كما في : ( صلّ ولا تصلّ ).

وهنا حيث يستحيل تشريع مثل هذين الحكمين للتناقض بينهما فيستحيل صدورهما من الشارع معا ، ولذلك يقع التكاذب والتنافي بينهما.

وأمّا في مرحلة المجعول فالتنافي بين الحكمين في مرحلة الفعليّة بحيث يكون كلّ منهما معارضا للآخر فيها ، فهذا إنّما يكون في فرض إمكان وصول الحكمين المتنافيين إلى المكلّف ، ولمّا كانا متنافيين ومتضادّين فلا يمكن فرض وصولهما معا ، ومع عدم وصولهما معا لا يكون بينهما تناف ولا تعارض بلحاظ الفعليّة والمجعول.

وفرض التنافي في الفعليّة يكون فيما إذا كان أحد الدليلين قد أخذ في موضوعه عدم الآخر كما في الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فإنّهما لا يكونان فعليّين على المكلّف معا ؛ لأنّ تحقّق موضوع أحدهما يعني ارتفاع موضوع الآخر ، وكما في الوضوء والتيمّم أيضا.

١٠

وأمّا في مرحلة الامتثال فالتنافي بينهما لا يكون بلحاظ الجعل ولا المجعول ؛ لإمكان جعلهما معا ولإمكان فعليّتهما معا أيضا ، ولكن يقع التنافي بلحاظ قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، وهذا هو ما تقدّم في بحث الترتّب والتزاحم الامتثالي.

كما في ( صلّ ، وأزل النجاسة ) ، فإنّه لا تنافي بين الجعلين لعدم التناقض والتضادّ بينهما ، كما ويمكن أن يكونا فعليّين على المكلّف لتحقّق موضوع كلّ منهما ؛ لأنّ الموضوعين متغايران ، ولكن في مقام العمل والامتثال قد يفرض التنافي بلحاظ قدرة المكلّف.

كما إذا ضاق الوقت بحيث لا يمكنه إلا امتثال أحدهما فقط ، فهنا لا يسري هذا التنافي إلى الدليلين ، بل يكونان معا صادرين من الشارع ، ولكن يكون كلّ منهما مشروطا بترك الآخر حال تساويهما في الأهمّيّة أو أحدهما فقط إذا كان أقلّ أهمّيّة.

وبهذا يظهر أنّ التعارض المصطلح هو التنافي بين الدليلين أي بين الجعلين أو بين مدلولي الدليلين ؛ لأنّ المدلول هو الجعل أيضا.

ولا يقع التعارض المصطلح إلا بين الأدلّة المحرزة ؛ لأنّ الدليل المحرز هو الذي له مدلول وجعل يكشف عنه ، وأمّا الأدلّة العمليّة المسمّاة بالأصول العمليّة فلا يقع فيها التعارض المذكور ، إذ ليس للأصل العملي مدلول يكشفه وجعل يحكي عنه ، بل الأصل بنفسه حكم شرعي ظاهري.

موضوع التعارض : تقدّم أنّ الأدلّة على نحوين : أدلّة محرزة وأدلّة عمليّة أو أصول عمليّة ، والتعارض المصطلح إنّما يكون موضوعه الأدلّة المحرزة لا الأصول العمليّة ، فهنا مطلبان :

الأوّل : كون الأدلّة المحرزة هي الموضوع للتعارض ، وهذا واضح ؛ لأنّ الأدلّة المحرزة كالأمارات مثلا يراد بها استكشاف الحكم الشرعي ؛ لأنّها طرق للكشف عن الواقع ، فهي تحكي عن الحكم الموجود في الواقع ، وهذا معناه أنّه يوجد لها مدلول وجعل تحكي وتكشف عنه وهو الحكم الشرعي ، ولذلك يقع التعارض بلحاظ الأدلّة المحرزة سواء كانت قطعيّة كالخبر المتواتر والاجماع أم كانت ظنّيّة كخبر الثقة.

الثاني : كون الأدلّة العمليّة أو الأصول العمليّة خارجة عن موضوع التعارض.

وهذا وجهه أنّ الأصل العملي لا يحكي عن الواقع ولا يكشف عن الجعل

١١

الشرعي ؛ لأنّه ليس له مدلول يكشف ويحكي عنه ، وإنّما هي مجرّد وسائل لتسجيل الوظيفة العمليّة على المكلّف حال الشكّ وعدم وجود الدليل على الحكم الشرعي ، فهي تحكي وتكشف عن موقف عملي تسجّله على ذمّة المكلّف ولا تحكي عن الحكم الشرعي والجعل ، ولذلك لا يقع التعارض بين البراءة والاحتياط مثلا بحسب المصطلح ؛ لأنّ التعارض الاصطلاحي هو التنافي بين الدليلين أو الجعلين أو مدلولي الدليلين بحيث لا بدّ من فرض جعلين متنافيين والأصول ليس مفادها ذلك ، بل البراءة لسانها التعذير والتأمين ، والاحتياط لسانه التنجيز ؛ هذا بلحاظ ما تحكي عنه الأصول أي بلحاظ مدلولها.

نعم ، الأصول نفسها مجعولات شرعيّة أي هي أحكام شرعيّة ظاهريّة جعلها الشارع حال الشكّ ، وهذا معناه أنّه يوجد دليل شرعي أو عقلي دلّ على البراءة أو على الاحتياط ، ولمّا كان موضوع البراءة والاحتياط واحدا ؛ لأنّه الشكّ في الحكم الواقعي ، فيقع التعارض بين الأدلّة الدالّة على البراءة والاحتياط ، بمعنى أنّ جعل البراءة حال الشكّ يتنافى مع جعل الاحتياط حاله ، ولذلك لا بدّ من حلّ ذلك.

وقد تقدّم منّا في بحث الأصول العمليّة حلّ هذا التنافي وأنّه ليس مستقرّا ؛ لأنّ موضوع البراءة وإن كان الشكّ ولكنّه الشكّ في التكليف ، بينما موضوع الاحتياط هو الشكّ في المكلّف به ، أو الشكّ البدوي من دون فحص ، أو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ ولذلك لا يدخل في بحث التعارض الاصطلاحي حقيقة.

وحينما نقول في كثير من الأحيان : إنّ الأصلين العمليّين متعارضان ، لا نقصد التعارض المصطلح بمعنى التنافي بينهما في المدلول ، بل التعارض في النتيجة ؛ لأنّ كلّ أصل له نتيجة معلولة له من حيث التنجيز والتعذير ، فإذا كانت النتيجتان متنافيتين كان الأصلان متعارضين ، وكلّما كانا كذلك وقع التعارض المصطلح بين دليليهما المحرزين ؛ لوقوع التنافي بينهما في المدلول.

دفع إشكال : أمّا الإشكال فحاصله : أنّ ما ذكرتم من عدم وقوع التعارض بلحاظ الأصول العمليّة وأنّها خارجة عن موضوع التعارض الاصطلاحي ، يتنافى مع ما يقال عادة وفي كثير من الأحيان : من أنّ الأصلين متعارضان ، كما في جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، فإنّه يقال بتعارضهما وتساقطهما ، وكما في تعارض

١٢

الاستصحابين السببي والمسبّبي في بعض الموارد ، فإنّه يحكم بترجيح أحدهما على الآخر.

والحاصل : أنّ قواعد التعارض تطبّق على التعارض بين الأصلين فكيف يقال بخروجها عن موضوع التعارض؟!

وأمّا الحلّ : فإنّ التعارض الذي يطلق على الأصول العمليّة في حال جريانها في مورد واحد ، إنّما هو التعارض بمعنى التنافي في النتيجة العمليّة التي يؤدّي إليها كلّ واحد منهما ، وليس المقصود منه التعارض الاصطلاحي بمعنى التنافي بين الجعلين أو مدلولي الدليلين. وعليه ، فالتعارض ليس بمعناه الاصطلاحي ، بل بمعناه اللغوي وهو التمانع.

فإذا تعارضت البراءة والاحتياط أو البراءة والاستصحاب المنجز ، كان معنى ذلك أنّ النتيجة التي تؤدّي إليها البراءة وهي التعذير والتأمين متنافية مع النتيجة التي يؤدّي إليها الاحتياط والاستصحاب المنجّز ، وهذا التنافي في النتيجة معناه التنافي في المعلول لكلّ منهما ؛ لأنّ التعذير معلول للبراءة والتنجيز معلول للاحتياط مثلا ، ومن ثمّ يطلق التعارض على مثل البراءة والاحتياط إذا اجتمعا في مورد واحد ، وهذا الإطلاق ليس بالمعنى الاصطلاحي بل بالمعنى اللغوي. هذا فيما إذا لاحظنا نفس الأصل العملي.

وأمّا إذا لاحظنا الدليل الدالّ على الأصل العملي ، فلاحظنا دليل البراءة مثلا « رفع ما لا يعلمون » ، ولاحظنا دليل الاحتياط مثلا ( لا تقتحم الشبهات ) أو ( احتط لدينك ) ، فهنا إذا اجتمعت البراءة والاحتياط في مورد لم يكن بينهما بذاتيهما تعارض بالمصطلح ، ولكن بلحاظ الدليل الدالّ عليهما يقال بوقوع التعارض المصطلح بين دليل البراءة ودليل الاحتياط على فرض تماميّته ؛ لأنّ الدليلين متنافيان بلحاظ المدلول أي بلحاظ الجعل الشرعي ، فإنّ البراءة حكم شرعي والاحتياط حكم شرعي وهما متنافيان فلا يمكن جعلهما على موضوع واحد.

ومن هنا نعرف أنّ التعارض بين أصلين عمليّين مردّه إلى وقوع التعارض المصطلح بين دليليهما ، وكذلك الأمر في التعارض بين أصل عمليّ ودليل محرز ، فإنّ مردّه إلى وقوع التعارض بين دليل الأصل العملي ودليل حجّيّة ذلك الدليل المحرز.

١٣

وهكذا نعرف أنّ التعارض المصطلح يقوم دائما بين الأدلّة المحرزة.

وبناء على ما تقدّم نقول : إنّه لا تعارض بين الأصلين العمليّين بذاتيهما ، وإنّما التعارض بينهما بلحاظ الدليلين الدالّين عليهما ، ولا تعارض أيضا بين الأصل العملي والدليل المحرز وإنّما التعارض بينهما بلحاظ الدليل الدالّ على الأصل العملي مع الدليل المحرز نفسه ، فهنا أمران :

الأوّل : عدم وقوع التعارض بين الأصلين أنفسهما ورجوعه إلى الدليلين الدالّين عليهما ، وهذا ما تقدّم بيانه سابقا.

الثاني : عدم وقوع التعارض بين الأصل العملي والدليل المحرز كما إذا تعارضت البراءة في مورد مع خبر الثقة ، أو تعارض الاستصحاب مع خبر الثقة ، فهنا لا تعارض بين نفس الاستصحاب كأصل عمليّ وبين خبر الثقة كدليل محرز ؛ وذلك لأنّ الأصل العملي كما تقدّم لا يحكي ولا يكشف عن المدلول والجعل الشرعي ، وإنّما يحدّد ويسجّل الوظيفة العمليّة للشاكّ فقط.

ولكن لو لاحظنا الدليل المحرز الدالّ على الاستصحاب كالروايات التي استعرضناها سابقا في بحث الاستصحاب ، وجدنا أنّه يوجد تعارض بين تلك الروايات وبين الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ، فإنّ الروايات الدالّة على الاستصحاب تجعل له الحجّيّة في مورده ، وكذا الروايات الدالّة على خبر الثقة أو السيرة العقلائيّة الممضاة الدالّة عليه تجعل له الحجّيّة في مورده ، فيقع التعارض بين الدليلين الدالّين على جعل الحجّيّة للاستصحاب ولخبر الثقة ، وحينئذ لا بدّ من علاج هذا التعارض من الجمع بينهما أو الترجيح أو التساقط.

وبهذا يتّضح لنا أنّ موضوع التعارض الاصطلاحي هو الأدلّة المحرزة ، ولكن تارة يكون بين الأدلّة المحرزة مباشرة كما في التعارض بين خبرين مثلا أو التعارض بين رواية وآية ظنّيّة الدلالة.

وأخرى يكون بين الأدلّة المحرزة بتوسّط التعارض بين الأصلين العمليّين أو الأصل العملي مع الدليل المحرز ، كما هو الحال في التعارض بين الأصلين الذي يستتبع التعارض بين الدليلين الدالّين عليهما ، وكما هو في مورد التعارض بين الأصل العملي والدليل المحرز فإنّه يرجع إلى التعارض بين دليل الأصل العملي مع الدليل المحرز.

١٤

ثمّ إنّ الدليلين المحرزين إذا كانا قطعيّين فلا يعقل التعارض بينهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى القطع بوقوع المتنافيين. وكذلك لا يتحقّق بين دليل قطعيّ ودليل ظنّي ؛ لأنّ الدليل القطعي يوجب العلم ببطلان الدليل الظنّي وزوال كاشفيّته ، فلا يكون دليلا وحجّة ؛ لاستحالة الدليليّة والحجّيّة لما يعلم ببطلانه.

وصلنا إلى أنّ موضوع التعارض هو الدليلان المحرزان ، ولكنّ الأدلّة المحرزة على أقسام فهل كلّ أقسامها تدخل في موضوع التعارض أم بعضها فقط؟

والجواب : أنّ بعض الأدلّة المحرزة تدخل في موضوع التعارض لا كلّها.

وبيان ذلك أن يقال : إنّ الأدلّة المحرزة بلحاظ نفسها تنقسم إلى الأدلّة المحرزة القطعيّة والأدلّة المحرزة الظنّيّة ، ولكن بلحاظ مورد اجتماعهما تنقسم إلى ثلاث حالات :

الأولى : أن يجتمع دليلان قطعيّان على مورد واحد ، وهذا مستحيل ؛ لأنّ فرض اجتماعهما مع كونهما قطعيّين متخالفين يؤدّي إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين وهو محال بالبداهة ، ولذلك لا يمكن أن يجتمع مثل الخبر المتواتر أو الإجماع المتخالفين في المدلول والجعل الشرعي على موضوع واحد وإلا للزم المحال ، وهكذا لا يجتمع مثل الآية القطعيّة الدلالة مع الخبر المتواتر المخالف لدلالتها.

الثانية : أن يجتمع دليل قطعي مع دليل ظنّي ، كما إذا اجتمع الخبر المتواتر أو الآية القطعيّة الدلالة مع خبر الثقة المخالف لمدلولهما ، فهنا أيضا لا يعقل التعارض من باب أنّ الدليل القطعي يرفع موضوع الدليل الظنّي ؛ لأنّ الدليل الظنّي مورده وظرفه إنّما هو حالة الشكّ ، ومع قيام الدليل القطعي لا شكّ في الواقع ، فيرتفع موضوع الدليل الظنّي فتبطل كاشفيّته وطريقيّته ، ومع بطلانها لا يكون حاكيا ولا كاشفا عن المدلول والجعل ليقع التعارض بينه وبين المدلول والجعل الذي يكشف عنه الدليل القطعي.

وبتعبير آخر : إنّه مع وجود الدليل القطعي لا يكون الدليل الظنّي حجّة ولا دليلا ولا طريقا كاشفا عن المدلول والجعل ؛ لأنّه لا موضوع له أصلا فهو منتف في نفسه ، وإذا كان كذلك فلا يعارض غيره ؛ لأنّه صار بحكم المعدوم.

الثالثة : أن يجتمع دليلان ظنّيّان ، كاجتماع خبرين على موضوع واحد ، كما إذا أخبر ثقة بحرمة لحم الأرنب وأخبر ثقة آخر بحلّيّته وهكذا ، فهنا يقع التعارض ؛ لأنّ

١٥

موضوع الحجّيّة أي حجّيّة خبر الثقة يشملهما معا على حدّ واحد لكونهما واجدين لتمام الشرائط المعتبرة ، وليس أحدهما رافعا لموضوع الآخر ليحكم بسقوطه رأسا ، ولذلك لا بدّ من علاج هذا التعارض ؛ لأنّ كلاّ منهما يحكي ويكشف عن مدلول وجعل مخالف للآخر.

إذن يدخل في موضوع التعارض خصوص الدليلين المحرزين الظنّيّين فقط دون غيرهما.

وإنّما يتحقّق التعارض بين دليلين ظنّيّين ؛ وهذان الدليلان إمّا أن يكونان دليلين لفظيّين ، أو غير لفظيّين ، أو مختلفين من هذه الناحية.

فإن كانا دليلين لفظيين ـ أي كلامين للشارع ـ فالتعارض بينهما على قسمين :

أحدهما : التعارض غير المستقرّ ، وهو التعارض الذي يمكن علاجه بتعديل دلالة أحد الدليلين وتأويلها بنحو ينسجم مع الدليل الآخر.

والآخر : التعارض المستقرّ الذي لا يمكن فيه العلاج.

حالات الدليلين الظنيّين المحرزين : انتهينا إلى أنّ موضوع التعارض هو الدليلان المحرزان الظنّيّان ، ولكن هذان الدليلان من حيث كونهما لفظيّين أو غير لفظيّين أو مختلفين ينقسمان إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون الدليلان معا لفظيّين. كما إذا تعارض خبران أو آية ظنّيّة الدلالة مع خبر ثقة ، فالتعارض بينهما على نحوين :

أحدهما : التعارض غير المستقرّ ، والمقصود به التعارض الذي يمكن حلّه وعلاجه عن طريق الجمع العرفي ، بحيث يمكننا أن نحمل أحدهما على الآخر كالمطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ ، أو نعدّل دلالة أحدهما بحيث تنسجم مع دلالة الآخر فيما إذا كان هناك مبرّر لهذا التعديل كما في موارد القرينة والحكومة.

فمثلا إذا ورد ( أكرم العالم ) و ( لا تكرم الفاسق ) أمكن الجمع بينهما بتقييد الأوّل بغير الفاسق أي حمل المطلق على المقيّد.

وكما إذا ورد ( الكرّ ألف ومائتا رطل ) وورد ( الكرّ ستمائة رطل ) ، فإنّه يحمل أحدهما على المدني والآخر على العراقي ، بحيث تعدّل الدلالة فيهما بنحو يتمّ الانسجام بينهما.

١٦

والآخر : التعارض المستقرّ ، والمقصود به عدم إمكانيّة الجمع العرفي بينهما ، وهذا حكمه التساقط أو التخيير أو الترجيح.

وسوف نتحدّث بالتفصيل عن هذين النحوين ، ولكن هنا نشير إليهما بصورة مختصرة فنقول :

ففي حالات التعارض المستقرّ يسري التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّ ثبوت الحجّيّة لكلّ منهما ـ كما لو لم يكن معارضا ـ يؤدّي إلى إثبات كلّ منهما ونفيه في وقت واحد ؛ نظرا إلى أنّ كلاّ منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر ، ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت الحجّيّتين على نحو ثبوتهما في غير حالات التعارض ، وهذا معنى سراية التعارض إلى دليل الحجّيّة لوقوع التنافي في مدلوله.

النحو الأوّل : التعارض المستقرّ بين الدليلين الظنّيّين فمؤدّاه سريان التعارض من الخبرين مثلا إلى الدليل الدالّ على حجّيّتهما ، وهو دليل الحجّيّة العامّ ، فإنّ دليل حجّيّة الخبر شامل لكلا الخبرين على حدّ واحد لاستجماعهما لشرائط الحجّيّة في أنفسهما. وعليه ، فشموله لأحدهما فقط يؤدّي إلى الترجيح من دون مرجّح وهو باطل ، وعدم شموله لهما خلاف ما فرضناه من كونهما جامعين لشرائط الحجّيّة الذي يعني أنّ موضوع الحجّيّة موجود في كلّ منهما.

ومع ثبوت الموضوع لا بدّ من ترتيب الحكم عليه ، إلا أنّ شموله لهما معا يؤدّي إلى محذور لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك لأنّ كلاّ من هذين الدليلين كما يثبت مؤدّاه بحسب مدلوله المطابقي فهو ينفي مؤدّى الآخر بحسب مدلوله الالتزامي ، فيقع التعارض والتنافي بلحاظ المدلول المطابقي في كلّ منهما مع المدلول الالتزامي فيهما.

فإذا ورد خبر في وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة وورد خبر في وجوب الظهر في هذا اليوم ، كان الخبر الأوّل دالاّ بالمطابقة على وجوب الجمعة وبالالتزام على نفي وجوب الظهر ؛ لأنّه لمّا كان حاكيا وكاشفا عن الواقع فهو يدّعي أنّ الملاك الأهمّ في الواقع هو صلاة الجمعة دون غيرها ، وهكذا الحال بالنسبة للخبر الآخر ، وحينئذ فالالتزام بهما معا يؤدّي إلى ثبوت الحجّتين المتنافيتين وهو مستحيل ؛ لأنّه لا يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتكاذبين معا ، ومن هنا سوف يسري التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة بتطبيقه على الخبر الأوّل يفيد التعبّد بمدلوله ، وبتطبيقه على الخبر الثاني

١٧

يفيدنا أيضا التعبّد بمدلوله ، فيقع التنافي بلحاظ المدلولين المفادين بدليل الحجّيّة العامّ.

ولذلك إمّا أن يحكم بتساقطهما أو بالتخيير بينهما بعد فرض عدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر ببعض المرجّحات الخاصّة التي سوف تأتي.

وأمّا في حالات التعارض غير المستقرّ فيعالج التعارض بالتعديل المناسب في دلالة أحدهما أو كليهما ، ومعه لا يسري التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ إذ لا يبقى محذور في حجّيّتهما معا بعد التعديل.

ولكنّ هذا التعديل لا يجري جزافا ، وإنّما يقوم على أساس قواعد الجمع العرفي التي مردّها جميعا إلى أنّ المولى يفسّر بعض كلامه بعضا ، فإذا كان أحد الكلامين صالحا لأن يكون مفسّرا للكلام الآخر جمع بينهما بالنحو المناسب.

ومثل الكلام في ذلك ظهور الحال.

النحو الثاني : التعارض غير المستقرّ بين الدليلين ، فلا يؤدّي إلى سريان التعارض إلى الدليلين.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذا التعارض يمكن علاجه وحلّه بنحو يمكن فيه بعد تعديل دلالة أحدهما أو كليهما الجمع بينهما والأخذ بهما معا ، فيكون دليل الحجّيّة شاملا لهما معا ؛ لإمكان التعبّد بمدلوليهما من دون تناف وتكاذب بينهما.

فمثلا موارد المطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ والحكومة ، يمكن فيها علاج التعارض البدوي بحمل المطلق على المقيّد والعامّ على الخاصّ والمحكوم على الحاكم ، وهذا الحمل سوف يؤدّي إلى إيجاد بعض التعديل في دلالة الدليل أو في دلالة كلا الدليلين معا ، ومعه يصبح الأخذ بهما ممكنا لزوال التنافي والتكاذب ، وحينئذ يشملهما دليل الحجّيّة من دون أيّ محذور في ذلك ، وهذا هو معنى عدم سريان التعارض إلى دليل الحجّيّة ؛ لأنّه يزول في مرحلة سابقة.

ولكنّ هذا التعديل في دلالة أحد الدليلين أو في كلتا الدلالتين لا يكون جزافا وتبرّعا محضا ، وإنّما هو على أساس قواعد الجمع العرفي الآتية ، فإذا تمّت بعض هذه القواعد فهي ، وإلا فلا معنى للجمع من دون أيّ مبرّر أو أيّ ملاك ، ولهذا فقاعدة الجمع أولى من الطرح إنّما هي فيما إذا كان الجمع له ما يبرّره عرفا بحسب ما هو المتعارف والمعمول به في المحاورات العرفيّة لا مطلقا.

١٨

وعلى هذا فإذا كان أحد الكلامين صالحا للقرينيّة وللتفسير أمكن الجمع العرفي وإلا فلا ، وسيأتي شرح ذلك في محلّه مفصّلا.

وما ذكرناه من حلّ التعارض فيما إذا كان أحد الكلامين مفسّرا وقرينة على المراد من الآخر ، كذلك نقوله فيما إذا كان ظهور حال المتكلّم قرينة مفسّرة للمراد من أحد الدليلين أو كليهما.

فالإطلاق المقامي مثلا أو الإطلاق الحكمي يمكن الأخذ به فيما إذا كان يصلح للقرينيّة وتفسير المراد من أحد الكلامين ، فإذا فرضنا كون أحد الكلامين صادرا وكان فيه ظهور حالي مقامي في أنّ المعصوم عليه‌السلام في مقام البيان للأجزاء والشرائط ، فإنّه بهذا الإطلاق والظهور الحالي ننفي جزئيّة أو شرطيّة ما يشكّ لاحقا في جزئيّته وشرطيّته.

وعليه ، فإذا ورد دليل آخر وكان واجدا لهذا الشرط أو للجزء المشكوك ولكنّه لم يكن لهذا الدليل إطلاق مقامي وظهور حالي في أنّه في مقام البيان لتمام الأجزاء والشرائط ، فإنّه بمقتضى الإطلاق المقامي والظهور الحالي الموجود في الدليل الأوّل نحمل ما ورد في الدليل الثاني على كون ما أتى به ليس جزءا وشرطا ، ولكنّه يجوز الإتيان به ولا يكون وجوده جزءا وشرطا كما لا يكون عدمه مضرّا ومبطلا ، فهو على نحو الاستحباب أو الجواز لا على نحو الوجوب واللزوم.

هذا كلّه فيما إذا كان الدليلان الظنّيّان لفظيّين.

وإن كان الدليلان معا غير لفظيّين أو مختلفين كان التعارض مستقرّا لا محالة ؛ لأنّ التعديل إنّما يجوز في حالة التفسير ، وتفسير دليل بدليل إنّما يكون في كلامين وما يشبههما ، وإذا استقرّ التعارض سرى إلى دليلي الحجّيّة ، فإن كانا لفظيّين لوحظ نوع التعارض بينهما وهل هو مستقرّ أو لا؟ وإن لم يكونا كذلك فالتعارض مستقرّ على أيّة حال. والبحث في تعارض الأدلّة يشرح أحكام التعارض غير المستقرّ والتعارض المستقرّ معا.

وأمّا القسم الثاني والثالث : أن يكون الدليلان غير لفظيّين أو أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي.

كما إذا تعارضت شهرتان في الفتوى ، أو شهرة فتوائيّة مع خبر ثقة ، فهنا التعارض

١٩

بينهما يكون مستقرّا بمعنى أنّه يسري إلى دليل الحجّيّة في كلّ منهما ، ولا يمكن أن يفرض كون التعارض بينهما غير مستقرّ ؛ لأنّ التعديل والجمع العرفي إنّما يكون فيما إذا كان أحد الدليلين قرينة مفسّرة للمراد من الآخر.

وهذا إنّما يكون فيما إذا كان كلا الدليلين لفظيّين ؛ لأنّ التفسير والتعديل إنّما يكون بلحاظ الكلام أو ما يشبه الكلام ، كالظهور الحالي المتقدّم ، فإنّه صالح لتفسير المراد من الكلام الآخر ، وأمّا إذا لم يكونا لفظيّين أو كان أحدهما غير لفظي فالتفسير والقرينيّة مفقودة.

وعليه ، فما دام التعارض مستقرّا بين الشهرتين مثلا أو بين الشهرة والخبر ، فلا بدّ من ملاحظة الدليلين الدالّين على حجّيّتهما ؛ لأنّ التعارض سرى إلى دليل الحجّيّة في كلّ منهما.

وهنا إذا لاحظنا دليل الحجّيّة فيهما فقد يكون الدليل في كلّ منهما لفظيّا ، وأخرى غير لفظيّين ، وثالثة مختلفين.

فإن كانا معا لفظيّين فتارة يكون التعارض مستقرّا وأخرى غير مستقر ، كما تقدّم آنفا ، كما إذا فرضنا كون الدليل الدالّ على حجّيّة خبر الثقة هو الأخبار القطعيّة ، وفرضنا كون الدليل الدالّ على حجّيّة الشهرة هو قوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ... ».

وإن كانا معا غير لفظيّين ـ كما إذا كان دليل حجّيّة خبر الثقة السيرة العقلائيّة وكان دليل حجّيّة الشهرة هو الإمضاء والتقرير أو قاعدة اللطف مثلا ـ أو كان أحدهما لفظيّا والآخر غير لفظي ، فهنا يقع التعارض المستقرّ بينهما ، أي بين الدليلين الدالّين على الحجّيّة ؛ لما ذكرناه الآن من عدم إمكان فرض القرينة والتفسير والتعديل في غير الكلام أو ما يكون كالكلام.

* * *

٢٠