شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

فيما إذا كان أحدهما قطعي الدلالة والآخر ظنّي الدلالة ؛ لأنّ التنافي يكون بين دليل حجّيّة السند في أحدهما ودليل حجّيّة السند وحجّيّة الظهور معا في الآخر.

ففي هذه الحالات قد يقال بأنّه توجد روايات تعالج هذه المعارضة وتخرج عمّا هو مقتضى القاعدة من التساقط أو الالتزام بالحجّيّة التخييريّة عندنا ؛ وذلك لأنّ الروايات دالّة على ثبوت الحجّيّة لأحد الدليلين المتعارضين إمّا على نحو التعيين أو على نحو التخيير ؛ لأنّه إذا كان لأحدهما مرجّح من الخارج كما إذا كان مخالفا للعامّة مثلا ، فإنّه يؤخذ به ويحمل الموافق لهم على التقية مثلا ، وإذا لم يكن لأحدهما مرجّح من الخارج قد يصار إلى التخيير بينهما فيقال بحجّيّة أحدهما تخييرا كما سيأتي.

وهذه الروايات تسمّى بروايات العلاج ؛ لأنّها تعالج التعارض من ترجيح أحدهما تعيينا أو تخييرا ، وبالتالي لا يصار إلى الحكم بتساقطهما كما هو مقتضى القاعدة الأوّليّة.

وسوف نتناول البحث في هذين القسمين تباعا لنرى مدى إمكانيّة ثبوتهما من جهة ، وما هو مفادهما من جهة أخرى؟ بمعنى أنّ هذه الروايات هل هي ثابتة أم لا؟

ثمّ هل هي دالّة على المدّعى هنا أم لا؟ ونتكلّم أوّلا عن روايات العرض على الكتاب ، ثمّ عن روايات العلاج.

* * *

٢٠١
٢٠٢

روايات

العرض على الكتاب

٢٠٣
٢٠٤

١ ـ روايات العرض على الكتاب

ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث مجاميع :

القسم الأوّل : روايات العرض على الكتاب :

وهذه الروايات يمكننا تقسيمها إلى ثلاث مجموعات وذلك من جهة الدلالة والصياغة الواردة فيها.

فقد يكون لسانها الاستنكار وعدم إمكان فرض صدور المخالف للكتاب.

وقد يكون لسانها لزوم الأخذ والعمل بالخبر الموافق للكتاب بأن يكون عليه شاهد من القرآن.

وقد يكون لسانها طرح الخبر المخالف للكتاب عن الحجّيّة وتركه وعدم جواز العمل به.

المجموعة الأولى : ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين ، من قبيل رواية أيّوب بن راشد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (١).

فإنّ التعبير بـ ( زخرف ) يدلّ على نفي الصدور مع الاستنكار والتحاشي.

وهذه الروايات تدلّ على سقوط كلّ خبر مخالف للكتاب عن الحجّيّة ، وبهذا تقيّد دليل حجّيّة السند على تقدير ثبوت الإطلاق فيه.

المجموعة الأولى : ما ورد من الاستنكار عن صدور الخبر المخالف للكتاب منهم عليهم‌السلام ، بحيث تكون الروايات في هذه المجموعة نافية لأصل الصدور لا للحجّيّة فقط ، ومن أمثلة هذه المجموعة :

رواية أيّوب بن راشد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٢.

٢٠٥

ورواية أيّوب بن الحرّ قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (١).

وهاتان الروايتان صحيحتا السند ومضمونهما واضح وهو الاستنكار والاستهجان من صدور الخبر المخالف للكتاب وأنّه زخرف ، أي ليس بحقّ وأنّه شيء يشبهه بظاهره ، والمخالفة للكتاب هي عدم الموافقة له كما هو مضمون الروايتين ، وهذا معناه أنّ الخبر المخالف للكتاب هو الذي لا يوافقه لا أنّه يخالفه صراحة.

ولسان الاستنكار هذا يدلّ على عدم صدور الخبر المخالف ، وهذا معناه نفي الحجّيّة عنه ؛ لأنّ نفي صدوره عنهم وإن كان ينفي الموضوع إلا أنّ المقصود به هو نفي الحكم والمحمول أي الحجّيّة ، فإنّ أحد ألسنة نفي الحكم هو نفي الموضوع ، وحينئذ يتقيّد دليل الحجّيّة الدالّ على التعبّد بالسند بما إذا لم يكن الخبر مخالفا للكتاب ، هذا على فرض ثبوت الإطلاق في دليل حجّيّة السند للخبر المعارض للدليل القطعي كالكتاب ، وهو يتمّ فيما إذا كان دليل الحجّيّة لفظيّا دون ما إذا كان لبّيّا ، وحينئذ يلتزم بتخصيص أو بتقييد دليل الحجّيّة.

وهذه المجموعة من الروايات تنظر إلى القسم الأوّل المتعلّق بحالات التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظنّي السند.

وقد يستشكل في ذلك :

تارة بأنّ الروايات المذكورة لا تنفي الحجّيّة وليست ناظرة إليها ، وإنّما تنفي صدور الكلام المخالف ، فلا تعارض دليل حجّيّة السند لتقيّده ، وإنّما تعارض نفس الروايات الدالّة على صدور الكلام المخالف.

وأخرى بأنّ موضوع هذه الرواية غير الموافق لا المخالف ، ولازم ذلك عدم العمل بالروايات التي لا تعرّض في القرآن الكريم لمضمونها.

وثالثة بأنّ صدور الكلام المخالف من الأئمّة معلوم وجدانا ، كما في موارد التخصيص والتقييد ، وهذا يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو بحملها على المخالفة في أصول الدين.

وقد استشكل على هذه المجموعة من الروايات بإشكالات ثلاثة :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٤.

٢٠٦

الأوّل : أنّ الروايات المذكورة في هذه المجموعة إنّما تنفي الصدور للخبر المخالف أو غير الموافق للكتاب ، وليست ناظرة إلى نفي الحجّيّة. والفرق بينهما : أنّ نفي الصدور معناه أنّ الخبر المخالف ليس صادرا عن المعصوم ، ومع عدم صدوره عنهم عليهم‌السلام لا يشمله دليل الحجّيّة من باب خروجه عن موضوع الحجّيّة تخصّصا ، أي أنّه ليس داخلا في موضوع الحجّيّة من أوّل الأمر ، ولذلك لا يكون دليل الحجّيّة مقيّدا أو مخصّصا بتلك الروايات.

نعم ، يكون هناك تعارض بين هذه الروايات الدالّة على نفي الصدور وبين الروايات الدالّة على صدور الخبر المخالف فيما إذا فرض وجود الخبر المخالف ، فيقع التعارض بين الدليل الدالّ على هذا الخبر المخالف وبين الروايات الدالّة على نفي صدوره ، فلا بدّ من ملاحظة هذه المعارضة وأنّها قابلة للعلاج أو لا.

وأمّا نفي الحجّيّة عن الخبر المخالف فمعناه أنّ دليل الحجّيّة بإطلاقه شامل لكلّ خبر ، ولكن يقيّد هذا الإطلاق ويخصّص بغير الخبر المخالف للكتاب بمقتضى هذه الروايات ، فتكون هذه الروايات ناظرة إلى دليل الحجّيّة وتنفي ثبوت الحجّيّة عن هذا الخبر المخالف ، بحيث يكون لسانها لسان التخصيص أو التقييد ؛ لأنّها تخرج بعض أفراد الموضوع عن شمول الحكم له.

والذي يفيد هنا هو النحو الثاني لا الأوّل ؛ لأنّ تقييد أو تخصيص دليل الحجّيّة إنّما يكون على أساس استفادة التخصيص أو التقييد ، والمفروض أنّ الروايات تنظر إلى نفي الصدور لا إلى نفي الحجّيّة فهي تثبت التخصّص لا التخصيص.

الثاني : أنّ الموضوع في هذه الروايات هو عنوان الخبر غير الموافق للكتاب لا عنوان الخبر المخالف ، وحينئذ يقال : إنّ هذه الروايات بصدد بيان أنّ العمل بالأخبار لا بدّ أن تكون هناك موافقة لمضمونها ومفادها من الكتاب الكريم ، فيجوز العمل بالخبر الذي يوافق مضمونه لمضمون الكتاب.

وأمّا الذي لا يوافق مضمونه لمضمون الكتاب فلا يجوز العمل به سواء كان مخالفا للكتاب أم لم يكن مخالفا ، فعنوان عدم الموافق أعمّ من الخبر المخالف والخبر غير المخالف الذي لا يكون مضمونه موافقا لمضمون الكتاب.

وهذا المفاد سوف يشمل كثيرا من الأخبار التي لا يكون مضمونها موافقا لمضمون

٢٠٧

الكتاب مع كونها صادرة عنهم ، فيلزم الحكم بعدم صدورها وعدم جواز التعبّد بها وهو لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ كثيرا من الأخبار لا يوجد في القرآن ما يوافق مضمونها فيلزم تخصيص الأكثر وهو قبيح.

والحاصل : أنّ هذه الروايات تنفي حجّيّة أو صدور أكثر الأخبار ؛ لأنّ أكثر الأخبار لا يوجد مضمون في الكتاب موافق لها.

الثالث : أنّنا لو سلّمنا كون موضوع هذه الروايات هو الخبر المخالف للكتاب ، وسلّمنا أنّ المراد نفي الحجّيّة ، فمع ذلك لا يمكن الأخذ بهذه الروايات ؛ وذلك لأنّ مفادها عدم حجّيّة الخبر المخالف ، والحال أنّ الخبر المخالف قد صدر منهم عليهم‌السلام مع كونه حجّة ، فإنّ المقيّدات والمخصّصات لعموم وإطلاق الكتاب قد صدر من المعصومين بالوجدان ، حتّى قيل : ( ما من عامّ إلا وقد خصّ ).

وحينئذ إمّا أن نقول بعدم حجّيّة تلك المقيّدات والمخصّصات ، أو نقول بأنّ هذه الروايات تنفي الحجّيّة للخبر المخالف للكتاب في أصول الدين لا الفروع ، والمتعيّن هو الثاني لا الأوّل ؛ لأنّ الالتزام بطرح المخصّصات والمقيّدات يؤدّي إلى طرح أغلب الروايات المعلوم صدورها عنهم بالوجدان ، أي أنّ العمل بهذه الروايات مخالف لما هو ثابت بالوجدان من العمل بالمقيّدات والمخصّصات حتّى في عصر النصّ ، فيتعيّن الحمل على نفي الحجّيّة عن الخبر المخالف للكتاب في غير الفروع ، أي في المسائل الاعتقاديّة وأصول الدين.

والحاصل من هذه الإشكالات الثلاثة : أنّ الروايات المذكورة في هذه المجموعة إنّما تنفي الصدور للخبر المخالف ، وهذا غير نفي الحجّيّة ، ولو سلّمنا بذلك فموضوع هذه الروايات هو الخبر غير الموافق لا الخبر المخالف.

وهذا العنوان شامل لكثير من الروايات بحيث يلزم تخصيص الأكثر ، ولو سلّمنا ذلك فالمقيّدات والمخصّصات الواردة جزما والمعمول بها أيضا تعارض نفي الحجّيّة عن الخبر المخالف ، فلا بدّ من حمل الخبر المخالف على المسائل الاعتقاديّة.

ومن هذا كلّه يظهر عدم صلاحيّة هذه الروايات لطرح الخبر الظنّي المعارض للخبر القطعي رأسا.

والجواب : أمّا على الأوّل فبأنّ نفي الصدور بروح الاستنكار يدلّ بالالتزام العرفي على نفي الحجّيّة.

٢٠٨

وأمّا على الثاني فبأنّ ظاهر عدم الموافقة عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع التي تحصل بعدم تطرّق القرآن للمضمون رأسا.

وأمّا على الثالث فبأنّ نفس الاستنكار والتحاشي قرينة عرفيّة على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح الدليل القرآني وإلغائه رأسا ، فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما ممّا لا استنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعيّة على ذلك.

والجواب عن هذه الإشكالات :

أمّا الإشكال الأوّل فجوابه : أنّنا نسلّم كون الروايات ناظرة إلى نفي الصدور ، ولكن نفي الصدور وإن كان في نفسه ينفي الحجّيّة من باب التخصيص ، إلا أنّ نفي الصدور المقترن مع الاستنكار والاستهجان يفيد نفس الفائدة التي يفيدها نفي الحجّيّة من باب التخصيص.

وبتعبير أوضح : أنّ نفي الصدور على نحوين :

أحدهما : نفي الصدور مجرّدا عن أي شيء آخر يضاف إليه ، وهذا ينفي الحجّيّة بلحاظ التخصّص أي بلسان نفي المحمول لا الموضوع ، وهذا لا يفيدنا هنا لإثبات عدم حجّيّة الخبر المخالف ؛ لأنّه يثبت عدم صدوره رأسا فتكون عدم حجّيّته من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

والآخر : هو نفي الصدور المقترن والمضاف إلى شيء آخر كما هو مقامنا ، فإنّ نفي الصدور مقترن بالاستنكار منهم ، وهذا يعتبر قرينة على أنّ المراد من نفي الصدور هو نفي الحجّيّة ، أي إخراج الخبر المخالف عن الحجّيّة بعد أن كان مشمولا لإطلاق دليلها ، فيثبت التخصيص وهو المطلوب ؛ لأنّ الروايات تكون ناظرة إلى دليل الحجّيّة وتقيّد إطلاقه ، ومعه يخرج الخبر المخالف عن الحجّيّة فلا يصلح لمعارضة الخبر القطعي السند.

وأمّا الإشكال الثاني فجوابه : أنّنا نسلّم كون الموضوع هو الخبر غير الموافق ، إلا أنّنا نقول : إنّ الروايات ظاهرة في كون عدم الموافقة هي عدم الموافقة من باب السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع.

وتوضيحه : أنّ الخبر تارة لا يكون موافقا لمضمون الكتاب ؛ لأنّه يوجد في الكتاب

٢٠٩

مضمون مخالف له ، وأخرى لا يكون موافقا من جهة أنّه لا يوجد في الكتاب مضمون كالمضمون الذي يتحدّث عنه الخبر أصلا.

فإن كان غير موافق من جهة وجود مضمون مخالف له في الكتاب ، فهذا معناه عدم الموافقة من باب السالبة بانتفاء المحمول ؛ لأنّ الحكم الموجود في الكتاب على المضمون الذي يحكيه الخبر مخالف للحكم الذي يثبته الخبر المخالف لمضمونه ، فالموضوع فيهما مشترك ولكن كلّ واحد منهما يثبت له حكما يختلف بمضمونه عن الحكم الذي يثبته الآخر.

وإن كان غير موافق للكتاب من جهة عدم وجود مضمونه في الكتاب أصلا ، فهذا معناه عدم الموافقة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي أنّ الخبر لم يوافق الكتاب ؛ لأنّ موضوعه ومضمونه غير موجود في الكتاب أصلا.

والروايات الواردة هنا ظاهرها الأوّل لا الثاني ، أي أنّها تنفي صدور الخبر غير الموافق للكتاب بنحو يكون هناك تخالف بينهما في المضمون مع وحدة الموضوع فيهما ؛ لأنّ لسان الاستنكار يتناسب عرفا مع هذا.

وأمّا مجرّد عدم تطرّق القرآن للحديث عن مضمون هذا الخبر فهذا لا يتناسب مع الاستنكار المذكور والتحاشي عن قوله ؛ لأنّه قد صدر منهم ذلك كثيرا.

وأمّا الإشكال الثالث ، فجوابه : أنّنا نسلّم صدور المقيّدات والمخصّصات منهم عليهم‌السلام ، إلا أنّ هذا لا يلزم منه حمل الروايات الدالّة على نفي الحجّيّة عن الخبر المخالف ما إذا كان واردا في أصول الدين ؛ وذلك لأنّنا يمكننا حمل ذلك على ما إذا كانت المخالفة بينهما أو عدم الموافقة بنحو التباين الكلّي بحيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما ، بأن كان الأخذ بالخبر المخالف موجبا لرفع اليد عن الدليل القرآني رأسا وإلغائه عن مفاده تماما.

والدليل على صحّة هذا الحمل الثاني أنّ الاستنكار نفسه يعتبر قرينة عرفيّة على ذلك ، إذ ما دام قد ثبت صدور الخبر المخالف عنهم الموجب للتخصيص أو التقييد ، فيكون نفي صدور الخبر المخالف هو الخبر الذي لا يمكن الجمع العرفي بينه وبين الدليل القرآني بأن كان موجبا لإلغائه ورفع اليد عنه رأسا وبتمام مدلوله. فإنّ مثل هذا الخبر يتحاشى صدوره منهم ، ويكون الخبر المثبت لصدوره مستنكرا ومستهجنا.

٢١٠

ويدلّ على ذلك أيضا أنّ البيان الشرعي للأحكام بحسب المفهوم عرفا وبحسب أساليب المحاورات العرفيّة هو الأخذ بظهور الكلام ما لم ينصب المتكلّم قرينة على خلافه سواء كانت متّصلة أم منفصلة.

ومن الواضح أنّ وجود القرينة المنفصلة يعتبر رافعا لحجّيّة الظهور بعد انعقادها أوّلا ، وهذا معناه أنّ الظهور القرآني يعتبر حجّة ما لم يكن على خلافه قرينة منفصلة أيضا ، والقرينة المنفصلة هي قول

المعصوم عليه‌السلام ؛ لأنّه هو الذي يفسّر المراد الجدّي والنهائي للكتاب ؛ لأنّهم ألسنة الوحي وحملة الشريعة ، والذين يبيّنون عن الله عزّ وجلّ بحيث يكونون تراجمة لوحيه.

وبهذا يظهر أنّ الروايات الواردة في هذه المجموعة صحيحة سندا وتامّة دلالة أيضا ، وبها نرفع اليد عن حجّيّة الخبر المخالف ، بمعنى أنّه إذا تعارض الدليل القطعي السند مع الدليل الظنّي السند فحتّى لو كان دليل الحجّيّة لفظيّا فإنّنا نرفع اليد عن حجّيّته ونلتزم بتخصيص أو تقييد دليل الحجّيّة.

المجموعة الثانية : ما دلّ على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقا مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلا فالذي جاء به أولى به » (١).

وهذه الرواية ونظائرها تساوق في الحقيقة إلغاء حجّيّة خبر الواحد ؛ لأنّها تنهى عن العمل به في حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ، ولا محصّل عرفا لجعل الحجّيّة له في خصوص حالة التطابق ؛ لكفاية الدلالة القرآنيّة حينئذ.

المجموعة الثانية : هي الأخبار الدالّة على أنّ ما لا شاهد عليه من القرآن لا يؤخذ به ، بحيث تكون حجّيّة الخبر مشروطة بأن يكون لمضمون الخبر شاهد قرآني ، ومن هذه المجموعة : رواية ابن أبي يعفور حيث جاء فيها : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلا فالذي جاء به أولى به ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١١.

٢١١

وهذه الرواية تفيد نفي الحجّيّة عن كلّ خبر لا يوجد عليه شاهد من القرآن أو من السنّة القطعيّة ، فهي تثبت شرطا للحجّيّة وهو كون حجّيّة الخبر مشروطة بوجود الشاهد القرآني أو الشاهد النبوي عليه.

وأمّا إذا لم يكن هناك شاهد من هذا القبيل فلا يكون حجّة ؛ لأنّ قوله : « فالذي جاء به أولى به » مفاده أنّه إذا لم يكن عليه شاهد فالذي جاء بالخبر أولى من الإمام به أي أنّه هو الذي قاله لا الإمام ، أو يكون مفاده أنّه أولى بالعمل بالخبر منكم ما دام لا يوجد عليه شاهد ، وأمّا أنتم فلا يجب عليكم العمل به ممّا يعني أنّه ليس حجّة وإلا لوجب العمل به.

والحاصل : أنّ هذه الرواية تقسّم الأخبار إلى قسمين :

أحدهما : الأخبار التي لا يوجد عليها شاهد من القرآن أو السنّة القطعيّة ، وهذه ليست حجّة.

والآخر : الأخبار التي يوجد عليها مثل هذا الشاهد ، وهذه هي التي تثبت لها الحجّيّة فقط ، ولكن هذا معناه أنّها تلغي حجّيّة الخبر مطلقا ؛ وذلك لأنّ الخبر الذي عليه شاهد من القرآن أو السنّة القطعيّة لا نحتاج إليه ؛ لأنّنا نعمل بالقرآن أو بالسنّة القطعيّة حينئذ ، أو لا نحتاج إلى إثبات حجّيّته ؛ لأنّنا نعمل بمضمونه لأنّه قطعي من جهة موافقته للكتاب أو السنّة القطعيّة.

وعلى كلّ حال تكون هذه الأخبار مساوقة لإلغاء حجّيّة خبر الثقة ؛ لأنّه إن لم يكن لدينا شاهد عليه فهو ليس بحجّة ، وإن كان عليه شاهد فلا نحتاج إليه ، بل نعمل بالشاهد نفسه.

وهذه المجموعة إن تمّت فهي تفيد في القسم الأوّل المتقدّم ؛ لأنّ الدليل القطعي المعارض للخبر الظنّي سوف يتقدّم ويطرح الآخر ؛ لأنّه مع المعارضة بينهما لا يكون هناك شاهد على الخبر ، بل الشاهد على خلافه فيسقط عن الحجّيّة لعدم توفّر شرطها فيه.

وعليه ، فيرد على الاستدلال بها أنّها بنفسها أخبار آحاد ، ولا يمكن الاستدلال بأخبار الآحاد على نفي حجّيّة خبر الواحد.

هذا إضافة إلى أنّنا لو سلّمنا أنّها لا تلغي حجّيّة خبر الواحد على الإطلاق ،

٢١٢

فلا شكّ في أنّها تسلب الحجّيّة عن الخبر الذي ليس له موافق من الكتاب الكريم ، ومضمونها نفسه لا يوافق الكتاب الكريم بل يخالفه ـ بناء على دلالة الكتاب وغيره من الأدلّة القطعيّة على حجّيّة خبر الثقة ـ فيلزم ـ من حجّيّتها عدم حجّيّتها.

ويرد على الاستدلال بهذه المجموعة ما يلي :

أوّلا : أنّ روايات هذه المجموعة نفسها أخبار آحاد ؛ لأنّها أخبار ظنّيّة لا تصل إلى حدّ التواتر. وعليه فيكون الاستدلال بها لنفي حجّيّة أخبار الآحاد مستحيلا لاستلزامه الخلف.

وتوضيحه : أنّ أخبار الآحاد إمّا أن تكون حجّة في نفسها وفي رتبة سابقة عن هذه الروايات أو لا تكون حجّة.

فإن كانت حجّة في نفسها وفي رتبة سابقة فهذا خلف ما تفترضه هذه الروايات من عدم حجّيّة أخبار الآحاد ، ممّا يعني وقوع التعارض بينهما ، وبالتالي لا يثبت بها نفي حجّيّة خبر الواحد ؛ لسقوطها بالمعارضة.

وإن لم تكن حجّة في نفسها وفي رتبة سابقة عن هذه الروايات فلا نحتاج إلى هذه الروايات لنفي الحجّيّة ؛ لأنّها ليست حجّة في نفسها بوصفها من أخبار الآحاد أيضا.

والاحتمال الثاني متوقّف على ثبوت ما يمكن أن ينفي الحجيّة عن خبر الواحد ، وقد تقدّم في محلّه عدم نهوض شيء من تلك الأدلّة لنفي الحجّيّة ؛ لأنّها لا تقاوم ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد.

وعليه فيتعيّن الاحتمال الأوّل ، ومعه تسقط هذه الروايات بسبب المعارضة ؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على الحجّيّة أقوى منها دلالة وسندا ؛ لأنّ فيها ما يقطع بصدوره من المعصوم كما تقدّم.

مضافا إلى قيام السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الواحد ، وهذه السيرة لا يمكن الردع عنها بمثل رواية ابن أبي يعفور ؛ لأنّها لمّا كانت بدرجة من الاستحكام والمتانة فلا يكفي للردع عنها وجود رواية أو اثنتين ، بل تحتاج إلى عدد من الروايات الصحيحة التي من شأنها أن ترفع وتزيل ذاك الارتكاز والبناء العقلائي ، وهذا ليس

٢١٣

موجودا في هذه الروايات ، ولذلك فالمتعيّن هو الأخذ بما دلّ على الحجّيّة دونها في مقام المعارضة.

وبهذا يظهر أنّ هذه الروايات لا يمكن نهوضها للاستدلال على نفي الحجّيّة.

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا بأنّ هذه الروايات لا تلغي حجّيّة خبر الواحد مطلقا وإنّما تخصّص دليل الحجّيّة بما إذا كان هناك شاهد من القرآن أو السنّة القطعيّة على الخبر ، فمع ذلك لا يمكننا الأخذ بها من جهتين :

الأولى : أنّ هذه الروايات نفسها لا يوجد في الكتاب ولا السنّة شاهد عليها ؛ وذلك لأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لم يثبت حجّيّة الإطلاق فيها كما تقدّم في محلّه ، والروايات النافية ليست من السنّة القطعيّة ؛ لأنّها أخبار آحاد ولم تصل إلى درجة القطع.

والثانية : أنّ هذه الروايات يوجد في الكتاب والسنّة القطعيّة الشاهد على خلافها ، فتسقط عن الحجّيّة لذلك.

والشاهد هو ما دلّ من الكتاب على العمل بخبر الواحد كآية النفر والسؤال ومفهوم آية النبأ ، وما دلّ من السنة القطعيّة كالسيرة العقلائيّة وسيرة المتشرّعة والإجماع والأدلّة اللفظيّة التي يقطع بصدور بعضها ، فإنّ هذه كلّها تعتبر شواهد على خلاف هذه الروايات.

والنتيجة : هي أنّ التسليم بحجّيّة هذه الأخبار يلزم منه الالتزام بعدم حجّيّتها ؛ لأنّها لا تنهض لمقاومة تلك الأدلّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ، وما يلزم من حجّيّته عدم حجّيّته فلا معنى للتعبّد بحجّيّته ؛ لأنّها تكون لغوا.

وبتعبير أدقّ : إنّ هذه الروايات تفيد أنّ ما لا يوافق كتاب الله ليس بحجّة ، والمفروض أنّها ليست موافقة لكتاب الله بل مخالفة له كما ذكرنا ، فيكون الأخذ بحجّيّة هذه الروايات ملازما لعدم حجّيّتها ؛ لأنّ الأخذ بمفادها يعني لزوم ترك الخبر غير الموافق ، والمفروض أنّها هي خبر غير موافق ، فيلزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها ، وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه يكون وجوده مستحيلا ، وهكذا هنا.

المجموعة الثالثة : ما دلّ على نفي الحجّيّة عمّا يخالف الكتاب الكريم ، من قبيل رواية جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « الوقوف عند

٢١٤

الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (١).

المجموعة الثالثة : وهي الأخبار الدالّة على لزوم الأخذ بما وافق كتاب الله وترك ما خالفه.

من قبيل رواية ابن درّاج المذكورة هنا حيث جاء فيها : « فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » ، ومن قبيل رواية السكوني أيضا.

وهذه المجموعة تشبه المجموعة الأولى من جهة الأخذ بالموافق وترك المخالف ، ولكنّ هذه المجموعة ناظرة إلى الحجّيّة لا نفي الصدور ابتداء ؛ لأنّ الأخذ والترك يساوقان الحجّيّة وعدم الحجّيّة.

وتعتبر هذه المجموعة مخصّصة لدليل حجّيّة الخبر لا ملغية للحجّيّة رأسا ، ونتيجة ذلك عدم شمول الحجّيّة للخبر المعارض للكتاب الكريم.

وبعد أخذ الكتاب بوصفه مصداقا لمطلق الدليل القطعي على ضوء مناسبات الحكم والموضوع يثبت أنّ كلّ دليل ظنّيّ يخالف دليلا قطعي السند يسقط عن الحجّيّة.

والمخالفة هنا حيث لم ترد في سياق الاستنكار بل في سياق الوقوف عند الشبهة فلا تختصّ بالمخالفة التي تقتضي طرح الدليل القرآني رأسا ـ كما في المجموعة الأولى ـ بل تشمل كلّ حالات التعارض المستقرّ بما في ذلك التباين والعموم من وجه.

خصائص هذه المجموعة :

الأولى : أنّ هذه المجموعة تعتبر مخصصة لدليل الحجّيّة لا ملغية للحجّيّة من الأساس ؛ وذلك لأنّ مفادها هو الأخذ بالموافق وترك المخالف ، وهذا المفاد يساوق الحجّيّة وعدم الحجّيّة أي حجّيّة الموافق وعدم حجّيّة المخالف ؛ لأنّنا نريد من الحجّيّة إثبات ما يؤخذ به من الأخبار الناقلة لكلام المعصوم وترك غيرها.

والنتيجة على ضوء ذلك : هي حجّيّة الخبر الموافق للكتاب وعدم حجّيّة الخبر المخالف له.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٥.

٢١٥

وليس مفادها إلغاء الحجّيّة عن الخبر المخالف رأسا المساوق لإثبات عدم الصدور ، إذ لا يوجد في لسانها ما يدلّ على ذلك ، كما كان في المجموعة الأولى التي تثبت عدم الصدور للخبر المخالف ؛ لأنّه زخرف وباطل.

وهذا يعني أنّ الخبر المخالف للكتاب قد يصدر عنهم ولكنّه في حال المعارضة مع الكتاب لا يكون حجّة.

الثانية : أنّ مخالفة الكتاب ليست مأخوذة على نحو الموضوعيّة ، بل هي مأخوذة على نحو الطريقيّة ، بمعنى أنّ المخالفة للكتاب قد أخذت كعنوان مشير إلى العنوان الواقعي وهو مخالفة الدليل القطعي سواء كان كتابا أو سنّة متواترة أو ما شابههما من الأدلّة القطعيّة ، فكلّ خبر ظنّيّ السند يخالف دليلا قطعيّا سواء كان كتابا أو غيره لا يكون حجّة.

والوجه في تعميم المخالفة للكتاب ولغيره : هو أنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي ذلك ؛ لأنّ مخالفة الكتاب التي جعلت ملاكا لسلب الحجّيّة عن الخبر ليست هي مخالفة الكتاب بما هو معجزة ؛ لأنّ الكتاب بما هو معجزة يكون موجبا للاحترام والقداسة ونحو ذلك ، وليست هي مخالفة الكتاب بما هو قطعي الجهة ؛ لأنّ احتمال التقية نشأ متأخّرا وليس في صدر التشريع ، فيتعيّن كون مخالفة الكتاب بما هو دليل قطعي السند ، ولذلك تقوم السنّة القطعيّة مقامه أيضا لاشتراكها معه في ذلك ، بل في بعض الروايات عطف السنّة على الكتاب كما في رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة في المجموعة الثانية.

الثالثة : أنّ مخالفة الكتاب هنا لم ترد في سياق الاستنكار والتحاشي والاستهجان كما كان ذلك في المجموعة الأولى ، وهذا معناه أنّ المخالفة للكتاب هنا ليست مختصّة بما إذا كان الخبر المخالف موجبا لإلغاء الدلالة القرآنيّة رأسا فيما لو أخذ به ، وإنّما وردت المخالفة هنا في سياق « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (١) ، ممّا يعني أنّها بصدد بيان أنّ المخالفة للكتاب في الخبر مظنّة للوقوع في الهلكة ؛ لأنّ الأخذ بالخبر المخالف للكتاب يكون اقتحاما للهلكة ، ولذلك فالوقوف عنده وعدم الأخذ به يكون خيرا.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٠ / ٩ ، باب النوادر من باب لزوم الحجة على العالم ... تهذيب الأحكام ٧ :

٤٧٤ / ١١٢.

٢١٦

وهذا السياق يتناسب مع مطلق المخالفة للكتاب ، سواء كانت ملغية للدلالة القرآنيّة رأسا بأن كانت المخالفة بنحو التباين الكلّي أو كانت ملغية لبعض هذه الدلالة كما إذا كانت المخالفة بينهما بنحو العموم من وجه في مادّة الاجتماع.

ومن هنا كانت هذه المجموعة أوسع وأشمل من المجموعة الأولى ، بل ومن المجموعة الثانية أيضا ؛ لأنّها لم تشترط وجود الشاهد القرآني كشرط للحجّيّة بل يكفي الموافقة وعدم المخالفة.

ثمّ إنّ هذه المجموعة لو تمّت دلالتها لكانت ناظرة إلى القسم الأوّل المتعلّق بحالات التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظنّي السند ، وموجبة لرفع اليد عن حجّيّة الدليل الظنّي في هذه الصورة ؛ لأنّه يكون مخالفا للكتاب حينئذ ، فيخرج المورد عن مقتضى القاعدة الأوّليّة وهي التساقط إلى التقديم والترجيح.

وقد يعترض على ذلك باعتراضين :

الأوّل : أنّ هذه المجموعة لا تختصّ بأخبار الآحاد ، بل تشمل كلّ أمارة تؤدّي إلى مخالفة الكتاب ، فلا تكون أخصّ مطلقا من دليل حجّيّة الخبر ، بل قد تكون النسبة هي العموم من وجه.

الاعتراض الأوّل : أنّ موضوع هذه المجموعة من الروايات هو ( ما وافق كتاب الله وما خالف كتاب الله ) ، وهذا الموضوع لا يختصّ بأخبار الثقات ، بل يشمل كلّ الأمارات الظنّيّة من الشهرة وغيرها ، وحينئذ يكون مفادها أنّ كلّ أمارة توافق كتاب الله فيؤخذ بها وكلّ أمارة تخالف كتاب الله فلا يؤخذ بها ، والأمارة كما تشمل خبر الثقة تشمل الشهرة أيضا.

وعليه فالنسبة بين هذه الروايات والروايات الدالّة على الحجّيّة هي العموم من الوجه لا العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ موضوع هذه الروايات كلّ أمارة سواء كانت خبرا أو شهرة ، بينما موضوع دليل الحجّيّة هو كلّ خبر سواء كان موافقا أم مخالفا ، فيجتمعان في الخبر المخالف ويفترقان في الشهرة ، فإنّها ليست مشمولة لدليل حجّيّة السند ؛ لأنّه مختصّ بالأخبار ، وفي الخبر الموافق فإنّه خبر ولكنّه ليس بمخالف للكتاب.

ولذلك يقع التعارض بينهما في مادّة الاجتماع ويحكم بتساقطهما فيه ، ولا وجه

٢١٧

لتقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّ دليل الحجّيّة يثبت الحجّيّة للخبر المخالف بوصفه خبرا ، والروايات المذكورة تنفي الحجّيّة عنه بوصفه أمارة مخالفة للكتاب ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر فيتعارضان ويتساقطان.

والجواب : أنّ الصحيح تقديم إطلاق هذه المجموعة ـ عند التعارض ـ على دليل حجّيّة الخبر باعتبار حكومتها عليه ، إذ هي كأدلّة المانعيّة والشرطيّة فرض فيها الفراغ عن أصل حجّيّة بعض الأمارات ليصحّ استثناء بعض الحالات من ذلك ، وهذا معنى النظر المستوجب للحكومة.

أضف إلى ذلك أنّ خبر الثقة هو القدر المتيقّن منها باعتباره الفرد البارز من الأمارات ، والمتعارف والداخل في محلّ الابتلاء وقتئذ الذي كان يترقب مخالفته للكتاب تارة وموافقته أخرى.

والجواب عن هذا الاعتراض بأحد أمرين :

الأوّل : أنّنا لو سلّمنا كون النسبة بين روايات هذه المجموعة وبين دليل حجّيّة الخبر هي العموم من وجه ، فمع ذلك نقول بتقديم إطلاق هذه المجموعة على إطلاق دليل حجّيّة الخبر في مادّة الاجتماع أي في الخبر المخالف للكتاب ، فيكون مشمولا لإطلاق روايات هذه المجموعة التي تنفي الحجّيّة عنه ، ولا يكون مشمولا لإطلاق دليل الحجّيّة الذي يثبت الحجّيّة له.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه الروايات تعتبر حاكمة على دليل الحجّيّة ؛ وذلك لأنّها ناظرة إلى موضوع دليل الحجّيّة وتخرج منه فردا حقيقيّا ولكن بلسان الادّعاء والتعبّد ، فإنّها تخرج الخبر المخالف من موضوع دليل الحجّيّة مع كونه داخلا حقيقة في الموضوع ، فملاك النظر فيها هو التنزيل ؛ لأنّها تنزّل الخبر المخالف منزلة العدم وكأنّه غير موجود.

وهذا النظر يحرز على أساس أنّ هذه الروايات تفترض مسبقا ثبوت الحجّيّة للخبر على نحو الإجمال ، إذ لو لم يكن الخبر ولو إجمالا حجّة لم يكن هناك معنى لفرض وجود أمارات مخالفة للكتاب تارة وموافقة له أخرى.

فالمفروض في هذه الروايات إذا أنّه توجد أمارات ظنّيّة لها الحجّيّة ، ولمّا كان الخبر من جملة هذه الأمارات فهذا معناه ثبوت الحجّيّة له ولو إجمالا ، ثمّ تخرج منه بعض أفراده تعبّدا.

٢١٨

وهذا نظير أدلّة الشرطيّة والمانعيّة التي تثبت الشرط أو المانع أو عدم المانع للمشروط ، فإنّها تكون حاكمة وناظرة إلى الدليل الدالّ على المركّب وتفترض وجود شروط فيه أو بعض الموانع ، إذ لو لم يكن فيه شروط لم يكن لها معنى ؛ لأنّ إثبات الشرط لشيء لا يقبل الشرط يعتبر لغوا ؛ لأنّه لن يمكن إثباته.

والحاصل : كما أنّ أدلّة الشرطيّة والمانعيّة تفترض مسبقا وجود الدليل الذي له شروط أو موانع ولو بالجملة ، فكذلك الحال هنا فإنّ هذه الروايات تفترض ثبوت الحجّيّة لبعض الأمارات ولو في الجملة ، وتخرج منها بعض الأفراد تعبّدا على أساس الحكومة.

الثاني : أنّنا لو أنكرنا الحكومة فمع ذلك نقول في وجه تقديم روايات هذه المجموعة على دليل الحجّيّة : إنّ خبر الثقة يعتبر القدر المتيقّن من الأمارات الظنّية التي يمكن ثبوت الحجّيّة لها ، وذلك باعتباره الفرد البارز من الأمارات والفرد المتعارف لدى العقلاء ، ولذلك يكون داخلا في محلّ الابتلاء لدى المتشرّعة.

ممّا يعني أنّه يترقّب صدور شيء من الشارع بشأنه ؛ لأنّه تارة يكون موافقا للكتاب وأخرى يكون مخالفا له.

وهذا معناه أنّ هذه الروايات النافية لحجّيّة ما يخالف الكتاب من الأمارات الظنّيّة القدر المتيقّن منها هو الخبر ؛ لأنّه الفرد الأبرز والأكثر ابتلاء لدى الناس والمتشرّعة ، بحيث إنّ الشارع إذا أثبت الحجّيّة لشيء من الأمارات الظنّيّة فيكون الخبر هو المصداق الأوّل والأبرز ولو بالجملة.

وحينئذ إذا فرض أنّ دليل الحجّيّة هو المتقدّم في مادّة التعارض ، فهذا يعني الأخذ بالخبر المخالف للكتاب وتكون الروايات مختصّة بالشهرة المخالفة للكتاب وأنّها ليست حجّة ، وهذا تخصيص للروايات بالفرد النادر والقليل ، بخلاف ما لو قدّمنا الروايات على دليل الحجّيّة وقلنا بأنّ الخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة ، فإنّ دليل الحجّيّة سوف يبقى شاملا للخبر الموافق وهو ليس بنادر ولا قليل ، فيتعيّن هذا دون الأوّل.

ويمكننا أنّ نقول : إنّ الخبر لمّا كان هو المصداق الأبرز والأكثر ابتلاء من سائر الأمارات الظنّيّة فتكون الروايات ناظرة إليه فقط ومختصّة به ، وكأنّها ليست شاملة للأفراد الأخرى من الأمارات فتكون بحكم الأخصّ.

٢١٩

وحينئذ تكون النسبة هي العموم والخصوص مطلقا فتقدّم على دليل الحجّيّة للأخصّيّة ، أو لوجود ملاك الأخصّيّة فيها ؛ لأنّ الأخصّيّة الحقيقيّة ليست متحقّقة ؛ إذ المفروض وجود أمارات أخرى غير الخبر كالشهرة مثلا ، ولكن لمّا كانت تلك الأمارات الأخرى نادرة وقليلة جدّا ، كان تقديم دليل الحجّيّة على الروايات يعني تخصيصها بتلك الأفراد النادرة والقليلة وهو بحكم الإلغاء لها.

وهذا يعني وجود ملاك الأخصّيّة فيها ؛ لأنّ ملاك تقديم الخاصّ على العامّ هو أنّ تقديم العامّ يعني إلغاء الحكم رأسا ، بينما تقديم الخاصّ يعني رفع اليد عن إطلاق وشمول العامّ لا عن العامّ رأسا ، وهنا يوجد هذا المعنى بحسب الفهم العرفي.

الثاني : أنّ هذه المجموعة تدلّ على إسقاط ما يخالف الكتاب عن الحجّيّة ، والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين أو العموم من وجه كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ؛ لأنّ ذلك كلّه يصدق عليه المخالفة ، فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقا سواء كان تعارضا مستقرّا أو غير مستقرّ.

الاعتراض الثاني : أنّ هذه المجموعة من الروايات تنفي الحجّيّة عن كلّ ما يخالف الكتاب ، فلو فرض التسليم بإرادة الخبر وقلنا بأنّ النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فمع ذلك نقول : إنّ عنوان المخالفة للكتاب لا يختصّ فيما إذا كانت المخالفة بنحو التباين الكلّي أو العموم من وجه ، بل تشمل ما إذا كانت بنحو التخصيص والتقييد والحكومة أيضا ؛ وذلك لأنّ إطلاق عنوان « ما خالف كتاب الله » الوارد في لسان روايات هذه المجموعة مطلق ، فيشمل بإطلاقه كلّ أنواع المخالفة ، ولا وجه لتخصيصه بمخالفة دون أخرى ؛ لعدم وجود مثل هذا المخصّص.

وهذا معناه أنّ روايات هذه المجموعة تشمل طرح كلّ خبر مخالف للكتاب ، سواء كان هناك تعارض مستقرّ أم لم يكن التعارض مستقرّا.

وحينئذ تقع المعارضة بين هذه الروايات وبين دليل الحجّيّة ؛ لأنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه من هذه الجهة ، ومادّة الاجتماع بينهما هي الخبر المخالف للكتاب بنحو التقييد أو التخصيص أو الحكومة ، فإنّ إطلاق دليل الحجّيّة يشمله لمكان الجمع العرفي بينهما فيمكن الأخذ بمفاده والتعبّد به.

٢٢٠