شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

بينما إطلاق الروايات ينفي عنه الحجّيّة لكونه مخالفا للكتاب بنحو من أنحاء المخالفة وهو كاف لإسقاطه عن الحجّيّة ، وحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر فيتعارضان ويتساقطان ، وتكون النتيجة هي عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب ولو بنحو التخصيص ونحوه.

وهذه النتيجة لا يمكن الالتزام بها عمليّا لمخالفتها للوجدان.

ولذلك لا بدّ من إخراج موارد الأخبار من دائرتها ، وهذا يكون بتقديم دليل الحجّيّة عليها وتخصيصها بغير الخبر المخالف من الروايات.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجهين :

أحدهما : أنّ المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوهما ليست بمخالفة ؛ لأنّ الخاصّ والمقيّد والحاكم قرينة على المراد من العامّ والمطلق والمحكوم.

وقد أجاب المشهور عن ذلك بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّ المراد من مخالفة الكتاب خصوص المخالفة بنحو التباين الكلّي أو العموم من وجه لا المخالفة بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ؛ وذلك لأنّ الخاصّ أو المقيّد أو الحاكم يعتبر قرينة مفسّرة للمراد النهائي من العامّ والمطلق والمحكوم.

ومن الواضح أنّ العرف يأخذ بالدليل القرينة ويقدّمه على الدليل ذي القرينة ، ولا يرى بينهما أي تناف ، وذلك بمقتضى أساليب البيان والمحاورات العرفيّة التي مفادها أنّ المتكلّم له الحقّ في أن ينصب القرينة على الخلاف سواء كانت متّصلة بالكلام أم منفصلة عنه ، فلا يؤخذ بظاهر الكلام مع وجود القرينة المتّصلة ، وإنّما يتحدّد كلامه الأوّل على ضوء القرينة المتّصلة فينعقد الظهور ابتداء على طبق القرينة المتّصلة.

ولذلك لا يكون الكلام حجّة بظاهره مع وجود القرينة المنفصلة على الخلاف ؛ لأنّ وجودها يرفع حجّيّة هذا الظهور ويسقطه ؛ لأنّ القرينة ولو المنفصلة مقدّمة عرفا ؛ لأنّها تفسّر المراد الجدّي النهائي.

وبهذا يظهر أنّ عنوان المخالفة وإن كان بحسب الإطلاق اللغوي يشمل موارد التخصيص والتقييد والحكومة ، إلا أنّه بحسب الإطلاق الاصطلاحي مختصّ بغير موارد الجمع العرفي.

٢٢١

فتكون هذه الروايات قاصرة بحسب ذاتها عن الشمول لموارد الجمع العرفي ، وليست داخلة فيها أصلا ليقال بأنّ إخراجها يحتاج إلى دليل ، وإنّما هي خارجة تخصّصا من أوّل الأمر.

والآخر : أنّنا نعلم إجمالا بصدور كثير من المخصّصات والمقيّدات للكتاب عن الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا إن لم يشكّل قرينة متّصلة تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى الأنحاء الأخرى من المخالفة أي التعارض المستقرّ ، فلا أقلّ من سقوط الإطلاقات القرآنيّة عن الحجّيّة بالتعارض فيما بينها على أساس العلم الإجمالي ، فتبقى الأخبار المخصّصة على حجّيّتها.

الجواب الثاني : أنّنا نعلم إجمالا بصدور كثير من المخصّصات والمقيّدات لعمومات وإطلاقات الكتاب ، وهذا العلم الإجمالي ثابت بالوجدان فإنّ الكثير من الروايات الصادرة عنهم عليهم‌السلام تخصّص أو تقيّد الكتاب بعمومه أو بإطلاقه. وحينئذ إذا أردنا إسقاط حجّيّة المقيّدات والمخصّصات كما هو مقتضى هذه الروايات ، فسوف نقع في مخالفة العلم الإجمالي ؛ لأنّنا نعلم بوجود هذه المخصّصات أو المقيّدات ولو في الجملة بحيث لا يمكننا رفع اليد عنها رأسا بتمامها.

مضافا إلى أنّنا نقطع بأنّ العمومات والمطلقات القرآنيّة لم تبق جميعها على العموم والإطلاق ، فالعمل بإطلاقها فيه مخالفة قطعيّة ، فلا بدّ حينئذ من تقديم المقيّدات والمخصّصات ورفع اليد بها عن العمومات والمطلقات القرآنيّة.

وعليه ، فتكون هذه المقيّدات والمخصّصات الموجودة والصادرة منهم فعلا مسقطة للعموم أو للإطلاق القرآني.

فإذا جاءت رواية مخصّصة أو مقيّدة للعموم أو للإطلاق القرآني لم تتحقّق المخالفة فيها ؛ لأن العموم القرآني ساقط في رتبة سابقة بتلك المخصّصات ، ولذلك لن يتحقّق عنوان المخالفة الوارد في لسان هذه المجموعة من الروايات فيما إذا كانت المخالفة بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة.

هذا كلّه إذا لم نقل بأنّ العلم الإجمالي بوجود المخصّصات والمقيّدات يعتبر قرينة لبّيّة متّصلة بروايات هذه المجموعة ومانعة من انعقاد إطلاقها وشمولها لما إذا كانت المخالفة بنحو التقييد أو التخصيص ، وأمّا إذا قلنا بذلك فلن ينعقد الإطلاق في لسان

٢٢٢

هذه الروايات لموارد التخصيص والتقييد ونحوهما ؛ لخروجها عن دائرتها بالمقيّد اللبّي المتّصل المستفاد من العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : إنّنا إمّا أن نقول بأنّ العلم الإجمالي بوجود المقيّدات والمخصّصات الصادرة عن المعصوم عليه‌السلام يشكّل قرينة لبّية متّصلة بروايات هذه المجموعة وتوجب صرفها عن موارد التخصيص والتقييد ونحوهما من موارد الجمع العرفي.

وإمّا أن نقول بأنّ العلم الإجمالي المذكور لا يشكّل مثل هذه القرينة ، ولكنّه يوجب سقوط الآيات عن إطلاقها وعمومها للتعارض الداخلي فيما بينها ، فإنّنا لمّا علمنا إجمالا بصدور المخصّص والمقيّد كان مجيء الروايات الدالّة على المخصّص أو المقيّد موجبا لحصول التعارض بلحاظ الآيات ؛ لأنّه يمكن أن تكون هي المخصّصة دون غيرها ويمكن أن يكون غيرها هو المخصّص دونها ، فيحصل التعارض بينها ويحكم بتساقطها.

وحينئذ تكون الروايات الدالّة على التخصيص أو التقييد ناجية عن المخالفة للكتاب ؛ لأنّه قد سقط عمومه أو إطلاقه فلم تتحقّق المخالفة بينهما ، فتبقى على حجّيّتها.

ونلاحظ على هذين الوجهين : أنّ المخالفة للقرآن المسقطة للخبر عن الحجّيّة إن أريد بها المخالفة لدلالة قرآنيّة ولو لم تكن حجّة ، فكلا الجوابين غير صحيح ؛ لأنّ القرينة المنفصلة والتعارض على أساس العلم الإجمالي لا يرفع أصل الدلالة القرآنيّة ولا يخرج الخبر عن كونه مخالفا لها.

ويرد على كلا الوجهين : أنّ عنوان المخالفة للقرآن الذي يسقط الخبر عن الحجّيّة فيه احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من المخالفة للكتاب مخالفة الخبر للدلالة القرآنيّة سواء كانت حجّة أم لا ، بمعنى أنّ الخبر المخالف لهذه الدلالة ساقط عن الحجّيّة حتّى ولو كانت هذه الدلالة القرآنيّة ساقطة عن الحجّيّة بنفسها وبقطع النظر عن وجود هذا الخبر المخالف لها.

فعلى هذا الاحتمال يكون كلا الجوابين غير تامّ في نفسه ؛ لأنّ الخبر المخالف لهذه الدلالة ـ سواء كانت مخالفته لها بنحو التباين أو العموم من وجه أو التقييد والتخصيص

٢٢٣

ونحوهما من موارد الجمع العرفي والقرينيّة ـ لا يخرج عن كونه مخالفا لها بحسب الدقّة والواقع ، وحينئذ يسقط عن الحجّيّة ويكون قاصرا عن رفع أصل الدلالة القرآنيّة في حال التعارض معها ؛ لأنّنا فرضنا بقاء الدلالة القرآنيّة على حالها حتّى وإن لم تكن حجّة لأسباب أخرى غير معارضة الخبر لها ؛ ولذلك لا ينفع كونه مخصّصا أو مقيّدا أو حاكما عليها لصدق عنوان المخالفة عليها في هذه الحالات أيضا.

ولا ينفع وجود العلم الإجمالي بصدور المخصّصات والمقيّدات ؛ لأنّ الدلالة القرآنيّة ليست مرتبطة بها ؛ لأنّ المفروض أنّها تبقى على حالها حتّى مع وجود تلك المخصّصات والمقيّدات بحيث تسقط الخبر المخالف لها حتّى فيما إذا لم تكن حجّة في رتبة سابقة.

وإن أريد بها المخالفة لدلالة قرآنيّة حجّة في نفسها وبقطع النظر عن الخبر المخالف لها فالجواب الثاني صحيح ؛ لأنّ الدلالة القرآنيّة ساقطة عن الحجّيّة بسبب العلم الإجمالي ما لم يدّع انحلاله.

وأمّا الجواب الأوّل فهو غير صحيح ؛ لأنّ الخاصّ مخالف لدلالة العامّ التي هي حجّة في نفسها وبقطع النظر عن ورود الخاصّ.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من المخالفة للكتاب مخالفة الخبر للدلالة القرآنيّة المفروغ عن حجّيّتها بقطع النظر عن مجيء الخبر المخالف لها ، بمعنى أنّها حجّة في نفسها قبل مجيء الخبر فمقتضى الحجّيّة موجود فيها إلى حين مجيء الخبر المخالف لها.

فعلى هذا الاحتمال يكون الجواب الثاني صحيحا ؛ لأنّ العلم الإجمالي بوجود المخصّصات والمقيّدات لعمومات وإطلاقات القرآن يشكّل قرينة متّصلة على أنّ المراد هو غير حالات المخالفة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوها ؛ لأنّه في هذه الحالات يجمع بينها جمعا عرفيّا بتقديم الخاصّ والمقيّد.

وأمّا في الحالات الأخرى فتقدّم العمومات والمطلقات وتوجب رفع اليد عن حجّيّة الخبر المخالف لها ، أو يقال بأنّ العلم الإجمالي يوجب التعارض الداخلي بين المطلقات والعمومات فيما إذا جاء المخصّص أو المقيّد ؛ لأنّه لمّا ثبتت المقيّدات والمخصّصات فيحتمل تقيّد هذا العامّ القرآني كما يحتمل بقاؤه على إطلاقه أو عمومه.

٢٢٤

وهكذا الحال بالنسبة لغيره من العمومات فإذا لم نلتزم بتقيّد شيء منها لزم من ذلك رفع اليد عن الخاصّ والمقيّد رأسا ، وهو خلف العلم الإجمالي فيلزم رفع اليد عن إطلاقها وعمومها.

وبذلك نلتزم بالتخصيص والتقييد ، إلا أن يقال بانحلال العلم الإجمالي بالمخصّصات والمقيّدات بما ثبت صدوره قطعا منها ، وأمّا غيرها فيشكّ في تخصيصها أو يشكّ في ورود المخصّص لها شكّا بدويّا ، ولكن هذا العلم الإجمالي دائرته أوسع ممّا علم الانحلال فيه فيبقى ثابتا في الدائرة الأصغر.

وأمّا الجواب الأوّل فلا يتمّ ؛ لأنّ التخصيص والتقييد ونحوهما وإن كانا من القرائن العرفيّة إلا أنّهما مع ذلك لا يخرجان عن كونهما مخالفين للكتاب أي للدلالة القرآنيّة الحجّة في نفسها فيشملها عموم وإطلاق روايات هذه المجموعة ويحكم بسقوطها عن الحجّيّة.

وإن أريد بها المخالفة لدلالة قرآنيّة واجدة لمقتضى الحجّيّة حتّى بعد ورود الخبر المخالف ، صحّ كلا الجوابين ؛ لأنّ مقتضى الحجّيّة في العامّ غير محفوظ بعد ورود القرينة المنفصلة ، واختصّت المخالفة المسقطة للخبر عن الحجّيّة بالمخالفة على وجه لا يصلح للقرينيّة.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من المخالفة للكتاب مخالفة الخبر للدلالة القرآنيّة التي فيها مقتضي الحجّيّة حتّى بعد ورود الخبر المخالف لها ، بمعنى أنّ الخبر المخالف لهذه الدلالة لا يسقط ولا يرفع اقتضاء هذه الدلالة للحجّيّة ، بل تبقى على اقتضائها للحجّيّة حتّى بعد مجيء الخبر ، فعلى هذا الاحتمال يتمّ كلا الجوابين.

أمّا الجواب الأوّل فلأنّ الخبر المخالف الدالّ على التخصيص أو التقييد ونحوهما يسقط الدلالة القرآنيّة عن الحجّيّة في مورده ، بحيث لا يبقى مقتضي للحجّيّة بعد ورود الخاصّ أو المقيّد في الدلالة القرآنيّة ، وحينئذ لا يكون الخبر مخالفا لدلالة قرآنيّة فيها مقتضي الحجّيّة بعد وروده ؛ لأنّ المفروض سقوطها بعد وروده فلا يكون مشمولا لهذه الروايات.

وأمّا الجواب الثاني فلأنّ العلم الإجمالي بوجود المقيّدات والمخصّصات يشكّل قرينة متّصلة على أنّ الدلالة القرآنيّة لا تبقى على الحجّيّة بعد ورود الخبر الدالّ على

٢٢٥

التخصيص أو التقييد ؛ لأنّها لو بقيت كذلك لم يثبت لدينا أيّ تخصيص أو تقييد ، وهو خلف الوجدان القاضي بصدورهما شرعا.

وهذا معناه أنّ الدلالة القرآنيّة ليس فيها مقتضي الحجّيّة بعد مجيء المخصّص أو المقيّد ، فلا يكون الخبر المخالف لها بهذا النحو من أنحاء المخالفة معارضا لدلالة قرآنيّة فيها مقتضي الحجّيّة بعد مجيئه فلا يكون مشمولا لموضوع روايات هذه المجموعة.

وأوجه هذه الاحتمالات أوسطها.

والأوجه من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الثاني ؛ لأنّ الظاهر عرفا من طرح الخبر المخالف للكتاب هو كونه مخالفا لدلالة قرآنيّة تكون حجّة في نفسها بقطع النظر عن مجيء الخبر المخالف لها ، بحيث يكون مقتضي الحجّيّة فيها محفوظا إلى حين مجيء الخبر المخالف ، وأمّا بعد مجيئه فقد يبقى مقتضي الحجّيّة فيها وقد لا يبقى.

ويمكن أن يجاب أيضا ـ بعد الاعتراف بتماميّة الإطلاق في روايات هذه المجموعة للمعارضة غير المستقرّة ـ : أنّ هناك مخصّصا لهذا الإطلاق ، وهو ما ورد في بعض الأخبار العلاجيّة ممّا يستفاد منه الفراغ عن حجّيّة الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه ، ففي رواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ... » (١).

فإنّ الظاهر من قوله : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان » أنّ الإمام عليه‌السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في نفسيهما لو لا التعارض ، فيكون دليلا على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في الحجّيّة الاقتضائيّة.

ويمكننا أن نجيب عن روايات هذه المجموعة بجواب آخر وحاصله : أنّنا لو سلّمنا وجود الإطلاق في هذه الروايات بحيث تشمل كلّ ما هو معارض للكتاب ، سواء كانت المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه أو كانت بنحو التخصيص والتقييد ونحوهما ، فمع ذلك نقول إنّها مخصّصة بغير موارد المخالفة بنحو التقييد والتخصيص.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٩.

٢٢٦

بمعنى أنّ الخبر المخالف بنحو التقييد والتخصيص ونحوهما من موارد الجمع العرفي خارج عن إطلاقها النافي للحجّيّة ؛ وذلك لما ورد في بعض الأخبار العلاجيّة من عرض الحديثين المتعارضين على الكتاب أوّلا والأخذ بالموافق وترك المخالف ، ثمّ عرضهما على أخبار العامّة في حالة مخالفتهما معا للكتاب. كما ورد ذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام.

فإنّ المستفاد من هذه الرواية أنّ مقتضي الحجّيّة لا يزال موجودا في الخبرين المتعارضين المخالفين للكتاب ، ممّا يعني أنّ مخالفة الخبر للكتاب لا تسلب الحجّيّة عنه ، وهذا معناه أنّ الإمام عليه‌السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بينهما ممّا يعني التسليم مسبقا بحجّيّتهما لو لا المعارضة ، والمفروض أنّهما مخالفان للكتاب ومع ذلك افترض أنّ هذه المخالفة غير قادحة في الحجّيّة لو لا المعارضة.

والحاصل : أنّ مثل رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله تثبت حجّيّة الخبر المخالف للكتاب وليس هناك أيّ مانع من العمل بالخبر سوى المعارضة مع الخبر الآخر ، وأمّا مجرّد مخالفته للكتاب فليست بنفسها مانعا بحيث تسلب الحجّيّة عنه.

وعليه فتكون هذه الرواية ونحوها معارضة للروايات الدالّة على طرح الخبر المخالف ، إلا أنّ هذه المعارضة ليست مستقرّة ؛ لأنّه يوجد جمع عرفي بينهما ولذلك نقول :

نعم ، لا يوجد فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب ؛ لأنّه ليس في مقام بيان هذه الحيثيّة ليتمّ فيه الإطلاق ، فلا بدّ من الاقتصار على المتيقّن من مفاده وهو مورد القرينيّة.

بقي شيء وهو أنّ رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله يستفاد منها حجّيّة الخبر المخالف للكتاب في نفسه لو لا المعارضة مع غيره كما ذكرنا ، وهذا بدوا يشمل جميع أقسام المخالفة للكتاب سواء كانت بنحو التباين والعموم من وجه أم كانت بنحو التقييد والتخصيص ونحوهما من أنواع القرينيّة ، ولذلك لا يمكن التخصيص بهذه الرواية لتلك الروايات ؛ لأنّ النسبة بينهما هي التباين الكلّي فيحكم بالتعارض والتساقط.

إلا أنّه يمكننا الجزم بعدم وجود الإطلاق في رواية عبد الرحمن المتقدّمة ؛ لأنّها

٢٢٧

ليست واردة في مقام البيان والتفهيم من هذه الناحية ، أي أنّها ليست بصدد إثبات حجّيّة الخبر المخالف ليتمسّك بإطلاقها لجميع أقسام المخالفة ، وإنّما هي بصدد علاج التعارض بين الخبرين.

ونحن قد استفدنا حجّيّة الخبر المخالف منها على أساس الدلالة الالتزامية العقليّة ؛ لأنّ فرض التعارض بين الخبرين وعلاجهما فرع التسليم بحجّيّتهما أي بوجود مقتضي الحجّيّة فيهما مسبقا ، وإلا لسقطا بنفسيهما في رتبة سابقة عن المعارضة.

ولذلك قلنا بحجّيّة الخبر المخالف في نفسه بالدلالة الالتزاميّة العقليّة ، ولمّا كانت الدلالة الالتزاميّة دليلا لبّيّا فيقتصر فيها على القدر المتيقّن ، وهو هنا المخالفة بنحو التخصيص والتقييد ونحوهما لا أكثر ؛ لأنّ الخبر المخالف إذا كان حجّة فهو حجّة إذا كان بهذا النحو ، وإذا فرض أنّ الحجّيّة تسلب عنه فهي تسلب في غير هذا المورد.

وحينئذ تكون رواية عبد الرحمن مختصّة بالخبر المخالف للكتاب بنحو موارد القرينيّة لا أكثر ، وحينئذ تكون النسبة بينها وبين روايات المجموعة الثالثة هي العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ تلك الروايات مطلقة لجميع أقسام الخبر المخالف ، ولذلك يجمع بينهما جمعا عرفيّا بتقدّم الخاصّ على العامّ أو المقيّد على المطلق ، وبه تخرج المخالفة بنحو موارد القرينيّة عن إطلاق تلك الروايات النافية للحجّيّة.

وبهذا ينتهي الكلام عن روايات العرض على الكتاب بمجموعاتها الثلاث ، وقد تبيّن منها أنّ الخبر المخالف للكتاب إذا كانت مخالفته بنحو التباين أو العموم من وجه يسقط عن الحجّيّة ، وأمّا إذا كانت مخالفته بنحو التقييد والتخصيص والحكومة ونحو ذلك من أنواع القرينيّة فيكون حجّة في نفسه ويتقدّم على عموم وإطلاق الدليل القرآني للقرينيّة.

وأمّا اشتراط أن يكون هناك شاهد قرآني على الخبر فهو غير تامّ وليس ملاكا للحجّيّة ، بل تكفي الموافقة للكتاب بمعنى عدم المخالفة بنحو التباين والعموم من وجه ، أو الموافقة بمعنى الموافقة لروح ومذاق القرآن.

* * *

٢٢٨

روايات العلاج

٢٢٩
٢٣٠

٢ ـ روايات العلاج

ويمكن تصنيف روايات العلاج إلى عدّة مجاميع ، أهمّها : مجموعة التخيير ، ومجموعة الترجيح.

القسم الثاني : روايات العلاج :

وهي الروايات التي تعالج موارد التعارض بين الدليلين الظنّيّين سندا ، فإنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة فيهما هي التساقط على قول المشهور ؛ للتعارض في دليل حجّيّة السند الشامل لهما ، أو بينه وبين دليل حجّيّة الظهور فيما إذا كان أحدهما أو كلاهما ظنّي الدلالة أيضا ، ونحن قلنا بإمكان إثبات الحجّيّة التخييريّة لأحدهما لا بعينه إذا كان دليل الحجّيّة لفظيّا ، وأثره نفي الاحتمال الثالث كما تقدّم.

وأمّا على ضوء هذه الروايات العلاجيّة فقد يقال بالخروج عن مقتضى القاعدة الأوّليّة ، والالتزام بعلاج الخبرين على أساس ما تفترضه روايات العلاج.

ومن هنا نقول : إنّ روايات العلاج يمكن تصنيفها إلى عدّة أقسام ، ولكنّنا نذكر أهمّ تلك الأقسام : وهي مجموعة التخيير ، ومجموعة الترجيح ، فهنا مطلبان :

روايات التخيير :

المجموعة الأولى : ما استدلّ به من الروايات على التخيير ، بمعنى جعل كل منهما حجّة على سبيل التخيير ، والحديث عن ذلك يقع تارة في مقام الثبوت وتصوير إمكان جعل الحجّيّة التخييريّة ، وأخرى في مقام الإثبات ومدى دلالة الروايات على ذلك.

المجموعة الأولى : روايات التخيير : وهي الروايات الدالّة على التخيير في الحجّيّة بين المتعارضين ، بمعنى أنّها تجعل كلاّ من الدليلين حجّة على نحو التخيير ، فإذا تعارض

٢٣١

خبران ظنّيّان وكان كلّ منهما واجدا لشرائط الحجّيّة لو لا المعارضة ، فهذه الروايات تثبت جواز الأخذ بأيّ واحد منهما ، وأنّ كلاّ منهما حجّة على سبيل التخيير بينه وبين الآخر.

ثمّ إنّ الكلام هنا يقع في مقامين :

المقام الأوّل : بحث ثبوتي حول إمكانيّة جعل الحجّيّة التخييريّة ومعقوليّتها في نفسها.

المقام الثاني : بحث إثباتي حول استفادة الحجّيّة التخييريّة من الروايات المدّعى دلالتها على التخيير ، وسوف نتكلّم عن البحثين تباعا :

أمّا البحث الثبوتي : فقد يقال فيه : إنّ الحجّيّة التخييريّة غير معقولة ؛ لأنّه إمّا أن يراد جعل حجّيّة واحدة أو جعل حجّيّتين مشروطتين.

أمّا البحث الثبوتي : فقد يشكل في معقوليّة جعل الحجّيّة التخييريّة.

وقبل بيان الإشكال في معقوليّة الحجّيّة التخييريّة تجدر الإشارة إلى مسألة مهمّة : وهي أنّ الحجّيّة التخييريّة يشترط فيها أربعة شروط ، إذا توفّرت جميعها كان القول بها معقولا ، وإلا فإنّ الإشكال في معقوليّتها يرجع دائما إلى فقدان أحد هذه الشروط الأربعة ، وهي :

أوّلا : ألاّ تكون الحجّيّة التخييريّة مستلزمة لفعليّة الحجّيّتين معا ، وإلا لزم من ذلك اجتماع النقيضين أو الضدّين أي التنجيز والتعذير معا.

ثانيا : ألاّ تكون الحجّيّة التخييريّة مستلزمة للدور أو اللغويّة ، وإلا لكان جعلها مستحيلا في نفسه.

ثالثا : ألاّ يكون إثبات الحجّيّة التخييريّة في أحد الطرفين معارضا بإثباتها في الطرف الآخر ، وإلا فيلزم من تعارضهما سقوطهما معا عن الحجّيّة أي يلزم من حجّيّتهما عدم حجّيّتهما.

رابعا : أن يكون العنوان الذي تنطبق عليه الحجّيّة التخييريّة يصدق عليه عرفا أنّه خبر ، وإلا فلا يكون مشمولا لإطلاق دليل الحجّيّة العامّ.

وعلى هذا فنقول : إنّ الإشكال في معقوليّة الحجّيّة التخييريّة يرجع إلى عدم تماميّة هذه الشروط سواء كانت بمعنى جعل حجّيّة واحدة على الجامع أو بمعنى جعل حجّيّتين مشروطتين ، ومن هنا ادّعى المشهور استحالتها بكلا النحوين :

٢٣٢

أمّا الأوّل : فهو ممتنع ؛ لأنّ هذه الحجّيّة الواحدة إن كانت ثابتة لأحد الخبرين بالخصوص فهو خلف تخييريّتها. وإن كانت ثابتة للجامع بين الخبرين بنحو مطلق الوجود ـ أي الجامع أينما وجد ـ لزم سريان الحجّيّة إلى كلا الفردين مع تعارضهما. وإن كانت ثابتة للجامع بنحو صرف الوجود لم تسر إلى كلّ من الخبرين ؛ لأنّ ما يتعلّق بصرف الوجود لا يسري إلى الفرد. ومن الواضح أنّ صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول ليكون حجّة في إثباته.

أمّا الأوّل : وهو جعل حجّيّة واحدة على الجامع فهو غير معقول ؛ وذلك لأنّ الجامع إمّا أن يكون مأخوذا بنحو مطلق الوجود ، وإمّا أن يكون مأخوذا بنحو صرف الوجود ، وكلاهما ممتنعان.

والمراد من مطلق الوجود هو الوجود الشائع الشامل المستغرق للأفراد ، بحيث يكون الشمول والاستغراق للأفراد مأخوذا في مفهومه ، بينما المراد من صرف الوجود هو ملاحظة الطبيعة فقط بقطع النظر عن الأفراد ، بحيث لا يكون هناك شموليّة واستغراقيّة ، بل الفرد على سبيل البدل فقط.

وعلى هذا فنقول : فإن كانت الحجّيّة التخييريّة ثابتة لأحد الخبرين بالخصوص أي تعيينا ، فهذا خلف ما فرض من كون الحجّيّة لأحدهما تخييريّة لا تعينيّة ، مضافا إلى كونه ترجيحا من دون مرجّح.

وإن كانت الحجّيّة التخييريّة ثابتة على الجامع بين الخبرين وكان الجامع مأخوذا بنحو مطلق الوجود ، فهذا يلزم منه سريان الحجّيّة التخييريّة من الجامع إلى الأفراد ، فيكون كلّ واحد من الخبرين مشمولا في نفسه للحجّيّة التخييريّة ، وحينئذ يلزم من الأخذ بها فيهما معا اجتماع المحذور ؛ لأنّه يؤدّي إلى فعليّة الحجّيّتين معا ، فيلزم محذور اجتماع النقيضين أو الضدّين أو التنجيز والتعذير معا ، فيختلّ الشرط الأوّل.

ويلزم منها أيضا فيما إذا أريد تطبيقها على أحدهما المعارضة مع تطبيقها على الآخر ؛ لأنّهما على حدّ واحد بالنسبة إليها فيلزم التعارض بينهما فيتساقطان وتكون حجّيّتهما مستلزمة لسقوط حجّيّتهما فيختلّ الشرط الثالث.

وإن كانت الحجّيّة التخييريّة ثابتة على الجامع بين الخبرين وكان مأخوذا بنحو صرف الوجود ، فهذا لا يلزم منه السريان مع الجامع إلى الأفراد ؛ لأنّ الملحوظ هو

٢٣٣

الطبيعة وهي تتحقّق بالفرد الأوّل وليس فيها نظر إلى الأفراد جميعا في مرتبة عرضيّة واحدة.

ولكن جعل الحجّيّة التخييريّة على هذا العنوان الجامع أي عنوان أحد الخبرين أو الجامع بين الخبرين فيه محذور آخر ، وهو أنّ هذا الجامع ليس مصداقا عرفا للخبر فلا يشمله دليل حجّيّة الخبر ؛ لأنّ دليل حجّيّة الخبر يشمل الخبر الذي له مدلول يحكي عن الكلام الصادر عن المعصوم ، وعنوان أحد الخبرين ليس خبرا حقيقة وليس له مدلول خاصّ به يحكي عنه ، وإنّما مدلوله أحد المدلولين في الخبرين ، والمفروض أنّه لا تعيّن لأحدهما على الآخر ، فيكون جعل الحجّيّة التخييريّة على الجامع لغوا ولا فائدة منه ، فيختلّ الشرطان الثاني والرابع.

وبهذا يظهر أنّ جعل الحجّيّة التخييريّة على عنوان واحد وهو الجامع غير معقول في نفسه ، سواء كان بنحو مطلق الوجود أم بنحو صرف الوجود.

وأمّا الثاني : فهو ممتنع أيضا ؛ لأنّ حجّيّة كلّ من المتعارضين إن كانت مشروطة بالالتزام به لزم عدم حجّيّتهما معا في حالة ترك الالتزام بشيء منهما ، وإن كانت مشروطة بترك الالتزام بالآخر لزمت حجّيّتهما معا في الحالة المذكورة.

وأمّا الثاني : وهو جعل حجّيّتين مشروطتين فهو غير معقول أيضا ؛ لأنّ الشرط إمّا أن يكون هو الالتزام به أو عدم الالتزام بالآخر ، وكلاهما ممتنعان :

أمّا إذا كانت الحجّيّة التخييريّة في كلّ منها مشروطة بالالتزام به فيلزم من ذلك أنّه إذا تركهما معا ألاّ يكون شيء منهما حجّة لعدم الالتزام به ، وهو خلف فرض الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّ لازمها حجّيّة أحدهما فيختلّ الشرط الثالث ؛ لأنّه يلزم من جعل الحجّيّة عليهما عدمها في هذه الحالة.

بل ويلزم اللغويّة من جعل الحجّيّة التخييريّة بهذا الشرط ؛ لأنّ الالتزام بالخبر بمعنى العمل به معناه إناطة الحجّيّة على العمل بالخبر ، ومع تحقّق العمل بالخبر يكون جعل الحجّيّة له لغوا وتحصيلا للحاصل ؛ لأنّ الغاية من جعل الحجّيّة هو التوصّل إلى العمل فيختلّ الشرط الثاني أيضا.

وأمّا إذا كانت الحجّيّة التخييريّة مشروطة بعدم الالتزام بالآخر أو بترك الالتزام

٢٣٤

بالآخر فيلزم من ذلك أنّه إذا تركهما معا أن يكونا فعليّين لتحقّق الشرط في كلّ منهما ، فيلزم اجتماع المتعارضين المتنافيين وهو مستحيل.

وهذا يعني اختلال الشرط الأوّل للزوم اجتماع النقيضين أو الضدّين في هذه الحالة. وبهذا يظهر أنّ جعل الحجّيّة التخييريّة المشروطة مستحيل أيضا.

والنتيجة على ضوء ذلك استحالة جعل الحجّيّة التخييريّة ثبوتا لوجود محذور ثبوتي فيها.

والجواب : أنّ بالإمكان تصوير التخيير بالالتزام بحجّيّة كلّ منهما بشرط ترك الالتزام بالآخر ، مع افتراض وجوب طريقي للالتزام بأحدهما.

والجواب عن ذلك : أنّه يمكننا تصوير معقوليّة الحجّيّة التخييريّة بمعنى جعل حجّيّتين مشروطتين ، والشرط فيهما هو ترك الالتزام بالآخر ، ولكن مع افتراض كون وجوب الالتزام بأحدهما وجوبا طريقيّا أي حكما ظاهريّا من أجل إبراز الاهتمام المولوي لتنجيز أحد الخبرين.

وتوضيحه : أنّ المولى إذا أراد التوصّل إلى جعل الحجّيّة التخييريّة فيمكنه أن يجعل حكمين :

الأوّل : يبيّن فيه أنّ الالتزام بأحد الخبرين واجب ظاهرا ، وهذا يفترض وجود وجوب طريقي ظاهري يحمل روح الحكم الظاهري من إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة للمولى ، وهذا الوجوب الطريقي يبيّن أنّ الاهتمام المولوي متعلّق بثبوت أحد الخبرين بنحو لا يرضى المولى بتفويته ، وحينئذ يثبت على المكلّف وجوب الالتزام بأحد الخبرين.

الثاني : يبيّن فيه الشرط المطلوب تحقّقه في كلّ من الخبرين ليكون هو الحجّة دون الآخر ، وإلا فإنّ عدم بيان الشرط يؤدّي إلى التعارض في تطبيق ذلك الوجوب الطريقي على الخبرين ؛ لأنّ كلاّ منهما قابل لأن يكون هو الخبر الذي يهتمّ به المولى ولا يرضى بتفويته ، والشرط هنا هو ترك الالتزام بالآخر فإنّه إذا ترك أحدهما كان الآخر حجّة.

وأمّا إذا تركهما معا فلن يكونا معا فعليّين ؛ لأنّ الجعل الأوّل يبيّن أنّ أحدهما فقط هو الواجب الفعلي ، ولذلك يقع التعارض والتساقط بينهما في حالة تركهما بلحاظ

٢٣٥

الفعليّة والحجّيّة ، مع أنّه لم يترك إلا فعليّة واحدة ولكنّها غير متعيّنة في أحدهما بالخصوص لتركه لهما معا.

فالصحيح إذا إمكان جعل الحجّيّة التخييريّة من دون محذور ثبوتي ؛ لأنّهما لن يكونا فعليّين معا ولن يقع التعارض بينهما ؛ لأنّ ترك أحدهما لا يتعارض مع الآخر الذي التزم به ؛ لأنّه ليس حجّة حال تركه.

وأمّا البحث الإثباتي فهناك روايات عديدة استدلّ بها على التخيير :

منها : رواية علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم لا تصلّهما إلا على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة عملت » (١).

وفقرة الاستدلال منها قوله عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة عملت » ، الواضح في الدلالة على التخيير وإمكان العمل بكلّ من الحديثين المتعارضين.

وأمّا البحث الإثباتي فقد يقال بوجود روايات تدلّ على التخيير في الحجّيّة بين المتعارضين :

منها : رواية علي بن مهزيار حيث جاء فيها قوله عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة عملت » جوابا على سؤال السائل عن الاختلاف في الحكم للمسألة المطروحة ، وأنّ اختلافهم ناشئ من اختلاف الرواية في ذلك.

وتقريب الاستدلال بها : أنّ الفقرة المذكورة تدلّ على التوسعة على المكلّف في حال الاختلاف بين الروايات ، وأنّه يمكنه العمل بأيّة رواية أراد ، ممّا يعني الحجّيّة التخييريّة بشرط الالتزام به ، فتكون الرواية حجّة عليه إذا التزم وعمل بها دون الأخرى.

وهذا معناه أنّ المتعارضين لا يرفع اليد عن حجّيّتهما ولا يحكم بسقوطهما معا ، كما هو مقتضى القاعدة الأوّليّة ، بل يكون كلّ منهما حجّة على نحو التخيير بينه وبين الآخر مشروطا بالالتزام به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٣٠ ، أبواب القبلة ، ب ١٥ ، ح ٨.

٢٣٦

ولكن نلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الظاهر منها إرادة التوسعة والتخيير الواقعي لا التخيير الظاهري بين الحجّيّتين ؛ لظهور كلّ من سؤال الراوي وجواب الإمام في ذلك.

الملاحظة الأولى : أنّ الرواية بصدد بيان التخيير الواقعي لا الظاهري ، والذي ينفع هو الثاني لا الأوّل.

وتوضيح ذلك : أنّ التخيير الواقعي معناه بيان الحكم الواقعي للقضيّة المسئول عنها ، فيكون الحكم الواقعي الثابت لها هو التخيير ، وهو بمعنى اختيار المكلّف للفعل أو الترك بحيث يكون كلّ منهما جائزا ، وهذا يتناسب مع كون الحكم في الواقع هو الإباحة أو الترخيص بالمعنى الأعمّ ؛ لأنّه في موارد الإباحة والترخيص والجواز بالمعنى الأعمّ يكون المكلّف مخيّرا بين الفعل والترك ، وإن كان الفعل أو الترك في بعض الموارد أرجح من الآخر إلا أنّه لا يتنافى مع التخيير واقعا.

بينما التخيير الظاهري معناه التخيير بين الحجّيّتين ، وذلك فيما إذا كان بصدد بيان ما هو الموقف الكلّي العامّ للفرضيّة ؛ كما إذا كان بصدد بيان حكم المتعارضين من الروايات بشكل عامّ ، فإنّ التخيير بينهما يعني التخيير في الحجّيّة وهي حكم ظاهري.

وعليه فالظاهر من هذه الرواية أنّ الإمام يبيّن الحكم الواقعي للواقعة الشخصيّة ، ويدلّ على ذلك السؤال المفروض من السائل فإنّه سؤال عن واقعة مشخّصة ، وجواب الإمام أيضا ؛ لأنّه يبيّن الحكم الواقعي ، وتوضيح ذلك :

أمّا ظهور السؤال فلأنّه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذي تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي ، على أنّ قوله : ( فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك ) كالصريح في أنّ السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة ، فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النظر في كلام الإمام عليه‌السلام إلى ذلك أيضا ؛ إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العامّ.

ذكرنا أنّ السؤال والجواب ظاهران في بيان الحكم الواقعي ، وتفصيل ذلك :

أمّا بالنسبة للسؤال : فقد افترض السائل في سؤاله ( اختلاف الحكم في ركعتي الفجر بسبب الاختلاف في الرواية ) ، وهذا معناه أنّه بصدد السؤال عن حكم هذه

٢٣٧

الواقعة التي وقع الاختلاف فيها بين أصحابه ، ممّا يعني أنّه يريد أن يستعلم عن الحكم الواقعي لهذه المسألة ، فيكون التخيير المستفاد من الجواب هو التخيير الواقعي.

مضافا إلى أنّ قول السائل : ( فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك ) سؤال عن الحكم الواقعي أيضا ؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام يعمل بالحكم الواقعي لهذه المسألة ؛ لأنّه معلوم لديه ، إذ لا معنى لفرض عدم اطّلاعه على الحكم الواقعي.

بل إنّ السائل يريد أن يحلّ المشكلة المختلف فيها ظاهرا ببيان الإمام لحكمها الواقعي الذي يحسم النزاع في المسألة ، ولا محصّل لأن يسأل عن الحكم الظاهري للواقعة مع فرض إمكان التوصّل إلى الحكم الواقعي بسؤال المعصوم عن ذلك ، ولو كان بصدد السؤال عن الحكم الظاهري لكان اللازم عليه فرض مسألة كلّيّة لا واقعة شخصيّة.

وعليه فمقتضى التطابق بين سؤال السائل عن الواقعة المشخّصة الظاهر في كونه بصدد استعلام الحكم الواقعي أن يكون جواب الإمام عليه‌السلام ناظرا إلى بيان الحكم الواقعي أيضا.

ولا معنى لأن يقال بأنّ جواب الإمام ناظر إلى بيان الحكم الظاهري العامّ الشامل لهذه الواقعة ولغيرها ؛ لأنّه بعد أن صار السؤال مشخّصا ومحدّدا طبق هذه الواقعة ، فلا وجه لأن يصرف نظر الإمام من بيان الحكم الواقعي إلى بيان الحكم الظاهري ؛ لأنّ تشخيص السؤال وتحديده ضمن مسألة جزئيّة يوجب قصر النظر إلى الحكم الواقعي فقط.

وأمّا ظهور الجواب في التخيير الواقعي فباعتبار أنّه المناسب مع حال الإمام عليه‌السلام العارف بالأحكام الواقعيّة والمتصدّي لبيانها فيما إذا كان السؤال عن واقعة معيّنة بالذات.

وأمّا بالنسبة للجواب : فإنّ تعبير الإمام عليه‌السلام بجملة « موسّع عليك بأيّة عملت » ناظر إلى بيان الحكم الواقعي ؛ وذلك لما تقدّم من قرينة السؤال في كونه عن واقعة شخصيّة ؛ ولأنّ الإمام عليه‌السلام بوصفه مشرّعا ومبيّنا للأحكام الواقعيّة للوقائع الجزئيّة فيكون ظاهر حاله أنّه في مقام بيان الحكم الواقعي ؛ إذ لا معنى لأن يبيّن الحكم الظاهري مع كونه قادرا على بيان حكمها الواقعي الذي يفترض بيانه من

٢٣٨

قبله ، فإنّ السائل يتوقّع من الإمام عليه‌السلام أن يبيّن له الحكم الواقعي ؛ لأنّ وظيفة الإمام الشرعيّة هي بيان أحكام الله عزّ وجلّ الواقعيّة.

والحاصل : أنّ مقتضى كون السؤال عن واقعة معيّنة شخصيّة أن يكون الحكم الذي يبيّنه الإمام هو الحكم الواقعي أيضا ؛ لأنّه موظّف شرعا ببيان الأحكام الواقعيّة على موضوعاتها الواقعيّة ، وليس بصدد بيان الحكم الظاهري للواقعة المشخّصة ؛ لأنّ بيان الحكم الظاهري يكون للموضوع الكلّي المفترض والمقدّر الوجود وليس للقضايا الجزئيّة.

وثانيا : لو تنزّلنا وافترضنا أنّ النظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجّيّة فلا يمكن أن يستفاد من الرواية التخيير في حالات التعارض المستقر ؛ لأنّ موردها التعارض بين مضمونين بينهما جمع عرفي بحمل النهي على الكراهة بقرينة الترخيص ، فقد يراد بالتخيير حينئذ التوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل النهي ؛ لعدم التنافي بينهما لكون النهي غير إلزامي ، لا جعل الحجّيّة التخييريّة بالمعنى المدّعى.

الملاحظة الثانية : أنّنا لو سلّمنا كون النظر في جواب الإمام عليه‌السلام إلى الحكم الظاهري ، إلا أنّنا لا نستفيد من ذلك التخيير الظاهري بمعنى التخيير بين الحجيّتين في مقام التعارض والتنافي بينهما ، بل المستفاد التخيير في مقام العمل.

وتوضيحه : أنّ التخيير بين الحجّيّتين يعني التخيير الأصولي ؛ لأنّه يعني التخيير بين المنجّزيّة والمعذّريّة في مقام الحجّيّة ، فالمكلّف إمّا أن يختار الحجيّة الدالّة على التنجيز أو يختار الحجّيّة الدالّة على التعذير في مقام التعارض بينهما.

وأمّا التخيير في مقام العمل فهو يعني التخيير الفقهي ؛ لأنّ المكلّف لا بدّ أن يعمل على طبق أحدهما ، فيكون الإمام عليه‌السلام بصدد بيان الوظيفة العمليّة وأنّها التخيير بين الحكمين ، فبأيّ الحكمين أخذ كان صوابا لثبوتهما معا واقعا.

والذي ينفعنا هو إثبات التخيير الأصولي الوارد في التعارض بين الحجّيّتين بمعنى عدم إمكان الجمع بينهما لمكان التنافي بينهما.

بينما المستفاد من هذه الرواية هو التخيير الفقهي في مقام العمل من أجل ثبوت

٢٣٩

كلا الحكمين واقعا ، والدليل على ذلك : هو أنّ التعارض الذي افترضه السائل بين الروايتين أو الحكمين هو من نوع التعارض غير المستقرّ ، أي التعارض الذي يكون فيه جمع عرفي بين المدلولين ، فإنّ الرواية الدالّة على كون الركعتين لا يصلّيهما إلا على الأرض والرواية الدالّة على جواز إيقاعهما في المحمل يجمع بينهما بحمل النهي على غير الحرمة والإلزام بقرينة الرواية الثانية الدالّة على الترخيص ، فيكون المراد من النهي هو الإرشاد إلى رجحان الصلاة على الأرض من الصلاة على المحمل ، وهذا معناه ثبوت كلا النحوين من الصلاة واقعا ، فهو مخيّر بينهما إن شاء أخذ بمفاد الترخيص وصلّى في المحمل ، وإن شاء أخذ بمفاد النهي غير الإلزامي وصلّى على الأرض ، إذ لا تنافي بينهما ؛ لأنّ النهي غير الإلزامي يجتمع مع الترخيص كالكراهة أو التنزيه.

وعليه فيكون نظر الإمام عليه‌السلام إلى بيان التخيير الفقهي في مقام العمل بكلا الحكمين لعدم التنافي بينهما ؛ لأنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا ، وهذا خارج عن محلّ الكلام الذي يدّعى فيه التخيير الأصولي بين الحجّيّتين في مقام التعارض والتنافي بينهما بحيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما.

وبهذا يظهر عدم تماميّة الاستدلال بالرواية على التخيير المدّعى.

ومنها : مكاتبة الحميري عن الحجّة عليه‌السلام إذ جاء فيها : يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد.

فكتب عليه‌السلام في الجواب : « أنّ فيه حديثين ، أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » (١).

وفقرة الاستدلال منها قوله عليه‌السلام « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٣ ، أبواب السجود ، ب ١٣ ، ح ٨.

٢٤٠