شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

ابتداء ، فإن كان أحدهما قرينة نوعيّة تمنع من انعقاد الظهورين معا فالكلام الثاني يكون قرينة ، وإن لم يكن كذلك بأن كان الظهور تامّا في كلّ منهما فلا يكون بينهما تلك القرينة النوعيّة.

وعلى هذا الضوء نعرف أنّ القرينيّة مع الاتّصال توجب إلغاء التعارض ونفيه حقيقة ، ومع الانفصال توجب الجمع العرفي بتقديم القرينة على ذي القرينة لما عرفت ، كما أنّ بناء العرف قائم على أنّ كلّ ما كان على فرض اتّصاله هادما لأصل الظهور فهو في حالة انفصاله يعتبر قرينة ويقدّم بملاك القرينيّة.

اختصاص الجمع العرفي بالقرينة المنفصلة : وعلى ضوء ما تقدّم تعرف أنّ الجمع العرفي إنّما يكون في القرائن المنفصلة لا المتّصلة ؛ وذلك لأنّ الجمع العرفي يكون في فرض وجود دلالتين إحداهما مفسّرة للأخرى.

وهذا المعنى لا يوجد في القرائن المتّصلة ؛ وذلك لأنّ الكلام سوف ينعقد على طبق القرينة المتّصلة من أوّل الأمر ، فلا يكون للكلام إلا دلالة تصديقية واحدة وإرادة جدّيّة واحدة فقط ؛ لما تقدّم من أنّ القرينة المتّصلة توجب هدم الظهور التصديقي وعدم انعقاده على طبق المدلول التصوّري الوضعي.

ممّا يعني تكوين ظهور للكلام على طبق القرينة كما في ( رأيت أسدا يرمي ) ، فإنّ كلمة ( يرمي ) توجب صرف الظهور التصوّري لكلمة ( الأسد ) عن معناها الوضعي وتكوّن ظهورا على طبقها وهو الرجل الشجاع.

وأمّا في القرينة المنفصلة فالظهور ينعقد أوّلا ثمّ يعارضه ظهور آخر أقوى منه بحيث يكون رافعا لحجّيّته ، وهذا معناه فرض وجود دلالتين تكون إحداهما مفسّرة للمراد النهائي من الأخرى ، بحيث يقع التعارض غير المستقرّ والذي نتيجته الجمع العرفي.

والحال أنّه في القرائن المتّصلة لا يوجد تعارض أصلا ، وبالتالي لا موضوع للجمع العرفي ، بينما في القرائن المنفصلة يوجد التعارض بين الظهورين ولكن يجمع بينهما جمعا عرفيّا ؛ لأنّه تعارض غير مستقرّ.

هذه هي نظريّة الجمع العرفي على وجه الإجمال ، وستتّضح معالمها وتفاصيلها أكثر فأكثر من خلال استعراض أقسام التعارض غير المستقرّ التي يجري فيها الجمع العرفي.

٤١

وخلاصة البحث من الجمع العرفي نقول : إنّ الجمع العرفي عبارة عن القرينيّة الخاصّة أو العامّة الموجبة لتفسير المراد الجدّي النهائي من الكلام ، وسوف تتّضح هذه النظريّة أكثر عند الحديث عن أقسام الجمع العرفي أو أقسام التعارض غير المستقرّ.

* * *

٤٢

أقسام الجمع العرفي

والتعارض غير المستقرّ

٤٣
٤٤

٢ ـ أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقرّ

الجهة الثانية يبحث فيها عن أقسام الجمع العرفي.

وأهمّها ، ثلاثة هي : الحكومة ـ التقييد ـ التخصيص.

الحكومة :

من أهمّ أقسام التعارض غير المستقرّ أن يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ، كما في « لا ربا بين الوالد وولده » (١) الحاكم على دليل حرمة الربا ، فإنّه في مثل ذلك يقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.

والحكومة تعبير عن تلك النكتة التي بها استحقّ الدليل الحاكم التقديم على محكومه ، فلكي نحدّد مفهومها لا بدّ أن نعرف نكتة التقديم وملاكه ، وفي ذلك اتّجاهان :

تعريف الحكومة : الحكومة : هي أن يكون هناك دليلان أحدهما فيه ما يكون قرينة لتفسير المراد من الدليل الآخر ، بحيث يكون الدليل الحاكم نافيا أو مثبتا لموضوع الدليل المحكوم أو لمحموله.

فمثلا قوله عليه‌السلام : « لا ربا بين الوالد وولده » يعتبر حاكما على دليل حرمة الربا الثابت بقوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا )(٢) وهنا يكون الدليل الحاكم رافعا لموضوع الربا في هذا المورد ، وأنّه لا يتحقّق الربا فيما بين الأب وابنه.

ومثلا قوله عليه‌السلام : « الطواف في البيت صلاة » يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة « لا صلاة إلا بطهور » ؛ لأنّه يثبت فردا من موضوع الصلاة

__________________

(١) انظر : وسائل الشيعة ١٨ : ١٣٥ ، أبواب الربا ، ب ٧ ، ح ١ وح ٣.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٤٥

ادّعاء واعتبارا وهو الطواف ، أي أنّه ينزّل الطواف منزلة الصلاة ، فهذا من الحكومة المثبتة للموضوع ادّعاء.

ومثلا قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » أو أدلّة نفي الحرج والضرر والعسر الثابتة كتابا وسنّة تعتبر حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعيّة ، بمعنى أنّه لم يشرّع الحكم الضرري أو الحرجي في الإسلام ، فهذا النوع من الحكومة بلحاظ الحكم أي أنّه ينفي ثبوت الحكم الضرري والحرجي في الإسلام.

ومن خلال هذه الأمثلة نلاحظ أنّ الحكومة عبارة عن تصرّف الدليل الحاكم بموضوع الدليل المحكوم نفيا أو إثباتا أو بالمحمول فيه كذلك ، ولكن النفي أو الإثبات في الحكومة اعتباري أو ادّعائي وليس حقيقيّا وواقعيّا.

فإنّ الربا لا ينتفي بين الأب وابنه حقيقة ؛ لأنّه واقع بينهما لا محالة ، إذ هو الزيادة والربح على المال إلا أنّه منتف تعبّدا ، أي أنّ الشارع لا يعتبر هذا الربا الواقعي ربا فينزله منزلة العدم.

والحكومة تعتبر من أقسام القرينيّة الشخصيّة التي أعدّها المتكلّم بنفسه لتفسير المراد النهائي من كلامه.

وهي من أهمّ أقسام التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّها أقوى وأصرح من التقييد والتخصيص والأظهريّة ؛ وذلك لأنّ المتكلّم بنفسه نصب هذه القرينة وأعدّها بشخصه ، بينما تلك القرائن كان إعدادها نوعيّا ؛ لأنّ العرف والعقلاء هم الذين يجعلونها قرائن مفسّرة لا شخص المتكلّم.

والبحث في الحكومة ينصبّ أوّلا عن النكتة الموجودة في الدليل الحاكم الموجبة لتفسير المراد النهائي من الدليل المحكوم ، فإنّه على أساس هذه النكتة أو الملاك أو الضابط كانت الحكومة من القرائن.

وهنا يوجد اتّجاهان لتفسير هذه النكتة والملاك التي كان التقديم لأجل وجودها :

الاتّجاه الأوّل لمدرسة المحقّق النائيني قدس الله روحه (١) ، وحاصله : أنّ الأخذ بالدليل الحاكم إنّما هو من أجل أنّه لا تعارض في الحقيقة بينه وبين الدليل المحكوم ؛ لأنّه لا ينفي مفاد الدليل المحكوم ، وإنّما يضيف إليه شيئا جديدا ، فإنّ مفاد الدليل

__________________

(١) راجع فوائد الأصول ٤ : ٤١٠ ، وأجود التقريرات ٢ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦.

٤٦

المحكوم مردّه دائما إلى قضيّة شرطيّة مؤدّاها في المثال المذكور : أنّه إذا كانت المعاملة ربا فهي محرّمة ، وكلّ قضيّة شرطيّة لا تتكفّل إثبات شرطها ، ولهذا يقال : إنّ صدق الشرطيّة لا يستبطن صدق طرفيها. ومفاد الدليل الحاكم قضيّة منجّزة فعليّة مؤدّاها في المثال نفي الشرط لتلك القضيّة الشرطيّة ، وأنّ معاملة الأب مع ابنه ليست ربا ، فلا بدّ من الأخذ بالدليلين معا.

ملاك الحكومة : ذكرنا أنّ الملاك والنكتة الموجودة في الدليل الحاكم هي الأساس الموجب لتقديمه على الدليل الحاكم ، ولكن يوجد اتّجاهان لتفسير هذه النكتة والملاك هما :

الاتّجاه الأوّل : ما ذكره الميرزا ومدرسته وحاصله كما في ( فوائد الأصول ) أن يقال : إنّ الدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم ؛ لأنّه لا تعارض بينهما أصلا ، بحيث يرجع مفاد أحد الدليلين إلى نحو تصرّف في عالم التشريع في عقد وضع الآخر ، كما هو الغالب مع بقاء الموضوع على حاله في عالم التكوين.

وهذا التصرّف تارة يكون بنحو الرفع لموضوع الآخر كما في حكومة الأمارات على الأصول أو حكومة الأصول على بعضها.

وأخرى يكون بإدخال ما يكون خارجا عن الموضوع حقيقة من قبيل : « الطواف في البيت صلاة » ، حيث أدخل الطواف في الصلاة فكان حاكما على أدلّة الطهارة مثلا كقوله : « لا صلاة إلا بطهور ».

وإمّا بالتصرّف في عقد الحمل كقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » بناء على كون الحرج والضرر من حالات الحكم لا الموضوع ، فإنّهما حاكمان على أدلّة الأحكام الأوّليّة.

وأمّا الوجه في تقديم الدليل الحاكم فهو أنّ الدليل المحكوم إنّما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه كما هو الشأن في كلّ القضايا الحقيقيّة ، والدليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته ، فلا يمكن أن يتعارض قولنا : ( أكرم العلماء ) مع قولنا : ( النحوي ليس بعالم ) أو ( المنجّم عالم ) ؛ لأنّ الدليل الحاكم دائما يتكفّل بيان ما لا يتكفّل بيانه الدليل المحكوم.

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٤٧

وقد أوضح السيّد الشهيد مراده من ذلك فقال : إنّ الدليل الحاكم يتكفّل شيئا جديدا إضافيّا لم يتعرّض له الدليل المحكوم ، وهو بيان أنّ هذا المورد موضوع أو ليس بموضوع ، بينما الدليل المحكوم يتكفّل ببيان القضيّة الشرطيّة ككلّ القضايا الحقيقيّة ؛ لأنّ مفادها وجوهرها القضيّة الشرطيّة.

ففي مثال الربا يكون الدليل المحكوم مفاده : ( أنّ المعاملة إذا كانت ربويّة فهي محرّمة ) ، أي يبيّن ثبوت الحكم على فرض ثبوت الشرط أو الموضوع ، ولا يتعرّض إلى أنّ الشرط في هذا المورد ثابت أو ليس بثابت ؛ لأنّ صدق الشرطيّة إنّما هو بصدق طرفيها في عالم جعلها لا في عالم الخارج والتكوين.

ولذلك لا يقع التعارض بين الدليلين ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يتعرّض لمطلب لا يتعرّض له الآخر فيمكن الأخذ بهما ؛ لأنّه لا تنافي بين مفادهما أصلا لاختلاف الجهة في كلّ منهما.

وهذا الاتّجاه غير صحيح ؛ لأنّ دليل حرمة الربا موضوعه ما كان ربا في الواقع ، سواء نفيت عنه الربويّة ادّعاء في لسان الشارع أو لا ، والدليل الحاكم لا ينفي صفة الربويّة حقيقة وإنّما ينفيها ادّعاء ، وهذا يعني أنّه لا ينفي الشرط في القضيّة الشرطيّة المفادة في الدليل المحكوم ، بل الشرط محرز وجدانا ، وبهذا يحصل التعارض بين الدليلين ، فلا بدّ من تخريج لتقديم الدليل الحاكم مع الاعتراف بالتعارض.

ويرد على هذا الاتّجاه : أنّ ما ذكره من عدم وقوع التعارض بين الدليلين الحاكم والمحكوم غير تامّ ، بل التعارض واقع بينهما لا محالة وإن كان هذا التعارض غير مستقرّ ؛ لأنّه في النتيجة يتقدّم الدليل الحاكم على المحكوم.

أمّا وقوع التعارض بين الدليلين فلأنّ الدليل المحكوم مفاده ـ كما في مثال الربا ـ أنّه متى ما تحقّق الربا واقعا وحقيقة كان حراما ، أي ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الشرط أو الموضوع واقعا.

والثبوت الواقعي للشرط أو الموضوع يشمل ما إذا كان هناك نفي تعبّدي للموضوع أو الشرط وما إذا لم يكن مثل ذلك ؛ لأنّه في كلا الموردين الربا متحقّق واقعا وإن نفاه الشارع في بعض الموارد ، إلا أنّ نفي الشارع له تعبّدا لا يعني انقلاب

٤٨

الواقع وانتفاء الربا حقيقة ؛ وذلك لأنّ الربا معناه الزيادة الناشئة من المعاملة أو القرض ، وهذه الزيادة موجودة حقيقة وواقعا حتّى في المورد الذي ينفيه الشارع ؛ لأنّ الزيادة متحقّقة بين الولد وابنه وجدانا.

ومن جهة الدليل الحاكم فإنّه ينفي تعبّدا وادّعاء ثبوت الشرط أو الموضوع في هذا المورد أو ذاك ، ولكنّه لا ينفي ثبوت الشرط أو الموضوع حقيقة وواقعا ، ممّا يعني أنّ الشرط أو الموضوع لا يزال ثابتا في الواقع ، فالدليل الحاكم لا ينفي الشرط في القضيّة الشرطيّة وجدانا.

وعليه ، ففي الربا بين الوالد والولد الربا حقيقة موجود ؛ لأنّ الزيادة موجودة وجدانا ، وحينئذ يقع التعارض بين الدليل الحاكم الذي ينفي الحكم عن هذا المورد وبين الدليل المحكوم الذي يثبت هذا الحكم لهذا المورد.

ونحن وإن كنّا نشعر وجدانا بتقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم إلا أنّ هذا التقديم مسبوق بوجود التعارض بينهما ؛ لأنّ موضوعهما واحد في الخارج (١).

__________________

(١) هذا ما ذكره السيّد الشهيد هنا ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك : أنّه لا يتمّ في مثل حكومة أدلّة نفي الضرر والحرج ؛ لأنّ أدلّتها ناظرة إلى نفي الحكم ، والأدلّة الأوّليّة ناظرة إلى ثبوت الحكم ، ممّا يعني أنّ الموضوع فيهما واحد وهو الحكم ، فأدلّة الضرر والحرج تنفيه بينما الأدلّة الأوّليّة بإطلاقها وعمومها تثبت الحكم حتّى في موارد الضرر والحرج ؛ فالتعارض واقع لا محالة ، ولا يمكن حلّه بما ذكره ؛ لأنّه ليس الدليل المحكوم ناظرا إلى القضيّة الشرطيّة بينما الدليل الحاكم ناظر إلى نفي أو ثبوت الموضوع أو الشرط ، بل كلاهما ناظران إلى الحكم نفيا وإثباتا.

مضافا إلى أنّ نفي الموضوع أو الشرط أو إثباتهما في الدليل الحاكم إنّما لا يوجب التعارض فيما إذا كان نفيا أو إثباتا حقيقيّا وواقعيّا ، كما هو الحال في دليل الأمارات مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّ ثبوت البيان في الأمارات إن كان حقيقيّا ارتفع موضوع القاعدة حقيقة ولا تعارض ، وإن لم يكن واقعيّا فالموضوع ثابت واقعا فيقع التعارض بينهما لا محالة.

وهذا معناه أنّ نفي التعارض يؤدّي دائما إلى النفي أو الإثبات الواقعيّين ، وهذا هو الورود لا الحكومة ؛ لأنّ الورود كما تقدّم ينفي أو يثبت الفرد أو الموضوع واقعا ، ولكن بلسان التعبّد أي طريقه هو التعبّد ؛ لأنّ النفي أو الإثبات الواقعيّين تارة يكونان من ذاتهما بأن كان هذا الفرد خارجا أو داخلا من ذاته كما في دخول العالم في قولنا : ( أكرم العلماء ) وخروج ...... الجاهل منه ، وأخرى يكونان بلسان التعبّد وعن طريق الشارع كما في ثبوت البيان والعلم بالأمارات والأصول ودخولهما في موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وكما في خروج الشكّ بقيام الأمارات والأصول في مورده ، وبهذا يظهر أنّ هذا التخريج لا يكفي وليس تامّا لبيان النكتة والملاك في تقديم الحاكم على المحكوم.

٤٩

الاتّجاه الثاني : وهو الصحيح ، وحاصله : أنّه بعد الاعتراف بوجود التعارض بين الدليلين يقدّم الدليل الحاكم تطبيقا لنظريّة الجمع العرفي المتقدّمة ؛ لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ، وهذا النظر ظاهر في أنّ المتكلّم قد أعدّه لتفسير كلامه الآخر فيكون قرينة ، ومع وجود القرينة لا يشمل دليل الحجّيّة ذا القرينة ؛ لأنّ دليل حجّيّة الظهور مقيّد بالظهور الذي لم يعدّ المتكلّم قرينة لتفسيره ، فبالدليل الناظر المعدّ لذلك يرتفع موضوع حجّيّة الظهور في الدليل المحكوم ، سواء كان الدليل الحاكم متّصلا أو منفصلا ، غير أنّه مع الاتّصال لا ينعقد ظهور تصديقي في الدليل المحكوم أصلا ، وبهذا لا يوجد تعارض بين الدليلين أساسا ، ومع الانفصال ينعقد ولكن لا يكون حجّة لما عرفت.

الاتّجاه الثاني : ما يختاره السيّد الشهيد وحاصله : أنّ وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو النظر.

وبيان ذلك : أنّه مع وجود الدليلين يقع التعارض بينهما كما عرفنا ؛ لأنّ الدليل الحاكم لا ينفي موضوع الدليل المحكوم حقيقة وإنّما ينفيه ادّعاء وتعبّدا ، ولكن هذا التعارض غير مستقرّ ؛ لأنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا على أساس الإعداد الشخصي للقرينة.

فالمتكلّم عند ما جاء بالدليل الحاكم يكون قد أعدّه إعدادا شخصيّا لبيان وتفسير مراده النهائي من الدليل المحكوم ؛ وذلك لأنّ العرف يرى أنّ المتكلّم من حقّه أن ينصب قرينة على تحديد مراده النهائي من كلامه ، فيكون الدليل الحاكم حينئذ قرينة أعدّها المتكلّم لبيان هذا المراد النهائي ، ومع وجود هذه القرينة الشخصيّة سوف يكون الظهور في الدليل الحاكم هو الحجّة دون الظهور في الدليل المحكوم ، فإنّه لا يشمله دليل الحجّيّة لارتفاع موضوع حجّيّة الظهور عنه.

وبكلمة أوضح : إنّ العرف يرى أنّ المتكلّم له أن ينصب القرينة المحدّدة لمدلول كلامه النهائي ، وله ألاّ ينصب مثل هذه القرينة.

٥٠

فإن نصب القرينة لتحديد مراده النهائي فإن كانت في دليل متّصل فتقدّم أنّه لا يوجد تعارض أصلا ؛ لأنّه لن ينعقد للكلام الأوّل ظهور مستقلّ عن القرينة ، بل ينعقد الظهور من أوّل الأمر على طبق القرينة ، ممّا يعني أنّ القرينة تعتبر صارفة لظهور ذي القرينة رأسا ، وتكون حجّيّة الظهور ابتداء موضوعها الظهور الذي انعقد على طبق القرينة ، كما في قولنا : ( أكرم العلماء والنحوي ليس بعالم ).

وأمّا إن كانت القرينة منفصلة بأن جاء بكلامين مع فاصل زماني بينهما فقال : ( أكرم العلماء ) ، ثمّ قال : ( النحوي ليس بعالم ) أو ( المتّقي عالم ) ، فهنا ينعقد للكلام الأوّل ظهور وينعقد للكلام الثاني ظهور أيضا ، ويقع التعارض بين الظهورين ، ولكن لمّا كان المتكلّم له الحقّ بأن يحدّد مراده النهائي وفق القرينة سواء كانت متّصلة أم منفصلة ـ وهذا الحقّ ثابت له على أساس أنّ العرف يرى ذلك ـ فتكون القرينة المنفصلة في الكلام الثاني رافعة لموضوع الحجّيّة عنه.

بمعنى أنّ حجّيّة الظهور في الكلام الأوّل سوف تنهدم وترتفع لوجود المعارض الأقوى ، وهو القرينة الشخصيّة التي أعدّها المتكلّم بنفسه وكان من خلال الكلام الثاني ناظرا إلى الكلام الأوّل ومبيّنا لمراده الجدّي النهائي منه.

والحاصل : أنّ حجّيّة الظهور مقيّدة بأن لا ينصب القرينة على الخلاف ، فإذا نصب القرينة على الخلاف كانت رافعة لحجّيّة الظهور فيما إذا كانت منفصلة ، وكانت هادمة لأصل الظهور فضلا عن حجّيّته إذا كانت متّصلة.

وبذلك نعرف أنّ ملاك الحكومة هو النظر الشخصي للمتكلّم بحيث يكون قد أعدّ الكلام الثاني ليكون قرينة على تفسير مراده النهائي ، ولذلك يتقدّم الدليل الحاكم وفقا لتقدّم القرينة على ذي القرينة.

ثمّ إنّ النظر الذي هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية :

الأوّل : أن يكون مسوقا مساق التفسير بأن يقول : أعني بذلك لكلام كذا ، ونحو ذلك.

الثاني : أن يكون مسوقا مساق نفي موضوع الحكم في الدليل الآخر ، وحيث إنّه غير منتف حقيقة فيكون هذا النفي ظاهرا في ادّعاء نفي الموضوع وناظرا إلى نفي الحكم حقيقة.

٥١

الثالث : أن يكون التقبّل العرفي لمفاد الدليل الحاكم مبنيّا على افتراض مدلول الدليل المحكوم في رتبة سابقة ، كما في « لا ضرر » أو « لا ينجّس الماء ما لا نفس له » بالنسبة إلى أدلّة الأحكام وأدلّة التنجيس.

أقسام النظر : عرفنا أنّ الحكومة ملاكها النظر ، وهذا النظر الشخصي يقسّم إلى ثلاثة أقسام ، وبلحاظه تقسّم الحكومة إلى ثلاثة أقسام أيضا :

الأوّل : الحكومة التفسيريّة ، ومعناها أن يكون النظر الشخصي الذي أعدّه المتكلّم ثابتا ببعض الأدوات الدالّة على التفسير أو ما يشبهها من قبيل : ( أعني ، أقصد ، مرادي ، أي ... ) إلى آخره.

فإذا قال : ( أكرم كلّ عالم ) ، ثمّ قال بعده : ( أعني بذلك الفقهاء ) ، فهذا الكلام الثاني يعتبر حاكما وناظرا إلى الكلام الأوّل ، وهذا النظر ثبت بكلمة ( أعني ) الدالّة على التفسير ، ولذلك سمّيت الحكومة تفسيريّة هنا.

الثاني : الحكومة التنزيليّة ، ومعناها الادّعاء والتعبّد برفع الموضوع أو ثبوته ، ممّا يعني أنّ الموضوع موجود واقعا وحقيقة وليس منتفيا ، أو أنّه منتف واقعا وحقيقة وليس ثابتا ، ولكن لمّا ادّعى الشارع ذلك وتعبّدنا بانتفاء الموضوع أو بثبوته فيكون هذا اللسان أي نفي الموضوع أو إثباته ناظرا في الحقيقة إلى نفي الحكم أو إثباته ؛ لأنّ أحد الألسنة البلاغيّة لنفي الحكم هي نفي موضوعه أو لإثباته إثبات موضوعه.

ويكون النظر ثابتا حينئذ على أساس هذا اللسان الادّعائي التنزيلي ، ولذلك سمّيت الحكومة تنزيليّة ؛ من قبيل قوله عليه‌السلام : « لا ربا بين الوالد وولده » الحاكم على دليل حرمة الربا وهو قوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) ؛ ومن قبيل قوله عليه‌السلام : « الطواف في البيت صلاة » الحاكم على دليل « لا صلاة إلا بطهور ».

فإنّ المثال الأوّل ينفي فيه الدليل الحاكم الموضوع ادّعاء ، بمعنى تنزيله منزلة العدم ، ولمّا كان موجودا حقيقة فالنفي للموضوع يكون ناظرا إلى نفي الحكم حقيقة ، وبذلك يثبت النظر بملاك التنزيل.

والمثال الثاني يثبت الدليل الحاكم فيه كون الطواف فردا أو موضوعا من الصلاة ، ولمّا لم يكن كذلك حقيقة فيكون ناظرا إلى إثبات حكم الصلاة له حقيقة ، وبذلك يكون ناظرا إلى دليل شرطيّة الطهارة بملاك التنزيل.

٥٢

الثالث : الحكومة المضمونيّة ، ومعناها أن يكون مضمون أحد الدليلين قد لوحظ فيه مضمون الدليل الآخر تقديرا ، كما في قوله : « لا ضرر ولا ضرار » الحاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، فإنّه قد افترض فيه أنّ تلك الأدلّة إن أدّت إلى حكم ضرري فهو منتف ، أي أنّه ناظر إلى مضمون الدليل المحكوم على فرض حصوله.

وهكذا بالنسبة لدليل : « لا ينجّس الماء ما لا نفس له » الحاكم على أدلّة النجاسة ، فإنّه يفترض أنّ تلك الأدلّة في حال تحقّق هذا المورد فتكون منتفية عنه ، أي أنّه ينفيها على فرض حصولها في هذا المورد.

وإذا قارنّا بين الاتّجاهين أمكننا أن ندرك فارقين أساسيّين :

أحدهما : أنّ حكومة الدليل الحاكم على الاتّجاه الثاني تتوقّف على إثبات النظر ، وأمّا على الاتّجاه الأوّل فيكون الدليل الحاكم بمثابة الدليل الوارد ، وقد مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) أنّه لا يحتاج تقدّمه على دليل إلى إثبات نظره إلى مفاده بالخصوص ، بل يكفي كونه متصرّفا في موضوعه.

الفارق بين الاتّجاهين : يوجد فارقان أساسيّان بين الاتّجاهين المذكورين في تفسير الملاك والمناط للحكومة :

الفارق الأوّل : أنّه على الاتّجاه الثاني الذي اختاره السيّد الشهيد يكون الملاك في الحكومة هو النظر ، ولذلك نحتاج إلى إثبات النظر بأحد الطرق المتقدّمة سابقا لتقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، وأمّا إذا لم يحرز النظر بأن قطع بعدمه أو شكّ فيه فلا حكومة بين الدليلين إمّا جزما وإمّا لكون الشكّ شكّا في الشبهة المصداقيّة.

وعلى هذا الاتّجاه نعرف أنّ الفارق بين الحكومة والورود يكون في أمرين :

الأوّل : أنّ الحكومة يشترط فيها النظر بينما الورود لا يشترط فيه النظر.

الثاني : أنّ الحكومة تنفي أو تثبت الموضوع ادّعاء وتعبّدا لا حقيقة ، بينما الورود ينفي أو يثبت الموضوع حقيقة.

وأمّا الاتّجاه الأوّل الذي اختاره الميرزا ومدرسته من كون الملاك في الحكومة هو أنّ الدليل الحاكم فيه خصوصيّة إضافيّة زائدة عمّا هو موجود في الدليل المحكوم ، فالمهمّ هو إحراز وجود مثل هذه الزيادة والإضافة سواء كان ناظرا إلى الدليل المحكوم أم لا ،

__________________

(١) في بحث التعارض ، تحت عنوان : الحكم الأوّل قاعدة الجمع العرفي.

٥٣

فإنّ وجود الخصوصيّة وعدمها أمر واقعي إمّا أن توجد أو لا توجد ، فمع وجودها يكفي لتقديم الدليل الحاكم سواء كان ناظرا إلى الدليل المحكوم أم لا.

وعلى هذا الاتّجاه سوف يكون الفارق بين الحكومة والورود في أمر واحد فقط ؛ وذلك لأنّهما يشتركان معا في عدم اشتراط النظر ، وأمّا الفارق بينهما فهو أنّ الحكومة تنفي أو تثبت ادّعاء وتعبّدا ، بينما الورود ينفي أو يثبت حقيقة لا ادعاء وتعبّدا.

والفارق الآخر : أنّ الاتّجاه الثاني يفسّر حكومة مثل : « لا حرج » و « لا ضرر » و « لا ينجّس الماء ما لا نفس له » ؛ لوجود النظر فيها ، وأمّا الاتّجاه الأوّل فلا يمكنه أن يفسّر الحكومة إلا فيما إذا كان لسانه لسان نفي الموضوع للدليل الآخر.

الفارق الثاني : أنّه على الاتّجاه الثاني يمكن تفسير حكومة أدلّة نفي الحرج والضرر على الأحكام الأوّليّة على أساس النظر فيها إلى مضمون تلك الأحكام تقديرا بحيث تقدّر وجود الحكم الضرري أو الحرجي وتنفيه.

وهكذا مثل دليل : « لا ينجّس الماء ما لا نفس له » الحاكم على أدلّة التنجيس ، فإنّه يفترض مضمون تلك الأدلّة تقديرا وينفيه عن هذا المورد ، والملاك هو النظر ، وبهذا يكون ملاك النظر جاريا في تمام أقسام الحكومة.

وأمّا بناء على الاتّجاه الأوّل القائل باشتمال الدليل الحاكم على خصوصيّة إضافيّة زائدة ، فهذا يمكن أن يفسّر به حكومة الدليل الحاكم النافي أو المثبت لموضوع الدليل المحكوم ، وأمّا حكومة أدلّة نفي الضرر والحرج ونفي التنجيس عن الماء بالنسبة لما لا نفس له فهذا لا يمكن تفسيرها على أساس الخصوصيّة الزائدة فيها ؛ لعدم اشتمالها على مطلب زائد وإضافي (١).

* * *

__________________

(١) ولكن يمكن أن يقال : إنّه على الاتجاه الأوّل يكون دليل نفي الضرر والحرج رافعا للحكم الضرري أو الحرجي ، ففيه تصرّف في أدلّة الأحكام الأوّليّة بحيث يضيّق من دائرتها فتختصّ في الأحكام التي لا توجب الضرر أو الحرج ؛ لأنّ الحكومة هنا تنفي الحكم بمعنى أنّها تضيّق الحكم في أدلّة الأحكام الأوّليّة وتصرفه عن الحكم الضرري أو الحرجي ، ولذلك كان المناط والملاك موجودا هنا أيضا.

٥٤

التقييد

٥٥
٥٦

التقييد

إذا جاء دليل مطلق ودليل على التقييد ، فدليل التقييد على أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون دالا على التقييد بعنوانه ، فيكون ناظرا بلسانه التقييدي إلى المطلق ، ويقدّم عليه باعتباره حاكما ، ويدخل في القسم المتقدّم.

تقدّم سابقا أنّ القرينيّة تارة تكون شخصيّة وأخرى نوعيّة ، وذكرنا الحكومة وقلنا : إنّها من القرينيّة الشخصيّة التي يعدّها المتكلّم نفسه ، ولذلك احتاجت إلى النظر ، وأمّا القرينيّة النوعيّة فهي لا تحتاج إلى النظر ، بل يكفي أن يكون الكلام الثاني على فرض اتّصاله بالأوّل هادما لظهوره ، ومنها التقييد والتخصيص والأظهريّة.

أمّا التقييد : فهو أن يكون لدينا دليل مطلق ثمّ يأتي دليل دالّ على التقييد بحيث يكون الدليل الدالّ على التقييد هادما للإطلاق في الدليل المطلق الثابت على أساس قرينة الحكمة.

ثمّ إنّ دليل التقييد يمكن أن يفرض على أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : أن يكون الدليل الدالّ على التقييد دالاّ على ذلك بعنوان التقييد ، كما إذا قيل : ( اعتق رقبة ) ثمّ قيل : ( عتق الرقبة مقيّد بكونها مؤمنة ) ، فهاهنا لا إشكال في تقدّم دليل التقييد على دليل الإطلاق من باب الحكومة ؛ لأنّه يكون ناظرا بلسانه التقييدي إلى الدليل المطلق ومفسّرا له تفسيرا شخصيّا ، بمعنى أنّ المتكلّم أراد بكلامه الثاني أن يفسّر مقصوده النهائي من كلامه الأوّل ، وهذا خارج عن التقييد المبحوث عنه هنا ؛ لأنّه ليس إعدادا نوعيّا بل شخصي ، ويكون من باب الحكومة التفسيريّة حيث إنّ النظر كان ثابتا على أساس التفسير.

القسم الثاني : أن يكون مفاده ثبوت سنخ الحكم الوارد في الدليل المطلق للمقيّد ، كما إذا جاء خطاب ( أعتق رقبة ) ثمّ خطاب ( أعتق رقبة مؤمنة ).

٥٧

وفي هذه الحالة إن لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض ، وإن علمت وحدة الحكم المدلول للخطابين وقع التعارض بين ظهور الأوّل في الإطلاق بقرينة الحكمة وظهور الثاني في احترازيّة القيود.

القسم الثاني من أقسام التقييد : ألاّ يكون دليل التقييد دالاّ على التقييد بعنوانه ، وإنّما يدلّ على ثبوت الحكم الوارد في الدليل المطلق للدليل المقيّد ، فيكونان متسانخين بلحاظ الحكم ، ولكن أحدهما يثبت الحكم للمطلق والآخر يثبته للمقيّد.

كما إذا قيل : ( أعتق رقبة ) ثمّ قيل : ( أعتق رقبة مؤمنة ) ، فهنا كلا الدليلين يثبتان الحكم وهو وجوب العتق ، ولكن أحدهما يثبته للرقبة مطلقا ، والآخر يثبته للرقبة المؤمنة ، وفي هذه الحالة تارة يكون الحكم واحدا فيهما وأخرى يكون متعدّدا.

فإن علم بتعدّد الحكم أو لم يعلم بكون الحكم واحدا فيهما فهنا لا تعارض بين الدليلين ، بل يؤخذ بهما معا ، ويكون المطلوب نحوين من العتق أحدهما عتق للرقبة مطلقا ، والآخر عتق لخصوص الرقبة المؤمنة ، وهذا معناه أنّ المكلّف يجب عليه كلا الأمرين فيعتق الرقبة المؤمنة امتثالا لدليل التقييد ويعتق الرقبة المؤمنة أو الكافرة امتثالا لدليل الإطلاق ، ولا تعارض بينهما ؛ لأنّه يمكنه امتثالهما معا في الخارج ؛ لأنّهما داخلان تحت قدرة واختيار المكلّف ، ولأنّه يمكن أن يكون الملاك بنظر الشارع متعدّدا أيضا ، بحيث تتعلّق المبادئ بعتق مطلق الرقبة ، ثمّ تتعلّق بعتق خصوص الرقبة المؤمنة ، ولا تنافي في ذلك ؛ لأنّ الرقبة المؤمنة وإن كانت داخلة تحت الحكم الأوّل وتشملها مبادئه إلا أنّها داخلة فيه بعنوانها لا بشخصها ، أي بلحاظ كونها رقبة من دون دخالة لخصوصيّة الإيمان.

وأمّا في الحكم الثاني فهي مشمولة للمبادئ فيه بلحاظ خصوصيّة الإيمان ، فلا تنافي ولا اجتماع للمثلين لاختلاف الجهة أو العنوان ؛ لأنّ مبادئ الأوّل منصبّة على الرقبة بينما مبادئ الثاني منصبّة على الإيمان.

وأمّا إن كان الحكم واحدا بحيث يعلم أنّ للشارع حكما واحدا فقط في هذا المورد ، فهنا يقع التعارض بين الدليلين لا محالة ؛ لأنّ دليل الإطلاق يدلّ على أنّ حكم الشارع متعلّق بمطلق الرقبة ، بينما دليل التقييد يدلّ على أنّ الحكم متعلّق بالرقبة المؤمنة

٥٨

لا غير ، فيقع التعارض بين الإطلاق الثابت بقرينة الحكمة وبين التقييد الثابت باحترازيّة القيود ؛ إذ لا يمكن أن يكون الحكم الواحد في نفس الوقت مطلقا ومقيّدا.

وحينئذ فإن كان الخطابان متّصلين لم ينعقد للأوّل ظهور في الإطلاق ؛ لأنّه فرع عدم ذكر ما يدلّ على القيد في الكلام ، والخطاب الآخر المتّصل يدلّ على القيد ، فلا تجري قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق.

وإن كان الخطابان منفصلين انعقد الظهور في كلّ منهما ـ لما تقدّم في بحث الإطلاق (١) من أنّ الإطلاق ينعقد بمجرّد عدم مجيء القرينة على القيد في شخص الكلام ـ وقدّم الظهور الثاني ؛ لأنّه قرينة ، بدليل إعدامه لظهور المطلق في فرض الاتصال. وقد تقدّم أنّ البناء العرفي على أنّ كلّ ما يهدم أصل الظهور في الكلام عند اتّصاله به فهو قرينة عليه في فرض الانفصال ويقدّم بملاك القرينيّة.

ثمّ إنّه في حالة العلم بكون الحكم واحدا بحيث يقع التعارض بين الدليلين تارة يكونان متّصلين وأخرى منفصلين.

فإن كانا متّصلين كما إذا قيل : ( أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ) ، فهنا يكون دليل التقييد المتّصل هادما لأصل ظهور الدليل الأوّل في الإطلاق ، بمعنى أنّه يمنع من أصل انعقاد الإطلاق في الدليل الأوّل ؛ لأنّه يمنع من جريان قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق فيه.

والوجه في ذلك : هو أنّ قرينة الحكمة مفادها ( ألاّ يذكر القيد في الكلام ) ، فإنّه إذا لم يذكر القيد في كلامه فلو كان يريده مع ذلك لكان مخلاّ في مقام البيان والتفهيم لمراده الجدّي ، فيكون قد أراد ما لم يبيّن وهذا قبيح.

وأمّا إذا ذكر القيد فلا يكون إرادته للقيد فيها إخلال بالبيان ؛ لأنّه قد أراد التقييد وذكر القيد الدالّ عليه ، وهذا معناه عدم جريان قرينة الحكمة لاختلال أحد ركنيها كما تقدّم في بحث الإطلاق والتقييد ، فيرتفع موضوع قرينة الحكمة وبالتالي لا ينعقد إلا ظهور واحد للكلام وهو الظهور في التقييد ابتداء.

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، في ذيل البحث الوارد تحت عنوان : احترازية القيود وقرينة الحكمة.

٥٩

وأمّا إن كانا منفصلين كما إذا قيل : ( أعتق رقبة ) ثمّ قيل : ( أعتق رقبة مؤمنة ) ، فهنا ينعقد الظهور في كلّ منهما ويقع التعارض بينهما.

أمّا انعقاد الظهور في الإطلاق في الدليل الأوّل فلأنّ المتكلّم لم يذكر في كلامه ما يدلّ على القيد وهو في مقام البيان والتفهيم لموضوع حكمه كما هو المفروض ، ولذلك يكون موضوع قرينة الحكمة تامّا ؛ لأنّه لم يذكر القيد فإذا هو لا يريده ، فتتمّ الدلالة على الإطلاق.

وأمّا انعقاد الظهور في التقييد فواضح ؛ لأنّه قد ذكر القيد فتطبّق قاعدة احترازيّة القيود.

وحينئذ يقع التعارض بينهما ؛ لأنّ الحكم الواحد لا يمكن أن يكون مطلقا ومقيّدا في نفس الوقت ، إلا أنّ هذا التعارض غير مستقرّ ؛ لأنّه يقدّم دليل التقييد على دليل الإطلاق على أساس القرينة النوعيّة ، التي مفادها أنّ كلّ ما يكون على تقدير اتّصاله هادما للظهور فهو على تقدير انفصاله يرفع الحجّيّة ، وهنا كذلك فإنّه في حالة الاتّصال ينهدم الظهور في الإطلاق كما ذكرنا لوجود القيد ، فيكون ذكر القيد منفصلا رافعا لحجّيّة الإطلاق ، وهذا معنى أنّ التقييد مقدّم على الإطلاق في الحجّيّة ، فيؤخذ بدليل التقييد دون دليل الإطلاق.

هذا هو الصحيح والمختار ، إلا أنّه يوجد اتّجاه آخر هنا ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وهناك اتّجاه [ آخر ] يقول : إنّ دليل القيد حتّى لو كان منفصلا يهدم أصل الظهور في المطلق.

وهذا الاتّجاه يقوم على الاعتقاد بأنّ قرينة الحكمة التي هي أساس الدلالة على الإطلاق متقوّمة بعدم ذكر القيد ولو منفصلا ، وقد تقدّم (١) في بحث الإطلاق إبطال ذلك.

وحاصل هذا الاتجاه الآخر أن يقال : إنّ دليل القيد سواء كان متّصلا أم منفصلا يهدم أصل الظهور في المطلق ، فلا ينعقد الإطلاق أصلا بمجيء القيد ، غاية الأمر أنّه إذا كان القيد متّصلا فالظهور لا ينعقد ابتداء ومن أوّل الأمر ، وأمّا إذا كان منفصلا فالظهور في الإطلاق ينعقد بدوا ، ولكنّه بمجيء القيد المنفصل ينكشف أنّه لم يكن

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، في ذيل البحث الوارد تحت عنوان : ١.

٦٠