شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

أحدهما : أنّ عمل المشهور في الترجيح بالصفات هو ملاحظة الحلقة الأولى من السند الناقلة لقول الإمام عليه‌السلام مباشرة أي أوّل السند من ناحية قول المعصوم عليه‌السلام لا من ناحيتنا.

والآخر : أنّ مقتضى الصناعة ـ أي القواعد الأصوليّة ـ وهي دليل حجّيّة السند حينما يراد تطبيقه على خبر الثقة فهو إنّما يطبّق على خبر الثقة الناقل لقول المعصوم ؛ لأنّه هو الذي يكون لنقله وإخباره أثر عملي ، وهو التعبّد والأخذ بما ينقله من كلام المعصوم دون غيره من الرواة بالواسطة فإنّهم لا ينقلون قول المعصوم مباشرة ، وإنّما ينقلون قوله مع الواسطة ، فموضوع إخباراتهم إنّما هو الإخبار المتقدّم بينما موضوع إخبار الثقة الأوّل الناقل لقول المعصوم هو كلام الإمام عليه‌السلام.

وعلى هذا فيكون موضوع دليل الحجّيّة للسند متحقّقا بالإخبار المباشر ؛ لأنّ التعارض بين الخبرين بلحاظ دليل حجّيّة السند إنّما هو من خلال نقل الراويين المباشرين لروايتين متعارضتين ، دون غيرهما من الرواة الواقعين في سلسلة السند ، فإنّهم لا ينقلون الروايتين المتعارضتين وإنّما ينقلونهما بالواسطة.

والحاصل : أنّ الإخبار الأوّل المباشر أو هو وغيره هو موضوع دليل حجّيّة التعبّد بالسند ، فلو كان الترجيح بالصفات راجعا إلى الرواية والراوي لكان اللازم إمّا تطبيق الصفات على الحلقة المباشرة أو على تمام الحلقات ، وأمّا تطبيقها على الحلقة الأخيرة أي أوّل سلسلة السند من ناحيتنا فهذا يعني أنّ الترجيح بالصفات لم يلحظ فيه الرواية والراوي بوصفهما هذا ، وإنّما لوحظ الراوي بوصفه حاكما ولوحظت الرواية بوصفها حكما يصدره الحاكم لفصل المنازعة.

ويمكننا توضيح ذلك ضمن التطبيق التالي : أنّ إرجاع الترجيح بالصفات إلى الحاكم والحكم يفترض بقاء التعارض بين الروايتين وعدم إمكان الجمع العرفي بينهما ، وهذا هو الظاهر من المقبولة وغيرها ، وأمّا إذا أرجعنا الترجيح بالصفات إلى الراوي والرواية فهذا معناه أنّ الرواية التي راويها المباشر أعدل من راوي الرواية الأخرى فسوف تتقدّم روايته على الرواية الثانية للحكومة ، فيكون هناك جمع عرفي بينهما وهذا لا يمكن استفادته من روايات الترجيح.

وتوضيح الحكومة أن يقال : إنّ الراويين المباشرين ـ بناء على أنّ الترجيح بالصفات

٢٦١

مختصّ بهما دون غيرهما من الرواة الواقعين في سلسلة السند كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضا ـ إذا كان أحدهما واجدا لإحدى الصفات المرجّحة له كالأعدليّة أو الأوثقيّة ونحوهما ، والآخر ليس فيه تلك الصفات بل كان عادلا وثقة فقط ، فهذا معناه أنّ رواية المفضول منهما من جهة الأعدليّة والأوثقيّة إنّما تكون حجّة ويمكن الأخذ بها فيما إذا لم يكن هناك رواية أخرى معارضة لها وكان راويها أعدل أو أوثق من الراوي للرواية الأولى.

وإلا فإن فرض كون راوي الرواية الثانية أعدل أو أوثق فيكون نقله للرواية الثانية فيه شهادة ضمنية باختلال شرط من شروط الحجّيّة في الرواية الأولى التي يرويها المفضول من جهة الأعدليّة والأوثقيّة ، فيقدّم الراوي للرواية الثانية على الراوي للرواية الأولى في النقل لكلام المعصوم ، من جهة أنّ نقل الراوي للرواية الثانية الأعدل يرفع موضوع الحجّيّة في الرواية الثانية ؛ لأنّه يثبت وجود رواية أخرى معارضة للرواية الأولى ، مع كون الراوي للرواية الأخرى أعدل.

والمفروض أنّنا اشترطنا في حجّيّة الرواية ونقل الراوي لكلام المعصوم ألاّ يكون معارضا برواية راويها أعدل أو أوثق منه مثلا ، وبهذا يكون نقل الراوي للرواية الثانية حاكما على نقل الراوي للرواية الأولى ، وملاك الحكومة هو النظر إلى الموضوع فيها ونفيه بلسان نفي الشرط المطلوب تحقّقه فيها.

وهذا معناه أنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا وينحلّ بذلك التعارض ، ومع انحلاله يكون الدليل المحكوم خارجا عن موضوع الحجّيّة ، وبالتالي فإنّ المقبولة التي تثبت الترجيح بالصفات وتطبّقه على أوّل سلسلة الرواية من ناحيتنا ليس في محلّه ؛ لأنّ الناقل الأخير لرواية الناقل الأوّل المفضول من جهة العدالة أو الوثاقة إذا فرضناه أعدل وأوثق من الناقل لرواية الثاني الأفضل من جهة العدالة والوثاقة ، فبناء على المقبولة سوف يقع التعارض بلحاظ الصفات ؛ لأنّ الرواية الأولى الراوي المباشر فيها مفضول من جهة العدالة مثلا ، بينما الراوي الأخير ـ أي الواقع في أوّل سلسلة السند من ناحيتنا ـ أعدل وأوثق ، والراوي المباشر في الرواية الثانية أعدل وأوثق من الراوي المباشر في الأولى ، ولكنّ الراوي الأخير فيها مفضول من جهة العدالة بالنسبة للراوي الأخير في الأولى ، ولذلك يقع التعارض.

٢٦٢

وهذا مخالف لما ذكرناه من حكومة نقل الناقل المباشر الأعدل أو الأوثق على نقل الناقل المباشر المفضول عدالة مثلا ، فإنّه مع فرض الحكومة ترتفع حجّيّة الرواية التي ينقلها المفضول حتّى لو كان الناقل عنه أعدل ، إذ لا يفيد ذلك ما دام موضوع الحجّيّة فيها قد انتفى لعدم تحقّق شرطه كما بيّناه.

والحاصل : أنّ المقبولة لمّا أثبتت الترجيح بالصفات للراوي الواقع في أوّل سلسلة السند من ناحيتنا ، فهذا معناه ملاحظة الراوي بما هو حاكم أو ملاحظة الرواية بما هي حكم ؛ لأنّ ملاحظة الراوي أو الرواية مجرّدين عن الحكم يعني لزوم الترجيح بالصفات للراوي المباشر دون غيره من الرواة ، كما هو عمل المشهور وكما هو مقتضى الصناعة ؛ لأنّه هو موضوع دليل الحجّيّة.

وحينئذ يكون الراوي المباشر الأعدل مثلا حاكما نقله على نقل الراوي المباشر المفضول عدالة ؛ لأنّه يرفع الشرط المفروض تحقّقه في موضوع الحجّيّة ـ وهو ألاّ يكون نقله معارضا بنقل راو أفضل منه من جهة تلك الصفات ـ ومع رفعه للموضوع يتقدّم عليه بالحكومة ، وحينئذ لا يفيده كون الناقل الأخير أي الواقع في أوّل سلسلة السند من ناحيتنا أفضل ؛ لأنّ موضوع الحجّيّة قد انتفى عن الناقل المباشر في روايته ، وإلا فلو فرض أنّه ينفع لوقع التعارض بالصفات بين الروايتين وكان التعارض مستقرّا ، وهذا ينفيه ثبوت الحكومة في رتبة سابقة ممّا يعني انحلال التعارض.

وبهذا يثبت أنّ الترجيح بالصفات راجع للحاكم وليس للراوي فالاعتراض وجيه من هذه الناحية.

وأمّا عدم صحّة الاعتراض بالنسبة إلى الشهرة وغيرها فلأنّ سياق الحديث ينتقل من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الرواية التي يستند إليها كلّ منهما ، حيث قال : « ينظر ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ... » فأضيفت المميّزات إلى الرواية لا إلى الحكم.

المطلب الثاني : في بيان عدم ورود الاعتراض المذكور على الترجيح بالشهرة ، بمعنى أنّ الترجيح بالشهرة ليس راجعا إلى الحكمين أو الحاكمين بل إلى الرواية نفسها.

وبيانه أن يقال : إنّ في بداية الرواية كان نظر الإمام عليه‌السلام إلى ترجيح أحد

٢٦٣

الحكمين على الآخر ، ولكنّه لمّا افترض السائل التساوي بينهما في الصفات لا يفضل أحدهما على الآخر انتقل الإمام إلى الترجيح بلحاظ شهرة الرواية التي استند إليها أحدهما في إصدار حكمه دون رواية الآخر الشاذّة ، ولذلك قال عليه‌السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » فإنّ الإمام يريد أن يرجّح الرواية التي استند عليها الحاكم في حكمه وكونها مجمعا عليها عند الأصحاب بمعنى كونها مشهورة ، ويترك حكم الآخر الذي استند إلى رواية شاذّة ؛ لأنّ مستنده ليس بصحيح.

وتوضيح قول الإمام عليه‌السلام : أنّه ينظر إلى رواية كلّ من الحاكمين في ذلك المطلب الذي أصدرا الحكم فيه ، فيؤخذ بما كان مجمعا عليه ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور من ذاك المستند والرواية.

وعلى هذا فتكون الرواية ناظرة إلى كون الترجيح بالشهرة راجعا إلى الرواية لا إلى الحكم.

ولكن يمكن المناقشة في ذلك ؛ لأنّ تعبير الإمام بقوله : « يؤخذ به » أي يؤخذ بالحكم الذي روايته اشتهرت ويترك الحكم الذي روايته شاذّة ، فيكون الترجيح بالشهرة متعلّقا بالحكم لا بالرواية مجرّدة عن الحكم ، بل بالرواية التي هي مصدر للحكم ومضافة إليه ، فالاعتراض وارد.

ولهذا ولغيره علّق السيّد الشهيد على ذلك ، فقال :

ولكنّ الشهرة في المقبولة التي ورد الترجيح بها في الدرجة الثانية ظاهرة في الاشتهار والشيوع المساوق لاستفاضة الرواية وقطعيّتها ، وليست بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها ؛ لأنّ ظاهر الحديث إضافة الشهرة إلى نفس الرواية لا إلى مضمونها ، وذلك يناسب ما ذكرناه.

ولكن يرد إشكال آخر على الترجيح بالشهرة ، وحاصله : أنّ الترجيح بالشهرة بعد الترجيح بالصفات راجع إلى الرواية لا إلى الفتوى ، بمعنى أنّ الشهرة الروائيّة مرجّحة لإحدى الروايتين لا الشهرة الفتوائيّة المطابقة لإحدى الروايتين ، فإنّ هذا غير ظاهر من المقبولة ؛ لأنّ التعبير فيها كان بقوله : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك

٢٦٤

الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ... » ، فإنّ الترجيح كان للمجمع عليه من روايتهما ، وقد فسّر الإمام المجمع عليه بالمشهور حيث قال : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ».

ولكنّ الشهرة الروائيّة هذه معناها أن تكون الرواية واصلة إلى درجة من الشيوع والاشتهار بين الأصحاب بحيث تكون مستفيضة فيحصل القطع بصدورها عنهم عليهم‌السلام ، وهذا معناه أنّ اشتهار الرواية بين الأصحاب يجعلها كالقطعيّة ، ولذلك يأتي الإشكال التالي :

ويعني الترجيح بالشهرة على هذا الضوء تقديم الرواية القطعيّة سندا على الظنّيّة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه كما تقدّم (١) ، وليس ذلك ترجيحا لإحدى الحجّتين على الأخرى ، لما عرفت سابقا من أنّ حجّيّة الخبر الظنّي السند مشروطة في نفسها بعدم المعارضة لقطعي السند.

وبناء على ما ذكرناه من كون الشهرة الروائيّة بمعنى الاستفاضة والشيوع بدرجة توجب القطع بصدور الرواية ، فيأتي الإشكال التالي : وهو أنّ تقديم الدليل القطعي سندا على الدليل الظنّي السند ممّا لا إشكال فيه ـ كما تقدّم سابقا ـ ولكنّه يخرج من مورد التعارض المبحوث عنه هنا ؛ لأنّنا نتحدّث عن الدليلين الظنّيّين سندا اللذين يحكم بتساقطهما بمقتضى القاعدة الأوّليّة ، واللذين يدّعى فيهما بوجود الروايات الدالّة على ترجيح أحدهما على الآخر في الحجّيّة ، أي أنّهما يتساويان في شمول دليل الحجّيّة العامّ لهما ولكن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر كالشهرة أو الصفات.

وهنا كانت الشهرة موجبة للقطع بصدور أحد الخبرين ممّا يعني أنّ الآخر ليس بحجّة في نفسه ؛ لأنّ حجّيّته مشروطة بأن لا يكون هناك دليل قطعي السند يعارضه وإلا تنتفي حجّيّته لارتفاع موضوعها وهنا هكذا ، فإنّ الخبر الآخر الشاذّ لا يكون حجّة في نفسه مع وجود الشهرة الموجبة للقطع بصدور الخبر الآخر المعارض له.

وبذلك لا تكون الشهرة من مرجّحات إحدى الحجّتين على الأخرى ، بل من

__________________

(١) تحت عنوان : روايات العرض على الكتاب.

٢٦٥

الأمور التي توجب انتفاء الحجّيّة عن الخبر الآخر ؛ لأنّها توجب القطع بصدور الخبر المشهور.

وبهذا يظهر عدم دلالة المقبولة على الترجيح بالشهرة بالنسبة لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى.

فإن قيل : إذا كان الأمر كذلك وجب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ؛ لأنّ الترجيح بالصفات يفترض حجّيّة كلّ من الخبرين ويرجّح إحدى الحجّتين على الأخرى.

كان الجواب : أنّ الترجيح بالصفات ناظر إلى الحاكمين لا إلى الراويين كما تقدّم ، فلا إشكال من هذه الناحية.

إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال ، فقد يقال : إنّ الشهرة لمّا كانت موجبة لتقديم إحدى الحجّتين من باب كشفها عن كون الرواية المشهورة قطعيّة الصدور ، وكون الرواية الشاذّة لا موضوع للحجّيّة فيها ، بمعنى أنّها تكشف عن الرواية الحجّة واقعا دون الأخرى ، فهذا يستوجب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ؛ وذلك لأنّ الترجيح بالصفات يفترض فيه تساوي الروايتين في الحجّيّة بمعنى شمول دليل الحجّيّة العامّ لهما.

ولكن لمّا كان الراوي أعدل أو أوثق ونحو ذلك كانت روايته متقدّمة ، وهذا تقديم ظاهري أي بلحاظ الحجّيّة ، وأمّا الترجيح بالشهرة فهو لمّا كان يكشف عن الحجّيّة من الروايتين واقعا دون الأخرى فهو أسبق رتبة من الترجيح بالصفات ، فلما ذا قدّم الإمام الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة مع كونه أسبق رتبة؟

إذ كونها أسبق رتبة معناه أنّها ترفع موضوع الترجيح بالصفات ؛ لأنّها تعيّن الرواية الحجّة واقعا دون الأخرى ، فيرتفع موضوع الترجيح بالصفات الذي يفترض فيه تساوي الروايتين في الحجّيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الترجيح بالشهرة على هذا يكون واردا على الترجيح بالصفات ؛ لأنّه يرفع موضوعه حقيقة لأنّه يثبت الحجّة الواقعيّة من الروايتين.

وأمّا الجواب : فقد ظهر ممّا تقدّم سابقا أنّ الترجيح بالصفات ناظر إلى الحكم

٢٦٦

والحاكمين ، بينما الترجيح بالشهرة ناظر إلى الراوي والرواية ، ومع اختلاف موضوعيهما فلا تنافي ولا محذور في تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة لعدم الارتباط بين الموضوعين ، ولذلك لا يكون هناك محذور في التقديم من هذه الناحية (١).

وهكذا يتّضح أنّ المقبولة لا يمكن أن يستفاد منها في مجال الترجيح بين الحجّتين من الروايات أكثر ممّا ثبت بالرواية السابقة.

والنتيجة النهائية على ضوء ما تقدّم : هي أنّ المقبولة لا يستفاد منها أكثر من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما هو مضمون الرواية السابقة.

وأمّا الترجيح بالصفات فهو راجع إلى الحكم والحاكمين.

وأمّا الترجيح بالشهرة فهو يكشف عن الصدور القطعي ، وكلاهما خارجان عن موضوع البحث ؛ لأنّ الكلام في الدليلين الظنّيين سندا المشمولين معا لدليل الحجّيّة العامّ لو لا التعارض بينهما.

ومنها : المرفوعة عن زرارة قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟

قال عليه‌السلام : « يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ».

فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟

فقال عليه‌السلام : « خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ».

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟

__________________

(١) ولكن يمكن التعليق هنا : بأنّه لو سلّمنا الاختلاف في الموضوع بينهما ولكن لا يصار إلى الترجيح بالصفات الراجعة إلى الحكم أو الحاكمين إلا بعد فرض الحجّيّة للروايتين وشمول دليل الحجيّة لهما ؛ إذ لو كان دليل الحجّيّة شاملا لإحداهما فقط دون الأخرى لم يكن الحكم الذي استند عليه الحاكم صحيحا ؛ لأنّ مدركه غير تامّ.

ومن هنا لمّا كانت الشهرة كاشفة عن تعيّن إحدى الروايتين واقعا دون الأخرى لكشفها عن صدورها القطعي فهذا يعني أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل الرواية الأخرى ، ومع عدم شموله لها لا معنى لترجيحها على الرواية القطعيّة فيما إذا فرض كون الحاكم الأعدل والأوثق قد استند في حكمه إليها ، مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالشهرة راجع إلى الحكم أيضا ، فيكون موضوعهما واحدا.

٢٦٧

فقال عليه‌السلام : « انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ».

قلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : « إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط ».

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : « إذا فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (١).

وفي هذه المرفوعة ذكرت مرجّحات وهي على الترتيب : الشهرة ثمّ صفات الراوي ثمّ المخالفة للعامّة ثمّ الموافقة للاحتياط ، ومع التكافؤ في كلّ ذلك حكمت بالتخيير.

الرواية الثالثة : مرفوعة زرارة عن الباقر عليه‌السلام الدالّة على الترجيح بالشهرة ثمّ بصفات الراوي ثمّ بالمخالفة للعامّة ثمّ بالموافقة للاحتياط ثمّ بالتخيير عند التساوي في كلّ هذه المرجّحات بين الروايتين.

وهذه المرجّحات تستفاد من تعبيرات الإمام بقوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ».

وقوله : « خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ».

وقوله : « انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ».

وقوله : « إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط ».

وقوله : « إذا فتخير أحدهما ».

ودلالتها على المدّعى واضحة جدّا ؛ لأنّها افترضت التعارض بين الحديثين فالسؤال كان عن موضوع كلّي هو التعارض بين الروايتين ، وبمقتضى التطابق بين السؤال والجواب ، فيكون نظر الإمام عليه‌السلام إلى الحجّيّة الأصوليّة وترجيح إحدى الحجّتين على الأخرى بالمرجّحات المذكورة ، ثمّ الحكم بالتخيير في الحجّيّة بين الروايتين.

وقد يعترض على الترجيح بالشهرة هنا بنفس ما تقدّم في المقبولة من كونها بمعنى استفاضة الرواية وتواترها.

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٢٦٨

ولكنّ هذا الاعتراض غير وجيه هنا ؛ لأنّ المرفوعة ـ بعد افتراض شهرة الروايتين معا ـ تنتقل إلى الترجيح بالأوثقيّة ونحوها من صفات الراوي ، وذلك لا يناسب الروايتين القطعيّتين.

ولكنّ المرفوعة ساقطة سندا بالإرسال فلا يمكن التعويل عليها.

وهنا إشكالان :

الإشكال الأوّل : يتعلّق بالدلالة فإنّه قد يقال : إنّ الترجيح بالشهرة هنا كالترجيح بالشهرة في المقبولة المتقدّمة معناه الشيوع والاستفاضة بنحو يوجب القطع بصدور الرواية بل بتواترها أيضا ، وهذا يعني ترجيح الدليل القطعي السند على الظنّي السند ، وقد تقدّم أنّ تقديم الدليل القطعي السند على الدليل الظنّي السند بابه باب الورود ؛ لأنّ الدليل القطعي السند يرفع موضوع الحجّيّة بالنسبة للدليل الظنّي ؛ لأنّه قد أخذ في موضوع دليل الحجّيّة أنّ الدليل الظنّي السند حجّة ما لم يكن معارضا لدليل قطعي السند ، فمع وجود الدليل القطعي السند المعارض له يرتفع موضوع الحجّيّة حقيقة ، وهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّنا نفترض شمول دليل الحجّيّة للروايتين معا ممّا يعني كونهما معا ظنّيّين سندا.

وحينئذ يكون الترجيح بالشهرة متقدّما على سائر المرجّحات المفترضة من باب رفعه لموضوع الحجّيّة في الرواية الشاذّة ؛ لكشفها عن الحجّة الواقعيّة من الروايتين.

والجواب : أنّ هذا الإشكال وإن كان واردا بالنسبة إلى الشهرة الواردة في المقبولة ، إلا أنّه لا يرد هنا للفرق بين الموردين ، فهنا قد افترض في المرفوعة بعد تساوي الروايتين في الشهرة الرجوع إلى سائر المرجّحات من صفات الراوي والمخالفة للعامّة والموافقة للاحتياط ، وهذا لا يتناسب مع كون الشهرة بمعنى الاستفاضة الموجبة للقطع بالصدور أو التواتر ؛ لأنّه لو فرض كونهما معا مشهورين بمعنى كونهما مقطوعي الصدور معا فلا ترجيح لأحدهما على الآخر بما ذكر من المرجّحات ، بل يحكم بتعارضهما وتساقطهما كما ذكرنا ذلك في بداية الحديث عن التعارض حيث قلنا : ( إنّ الدليلين المحرزين إذا كانا قطعيّين فلا يعقل التعارض بينهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى القطع بوقوع المتنافيين ) ، أي أنّ التسليم بكونهما قطعيّين يؤدّي إلى التسليم بصدور المتنافيين من المعصوم ، واجتماع النقيضين أو الضدّين محال صدوره منهم عليهم‌السلام.

٢٦٩

ومع خروج المورد عن بحث التعارض لا يكون لذكر المرجّحات الأخرى أي أثر بل يكون لغوا ، فذكرها بعد فرض التساوي بالشهرة دليل على أنّ المراد بالشهرة هنا دون العلم والقطع بالصدور ، أي مجرّد كثرة الرواية مع بقائها على كونها ظنّيّة السند ، ولذلك يكون لتقديم الشهرة على سائر المرجّحات وجه ؛ لأنّ الرواية المشهورة توجب ازدياد الظنّ بصدورها دون الشاذّة حتّى لو كانت مرويّة من الأعدل والأوثق أو كانت موافقة للاحتياط ومخالفة للعامّة.

الإشكال الثاني : يتعلّق بالسند فإنّ هذه الرواية مرفوعة لم يذكر سندها إلى الإمام عليه‌السلام ، ولذلك لا يمكن الأخذ بها ولا التعويل عليها. وهذا الإشكال وارد ، وبه تنتفي كلّ هذه المرجّحات.

وهكذا نعرف أنّ المستخلص ممّا تقدّم ثبوت المرجّحين المذكورين في الرواية الأولى من روايات الترجيح ، وفي حالة عدم توفّرهما نرجع إلى مقتضى القاعدة.

والنتيجة النهائيّة : هي ثبوت الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما هو مضمون الرواية الأولى ، ومع عدم توفّر هذين المرجّحين أو تساويهما يرجع إلى مقتضى القاعدة الأوّليّة وهي التعارض والتساقط.

وبهذا ينتهي البحث عن الروايات العلاجيّة بقسميها أي روايات العرض على الكتاب وروايات العلاج.

* * *

٢٧٠

تنبيهات بحث العلاج

٢٧١
٢٧٢

[ تنبيهات بحث العلاج ]

بقي علينا أن نشير في ختام روايات العلاج إلى عدّة نقاط :

وهنا عدّة نقاط لا بدّ من التنبيه عليها ختاما للحديث عن روايات العلاج ، هي :

الأولى : أنّ العاملين بالمجموعة الأولى المستدلّ بها على التخيير اختلفوا فيما بينهم في أنّ التخيير هل هو تخيير في المسألة الأصوليّة أي في الحجّيّة أو في المسألة الفقهيّة أي في الجري عملا على وفق أحدهما؟

ومعنى الأوّل : أنّ الإنسان لا بدّ له أن يلتزم بمضمون أحد الخبرين فيكون حجّة عليه ويسند مؤدّاه إلى الشارع.

ومعنى الثاني : أنّ الإنسان لا بدّ له أن يطبّق عمله على مؤدّى أحد الخبرين.

ومن نتائج الفرق أنّ الفقيه على الأوّل يفتي بمضمون ما التزم به واختاره ، وعلى الثاني يفتي بالتخيير ابتداء ، وهذا الخلاف لا موضوع له بعد إنكار أصل التخيير.

التنبيه الأوّل : في أنّ التخيير أصولي أو فقهي.

ذكرنا أنّ روايات العلاج على قسمين أحدهما الروايات الدالّة على التخيير والآخر الروايات الدالّة على الترجيح ، ونحن قلنا بعدم تماميّة الروايات الدالّة على التخيير إثباتا ، وإن كان التخيير في نفسه معقولا ثبوتا ، ولكن هناك من ذهب إلى استفادة التخيير من الروايات إثباتا ، وحينئذ وقع البحث عندهم في أنّ التخيير المستفاد من الروايات هل هو التخيير الأصولي أم التخيير الفقهي؟

والمراد من التخيير الأصولي التخيير في الحجّيّة التي هي حكم وضعي ظاهري ، فيختار إحدى الروايتين وتكون هي الحجّة دون غيرها ، بمعنى أنّ التخيير ثابت في حجّيّة أحد الخبرين.

بينما المراد من التخيير الفقهي هو التخيير في الحكم الشرعي المستفاد من الروايتين ،

٢٧٣

بمعنى الجري العملي على طبق إحدى الروايتين فيكون مخيّرا بين العمل بهذا أو بذاك ، ولا يمكنه إسناده للشارع لعدم العلم به لا واقعا ولا تعبّدا.

والفرق بين النحوين من التخيير هو أنّ التخيير الأصولي في الحجّيّة لا بدّ للمكلّف من الالتزام بمضمون أحد الخبرين فيه فيكون ما التزم به من الخبرين هو الحجّة دون الآخر ، ولذلك يمكنه أن يسند مؤدّى الخبر إلى الشارع باعتباره هو الحجّة الذي تعيّن عليه بعد اختياره له.

بينما التخيير الفقهي في مقام العمل بأحد الحكمين المستفادين من الخبرين لا بدّ للمكلّف من الالتزام بالحكم الذي هو مؤدّى الخبر باعتباره هو الحكم الذي يريد أن يجري عمليّا على طبقه.

وعليه فالفقيه هو الذي يختار أحد الخبرين ؛ لأنّ اختيار إحدى الحجّتين من شئون المجتهد لا المقلّد ، فيختار أحد الخبرين ويفتي المقلّد على أساسه ، وحينئذ يكون متعيّنا على المقلّد العمل على طبق ما اختاره المجتهد ، بينما التخيير في مقام العمل يكون اختيار أحد الحكمين بيد المقلّد ولا يجب على المجتهد تعيين أحد الحكمين على المقلّد ؛ لأنّ رجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هو في إخباره عن علم واجتهاد وهذا ليس ثابتا في المقام ؛ لأنّ اختيار المجتهد لأحد الحكمين ليس نتيجة العلم والاجتهاد وإنّما هو لمحض اختياره الشخصي ، وحينئذ لا فرق بين المجتهد والمقلّد في ذلك.

والحاصل : أنّ المجتهد في التخيير الأصولي يفتي بمضمون الخبر الذي اختار حجّيّته ويجب على المكلّف العمل به ، بينما في التخيير الفقهي يفتي المجتهد بالتخيير بين الحكمين ولا يعيّن أحدهما ، وإنّما المكلّف هو الذي يختار أحدهما في مقام العمل ، ولذلك فقد يتّفق مع ما اختاره المجتهد وقد يختلف.

وأمّا تحقيق الحال في ذلك فنحن في غنى عنه ؛ لأنّنا ننكر استفادة التخيير أصلا ، فلا موضوع للبحث على مختارنا.

الثانية : أنّ هؤلاء اختلفوا أيضا في أنّ التخيير ابتدائي أو استمراري ، بمعنى أنّ المكلّف بعد اختيار أحد الخبرين التزاما أو عملا هل يجوز له أن يعدل إلى اختيار الآخر أو لا؟

٢٧٤

وقد ذهب البعض (١) إلى كونه استمراريّا وتمسّك بالاستصحاب ، إلا أنّ هذا الاستصحاب يبدو أنّه من استصحاب الحكم المعلّق إذا كان التخيير في الحجّيّة ؛ لأنّ مرجعه إلى أنّ هذا كان حجّة لو أخذنا به سابقا وهو الآن كما كان استصحابا.

وعلى أيّة حال فلا موضوع لهذا الخلاف بعد إنكار التخيير.

التنبيه الثاني : في أنّ التخيير ابتدائي أو استمراري.

ثمّ إنّ القائلين بالتخيير ـ سواء كان أصوليّا أم فقهيّا ـ اختلفوا فيما بينهم في أنّ التخيير هل هو ابتدائي أم استمراري؟

والمراد من التخيير الابتدائي أنّ التخيير ثابت حدوثا ، بمعنى أنّ المجتهد أو المقلّد له أن يختار إحدى الحجّتين أو أحد الحكمين ، ثمّ بعد اختياره يتعيّن عليه ذلك ، فتخرج عن التخيير بقاء ؛ لأنّه يصبح متعيّنا عليه الأخذ بما اختاره أوّلا.

بينما المراد من التخيير الاستمراري أنّ التخيير ثابت حدوثا وبقاء معا ، فإذا اختار إحدى الحجّتين من الخبرين أو اختار أحد الحكمين وعمل به ، له أن يعدل عن ذلك إلى الخبر أو الحكم الآخر ويعمل به لاحقا وهكذا يكون مخيّرا باستمرار.

قد يقال : بأنّ المستفاد هو التخيير الاستمراري وذلك تمسّكا بالاستصحاب ، أيّ استصحاب التخيير الثابت قبل الالتزام بأحد الخبرين أو العمل بأحد الحكمين ، فإنّه بعد التزامه وعمله يشكّ في زوال التخيير فيستصحب بقاءه.

وفيه : أنّ الاستصحاب هنا من استصحاب الحكم المعلّق ؛ وذلك لأنّ مرجع هذا الاستصحاب إلى أنّه لو أخذ بالخبر الآخر أو بالحكم الآخر من أوّل الأمر لكان هو الحجّة دون الخبر أو الحكم الذي اختاره فعلا ، فيستصحب جواز الأخذ به الثابت من أوّل الأمر على فرض الأخذ به ، أو يقال : إنّ الخبر أو الحكم الآخر كان مخيّرا في اختياره من أوّل الأمر لو اختاره فيستصحب جواز اختياره السابق.

وحينئذ يرد عليه الإشكال الوارد في الاستصحاب التعليقي : من كونه معارضا بالحكم أو الخبر الفعلي الذي اختاره فإنّه يجري استصحابه أيضا ، بل الإشكال هنا آكد وأشدّ منه هناك ؛ لعدم كون الأخذ الفعلي مقيّدا ومشروطا.

__________________

(١) كالمحقّق العراقي في مقالات الأصول ٢ : ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، ونهاية الأفكار ٤ : ٢١٤.

٢٧٥

وعلى كلّ حال فلا يهمّنا البحث عن جريان هذا الاستصحاب أو عدم جريانه ما دمنا قد أنكرنا أصل التخيير.

الثالثة : إذا تمّت روايات التخيير وروايات الترجيح المتقدّمة فكيف يمكن التوفيق بينهما؟

فقد يقال بحمل روايات الترجيح على الاستحباب.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الأمر في روايات الترجيح إرشاد إلى الحجّيّة فلا معنى لحمله على الاستحباب ، بل المتعيّن الالتزام بتقييد روايات التخيير بحالة عدم وجود المرجّح.

التنبيه الثالث : في النسبة بين أخبار التخيير وأخبار الترجيح.

لو فرضنا تماميّة الأخبار الدالّة على التخيير والترجيح معا ، وفرضنا أنّ الخبرين المتعارضين كانا واجدين لبعض المرجّحات ، فهل يحكم بتقديم المرجّحات على التخيير أو العكس؟

قد يقال بتقديم أخبار التخيير على أخبار الترجيح ، ويحكم بكون أخبار الترجيح محمولة على الاستحباب لا الوجوب ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني واستشهد لذلك باختلاف روايات الترجيح بعدد المرجّحات وكيفيّة ترتيبها.

والجواب : أنّ حمل روايات الترجيح على الاستحباب إنّما يتمّ فيما لو كان الأمر بإعمال المرجّحات فيها أمرا تكليفيّا دالاّ على الوجوب في نفسه ، فإنّه مع التعارض بينها وبين الروايات الدالّة على التخيير يجمع بينهما بحمل الأمر فيها على الاستحباب.

إلا أنّ الصحيح : هو أنّ الأمر الوارد في المرجّحات إنّما هو للإرشاد إلى الحجّيّة ، بمعنى أنّ الأمر بالأخذ بالموافق للكتاب دون المخالف له أو بالمخالف للعامّة دون الموافق لهم إنّما هو إرشاد إلى حجّيّة الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة ، وليس أمرا تكليفيّا بالأخذ به من باب التعبّد ؛ لأنّ هذه المرجّحات فيها كاشفيّة وطريقيّة إلى الواقع توجب الظنّ النوعي القوي والأكيد بالصدور دون الفاقد لها.

وعليه فلا معنى لحملها على الاستحباب ؛ لأنّها ليست دالّة على حكم تكليفي أصلا بل هي إرشاديّة ، ولذلك لا موضوع للجمع المذكور ، بل الصحيح هو أنّ

٢٧٦

روايات الترجيح تتقدّم على روايات التخيير ؛ لأنّها تحلّ التعارض بتقديم أحد الخبرين على الآخر لوجود المرجّح فيها ، بينما أخبار التخيير أخذ فيها استقرار التعارض بين الخبرين ، فتكون متقدّمة عليها من باب الحكومة ، ورفعها لموضوع التخيير تعبّدا ؛ لأنّ انحلال التعارض بين الخبرين كان انحلالا ظاهريّا لا واقعيّا كما هو واضح ، فلا يصار إلى الأخذ بالتخيير إلا بعد فرض عدم وجود شيء من المرجّحات أو بعد فرض التساوي فيها ؛ لأنّ التعارض يكون مستقرّا ومستحكما حينئذ.

الرابعة : أنّ أخبار العلاج هل تشمل موارد الجمع العرفي؟

قد يقال : بإطلاق لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعة بالإطلاق عما تقتضيه القاعدة العقلائيّة.

وقد يجاب : بأنّ الظاهر من أسئلة الرواة لأخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة بسبب التنافي الذي يجدونه بين الحديثين ، ومن البعيد أن يقع الراوي بما هو إنسان عرفي في التحيّر مع وجود جمع عرفي بين المتعارضين ، فهذه قرينة معنويّة تصرف ظواهر هذه الأخبار إلى موارد التعارض المستقرّ خاصّة.

التنبيه الرابع : في النسبة بين أخبار العلاج وموارد الجمع العرفي.

قد يقال : إنّ إطلاق الروايات الدالّة على العلاج سواء بالترجيح أم بالتخيير تشمل موارد الجمع العرفي أيضا ، بمعنى أنّه في التعارض بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ونحوهما من موارد الجمع العرفي يتقدّم الدليل الدالّ على إعمال العلاج بالترجيح بالمرجّحات الثابتة كالموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة ، ومع عدمهما أو تكافؤ الدليلين فيهما يصار إلى التخيير ، وبالتالي نرفع اليد عن القاعدة العقلائيّة المتقدّمة في موارد التعارض غير المستقرّ من تقديم القرينة على ذي القرينة والجمع العرفي بينهما على أساس ذلك.

والوجه في هذا التقديم : أنّ إطلاق الروايات الدالّة على العلاج تعتبر مانعة ورادعة عن العمل بمقتضى القاعدة العقلائيّة من الجمع العرفي بين الدليلين اللذين بينهما تعارض غير مستقرّ ، فإنّه مع وجود هذه الروايات لا يصار إلى الأخذ بالبناء والارتكاز العقلائي ؛ لأنّ الروايات تعتبر رادعة ، وقد مرّ في بحث السيرة أنّ شرطها هو إمضاء الإمام المستكشف من سكوته وعدم ردعه عنها ، وهنا حيث ثبت الردع بإطلاق

٢٧٧

روايات العلاج فلا تكون السيرة والبناء العقلائي حجّة شرعا ، فلا يمكن التعويل على ما انعقدت عليه من الجمع العرفي ، بل لا بدّ من إعمال المرجّحات أوّلا ثمّ التخيير ثانيا.

ويمكن بيان كونها رادعة بأنّ الملاك والمناط المأخوذ في الروايات العلاجيّة هو تحقّق التعارض بين الدليلين واقعا حتّى في موارد الجمع العرفي ؛ لأنّ التعارض فيها وإن كان لا يسري إلى دليل الحجّيّة لمكان الجمع العرفي بينهما المستلزم لشمول دليل الحجّيّة للدليلين بلا محذور ، إلا أنّه مع ذلك لا يخرج المورد عن عنوان المتعارضين فيشملهما إطلاق روايات العلاج.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ الظاهر من أسئلة الرواة الذين نقلوا أخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة والتردّد نتيجة وجود الخبرين المتعارضين المتنافيين في دلالتهما ، كما يدلّ على ذلك ما تقدّم في مرسلة ابن الجهم حيث قال فيها : ( فلا نعلم أيّهما الحق )؟ وكما يدلّ عليه ما جاء في رواية ابن مهزيار من قوله : ( فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك ) وغيرهما من الروايات ، فإنّ هذه التعبيرات وغيرها ظاهرها التحيّر والتردّد عند السائل الراوي للرواية.

وعليه فيقال : إنّ الراوي من البعيد أن يكون متحيّرا ومتردّدا فيما إذا جاءه خبران بينهما جمع عرفي كالعامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد ؛ لأنّه بما هو إنسان عرفي داخل في البناء العقلائي القائم على الجمع بين الخبرين المتعارضين بهذا النحو من التعارض غير المستقرّ لا بدّ وأن يزول من عنده التحيّر والتردّد ، وهذا يعني أنّ مورد سؤاله لمّا كان فيه تردّد وتحيّر فهو يسأل عن التعارض الذي ليس فيه جمع عرفي المزيل للتردّد والتحيّر.

وهذا الأمر يعتبر قرينة لبّيّة معنويّة متّصلة بإطلاق الروايات العلاجيّة ومانعة من شمول الإطلاق لموارد الجمع العرفي الموجبة لزوال الحيرة والترديد ، وبالتالي ينصرف الإطلاق في تلك الروايات إلى موارد التعارض المستقرّ التي لا جمع عرفي فيها ، فإنّ التردّد والحيرة تظلّ باقية على حالها فيها (١).

__________________

(١) ولكنّ هذا الجواب غير تامّ ؛ لأنّه ليست كلّ الروايات العلاجيّة قد افترض في موضوعها التحيّر والتردّد ؛ وذلك لأنّ بعض تلك الروايات بل أهمّها وهي رواية الراوندي عن عبد ...

٢٧٨

والصحيح أن يقال : إنّ روايات العلاج بنفسها تتضمّن قرينة تدلّ على عدم شمولها لحالات الجمع العرفي ، فإنّ الرواية الأولى من روايات الترجيح قد افترضت فيها حجّيّة الخبر المخالف للكتاب في نفسه وبقطع النظر عن معارضته بحديث آخر ، ولذلك صار الإمام بصدد علاج التعارض بين خبرين متعارضين أحدهما مخالف مع الكتاب والآخر موافق معه ، فتدلّ على أنّ الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن له معارض لكان حجّة في نفسه ، وهذا يعني أنّ المعارضة الملحوظة بين الخبرين غير المخالفة المفترضة بين الخبر والآية ، وليس ذلك إلا لأنّ تلك المعارضة من التعارض المستقرّ وتلك المخالفة من التعارض غير المستقرّ.

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ روايات العلاج فيها قرينة تدلّ على عدم شمولها لموارد الجمع العرفي ولا تحتاج إلى إثبات القرينة من الخارج كما هو الجواب السابق.

وهذه القرينة الداخليّة يمكن توضيحها بالبيان التالي : أنّنا إذا لاحظنا رواية الراوندي المتقدّمة وهي ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث قال : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما

__________________

... الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام قال : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه ، وقد تقدّمت في أوّل روايات الترجيح.

وهذه الرواية قد افترضت الترجيح والعلاج ابتداء من الإمام ممّا يعني أنّه لم يؤخذ في موضوعها التحيّر والتردّد ، وإطلاقها تامّ ولا مقيّد له.

مضافا إلى أنّه يحتمل أن يكون الرواة في تلك الروايات قد سألوا عن حكم الشارع في التعارض بين الدليلين اللذين بينهما جمع عرفي ولو من جهة احتمالهم أن يكون للشارع طريقة في التعارض خاصّة مغايرة لما عليه البناء العقلائي ، خصوصا مثل زرارة وغيره من الرواة الفقهاء اللذين يحتمل في حقّهم مثل ذلك ومع وجود هذا الاحتمال يكون دخول موارد الجمع العرفي في موضوع الأخبار العلاجيّة وجيها أيضا وإن لم يكن فيها تردّد وحيرة ؛ لأنّ السؤال ليس من أجل رفع ذلك بل من أجل معرفة أنّ الشارع هل له مسلك خاصّ في موارد التعارض أم لا؟ فيكون الجواب بالعلاج سواء الترجيح أم التخيير شاملا لكلّ موارد التعارض.

٢٧٩

وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ... » ، فإنّنا نجد فيها أنّها قد افترضت حجّيّة الخبر المخالف للكتاب في نفسه لو لا معارضته مع الخبر الآخر ، ولذلك صار الإمام بصدد علاج التعارض بين الخبرين بالموافقة للكتاب أو المخالفة للعامّة ، فإنّ هذا العلاج منه عليه‌السلام قرينة على أنّ الخبر المخالف للكتاب حجّة في نفسه ؛ إذ لو لم يكن حجّة في نفسه لم يكن هناك أيّ معنى ولا موضوعيّة للعلاج الذي ذكره الإمام ، بل كانت القضيّة تأخذ نحوا آخر ، وذلك بأن يقول عليه‌السلام : إنّ الخبر المخالف للكتاب ليس حجّة في نفسه سواء كان له معارض أم لا ، وهذا نفس المضمون الذي تحدّثت عنه أخبار الطرح والعرض على الكتاب التي جاء فيها أنّ الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل ولم يصدر منهم.

وحينئذ فنحن أمام مخالفتين للكتاب : إحداهما توجب طرح الخبر وإسقاطه عن الحجّيّة رأسا ، والأخرى لا توجب ذلك بل يبقى الخبر المخالف للكتاب حجّة في نفسه لو لا وجود الخبر المعارض له ، ولذلك تكون المعارضة بين الخبرين غير المخالفة للكتاب ، بمعنى أنّ الخبر الذي له معارض وفي نفس الوقت هو مخالف للكتاب بنحو لا يسقط عن الحجّيّة بسبب المخالفة ولكنّه يسقط عن الحجّيّة بلحاظ المعارضة.

وهذا يفترض أن تكون معارضته للخبر الآخر بنحو يختلف عن مخالفته للكتاب ، ولا وجه لهذا الاختلاف أو المغايرة إلا بأن تكون مخالفته للكتاب بنحو يوجب الجمع العرفي بينهما ، ولذلك لا يسقط عن الحجّيّة ، بينما معارضته للخبر الآخر بنحو توجب سقوطه عن الحجّيّة مع معارضته ، وهذا يكون فيما إذا كانت النسبة بينهما التباين الكلّي أو العموم من وجه في مادّة الاجتماع أي التعارض المستقرّ خاصّة.

وبهذا يظهر أنّ روايات العلاج تتضمّن افتراض حجّيّة الخبر المخالف للكتاب بنحو الجمع العرفي والتعارض المستقرّ ، وبذلك يكون خارجا عن موضوع أخبار العلاج ؛ لأنّها عالجت التعارض بين الخبر المخالف للكتاب بهذا النحو من المعارضة مع الخبر الآخر المعارض له بنحو مستقرّ.

مضافا إلى أنّ البناء العقلائي القائم على إخراج موارد الجمع العرفي من التعارض حجّة في نفسه بمعنى أنّ مقتضى الحجّيّة موجود فيه إلا إذا ثبت الردع عنه ، والردع

٢٨٠