شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

كان صوابا » ، والاستدلال بها لعلّه أوضح من الاستدلال بالرواية السابقة باعتبار كلمة « أخذت من جهة التسليم » التي قد يستشعر منها النظر إلى الحجّيّة والتعبّد بأحد الخبرين.

ومن الروايات التي استدلّ بها على التخيير في الحجّيّة بين المتعارضين مكاتبة الحميري للحجّة عليه‌السلام حيث جاء فيها : « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » جوابا على اختلاف الفقهاء في مسألة التكبير بعد التشهّد الأوّل ، فإنّ الإمام عليه‌السلام افترض أنّه توجد روايتان إحداهما تدلّ على لزوم التكبير بعمومها ، والأخرى تدلّ على عدم التكبير في مورد السؤال.

والاستدلال بهذه الفقرة على التخيير الأصولي أوضح من الرواية السابقة ؛ لأنّه جاء التعبير فيها بكلمة « أخذت » الظاهرة في الأخذ بإحدى الحجّيّتين ، أي أنّك إن أخذت بهذه الرواية أو بتلك من باب التسليم فالأخذ صحيح وحقّ وصواب.

وهذا معناه أنّ المتعارضين في الحجّيّة يجوز الأخذ بكلّ منهما من باب التسليم ، فتدلّ المكاتبة على التخيير بين المتعارضين ، وأنّ التخيير حكم ظاهري تعبّدي لا بدّ من التسليم به ، بخلاف الرواية السابقة فإنّه لم يرد التعبير فيها بكلمة « أخذت » ونحوها التي يستشعر منها الأخذ بالحجّيّة لا الأخذ بالحكم في مقام العمل فقط.

والصحيح أنّ الاستدلال بالرواية غير وجيه ؛ لأنّ السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين ، وإنّما سأل عن مسألة اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي ، وإنّما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب الإمام عليه‌السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيّهما شاء ، إلا أنّ هذا الجواب غير دالّ على التخيير المدّعى وذلك لعدّة أمور :

والصحيح عدم تماميّة الاستدلال بهذه المكاتبة على التخيير ، سواء كان الاستدلال بها من جهة سؤال السائل أم كان من جهة جواب الإمام عليه‌السلام.

أمّا سؤال السائل فعدم الاستدلال به واضح ؛ لأنّه لم يفرض في السؤال حديثين مختلفين ليكون الجواب عن التخيير بينهما في مقام الأخذ والحجّيّة ، وإنّما فرض في السؤال اختلاف الفقهاء في حكم هذه المسألة المعيّنة بالخصوص ، وهذا معناه أنّه ينتظر الجواب عن حكمها الواقعي لما تقدّم في الرواية السابقة من أنّ السؤال عن الواقعة

٢٤١

الشخصيّة معناه السؤال عن الحكم الواقعي لها ، ولذلك يكون جواب الإمام ناظرا إلى بيان الحكم الواقعي ، إلا أن يكون فيه ما يوجب صرفه عن بيان الحكم الواقعي إلى بيان الحكم الظاهري ، وهو غير موجود هنا.

وأمّا جواب الإمام عليه‌السلام فقد يقال بأنّه يوجد فيه ما يوجب صرفه عن الحكم الواقعي إلى بيان الحكم الظاهري ؛ وذلك لأنّ الإمام لم يجب السائل عن تلك الواقعة المشخّصة ، وإنّما افترض صدور حديثين مختلفين منهم عليهم‌السلام ثمّ أمره بالأخذ بأيّهما شاء من باب التسليم ، فيكون جوابه منصّبا على افتراض حديثين متعارضين وكيفيّة علاجهما ، ممّا يعني أنّه بصدد بيان الحكم الظاهري ، وقد بيّن فيه أنّه يتخيّر بالأخذ بأيّهما شاء ؛ لأنّه قد رخّص له في ذلك.

إلا أنّ الصحيح عدم تماميّة ذلك للاستدلال على التخيير المدّعى ، وذلك لعدّة أمور :

الأوّل : ظهور كلام الإمام عليه‌السلام في الرخصة الواقعيّة لا التخيير الظاهري بين الحجّتين كما تقدّم في الرواية السابقة.

الأمر الأوّل : الذي يوجب قصر نظر الإمام عليه‌السلام إلى بيان الحكم الواقعي دون بيان الحكم الظاهري بمعنى التخيير بين الحجّتين ، هو ما تقدّم في الجواب عن الرواية السابقة ، حيث إنّ الإمام عليه‌السلام موظّف ببيان الأحكام الواقعيّة لا الظاهريّة ، بمعنى أنّ المنتظر والمتوقّع منه بحكم كونه مبيّنا للشريعة وأحكام الله تعالى أن يكون بصدد بيان الحكم الواقعي ، خصوصا أنّ مورد السؤال هو الواقعة الجزئيّة الشخصيّة ، فإنّ مقتضى التطابق بين السؤال والجواب أن يكون الجواب مطابقا لما افترضه السائل من كون الاختلاف في حكم الواقعة بين الفقهاء ، فيكون جواب الإمام بيانا لحكم هذه الواقعة وأنّه الترخيص ، ولذلك يكون مخيّرا في مقام العمل الذي هو التخيير الفقهي لا الأصولي.

الثاني : أنّ جملة « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى » تارة تفترض جزءا من الحديث الثاني ، وأخرى تفترض كلاما مستقلاّ يضيفه الإمام إلى الحديثين.

الأمر الثاني : أنّ فقرة « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى » يوجد فيها احتمالان :

٢٤٢

الأوّل : أن تكون مرتبطة بالحديث الثاني الذي ذكره الإمام عليه‌السلام بحيث تكون جزءا من كلامهم عليهم‌السلام ، فحينئذ يكون التعارض بين الحديثين شاملا لهذه الفقرة أيضا.

الثاني : ألاّ تكون مرتبطة بالحديث الثاني وإنّما هي جملة مستقلّة منه عليه‌السلام ، بمعنى أنّ الحديثين المتعارضين اللذين ينقلهما الإمام لا يدخل في المعارضة معهما هذا المقطع الذي أضافه كجملة مستقلّة.

وسوف تختلف النتيجة بلحاظ هذين الاحتمالين ، ولكنّها على كلا التقديرين لا تدلّ على المطلوب والمدّعى ، ولذلك نقول :

فإذا كانت جزءا من الحديث ـ ولو بقرينة أنّه مورد لسؤال الراوي الذي قال عنه الإمام : إنّ فيه حديثين ـ كان الحديثان متعارضين ، إلا أنّهما من التعارض غير المستقرّ الذي فيه جمع عرفي واضح ، لا باعتبار أخصّيّة الحديث الثاني فحسب ، بل باعتبار كونه ناظرا إلى مدلول الحديث الأوّل وحاكما عليه.

وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم أمر واضح عرفا ومقطوع به فقهيّا ، بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي فيه ، فيكون هذا بنفسه قرينة على أنّ المقصود من التخيير الترخيص الواقعي.

أمّا الاحتمال الأوّل : وهو كون الفقرة المذكورة جزءا من الحديث الثاني بدليل أنّها مورد سؤال الراوي ، فإنّ وقوعها في سؤال السائل يعتبر قرينة على أنّ الجواب لا بدّ أن يكون شاملا لها ، وحيث إنّ الإمام أجاب بأنّه توجد روايتان في هذه الواقعة ، فيكون بيانها داخلا في الرواية الثانية التي ذكرها الإمام ، وحينئذ يكون لدينا حديثان :

أحدها يدلّ على أنّه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

والآخر يدلّ على أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه تكبير ، وكذلك ليس عليه تكبير فيما إذا كان قيامه بعد التشهّد الأوّل.

وعلى هذا فيقع التعارض بين الحديثين ؛ لأنّ الأوّل يثبت وجوب التكبير والآخر ينفيه ، إلا أن هذا التعارض ليس مستقرّا لإمكان الجمع العرفي بين الحديثين ، وذلك بأحد وجهين :

الأوّل : أنّ الحديث الأوّل يشمل المورد بإطلاقه ؛ لأنّه قال فيه : « إذا انتقل من حالة

٢٤٣

إلى حالة » وهذه الفرضيّة شاملة بإطلاقها لما إذا انتقل من التشهّد إلى القيام فيثبت الحكم بالإطلاق ، بينما الحديث الثاني يشمل المورد بالتنصيص ؛ لأنّه ينصّ على أنّه : « إذا انتقل من التشهّد إلى القيام فلا يجب عليه التكبير ».

ومن الواضح أنّ التعارض بين المطلق والمقيّد ليس من التعارض المستقرّ ؛ لأنّ المقيّد يعتبر قرينة نوعيّة على تفسير المراد الجدّي والنهائي من المطلق ، فيقدّم الخاصّ أو المقيّد من باب القرينيّة النوعيّة المفسّرة ؛ لأنّه إذا لم يتقدّم لزم من تقدّم المطلق عليه إلغاؤه رأسا ، بينما لو تقدّم المقيّد على المطلق لم يلزم من رفع اليد عن حكم المطلق رأسا وإنّما يلزم منه رفع اليد عن إطلاقه لهذه الحالة فقط ، مع بقائه على إطلاقه لسائر الحالات ، فبنكتة الأخصّيّة يحكم بتقدّم الحديث الثاني على الأوّل ويجمع بينهما جمعا عرفيّا.

والثاني : أنّ الحديث الثاني يعتبر حاكما على الحديث الأوّل ؛ وذلك لكونه ناظرا إليه ورافعا لموضوعه عن المورد المذكور في السؤال الثاني ، ووجه النظر وملاكه هنا هو نفي الحكم الموجود في الحديث الأوّل عن هذا المورد ، وعليه فيقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم للقرينيّة الشخصيّة ؛ لأنّ المتكلّم هو الذي أعدّ الكلام الثاني ليكون مفسّرا للمراد الجدّي من كلامه الأوّل.

على هذا نقول : إنّ الجمع العرفي بين الحديثين سواء كانت بنكتة الأخصّيّة أم بنكتة الحكومة ، يخرج المورد من كونه من التعارض المستقرّ ؛ لأنّ العرف والبناء العقلائي لا يرى التعارض بين الحديثين اللذين فيهما جمع عرفي ، وكذلك العرف الفقهي فإنّ الفقهاء يأخذون بالجمع العرفي ويحلون به التعارض بين الدليلين.

ومع انحلال التعارض لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي ، بمعنى أنّ الحكم الشرعي والواقعي لهذا المورد مطابق لما حكم به العقلاء من الجمع العرفي ؛ لأنّ الشارع يسير على أساليب المحاورات العرفيّة وليس له طريقة مغايرة للعقلاء في مقام البيان والتفهيم ، ولذلك يكون الإمام عليه‌السلام بصدد بيان الحكم الواقعي للقضيّة المسئول عنها بنقله للحديثين اللذين فيهما جمع عرفي ؛ لأنّه يكون بصدد بيان أنّ حكم الشارع الواقعي هو نفسه ما حكم به العرف من الجمع العرفي بين الدليلين ، ومن غير المعقول أن يكون مراده أنّ الحكم الشرعي للواقعة المذكورة هو شيء آخر غير الجمع العرفي ؛ لأنّه يكون قد أراد شيئا لم يبينه ،

٢٤٤

بل يكون قد بيّن شيئا ليس هو مراده الجدّي ، وهذا منفيّ بالإطلاق ومقدّمات الحكمة الدالّة على أنّه في مقام البيان والتفهيم وليس في مقام الإجمال والإهمال ونحو ذلك.

والحاصل : أنّ الجمع العرفي سواء بالأخصّيّة أم بالحكومة يعتبر قرينة على كون الإمام بصدد بيان الحكم الواقعي للقضيّة المطروحة للسؤال ؛ لأنّه يمكنه الاعتماد في بيانه على الجمع العرفي الثابت لدى العقلاء والثابت أيضا لدى المتشرّعة والفقهاء ، وليس بصدد بيان التخيير الظاهري بين الحجّيّتين ؛ لأنّ هذا يعتبر شيئا جديدا غير مبيّن في كلامه ، إذ جملة : « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » معناها أنّه يجوز له الأخذ بأحد الحكمين ؛ لأنّه لمّا جاز له ترك التكبير فهذا معناه أنّه مرخّص في تركه ، ممّا يعني أنّه يجوز له تركه ويجوز له فعله أيضا ؛ لأنّ التخيير الواقعي بينهما ممكن ، وليس بصدد بيان التخيير في الحجّيّة ؛ لأنّه فرع استقرار التعارض واستحكامه بين الدليلين وهذا منتف في المقام على هذا الاحتمال.

وإذا كانت جملة مستقلّة وكان الحديث الثاني متكفّلا لحكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية وأنّه ليس على المصلّي تكبير فيه ، فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهّد إلى القيام ، فيكون هذا بنفسه قرينة على أنّ المراد هو الترخيص الواقعي.

وأمّا الاحتمال الثاني : وهو ما إذا كانت الفقرة المذكورة جملة مستقلّة من الإمام الحجّة عليه‌السلام عن الحديثين المختلفين اللذين نقلهما عن آبائه عليهم‌السلام ، فهذا معناه أنّه لدينا حديثان :

أحدهما يثبت التكبير حين الانتقال من حالة إلى أخرى ، وهذا شامل بإطلاقه لمورد السؤال.

والآخر ينفي التكبير إذا رفع الرأس من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فإنّه لا يجب عليه التكبير بعد القيام.

وهذان الحديثان ليسا متعارضين بالنسبة لمورد السؤال وهو ( حكم القيام بعد التشهد ) ؛ لأنّ الرواية الأولى تشمله بإطلاقها بينما الرواية الثانية تتحدّث عن مطلب آخر غير مورد السؤال. نعم بالنسبة لموردها يجمع بينها وبين الرواية الأولى

٢٤٥

للأخصّيّة أو للحكومة ، وأمّا بالنسبة لمورد السؤال فهي لم تتعرّض له لا سلبا ولا إيجابا.

وحينئذ يكون نقل الحديثين اللذين لا تعارض بينهما بالنسبة لمورد السؤال قرينة على أنّ المراد من قوله فيما بعد : « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » هو الترخيص الواقعي ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في حال القيام من التشهّد في أن يكبّر عملا بإطلاق الرواية الأولى أو أن يترك التكبير قياسا للمورد على الرواية الثانية ؛ لأنّ مناسبات الحكم والموضوع في الرواية الثانية تشمل مورد السؤال حيث إنّهما يشتركان في سبق التكبير على القيام حين جلوسه للتشهّد أو لجلسة الاستراحة.

ولذلك يكون عدم التعارض بين الروايتين قرينة على عدم إرادة التخيير في الحجّيّة ؛ لأنّه فرع التعارض المستقرّ ، وفي مقامنا لا يوجد تعارض أصلا ولو بنحو غير مستقرّ ؛ لعدم دخول الفقرة الواردة في السؤال في الرواية الثانية ، ولو كان مشمولا لمدلول الرواية من باب تحكيم مناسبات الحكم والموضوع فيتمّ الجمع العرفي المتقدّم ، وبه يخرج عن بيان التخيير الظاهري ؛ لأنّه يكون ظاهرا في بيان الحكم الواقعي وهو الترخيص كما تقدّم في الاحتمال الأوّل.

الثالث : أنّه لو تمّت دلالة الرواية على التخيير الظاهري في الحجّيّة ، فموردها الحديثان القطعيّان اللذان نقلهما الإمام بنفسه ، كما يناسبه التعبير عنهما بـ ( الحديثين ) الظاهر في كونهما سنّة ثابتة عن آبائه المعصومين ، فلا يمكن التعدّي منه إلى التعارض بين خبرين ظنّيّين سندا ؛ لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيّين موجبا لجعل الحجّيّة التخييريّة في موردهما خاصّة.

الأمر الثالث : لو سلّمنا دلالة المكاتبة على التخيير في الحجّيّة الذي هو حكم ظاهري ، فمع ذلك فهي لا تشمل مقامنا ؛ لأنّ مورد البحث إنّما هو الدليلان الظنّيّان من جهة السند ، حيث تقدّم في بداية الحديث عن حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة أنّ روايات العلاج تتعلّق بالقسم الثاني من أنواع التعارض ، وهو التعارض بين الدليلين الظنّيّين سندا.

وعليه فنقول : إنّ المكاتبة ناظرة إلى التخيير في الحجّيّة بالنسبة إلى الدليلين القطعيّين من جهة السند ، والدليل على ذلك هو أنّ الإمام نقل الروايتين بنفسه وعبّر عنهما ب

٢٤٦

( الحديثين ) ، فإنّ نقله لهما وكذلك تعبيره عنهما بهذه الصفة يدلّ على ثبوتهما في السنّة القطعيّة الصادرة عن آبائه عليهم‌السلام.

وهذا يعني أنّ التخيير في الحجّيّة المستفاد من قوله أخيرا : « فبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » ناظر إلى أنّ الدليلين القطعيّين من جهة الصدور والسند يتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء لكونهما صادرين عنهم عليهم‌السلام ، وبأيّهما أخذ كان صوابا أي أنّه مصيب لهذه السنّة حتما.

وهذا لا ينطبق على الدليلين الظنّيّين سندا ؛ لاحتمال كذبهما أو كذب أحدهما فلا يكون الأخذ بأيّهما شاء صوابا ، بل يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ أيضا.

إذا الظاهر من المكاتبة هو الاختصاص بالدليلين القطعيّين ؛ وذلك لوجود ميزة فيهما وهي صدورهما جزما من المعصوم ، فلعلّ الشارع يرى أنّ ذلك مرجّحا للتخيير بينهما ، بخلاف الظنّيّين سندا فإنّ احتمال الكذب فيهما أو في أحدهما على الأقلّ ينتفي فيه المرجّح المذكور ، ولذلك يحكم بتساقطهما وعدم جواز العمل أو الأخذ بهما أو أحدهما.

ومنها : مرسلة الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ ، فقال : « إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (١).

وهذه أوضح الروايات في الدلالة على التخيير في الحجّيّة بالنحو المدّعى ، إلا أنّها ساقطة سندا بالإرسال.

وقد تقدّمت بعض الروايات المستدلّ بها على التخيير في الحلقة السابقة (٢) مع مناقشة دلالتها.

ومن الروايات التي استدلّ بها على التخيير في الحجّيّة بين الدليلين الظنّيّين المتعارضين رواية ابن الجهم عن الرضا عليه‌السلام حيث جاء فيها : « إذا لم تعلم

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ ، الحديث ٢٣٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٠.

(٢) في بحث التعارض ، تحت عنوان : الحكم الرابع قاعدة التخيير للروايات الخاصّة.

٢٤٧

فموسّع عليك بأيّهما أخذت » جوابا عن سؤال السائل المفروض فيه التعارض بين حديثين يرويهما الثقة.

والاستدلال بهذه الرواية على المدّعى تامّ من جهة الدلالة ؛ وذلك لأنّ سؤال السائل نصّ صريح في افتراض الدليلين الظنّيّين المتعارضين ، فهو يسأل عن التكليف تجاه الروايتين بلحاظ الحجّيّة ؛ لأنّ كلاّ من الحديثين واجد لشرائط الحجّيّة في نفسه لو لا المعارضة ، وجواب الإمام بمقتضى التطابق بين السؤال والجواب ظاهر في كونه بصدد بيان الحكم الظاهري أي التخيير في الحجّيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الواقعة المفروضة هنا ليست واقعة شخصيّة جزئيّة ؛ لأنّها ليست سؤالا عن حكم مسألة شخصيّة معيّنة ، وإنّما السؤال فيها عن حكم افتراضي كلّي وهو الخبران المتعارضان اللذان يرويهما الثقة ، فلذلك لا يرد الإشكال الوارد على الرواية الأولى بلحاظ سؤال السائل.

وجواب الإمام بمقتضى التطابق بينه وبين السؤال يكون ظاهرا في بيان الحكم الظاهري وهو التوسعة والترخيص أي التخيير في الحجّيّة ، ولذلك لا يرد الإشكال الثاني أيضا.

وأمّا الإشكال الثالث فلا يسجّل أيضا ؛ لأنّ المفروض هنا كون الدليلين ظنّيّين لا قطعيّين ؛ لأنّ الراوي للحديثين المختلفين هو الثقة.

فالرواية تامّة الدلالة على المدّعى ، إلا أنّها قاصرة من جهة السند فإنّها مرسلة فلا يمكن التعويل عليها.

ثمّ إنّه توجد روايات أخرى تقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية مع مناقشة دلالتها على المدّعى.

من قبيل : رواية سماعة (١) حيث جاء فيها : « فهو في سعة حتّى يلقاه » جوابا على افتراض السائل الاختلاف في نقل الروايات من الثقة فإنّ أحدهما يأمره والآخر ينهاه.

فقد يستدلّ بها على المطلوب بالفقرة المذكورة ؛ لأنّ التوسعة معناها الترخيص الظاهري أي التخيير في الحجّيّة.

ولكن يناقش فيها بأنّ المراد أنّه في سعة حتّى يلقى من يخبره بالحكم الواقعي ، فلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٥.

٢٤٨

يجب عليه الأخذ بشيء من الحديثين المختلفين ، بل ينتظر حتّى يلقى من يخبره بالحكم الواقعي ، فيبقى على العمل الذي كان يعمله قبل مجيء هذين الخبرين المختلفين إلى أن يعلم بالحقّ فيما بعد.

وتوجد روايات أخرى لم يذكرها السيّد الشهيد لا هنا ولا في الحلقة السابقة ليست تامّة ، إما من جهة السند وإمّا من جهة الدلالة.

وبهذا ينتهي الكلام عن روايات التخيير وقد ظهر عدم نهوضها لإثباته.

* * *

٢٤٩
٢٥٠

روايات الترجيح

٢٥١
٢٥٢

روايات الترجيح

المجموعة الثانية : ما استدلّ به من الروايات على ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى لمرجّح يعود إلى صفات الراوي كالأوثقيّة ، أو صفات الرواية كالشهرة ، أو صفات المضمون كالمطابقة للكتاب الكريم أو المخالفة للعامّة ، وهي روايات عديدة :

المجموعة الثانية : روايات الترجيح :

وهي الروايات التي استدلّ بها على ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر لوجود مرجّح فيه ، والمرجّح على أنواع ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الترجيح راجعا إلى صفات الراوي ، كالأعدليّة والأوثقيّة والأورعيّة والأفقهيّة.

الثاني : أن يكون الترجيح مرتبطا بصفات الرواية كالشهرة والمجمع عليه بين الأصحاب.

الثالث : أن يكون الترجيح متعلّقا بصفات المضمون الذي تحكي عنه الرواية كمطابقته للكتاب الكريم أو مخالفته للعامّة.

فإنّ هذه المرجّحات توجب تقديم أحد الخبرين الظنّيّين على الآخر ، وبذلك تخرجه عن مقتضى القاعدة الأوّليّة التي هي التساقط ، وسوف نتناول بعض الروايات الدالّة على الترجيح :

فمنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي دلّت على الترجيح أوّلا بموافقة الكتاب وثانيا بمخالفة العامّة ، وقد تقدّمت الرواية مع الحديث عنها في الحلقة السابقة (١) ، واتّضح من خلال ذلك أنّها تامّة في دلالتها على المرجّحين المذكورين.

__________________

(١) في بحث التعارض ، تحت عنوان : الحكم الثالث قاعدة الترجيح للروايات الخاصّة.

٢٥٣

الرواية الأولى : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام الموجودة في كتاب الراوندي حيث جاء فيها : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (١).

وهذه الرواية تدلّ على ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر بموافقته للكتاب أوّلا ثمّ وفي طول ذلك بمخالفته لأخبار العامّة ، فهناك طولية بين المرجّحين ؛ لأنّه لا يصار إلى الثاني إلا بعد كونهما معا موافقين للكتاب أو مخالفين له أو ليسا موجودين فيه أصلا لا بنحو الموافقة ولا بنحو المخالفة ، فإنّه حينئذ يؤخذ بما خالف أخبار العامّة.

وقد تقدّم سابقا أنّ المخالفة للكتاب تعني التعارض بنحو التباين الكلّي أو العموم من وجه ولا تشمل موارد الجمع العرفي.

وتقدّم أنّ الموافقة للكتاب بمعنى عدم المخالفة لا بمعنى وجود مضمونه في الكتاب.

وأمّا المخالفة للعامّة فلأنّ الخبر الموافق لهم يحتمل فيه قويّا كونه صادرا على نحو التقيّة دون الخبر المخالف لهم ، ولذلك ففي مقام التعارض بينهما يرجّح المخالف لهذا الاحتمال (٢).

وأمّا السند فهو تامّ ؛ لأنّ صاحب ( الوسائل ) قد ذكرها عن الراوندي ممّا يعني وجود طريق له إليه كما صرّح به في الخاتمة : ( ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة ) وقوله : ( نروي كتاب ( الخرائج والجرائح ) وكتاب ( قصص الأنبياء ) لسعيد بن هبة الله الراوندي بالإسناد السابق ).

وعليه فالرواية تامّة سندا ودلالة.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٩.

(٢) ولا يبعد شمول المخالفة للعامّة للأخبار والفتاوى معا لا الأخبار فقط ، للإطلاق في بعض الروايات كما في تعبيره : خذوا بما خالف القوم ، أو ما يشبه أقوالهم ، فالدلالة تامة على المدعى.

٢٥٤

رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ... » ، قلت : فكيف يصنعان؟ قال : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ... » ، قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر ».

قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منها على صاحبه؟ قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ».

قال الراوي : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة ... ».

إلى أن قال الراوي : قلت : فإن وافق حكّامهم ـ أي العامّة ـ الخبرين جميعا؟

قال : « إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (١).

وهذه الرواية تشتمل على المرجّحين السابقين غير أنّها تذكر قبل ذلك ترجيحين آخرين ، أحدهما الترجيح بصفات الراوي ، والآخر الترجيح بالشهرة.

فإن تمّت دلالتها على ذلك كانت مقيّدة لإطلاق الرواية السابقة ودالّة على أنّ الانتهاء إلى المرجّحين السابقين متوقّف على عدم وجود هذين الترجيحين.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٨ ـ ١١ / ٣٢٣٣. تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ / ٨٤٥.

٢٥٥

الرواية الثانية : مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه‌السلام ، وقد ذكرها في أصول ( الكافي ) (١).

وتقريب الاستدلال بالرواية على المرجّحين السابقين أي موافقة الكتاب ومخالفة العامّة لقوله عليه‌السلام : « فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » ، ولكنّها تذكر هذين المرجّحين في عرض واحد بمعنى أنّه لا بدّ من الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة معا كمرجّح لا أحدهما فقط كما هو الظاهر من العطف بـ ( الواو ).

وكذلك فإنّها قد ذكرت مرجّحين سابقين على هذين هما الترجيح بالصفات للراوي والترجيح بالصفات للرواية ، حيث قال عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ... ».

ثمّ قال ردّا على افتراض تساويهما في ذلك بالترجيح بصفات الرواية حيث قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ».

وعليه فإن تمّت دلالة الرواية فيحكم بالترجيح أوّلا بصفات الراوي ثمّ بصفات الرواية ، ثمّ بالموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة على نحو الطوليّة ، وهذا يعني أنّ هذه الرواية تعتبر مقيّدة للرواية السابقة التي أطلقت الترجيح بالموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة من دون تفصيل أو ذكر للمرجّحين الآخرين.

وأمّا إذا لم تتمّ دلالة الرواية على المرجّحين الآخرين فلا تنافي ولا تعارض بين الروايتين ولو بنحو غير مستقرّ أصلا.

وسوف يظهر أنّ الصحيح عدم تماميّة دلالتها على المرجّحين الآخرين معا ، وإنّما هي ناظرة إلى خصوص الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة بالإضافة إلى الشهرة أيضا في رتبة سابقة.

وقد يعترض على استفادة هذين الترجيحين ـ بالصفات وبالشهرة ـ من المقبولة بوجوه :

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف التحديث.

٢٥٦

هذا وقد يعترض على استفادة المرجّحين الآخرين أي الترجيح بالصفات أو الترجيح بالشهرة بوجوه عديدة ، مع التسليم بدلالتها على المرجّحين المذكورين في محلّ الكلام أي الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة.

وهنا يذكر السيّد الشهيد وجهين للاعتراض ، هما :

الأوّل : أنّ المقبولة مختصّة موردا بعصر الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام بقرينة قوله فيها : « أرجئه حتّى تلقى إمامك » ، فلا تدلّ على ثبوت الترجيحين في عصر الغيبة.

الاعتراض الأوّل : أنّ المقبولة مختصّة بعصر الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام فلا تشمل عصر الغيبة الذي هو محلّ الكلام والابتلاء فعلا بالمتعارضين ، والدليل على هذه الاختصاص ما جاء في ذيل الرواية حيث قال : « أرجئه حتّى تلقى إمامك » فإنّ لقاء الإمام عليه‌السلام لا يكون إلا في زمان الحضور والتمكّن من لقائه.

وعليه ، فالمرجّحان أي الصفات والشهرة مختصّان بزمان الحضور فقط.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ اختصاص الفقرة الأخيرة التي تأمر بالإرجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد الإطلاق في الفقرات السابقة ، خصوصا مع ملاحظة أنّ التمكّن من لقاء الإمام ليس من الخصوصيّات التي يحتمل العرف دخلها في مرجّحيّة الصفات ، إذ لا يختلف حال الأوثقيّة في كاشفيّتها وتأكيد موردها بين عصري الحضور والغيبة ، وكذلك الأمر في الشهرة.

والجواب : أنّ اختصاص الفقرة الأخيرة بزمان الحضور ؛ لأنّ الإرجاء إلى حين لقاء الإمام عليه‌السلام ظاهر في ذلك لا يوجب تقييد إطلاق الرواية بالنسبة إلى المرجّحات المذكورة قبلها.

والدليل على ذلك : أنّ الإمام بصدد بيان حكم كلّي وعامّ ؛ لأنّه لمّا جعل الحاكم للنظر في القضايا المختلف فيها فهو ناظر إلى جعل حكم كلّي على الموضوع الكلّي ، وهو أنّه كلّما حصل اختلاف بين الشيعة في قضيّة من القضايا فيجب عليهم الرجوع إلى الحاكم الذي نصّبه الإمام عليه‌السلام بالتنصيب العامّ لحلّ هذا الاختلاف ، وهذا الجعل الكلّي لا يختلف حاله بين عصري الحضور والغيبة ؛ لأنّه متى ما تحقّق موضوعه صار فعليّا.

٢٥٧

مضافا إلى أنّ الخصوصيّات المذكورة للترجيح من صفات الراوي أو الشهرة أو موافقة الكتاب ومخالفة العامّة لا يحتمل العرف دخل حضور الإمام فيها ؛ لأنّ كاشفيّتها وطريقيّتها لا يختلف حالها بين حضور الإمام عليه‌السلام وغيبته ، إذ ما الفرق بين كاشفيّة الأوثقيّة والأعدليّة ونحوهما في الراوي بين وجود الإمام وغيبته؟

وهكذا الحال بالنسبة للشهرة فإنّ كون إحدى الروايتين مشهورة دون الأخرى لا مدخليّة لحضور الإمام وغيبته في تحقّقها وعدمه.

وبهذا يظهر أنّ هذا الاعتراض غير وجيه ولا يمكن تسجيله على المقبولة.

وينبغي التنبيه على أنّ الاعتراضين المذكورين هنا راجعان إلى صفات الراوي وإلى الشهرة ، وأمّا موافقة الكتاب ومخالفة العامّة فقد فرغ عن تماميّتهما على أساس الرواية السابقة التامّة دلالة وسندا عليهما.

الثاني : أنّ الترجيح بالصفات وبالشهرة في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر لا لإحدى الروايتين على الأخرى في مقام التعارض.

الاعتراض الثاني : أنّ الترجيح بالصفات وبالشهرة راجعان إلى الحكم أو الحاكم ، وليسا متعلّقين بالراوي أو بالرواية ، ويدلّ على ذلك أنّ الإمام عليه‌السلام قد افترض الترجيح بالصفات في سياق إبراء الحكم من الرجلين اللذين تمّ الرجوع إليهما حيث قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » فإنّ هذه العبارة نصّ في كون الترجيح بالصفات متعلّقا بالحكم أو بالحاكم الذي حكم بالحكم.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الشهرة فإنّ الترجيح بها ورد في سياق كون الحاكمين متعادلين في الصفات فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ... » فإنّ الترجيح بالشهرة ناظر إلى سند الحكم الذي اعتمدا عليه.

وهكذا يظهر أنّ المرجّحين المذكورين راجعان إلى الحكم والحاكم ، ولا ارتباط لهما بالراوي والرواية مجرّدين عن وصف الحكم والحاكم ، وهذا خارج عن محلّ البحث ؛ لأنّه يختصّ بباب القضاء وفصل الخصومة بين الناس ، ولا يشمل موارد التعارض بين الروايتين سواء كانتا في مقام القضاء أم في غيره من الأمور والقضايا.

٢٥٨

وهذا الاعتراض وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات ، وليس صحيحا بالنسبة إلى غيره ممّا ورد في المقبولة كالترجيح بالشهرة.

والجواب : أنّ الاعتراض المذكور وارد على الترجيح بالصفات ، وليس واردا على الترجيح بالشهرة ، فهنا مطلبان :

أمّا وجاهته بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلأنّنا نلاحظ إضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمين ، حيث قال عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما [ وأصدقهما ] في الحديث وأورعهما ».

المطلب الأوّل : في بيان وجاهة الاعتراض بالنسبة إلى الصفات.

ويدلّ عليه أوّلا : أنّ الإمام عليه‌السلام قد أخذ إضافة الصفات إلى الحكم أو الحاكم ؛ وذلك لأنّ الضمائر في قوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما » راجعة إلى الحكم أو الحاكم ، فإنّ المراد من ( أعدلهما ) مثلا أي أعدل الحاكمين في حكمهما.

وهذا معناه أنّ الصفات ناظرة إلى الحكم والحاكم سواء كانا راويين أم لا ، فلا يمكن التعدّي منهما إلى التعارض في الرواية لترجيح أعدل الراويين ونحو ذلك ؛ لأنّه خارج عن مورد النصّ فيحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود في المقام.

هذا مضافا إلى أنّ الإمام قد طبّق الترجيح بالصفات على أوّل سلسلة السندين المتعارضين ـ وهما الحاكمان ـ من دون أن يفرض أنّهما راويان مباشران للحديث ، بينما لو كان الترجيح بهما ترجيحا لإحدى الروايتين على الأخرى كان ينبغي تطبيقه على مجموع سلسلة الرواة أو على الراوي المباشر.

والدليل الثاني على وجاهة الإيراد بالنسبة للصفات هو أنّ الإمام عليه‌السلام قد طبّق الترجيح بالصفات على أوّل سلسلة السندين المتعارضين ، لا على تمام سلسلة السند أو على الحلقة المباشرة للرواية عن الإمام عليه‌السلام ، فإنّ تطبيقه على أوّل سلسلة السندين يتناسب مع كون الصفات راجعة إلى الحكم والحاكم لا إلى الرواية والراوي ؛ وذلك لأنّ أوّل سلسلة السند من ناحيتنا هما الحاكمان ؛ لأنّهما المباشران لرواية الحديث عن الإمام بالواسطة أو الوسائط المتعدّدة ، فإنّنا حتّى لو سلّمنا كون الحاكمين راويين أيضا عن الإمام لقوله : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا »

٢٥٩

ولكنّهما الراويان الموجودان في أوّل سلسلة السندين ، وهناك وسائط أخرى بينهما وبين الإمام عليه‌السلام.

وحينئذ يكون تطبيق الإمام للترجيح بالصفات عليهما فقط دون غيرهما من الرواة كلاّ أو بعضا دليلا على أنّ الصفات راجعة إليهما بوصفهما حاكمين لا راويين ؛ لأنّه لو كان الترجيح بالصفات لهما بوصفهما راويين لم يكن هناك فرق بينهما وبين غيرهما من الرواة الواقعين في سلسلة السند ، فاختصاص الصفات بهما دون غيرهما ترجيح بلا مرجّح ، بل هو مخالف لمقتضى الصناعة ولمّا ذهب إليه المشهور أيضا.

وبهذا يظهر أنّ تطبيق الإمام للترجيح بالصفات يتناسب مع كون الراويين حاكمين لا مجرّد راويين فقط ، وهذا خارج عن محلّ الكلام لأنّه يجعله مختصّا في باب الحكومة والقضاء وفصل المنازعات.

وأمّا النكتة لما ذكرناه من كون تطبيق الإمام للترجيح بالصفات على الراويين في أو سلسلة السند يعني الترجيح بما هما حاكمان بينما الترجيح بالصفات لو كان لهما بوصفهما راويين فقط للزم أن يشمل تمام سلسلة السند أو الحلقة الأخيرة منها فقط على الأقلّ ، فهذا نوضّحه ضمن البيان التالي :

كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضا ؛ لأنّ الراويين المباشرين إذا كان أحدهما أعدل وثبت الترجيح بالصفات فهذا يعني أنّ رواية المفضول عدالة منهما إنّما تكون حجّة في حالة عدم معارضتها برواية الأعدل.

وعليه فالناقل لرواية الراوي والمباشر الأعدل يكون مخبرا عن اختلال شرط الحجّيّة لرواية الراوي المباشر المفضول التي ينقلها الناقل الآخر ، وبهذا يكون حاكما على نقل الناقل الآخر إذ يخرج منقوله عن كونه موضوعا للحجّيّة ، وهكذا نعرف أنّ تطبيق الإمام للترجيح بالصفات على الحاكمين اللذين يمثّلان أوّل سلسلة السند لا ينسجم إلا مع افتراض كون الترجيح لأحد الحاكمين بلحاظ صفات الحاكم.

وأمّا الوجه في كون تطبيق الإمام عليه‌السلام للترجيح بالصفات على أوّل سلسلة السندين من ناحيتنا يعني الترجيح بلحاظ الحكم أو الحاكم دون الراوي بما هو راو فقط ، أو للرواية بما هي كذلك من دون كونها حكما ، فهنا أمران :

٢٦٠