شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

عنوان واحد ـ ويلتزم بتقييد إطلاق المادّة ، والقرينة على التقييد نفس ظهور الجملتين في تعدّد الوجوب مع عدم إمكان اجتماعهما على عنوان واحد بحسب الفرض ، وهذا نحو من الجمع العرفي.

والنحو الثاني في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنّنا نلتزم بالشقّ الثاني ، وهو أن يكون متعلّق الوجوب في كلّ من الجملتين هو الحصّة الخاصّة من العتق لا طبيعي العتق ، وذلك فيما إذا كان اجتماع سببين وبعثين على الطبيعي والكلّي غير ممكن ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع المثلين المحال ، ولكنّ اختيار الشقّ الثاني وهو كون متعلّق الوجوب هو الحصّة وإن كان يؤدّي إلى تقييد إطلاق المادّة في الجزاء كما تقدّم بيانه في الإشكال المتقدّم ، إلا أنّ هذا التقييد لازم ولا بدّ منه وإن كان على خلاف الظاهر ، بمعنى أنّه يوجد لدينا ظهوران لا بدّ من رفع اليد عن أحدهما هما : إطلاق المادّة في الجزاء الظاهر في كون المتعلّق هو الطبيعي لا الحصة ، وإطلاق المنطوق في الشرطيّتين الظاهر في أنّ كلّ واحد من الشرطين علّة تامّة مستقلّة للوجوب.

وهذان الظهوران لا يمكن الأخذ بهما معا ؛ لأنّ الظهور الأوّل يقتضي كون المتعلّق هو الطبيعي وهو يتنافى مع ثبوت وجوبين على عنوان كلّي ؛ لأنّه من اجتماع المثلين المستحيل ، ولأنّ الظهور الثاني يقتضي كون المتعلّق هو الحصّة ، فتكون هناك حصّتان مستقلّتان وهذا يتنافى مع كون المتعلّق هو الطبيعي.

ولا يمكننا أيضا الحكم بتساقط هذين الظهورين ؛ وذلك لأنّه يمكن الجمع العرفي بينهما بتقييد الظهور الأوّل أي بتقييد الإطلاق فيه وكون المتعلّق هو الحصّة ؛ لأنّنا بذلك لا نكون قد رفعنا اليد عن الظهور الأوّل بالكلّيّة بل نحافظ عليه ولكن مع تقييده.

وأمّا إذا رفعنا اليد عن إطلاق المنطوقين فهذا معناه أن يكون المجموع المركّب منهما هو السبب ، وهذا مخالف للعلم بأنّ كلّ واحد منهما سبب مستقلّ.

إذن يتعيّن علينا الحفاظ على إطلاق المنطوق للعلم من الخارج بالدليل الخاصّ الدالّ على كون كلّ واحد من الشرطين سببا مستقلاّ ، والالتزام بتقييد الإطلاق في مادّة الجزاء ، وهذا التقييد قرينته هي كون الشرطين في كلّ منهما سببا مستقلاّ المستتبع لوجوبين مستقلّين ، فنرفع اليد به عن الإطلاق في المادّة ؛ لأنّه أخفّ مئونة من رفع اليد

١٢١

عن إطلاق المنطوق ، وحيث إنّه يمكن الجمع العرفي فلا يصار إلى التعارض والتساقط كما هو واضح.

وبذلك يظهر أنّ ما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

٣ ـ إذا تعارض دليل إلزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه قدّم الدليل الإلزامي.

وقد يقرّب ذلك بأنّ الدليل الترخيصي ليس مفاده عرفا إلا أنّ العنوان المأخوذ فيه لا يقتضي الإلزام ، فإذا فرض عنوان آخر أعمّ منه من وجه دلّ الدليل الإلزامي على اقتضائه للإلزام أخذ به ؛ لعدم التعارض بين الدليلين.

وهذا في الحقيقة ليس من الجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع العرفي يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل والبيان المذكور يوضّح عدم التعارض رأسا.

التطبيق الثالث : في التعارض بين دليل إلزامي وآخر ترخيصي بالعموم من وجه ؛ كما إذا ورد : ( يجب إكرام العالم ) ، وورد : ( لا بأس بإكرام الفقير ، أو يجوز إكرام الفقير ، أو يجوز عدم إكرام الفقير ) ، فإنّ الدليل الأوّل يدلّ على الإلزام والوجوب لإكرام العالم سواء كان فقيرا أم لا ، بينما الدليل الثاني بألسنته المختلفة يدلّ على الترخيص في الإكرام وعدمه للفقير سواء كان عالما أم لا ، فيجتمعان في العالم الفقير ويقع التعارض بينهما بلحاظه ؛ لأنّ دليل الإلزام يشمله بما هو عالم بينما دليل الترخيص يجوّز ترك إكرامه كما يجوّز إكرامه أيضا باعتباره فقيرا ، والأحكام الشرعيّة متضادّة فيما بينها فلا تجتمع معا ، إلا أنّ هذا التعارض يمكن حلّه ؛ وذلك بتقديم دليل الإلزام على دليل الترخيص.

وقد يقال في تقريب ذلك : إنّ دليل الترخيص ليس مفاده بأكثر من أنّ العنوان فيه لا يقتضي بنفسه الإلزام ، أي أنّ عنوان ( الفقير ) لا يقتضي أن يكون الحكم إلزاميّا من هذه الجهة ، بينما دليل الإلزام يدلّ على أنّ العنوان فيه وهو ( العالم ) يقتضي الإلزام حتّى لو كان مجتمعا مع الفقير ، فيكون الإلزام في ( الفقير العالم ) من جهة علمه لا من جهة فقره ، ولذلك لا يقع التعارض بينهما.

ويلاحظ على هذا التقريب : إنّه ينفي أصل وقوع التعارض بين الدليلين ، وليس بابه باب الجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع العرفي بين الدليلين يفترض مسبقا أن يكون هناك

١٢٢

تعارض بين الدليلين لو لا هذا الجمع ، وبهذا الجمع والتعديل في دلالة أحدهما أو كليهما ينحلّ التعارض.

وأمّا هنا فالتقريب المذكور يوضّح أنّه لا يوجد تعارض أصلا ليحلّ بالجمع العرفي ـ كما هو الصحيح ـ لأنّ دليل الإلزام ودليل الترخيص يمكن الأخذ بهما معا في مورد اجتماعهما من دون أيّ محذور لعدم المنافاة بينهما ، فيكون ( الفقير العالم ) من جهة فقره لا اقتضاء فيه لكون إكرامه واجبا ، بينما من جهة علمه يكون فيه اقتضاء للإلزام بإكرامه ، وهذا ليس من اجتماع حكمين متضادّين على موضوع واحد ؛ لأنّ العنوان والجهة في كلّ منهما مختلف عن الآخر ، نظير انتزاع أكثر من صفة وعنوان من زيد يكون إكرامه على أساس بعضها واجبا وعلى أساس البعض الآخر غير واجب ، فهذا المورد ليس من الجمع العرفي ؛ لعدم التعارض ولو بنحو غير مستقرّ بين الدليلين.

٤ ـ إذا تعارض إطلاق شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجه : فإن كان أحد الدليلين دالاّ على الإطلاق بالوضع والأداة والآخر بقرينة الحكمة قدّم ما كان بالوضع سواء اتّصل بالإطلاق الآخر أم انفصل عنه.

أمّا في حالة الاتّصال فلأنّه بيان للقيد ، فلا يسمح لقرينة الحكمة بالجريان وتكوين الإطلاق. وأمّا في حالة الانفصال فللأظهريّة والقرينيّة.

وإذا كان كلاهما بالوضع أو بقرينة الحكمة فهناك قولان : أحدهما أنّهما متكافئان فيتساقطان معا ، والآخر تقديم الشمولي على البدلي.

ويمكن أن يفسّر ذلك بعدّة أوجه :

التطبيق الرابع : فيما إذا تعارض إطلاق شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجه ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : ما إذا كان أحد الدليلين دالاّ على الإطلاق بالوضع والأداة والآخر بقرينة الحكمة ؛ كما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق ) ، وقيل : ( أكرم فقيرا ) ، فإنّ دلالة الأوّل على الإطلاق والشموليّة وضعيّة ؛ لأنّ الأداة موضوعة للعموم أي لاستيعاب كلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، بينما دلالة الثاني على البدليّة بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه بالإطلاق وقرينة الحكمة يثبت كون المراد الطبيعة ،

١٢٣

ولكن لمّا كان منوّنا بتنوين التنكير دلّ ذلك على الوحدة فيكون المراد فردا واحدا من الطبيعة شائعا من بين الأفراد ، كما تقدّم بيانه في بحث الإطلاق والتقييد.

ويمكن أن يفرض المثال بعكس ذلك أي بأن تكون الأداة دالّة على البدليّة وقرينة الحكمة دالّة على الشموليّة ؛ كما إذا قيل : ( لا تكرم الفاسق ) ، وقيل : ( أكرم أي عالم ) ، فإنّ دلالة الأوّل على الشموليّة بقرينة الحكمة بينما دلالة الثاني على البدليّة بالأداة ( أي ). فهنا لا إشكال في تقديم ما كانت دلالته بالأداة والوضع ، سواء كان متّصلا أو منفصلا.

أمّا في حالة الاتّصال كما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق وأكرم الفقير ) فلأنّه يعتبر قرينة على التقييد أو التخصيص ، فلا ينعقد العموم أو الإطلاق في الدليل الأوّل من أوّل الأمر ، بل يكون مفاده : ( لا تكرم كلّ فاسق غير فقير ) ، وهذا يعني أنّه لا تعارض أصلا ؛ لأنّه في ( الفقير الفاسق ) لا يكون مشمولا للدليل الأوّل ؛ لأنّه خارج عنه تقييدا أو تخصيصا.

والوجه في ذلك : أنّ انعقاد العموم أو الإطلاق مقيّد بأن لا تكون هناك قرينة على الخلاف ، والحال أنّ القرينة على الخلاف موجودة ومتّصلة به فترفع أصل الظهور.

وأمّا في حالة الانفصال ؛ كما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق ) و ( أكرم فقيرا ) يتقدّم ما كان مدلولا بالوضع والأداة وذلك للأظهريّة والقرينيّة ، فإنّ الدليل الذي فيه الأداة يدلّ بالوضع على العموم والشمول بمعنى أنّ دلالته تامّة على مستوى المدلول التصوّري الوضعي ، بينما دلالة الآخر لمّا كانت على أساس قرينة الحكمة فهي على مستوى المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ قرينة الحكمة مبتنية على أساس ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، وهذا الظهور الحالي مدلول جدّي ؛ لأنّه يعيّن المراد للمتكلّم من كلامه ، وهذا معناه أنّ المراد الجدّي في الدليل الأوّل مستفاد من التطابق بين المداليل الثلاثة : التصوّري والاستعمالي والجدّي ، بينما في الدليل الثاني مستفاد من المدلول التصديقي الثاني فقط.

فيكون الأوّل أقوى من الثاني وأظهر ؛ لأنّه نصّ ، بينما الثاني ظاهر والنصّ أقوى من الظاهر أو أقوى ظهورا منه ، أو لأنّ رفع اليد عن الأوّل يستلزم رفع اليد عن الظهورات الثلاثة. بينما رفع اليد عن الثاني لا يستلزم إلا رفع اليد عن الظهور الثالث أي الإرادة

١٢٤

الجدّيّة فقط ، فيكون الثاني أخفّ مخالفة من الأوّل ، أو لأنّ الشموليّة في الأداة معناها انحلاليّة الحكم لكلّ فرد فرد فيكون ( الفقير الفاسق ) الذي هو مورد الاجتماع من جهة الدليل الدالّ بالأداة هناك حكم خاصّ به مستفاد من الوضع ، بينما من جهة الدليل الدالّ بقرينة الحكمة لا يوجد حكم خاصّ به ، وإنّما الحكم منصبّ على الطبيعة ابتداء.

الصورة الثانية : ما إذا كانت الدلالتان بالوضع أو بقرينة الحكمة.

أمّا الدلالة بالوضع على الشموليّة والبدليّة ؛ فكما إذا قيل : ( لا تكرم كلّ فاسق ) و ( أكرم أي عالم ).

وأمّا الدلالة بقرينة الحكمة على الشموليّة والبدليّة فكما إذا قيل : ( أكرم العالم ) و ( لا تكرم فاسقا ).

وهنا يوجد قولان :

أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من التكافؤ بين الدليلين ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر فيتعارضان في مادّة الاجتماع ويحكم بتساقطهما.

والآخر : ما هو ظاهر الشيخ الأنصاري من تقديم الإطلاق أو العموم الشمولي على الإطلاق أو العموم البدلي في مورد الاجتماع ، ويمكننا أن نفسّر ذلك بأحد الوجوه التالية :

الأوّل : أن يقال بأقوائيّة الظهور الشمولي من الظهور البدلي في إطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيّين أو حكميّين ؛ وذلك لأنّ الشمولي يتكفّل أحكاما عديدة بنحو الانحلال بخلاف المطلق البدلي الذي لا يتكفّل إلا حكما واحدا وسيع الدائرة ، والاهتمام النوعي ببيان أصل حكم برأسه أشدّ من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعة وضيقا ، فيكون التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان أصل حكم عن إرادته أقوى من التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان سعة حكم عن إرادتها ، ولمّا كان تقديم البدلي يستدعي التخلّف الأوّل وتقديم الشمولي يستدعي التخلّف الثاني الأخفّ محذورا تعيّن ذلك.

الوجه الأوّل : ما لعلّه يستفاد من كلام للميرزا في هذا المقام حيث قال : إنّ الإطلاق الشمولي أو العموم الشمولي منحلّ إلى أحكام عديدة ، بينما الإطلاق البدلي أو العموم البدلي ليس فيه إلا حكم واحد ، وتقديم البدلي على الشمولي يستلزم رفع

١٢٥

اليد عن أصل الحكم رأسا في مادّة الاجتماع ، بينما رفع اليد عن البدلي وتقديم الشمولي عليه لا يقتضي إلا تقييد الحكم بغير مورد الاجتماع.

ويمكننا أن نبيّن ذلك بنحو آخر فنقول : إنّ الإطلاقين أو العمومين الشمولي والبدلي وإن كانا متساويين بلحاظ نفس الإطلاق والعموم لأنّه واحد فيهما ، إذ قرينة الحكمة واحدة سواء في الشموليّة أو البدليّة ، وهكذا أدوات العموم فإنّها واحدة بلحاظ مدلولها التصوّري الوضعي على ذلك ، إلا أنّه مع ذلك يتقدّم الشمولي على البدلي فيهما ؛ لأنّه أقوى ظهورا منه ومخالفته تعتبر مخالفة شديدة من الآخر.

والوجه في ذلك : هو أنّ الإطلاق الشمولي يتكفّل لبيان أحكام متعدّدة بعدد الأفراد بحيث يكون لكلّ فرد حكم مجعول عليه شرعا ، فقولنا : ( لا تكرم الفاسق ، أو لا تكرم كلّ فاسق ) مفادهما أنّ كلّ فرد فرد من أفراد الفاسق يحرم إكرامه ، فلكلّ فرد حرمة خاصّة ومستقلّة عنها في الفرد الآخر.

بينما الإطلاق البدلي لا يتكفل إلا لبيان حكم واحد فقط منصبّ على الطبيعة ؛ لأنّ قولنا : ( أكرم عالما ) أو ( أكرم أي عالم ) مفاده ثبوت وجوب واحد على الطبيعة. نعم ، هذا الحكم الواحد وسيع الدائرة ؛ لأنّ أيّ فرد من أفراد العالم يكون محقّقا لهذه الطبيعة في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ العرف يرى ـ بحسب مرتكزاته العقلائيّة في مقام المحاورات والظهورات وأساليب الكلام ـ أنّ الاهتمام ببيان أصل الحكم أقوى وأشدّ من بيان حدود سعة أو ضيق دائرة الحكم ، ولذلك يكون فرض التخلّف عن بيان أصل الحكم أشدّ مئونة وأقوى من التخلّف عن بيان حدود سعة أو ضيق دائرة هذا الحكم ، وحين التعارض بين هذين الأمرين يرى أنّ رفع اليد عن أصل الحكم أشدّ مخالفة من رفع اليد عن سعة دائرة الحكم فيعيّن الثاني.

وفي مقامنا نقول : إنّ مورد الاجتماع بين الشمولي والبدلي هو العالم الفاسق ، فالإطلاق الشمولي يثبت حرمة إكرامه لما فيه من جعولات عديدة بعدد الأفراد بحيث تكون الحرمة مجعولة فيه شرعا ، بينما الإطلاق البدلي يثبت وجوب إكرامه على أساس السعة الموجودة فيه لا على أساس ثبوت حكم مجعول فيه شرعا ؛ لأنّ الحكم منصبّ على الطبيعة ولكنّها بحدودها واسعة لكلّ فرد بحيث يجوز تطبيقها على هذا الفرد أو ذاك.

١٢٦

وحينئذ إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الشمولي نكون قد رفعنا اليد عن أصل الحكم المجعول شرعا بالكلّيّة والتمام ، بينما لو رفعنا اليد عن الإطلاق البدلي نكون قد رفعنا اليد عن سعة الحكم وأنّه مقيّد بغير هذا الفرد فقط لا عن أصل الحكم ؛ لأنّ الحكم لا يزال ثابتا على الطبيعة ولكن سعتها وحدودها مقيّدة بغير هذا الفرد.

وبمقتضى الفهم العرفي والنكتة العقلائيّة المتقدّمة يتعيّن رفع اليد عن الإطلاق البدلي ؛ لأنّ مخالفة الإطلاق والمصير إلى التقييد أخفّ مئونة من مخالفة رفع اليد من أصل الحكم رأسا ، بحيث يكون التخلّف عن التعهّد ببيان أصل الحكم أقوى وأشدّ من التخلّف والتعهّد عن بيان حدود هذا الحكم سعة وضيقا.

وبذلك يثبت تقديم الشمولي على البدلي لأقوائيّة ظهوره وكون مخالفته أشدّ وأقوى من مخالفة الإطلاق البدلي ، وهذا نحو من الجمع العرفي وهو تامّ.

الثاني : أنّ الأمر في ( أكرم فقيرا ) يختصّ بالحصّة المقدورة عقلا وشرعا بناء على أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولا ، وشمول ( لا تكرم الفاسق ) للفقير الفاسق يجعل إكرامه غير مقدور شرعا ، فيرتفع بذلك موضوع الإطلاق البدلي ويكون الشمولي واردا عليه. ولكن تقدّم في محلّه (١) أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.

الوجه الثاني : ما يستفاد أيضا من مباني الميرزا وحاصله : إذا تعارض إطلاقان أحدهما شمولي والآخر بدلي في مادّة الاجتماع فيتقدم الشمولي على البدلي من باب الورود ؛ لأنّه يكون رافعا لموضوعه.

وبيان ذلك : إذا ورد : ( لا تكرم الفاسق ) ، وورد : ( أكرم فقيرا ) ، فهما يجتمعان في الفقير الفاسق ، ويتعارضان فيه بحسب الظاهر ، إلا أنّه لمّا كان كلّ تكليف مشروطا بالقدرة عقلا وشرعا ، ولمّا كان التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيلا فسوف يكون خطاب ( أكرم فقيرا ) مشروطا بالقدرة العقليّة ، أي القدرة التكوينيّة في مقابل العجز التكويني ؛ لأنّه إذا كان عاجزا تكوينا عن الإتيان بالمتعلّق فيسقط التكليف عن الفعليّة ، ويكون أيضا مشروطا بالقدرة الشرعيّة بمعنى عدم وجود المانع

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، ضمن قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : الجامع بين المقدور وغيره.

١٢٧

الشرعي عن الإتيان بالمتعلّق ؛ لأنه إذا كان ممنوعا شرعا عن الإتيان بالمتعلّق فيكون عاجزا شرعا عنه فلا يمكنه الإتيان به ، فيسقط التكليف عن الفعليّة فيه أيضا.

وهنا حيث ورد : ( لا تكرم الفاسق ) فيكون هناك منع شرعي من إكرام الفقير الفاسق ، وهذا معناه أنّ خطاب ( أكرم فقيرا ) يكون دائرا بين فردين : أحدهما الفقير العادل ، والآخر الفقير الفاسق ، أي بين الفرد المقدور والفرد غير المقدور شرعا ، ولمّا كان التكليف بالجامع بين الفردين مستحيلا وغير معقول ، فيكون التكليف بإكرام الفقير الجامع بين الفردين المذكورين غير معقول أيضا ، فيرتفع بارتفاع موضوعه.

وهذا معناه أنّ خطاب ( لا تكرم فاسقا ) يكون واردا على خطاب ( أكرم فقيرا ) ؛ لأنّه يرفع موضوعه بإثبات المانع الشرعي فتنتفي القدرة الشرعيّة التي هي شرط في التكليف ، ومع انتفائها يرتفع التكليف ، وبذلك لا تكون هناك معارضة بينهما ، أو أنّ هذه المعارضة ترتفع بالورود.

وفيه : أنّه مبني على أن يكون الجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيلا ، وقد تقدّم منّا سابقا إمكانه ، ومبني أيضا على أن تكون القدرة الشرعيّة مأخوذة في التكليف كالقدرة العقليّة.

وقد عرفت سابقا أيضا بأنّ التكليف مشروط بالقدرة العقليّة بالمعنى الأعمّ الشامل لما إذا كان هناك مانع تكويني أو كان مشتغلا بتكليف لا يقل أهميّة عنه ، وأمّا القدرة الشرعيّة بمعنى عدم المانع الشرعي فهي ليست مأخوذة قيدا في التكليف ، فهذا الوجه غير تامّ.

الثالث : أنّ خطاب ( لا تكرم الفاسق ) لا يعارض في الحقيقة وجوب إكرام فقير ما الذي هو مدلول خطاب ( أكرم فقيرا ) ، بل يعارض الترخيص في تطبيق الإكرام الواجب على إكرام الفقير الفاسق ، وهذا يعني أنّ التعارض يقوم في الواقع بين دليل الإلزام في الخطاب الشمولي ودليل الترخيص في الخطاب البدلي ، وقد تقدّم أنّه متى تعارض دليل الترخيص مع دليل الإلزام قدّم الثاني على الأوّل.

الوجه الثالث : ما لعلّه يستفاد من بعض المباني التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) من تقديم الحكم الإلزامي على الترخيصي ، فإنّه يقال هنا : إنّ خطاب ( لا تكرم الفاسق ) وخطاب ( أكرم فقيرا ) لا معارضة بينهما في ذاتهما ؛ لأنّه يمكن الجمع بينهما بإكرام الفقير العادل.

وإنّما التعارض بينهما ينشأ من دلالة خطاب ( أكرم فقيرا ) على جواز تطبيق الحكم

١٢٨

في أيّ فرد شاء من أفراد الفقير بما في ذلك الفقير الفاسق ، فإنّه في هذا المورد يكون خطاب ( لا تكرم الفاسق ) شاملا له ومثبتا لحكم إلزاميّ فيه وهو حرمة الإكرام ، بينما خطاب ( أكرم فقيرا ) يشمله بلحاظ الترخيص في تطبيق الطبيعة المطلوبة عليه ، بمعنى أنّه يجوز للمكلّف أن يطبّق الطبيعة فيه ، فيقع التعارض بينهما بلحاظ الإلزام في أحدهما والترخيص والجواز في الآخر.

ولكن تقدّم سابقا أنّه متى ما تعارض دليل إلزامي مع دليل ترخيصي قدّم الأوّل على الثاني ، وهنا يقدّم دليل الإلزام على دليل الترخيص في مادّة اجتماعهما تطبيقا لتلك الكبرى.

وهذا معناه تقدّم الإطلاق الشمولي على البدلي.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة إكرام الفقير الفاسق تنافي الوجوب بنفسه مع فرض تعلقه بصرف وجود الفقير بلا قيد العدالة ، بقطع النظر عمّا يترتّب على ذلك من ترخيصات في التطبيق ، فالتنافي إذا بين إطلاقي حكمين إلزاميّين.

ويرد على ذلك : أنّ الترخيص في التطبيق ليس حكما شرعيّا وإنّما هو حكم انتزاعي عقلي من تعلّق الحكم بالطبيعة ، ولذلك ليس لدينا إلا حكم واحد في خطاب ( أكرم فقيرا ) وهو وجوب إكرام الفقير بنحو صرف الوجود من دون دخالة أيّ قيد فيه ، أي سواء كان عادلا أم فاسقا ، فهو بإطلاقه يتنافي مع حرمة إكرام الفاسق في مورد اجتماعهما في الفقير الفاسق ؛ لأنّه بإطلاق خطاب ( أكرم فقيرا ) يثبت وجوب إكرامه ، وبإطلاق ( لا تكرم الفاسق ) يثبت حرمة إكرامه ، فيقع التعارض بين الخطابين بلحاظ إطلاقيهما ، مع قطع النظر عن الترخيص المنتزع بحكم العقل ، فإنّه ناظر إلى كيفيّة امتثال ذاك الحكم فقط وليس ناظرا إلى إثبات جعولات شرعيّة ترخيصيّة كما هو واضح.

ولذلك يقع التعارض بين دليلين إلزاميّين بحسب الإطلاق في كلّ منهما ، لا بين دليل إلزامي وآخر ترخيصي ، فهذا الوجه غير تامّ.

اللهمّ إلا أن يقال : إنّ الإطلاق البدلي للأمر بالإكرام ، حاله عرفا كحال إطلاق أدلّة الترخيص في أنّه لا يفهم منه أكثر من عدم وجود مقتض من ناحية الأمر للتقيّد بحصّة دون حصّة ، فلا يكون منافيا لوجود مقتض لذلك من ناحية التحريم المجعول في الدليل الآخر.

١٢٩

نعم ، يمكن أن يقال في تتميم الوجه الثالث ، ما حاصله : إنّ الإطلاق البدلي في قولنا : ( أكرم فقيرا ) ، حاله حال الترخيص الشرعي ، كما إذا قيل : ( يجوز إكرام الفقير ) ، فإنّهما يشتركان في نفي وجود المقتضي للتقييد بحصّة خاصّة من الفقير ، بمعنى أنّ قولنا : ( يجوز إكرام الفقير ) معناه عدم وجود مقتضي الإلزام بإكرام الفقير سواء العادل أم الفاسق ، من ناحية كونه فقيرا ، فإنّ عنوان الفقر وحده ليس فيه مقتض للإلزام لا بالوجوب ولا بالحرمة.

وهكذا قولنا : ( أكرم فقيرا ) ، فإنّ معناه أنّه لا يوجد مقتضي للإلزام بالتقيّد في حصّة خاصّة من الفقير ؛ لأنّ العرف يفهم أنّه يجب إكرام فقير ما ، وأمّا تقيّده بالعادل أو بالفاسق فهذا لا يوجد له أي مقتض ، ممّا يعني أنّ الحصّة الخاصّة من الفقير وهي ( الفقير الفاسق ) لا يوجد أي مقتض للإلزام والتقيّد بإكرامه ، بل يجوز إكرامه كما يجوز عدم إكرامه ؛ لأنّ المطلوب إكرام فقير ما لا خصوص هذا أو خصوص ذاك.

وحينئذ نقول : إنّ دليل الإلزام في قولنا : ( لا تكرم الفاسق ) يثبت أنّه في مورد الاجتماع أي في الحصّة الخاصّة وهي ( الفقير الفاسق ) يوجد المقتضي للإلزام التحريمي من جهة كونه فاسقا ، وهذا لا يتنافي مع ما ثبت بخطاب ( أكرم فقيرا ) من عدم وجود المقتضي للإلزام الوجوبي من ناحية تقيّده بهذه الحصّة بالذات ، فإنّه في هذه الحصّة لا يوجد أي مقتض للإلزام الوجوبي فيها.

ولذلك يتقدّم خطاب ( لا تكرم الفاسق ) على خطاب ( أكرم فقيرا ) في مادّة الاجتماع ، من جهة أنّ الأوّل يثبت وجود المقتضي للتحريم ، بينما الثاني لا يثبت المقتضي للوجوب فيه بعنوانه الخاصّ (١).

__________________

(١) وكأنّ السيّد الشهيد يقبل هذا لأنّه لم يعلّق عليه هنا ، إلا أنّه غير تامّ أيضا ؛ لأن جعل الإطلاق البدلي كالترخيص الشرعي لا يمكن المساعدة عليه عرفا ، إذ العرف يرى الفرق بينهما بوضوح ؛ لأنّ جعل الإطلاق البدلي فيه إلزام بخلاف الترخيص فإنّه لا إلزام فيه.

ولو تمّ ذلك للزم عدم إمكان التمسّك بالإطلاق البدلي لنفي أيّة خصوصيّة يشكّ في دخالتها في موضوع الحكم ؛ لأنّه على هذا التقدير يكون لسانه لسان نفي الاقتضاء فقط ، فإذا شكّ في دخالة قيد العدالة فيه لم يمكن نفيها بالإطلاق البدلي ؛ لأنّه ليس ناظرا إلا إلى نفي الاقتضاء لا إلى نفي الخصوصيّات في الطبيعة. ومن هنا يحتاج نفيها إلى دليل آخر كالأصل العملي مثلا ، وهذا لا يلتزم به أحد ؛ لأنّه الإطلاق البدلي ينفي الخصوصيّات كالشمولي تماما لأنّهما على حدّ واحد ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة تجري فيهما معا وبها تنتفي الخصوصيّات ، ممّا يعني أنّ النظر فيه إلى موضوع الحكم وكون الطبيعة من دون قيد ، وأمّا الاقتضاء فهو ليس مدلولا للإطلاق ، بل هو حكم انتزاعي عقلي في مقام الامتثال وهو خارج عن المعارضة موضوعا.

١٣٠

٥ ـ إذا تعارض أصل مع أمارة ، كالرواية الصادرة من ثقة فالتعارض ـ كما أشرنا سابقا (١) ـ إنّما هو بين دليل حجيّة الأصل ودليل حجيّة تلك الرواية.

التطبيق الخامس : تعارض الأمارة مع الأصل.

إذا تعارض الأصل ( كالاستصحاب أو البراءة أو الاحتياط أو أصالة الطهارة أو الحلّيّة ) مع الأمارة كخبر الثقة.

فهنا لا إشكال بينهم في تقديم الأمارة على الأصل وإنّما الخلاف في الوجه الفنّي والصناعي للتقديم.

وقد تقدّم سابقا أنّ التعارض لا يكون بين الأمارة والأصل نفسه ؛ لأنّ الأصل عبارة عن جعل شرعيّ على موضوعه ، وإنّما بين الدليل الدالّ على حجّيّة الأمارة والدليل الدالّ على حجّيّة الأصل ، أي بين السيرة العقلائيّة أو المتشرّعيّة الدالّة على حجّيّة الأمارة وبين الدليل الدالّ على حجّيّة الأصل وهو الروايات الدالّة على البراءة أو الاستصحاب ونحوهما من الأصول.

وهنا يوجد اتّجاهان رئيسان :

وفي مثل ذلك قد يقال بالورود ، بتقريب : أنّ موضوع دليل الأصل هو عدم العلم بما هو دليل ، ودليل حجّيّة الخبر يجعل الخبر دليلا ، فيرفع موضوع دليل الأصل حقيقة ، وهو معنى الورود.

ولكنّ أخذ العلم في دليل الأصل بما هو دليل لا بما هو كاشف تامّ يحتاج إلى قرينة ؛ لأنّ ظاهر الدليل في نفسه أخذ العلم فيه بوصفه الخاصّ.

الاتّجاه الأوّل : تقديم الأمارة على الأصل على أساس الورود ، والورود معناه كما تقدّم الرفع الحقيقي للموضوع : إمّا تكوينا وإمّا ادّعاء.

وهنا يقال بالورود الحقيقي ؛ وذلك لأنّ العلم له أربع خصائص ، هي :

__________________

(١) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟

١٣١

١ ـ الصفة النفسانيّة من الإذعان والتصديق للنفس.

٢ ـ الكاشفيّة التامّة عن الواقع وما تعلّق به العلم.

٣ ـ المحرّكيّة والجري العملي على طبق العلم.

٤ ـ المنجّزيّة والمعذّريّة أي الحجّيّة الأصوليّة والدليليّة.

ودليل حجّيّة الأصل قد أخذ في موضوعه عدم العلم بما هو حجّة ودليل ؛ لأنّ مثل قوله عليه‌السلام : « رفع ما لا يعلمون » أو « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » يدلّ على أخذ العلم في موضوع الأصل ، أي أنّ الأصل حجّة ودليل ما لم يحصل العلم ، فإذا حصل العلم ارتفعت حجّيّته ودليليّته ، وليس المراد من حصول العلم خصوص الخصوصيّة الأولى أي الحالة النفسانيّة ، وليس خصوص الكاشفيّة التامّة عن الواقع ، بل المراد من العلم مطلق الحجّيّة والدليل الأعمّ من الوجداني والتعبّدي.

فإذا جاءت الأمارة فحيث إنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعلها دليلا وحجّة ـ لأنّه القدر المتيقّن من دليل جعل الحجّيّة للأمارة إذ لو لم تكن كذلك لكان جعلها لغوا ـ فهو يوجد فردا من أفراد الحجّيّة ، والدليل بدليل جعل الحجّيّة لها ، فيتحقّق العلم التعبّدي الذي هو أحد فردي العلم المأخوذ غاية في دليل الأصل ، فيرتفع موضوع الأصل لارتفاع موضوعه.

ويرد عليه : أنّ أخذ العلم بمعنى الحجّة والدليل يحتاج إلى عناية خاصّة وقرينة ؛ لأنّ الظاهر من العلم عند إطلاقه إرادة المعنى الخاصّ منه وهو ما يكون كاشفا تامّا لا ما يكون حجّة ودليلا ، ولذلك فالمأخوذ في دليل الأصل هو أنّ الأصل حجّة ما لم يحصل العلم الوجداني على خلافه ، والأمارة لا تثبت العلم الوجداني ولذلك يقع التعارض بينهما ؛ لأنّ عدم العلم الوجداني موجود في الأمارة والأصل.

وأمّا لما ذا كان الظاهر من كلمة العلم هو الكاشفيّة التامّة؟ فلأنّ العلم صفة تكوينيّة لشيء خارجيّ فيكون مرآة وحاكيا عنه ، ولذلك يكون كاشفا تامّا وإلا لم يكن علما.

وقد يقال بالحكومة بعد الاعتراف بأنّ ظاهر دليل الأصل أخذ عدم العلم في موضوعه بما هو كاشف تامّ ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة الأمارة مفاده التعبّد بكونها علما وكاشفا تامّا ، وبذلك يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ ـ إثباتا أو نفيا ـ موضوعا لحكم من الأحكام.

١٣٢

ومن أمثلة ذلك : قيامها مقام القطع المأخوذ عدمه في موضوع دليل الأصل ، وبهذا يكون دليل الحجّيّة رافعا لموضوع دليل الأصل تعبّدا ، وهو معنى الحكومة.

الاتّجاه الثاني : تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل للحكومة.

وبيان ذلك : أنّنا نسلّم كون العلم المأخوذ غاية في موضوع الأصل هو العلم بما هو كاشف تامّ لا بما هو حجّة ودليل ، وهذا معناه أنّ الأصل لا يرتفع إلا إذا حصل العلم الوجداني على الخلاف.

ولكن لمّا جعل الشارع الأمارة حجّة فدليل الحجّيّة للأمارة مفاده جعل الأمارة علما وطريقا كاشفا عن الواقع على حدّ كاشفيّة العلم ، ولكنّ هذا بلسان الادّعاء والتعبّد ، فالشارع يتعبّدنا بالعلميّة والكاشفيّة التامّة في موارد الأمارة.

وحينئذ إذا لاحظنا دليل حجّيّة الأمارة مع موضوع دليل الأصل العملي كان الأوّل حاكما على الثاني على أساس ملاك التنزيل فتكون الحكومة تنزيليّة ؛ وذلك لأنّ الشارع يدّعي ثبوت العلم بالأمارة ، وهذا معناه أنّه ناظر إلى الأدلّة التي أخذ في موضوعها العلم نفيا أو إثباتا ، ويوسّع هذا الموضوع لكي يشمل العلم التعبّدي أيضا.

وهذا معناه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ كلّ ما أخذ العلم في موضوعه نفيا أو إثباتا يصبح المراد النهائي منه هو العلم الأعمّ من الوجداني والتعبّدي على أساس الحكومة في دليل حجّيّة الأمارة.

ومن جملة موارد قيامها مقام القطع الموضوعي مورد بحثنا ؛ لأن العلم قد أخذ جزءا من موضوع الأصل العملي « رفع ما لا يعلمون » ، فيكون المراد منه أنّ كلّ ما لا علم وجداني ولا علم تعبّدي فيه فهو مرفوع ، وأمّا مع ثبوت أحد الفردين من العلم فيرتفع موضوع الأصل.

وهنا الأمارة تثبت العلم التعبّدي فيرتفع بذلك موضوع الأصل تعبّدا ، وهو معنى الحكومة ؛ لأنّ عدم العلم الوجداني والحقيقي لا يزال ثابتا ، وإنّما الذي ارتفع هو عدم العلم التعبّدي ؛ لأنّ الأمارة تحقّق العلم التعبّدي فيكون أحد فردي العلم وهو ما ادّعى الشارع كونه علما هو الثابت.

فإن قيل : هذا لا ينطبق على حالة التعارض بين الأمارة والاستصحاب ؛ لأنّ

١٣٣

دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين أيضا ، فيكون بدوره رافعا لموضوع دليل حجّيّة الأمارة وهو الشكّ وعدم العلم.

وقد يشكل على الحكومة بأنّها لو سلّمت فهي إنّما تتمّ في مثل البراءة والاحتياط ونحوهما ؛ لأنّ موضوعهما قد أخذ فيه العلم غاية ، وهذا لا يدلّ على أكثر من تسجيل الموقف العملي والوظيفة حال الشكّ وعدم العلم ، فتكون الأمارة حاكمة لأنّها تثبت العلم.

وأمّا مثل الاستصحاب فلا تتمّ فيه الحكومة ؛ وذلك لأنّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين على أساس أنّ دليل حجّيّة الاستصحاب ينزّل نفس الاستصحاب منزلة اليقين أو الاحتمال المقوّم للاستصحاب منزلة اليقين ، أو ينزّل المؤدّى منزلة المتيقّن ، فإنّ هذه الوجوه كلّها من ألسنة الإحراز والتنزيل.

وهذا يعني أنّ الشارع يتعبّدنا ببقاء اليقين على حاله أو ببقاء الحالة المتيقّنة على حالها ، وعلى كلا التقديرين يكون الشكّ الموجود واقعا وتكوينا مرفوعا وملغى تعبّدا ، وهذا معناه أنّ الاستصحاب مفاده التعبّد العلمي والبناء على اليقين وكأنّه لا يزال موجودا ، وهذا لا يكون إلا بثبوت العلم التعبّدي بالاستصحاب في موارده ، ومن هنا ذهب السيّد الخوئي مثلا إلى اعتبار الاستصحاب أمارة كجملة الأمارات.

وحينئذ نقول : إذا تعارض الاستصحاب مع الأمارة في مورد نفيا وإثباتا كان التعارض بينهما مستقرّا ؛ لأنّ دليل الأمارة وإن كان يرفع الشكّ وعدم العلم تعبّدا إلا أنّ دليل الاستصحاب أيضا بناء على ما تقدّم يرفع الشكّ وعدم العلم ؛ لأنّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين ، وهذا لا يكون إلا على أساس التنزيل.

وهذا معناه أنّه يكون هناك توارد من الطرفين ؛ لأنّ دليل حجّيّة الاستصحاب يرفع موضوع دليل حجّيّة الأمارة لأنّه يثبت العلم ويرفع الشكّ ؛ ولأنّ دليل حجّيّة الأمارة يرفع الشكّ وعدم العلم أيضا ، وبذلك يقع التعارض ويحكم بتساقطهما ولا حكومة لأحدهما على الآخر.

كان الجواب : أنّ الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّيّة الأمارة لسانا ، بل إطلاق الدليل يشمل حتّى حالة العلم الوجداني بالخلاف ، غير أنّ العقل يحكم باستحالة جعل الحجيّة للأمارة مع العلم بخلافها وجدانا ، وهذا الحكم العقلي إنّما

١٣٤

يخرج عن إطلاق الدليل حالة العلم الوجداني خاصّة ، فلا يكون الاستصحاب رافعا لموضوع دليل حجّيّة الأمارة ، خلافا للعكس فإنّ الشكّ وعدم العلم مأخوذ في دليل الاستصحاب لسانا ، فبجعل الأمارة علما يرتفع موضوعه بالحكومة.

ويجاب عن الإشكال عند من يرى الحكومة بما حاصله : أنّ الأمارة والاستصحاب وإن كان مفادهما التعبّد العلمي ، إلا أنّه مع ذلك هناك فارق بينهما إثباتا ، وهذا الفارق الإثباتي يكشف عن وجود فارق ثبوتي أيضا.

وبيانه : أنّ موضوع دليل حجّيّة الأمارة لم يؤخذ فيه عنوان الشك بحسب اللسان والصياغة والدلالة ، فمثلا دليل حجّيّة الخبر ـ سواء السيرة أو الآيات أو الروايات ـ مفاده التعبّد بالعمل بالخبر من دون أن يؤخذ فيه الشكّ أصلا ، كقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ) فإنّ مفهومها أنّه إذا جاء العادل بالنبإ فلا تتبيّنوا ، فالشكّ غير مأخوذ في الموضوع أصلا ، وهكذا الروايات الدالّة على الإرجاع إلى الثقات والأخذ عنهم معالم الدين فإنّه لم يرد فيها عنوان الشكّ.

ومن هنا نقول : إنّ دليل حجّيّة الأمارة يثبت حجّيّتها وجواز التعبّد بها مطلقا ، وهذا الإطلاق شامل بالنظرة الأوّليّة حتّى لحالة وجود العلم الوجداني المخالف للأمارة ، إلا أنّ هذا المورد يحكم العقل بلزوم رفع اليد عنه وإخراجه عن موضوع الأمارة وإن كان مشمولا لإطلاقها ؛ وذلك لأنّه لا معنى لتقديم الأمارة على العلم الوجداني المخالف لها ؛ لأنّ العلم الوجداني حجّة بنفسه ولا يمكن رفع اليد عنه ولا يمكن الردع عن حجّيّته ، والأمارة المخالفة له لا يمكنها أن تردع عن العمل بالقطع الوجداني ، بل العكس هو الصحيح ؛ لأنّ الأمارة حجّة ولكن حجّيّتها مرهونة بعدم الردع عنها ؛ لأنّه يمكن سلب الحجّيّة عنها وهنا القطع المخالف لها يكون رادعا عن العمل بالأمارة ورافعا لحجّيّتها.

وعلى كلّ حال فالإطلاق في الأمارة موجود ولكن خرج منه بحكم العقل حالة القطع الوجداني على الخلاف ، ويبقى ما عدا ذلك داخلا في موضوع الأمارة ، ولذلك إذا قام الاستصحاب على مورد وقامت الأمارة عليه قدمت الأمارة على الاستصحاب بالحكومة ؛ لأنّ موضوعها ثابت في هذا المورد بينما دليل الاستصحاب قد أخذ في لسانه عدم العلم ، وهنا العلم بقيام الأمارة متحقّق فيرتفع موضوع

١٣٥

الاستصحاب دون العكس ؛ لأنّ عدم العلم أو الشكّ لم يؤخذ في لسان دليل حجّيّة الأمارة ، بل هو مطلق حتّى لحالة العلم كما قلنا.

ونلاحظ على ذلك كلّه : أنّ الدليل الحاكم لا تتمّ حكومته إلا بالنظر إلى مفاد الدليل المحكوم كما تقدّم ، ودليل حجّيّة الخبر في المقام وكذلك الظهور هو السيرة العقلائيّة وسيرة المتشرّعة.

أمّا السيرة العقلائيّة فلم يثبت انعقادها على تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي ؛ لعدم انتشار حالات القطع الموضوعي في الحياة العقلائيّة على نحو يساعد على انتزاع السيرة المذكورة.

وإمضاء السيرة العقلائيّة شرعا لا دليل على نظره إلى أكثر ممّا تنظر السيرة إليه من آثار.

وأمّا سيرة المتشرّعة فالمتيقّن منها العمل بالخبر والظهور في موارد القطع الطريقي ، ولا جزم بانعقادها على العمل بهما في موارد القطع الموضوعي.

ويرد على القول بالحكومة :

أنّ الحكومة من أنواع القرينيّة الشخصيّة التي يتمّ إعدادها شخصيّا من قبل المتكلّم نفسه ، وهذا يشترط فيه أن يكون الكلام الثاني الذي أعدّه للتفسير ناظرا إلى الكلام الأوّل ، والنظر إنّما يثبت بأحد ملاكات ثلاثة كما تقدّم.

وهنا نقول : إنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يمكن أن يكون حاكما على دليل حجّيّة الأصل بحيث يكون رافعا لموضوعه تعبّدا ؛ وذلك لعدم إحراز النظر الذي هو ملاك الحكومة.

والوجه في عدم إحراز النظر أنّ دليل حجّيّة الخبر وكذلك دليل حجّيّة الظهور إنّما هو السيرة العقلائيّة أو سيرة المتشرّعة ، وكلاهما لم يثبت النظر فيهما ، وتفصيل ذلك :

أمّا السيرة العقلائيّة فعدم إحراز النظر فيها من جهة أنّ حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل حجّيّة الأصل يتوقّف على أن تكون الأمارة قائمة مقام القطع الموضوعي لا الطريقي فقط ، وقيام الأمارة مقامه يحتاج إلى دليل.

فإن كان الدليل هو نفس الدليل الدالّ على حجّيّة الأمارة أي السيرة العقلائيّة ، فهذا لا يمكن التسليم به ؛ لأنّ القطع الموضوعي لا يحرز قيام السيرة العقلائيّة عليه ،

١٣٦

لندرة أو لعدم وجود القطع الموضوعي في حياة العقلاء ، ممّا يعني أنّه إمّا غير موجود أصلا أو أنّ ما هو موجود منه ليس بذاك المقدار الذي يؤدّي إلى كونه من المرتكزات والبناءات العقليّة لندرته جدّا.

وما دام كذلك فلا يثبت النظر في دليل حجّيّة الأمارة إلى دليل حجّيّة الأصل ، ومع عدم إثبات النظر لا يمكن دعوى الحكومة.

ولا يقال : إنّنا نثبت النظر على أساس إمضاء الشارع للسيرة العقلائيّة ، فإنّ السيرة وإن لم تكن ناظرة إلى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، إلا أنّ الإمضاء الشرعي لها من خلال السكوت وعدم الردع عنها يكشف لنا أنّ الأمارة حجّة ومعتبرة شرعا ، والإمضاء لا يتحدّد بحسب الموقف العملي العقلائي فحسب ، بل يتعدّاه ليشمل حتّى ما لم تقم عليه السيرة أيضا ، وهو القطع الموضوعي ، وبالتالي تثبت الحكومة لاستكشاف النظر من خلال الإمضاء للسيرة العقلائيّة على العمل بالأمارة ، ممّا يعني جواز العمل بالأمارة شرعا لا في حدود ما قامت عليه بالفعل بل للأوسع من ذلك.

فإنّه يجاب بأنّ الإمضاء الشرعي المستكشف بالسكوت وعدم الردع وإن كان لا يتحدّد بحدود ما قامت عليه السيرة العقلائيّة بالفعل ، ولكنّه إنّما يتّجه لإمضاء المرتكز والبناء العقلائي الذي على أساسه انعقدت سيرتهم على العمل بالأمارة ، وهذا المرتكز والبناء العقلائي ثبت أنّه قائم على أساس القطع الطريقي ؛ لأنّه هو المتعارف لدى العقلاء.

وأمّا القطع الموضوعي فهو لمّا لم يكن متعارفا بينهم فيعتبر حالة جديدة ، ممّا يعني أنّه لا يوجد لديهم أيّ موقف ولا بناء ولا ارتكاز بالنسبة لهذه الظاهرة الجديدة ، ولا يمكن استكشاف حكمها من خلال بنائهم على العمل بالقطع الطريقي ؛ لأنّه قياس محض ، ولأنّه يعني أنّ البناءات العقلائيّة عبارة عن تعبّدات محضة وهذا لا يمكن المصير إليه ؛ إذ البناءات العقلائيّة إنّما يؤخذ بها لكونها كاشفة عن المرتكزات والبناءات لا لمجرّد التعبّد المحض ، أو قياس هذا الأمر على غيره.

ولذلك يكون الإمضاء للسيرة متحدّدا بمقدار المرتكز والبناء العقلائي وهو ليس بأكثر من القطع الطريقي.

وأمّا سيرة المتشرّعة : فعدم إحراز النظر فيها من جهة أنّ سيرة المتديّنين من

١٣٧

أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ومن إليهم ممّن قرب من عصر النصّ لا يحرز قيامها بالفعل على القطع الموضوعي ، وما هو محرز هو الأخذ بالأمارة في موارد القطع الطريقي فقط ، وأمّا الأخذ بها في موارد القطع الموضوعي فهذا وإن كان ممكنا ولكنّه لم يحرز عملهم بذلك ، ومع عدم إحراز العمل منهم لا يمكن استكشاف النظر الذي هو الأساس للحكومة.

وبهذا ظهر أنّ دعوى الحكومة كدعوى الورود كلاهما غير تامّتين.

والأصحّ : أن نلتزم بأخصّيّة دليل حجّيّة الخبر والظهور ، بل كونه نصّا في مورد تواجد الأصول على الخلاف ؛ للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور ، وعدم الرجوع إلى البراءة ونحوها من الأصول العمليّة. فالأمارة بحكم هذه الأخصّيّة والنصّيّة في دليل حجّيّتها مقدّمة على الأصل المخالف لها ، وإن لم يثبت بدليل الحجّيّة قيامها مقام القطع الموضوعي عموما.

والصحيح : هو أنّ الأمارة تتقدّم على الأصل العملي من باب القرينيّة النوعيّة أي من باب الأخصّيّة والنصّيّة.

أمّا النصّيّة : فلأنّه إذا قامت الأمارة على الإلزام الأعمّ من الوجوب والتحريم وقام الأصل العملي على الخلاف كالبراءة أو الاستصحاب المثبت للترخيص وعدم التكليف ، فالسيرة العقلائيّة منعقدة بالفعل على العمل بالأمارة في هذه الحالة وعدم الرجوع إلى الأصل العملي ، بمعنى أنّ العقلاء يأخذون بالخبر الإلزامي وبه يتنجز الواقع عندهم ولا يلتفتون إلى الأصل العملي الدالّ على الترخيص.

وهذه السيرة بحكم إمضاء الشارع لها تكون نصّا شرعيّا على تقديم الأمارة على الأصل. ومن الواضح أنّ تقديم النصّ ملاكه القرينيّة النوعيّة لا الورود ولا الحكومة.

وأمّا الأخصّيّة ، فليس المراد بها الأخصّيّة الاصطلاحيّة ؛ لأنّ النسبة بين الأمارة كخبر الثقة وبين البراءة والاحتياط أو الاستصحاب هي العموم من وجه ؛ لا العموم المطلق ، ولكن مع ذلك تتقدّم الأمارة على الأصل لوجود النكتة التي هي ملاك الأخصّيّة.

وتوضيح ذلك : إذا لاحظنا خبر الثقة مع البراءة وجدنا أنّ خبر الثقة يشمل الخبر الدالّ على الإلزام كما يشمل الخبر الدالّ على الترخيص ، بينما البراءة نجد أنّها تجري

١٣٨

سواء كان هناك خبر إلزامي أم لا وسواء كان هناك خبر ترخيصي أم لا ، وتشمل ما إذا لم يكن هناك خبر أصلا ، فيجتمعان بنحو التعارض فيما إذا قامت الأمارة على الإلزام والأصل على الترخيص ، ويجتمعان من دون تعارض فيما إذا قام الخبر على الترخيص مع البراءة.

ويفترقان فيما إذا وجد الأصل من دون وجود الأمارة ، وفيما إذا وجدت الأمارة على الإلزام أو الترخيص ولم يكن المورد من موارد البراءة ككون الشكّ قبل الفحص مثلا.

فهنا إذا قلنا بتقديم الأصل في مورد اجتماعهما مع التعارض بينهما ، كان معنى ذلك تخصيص الأمارة في موارد غير الإلزام ، ولكن تخصيصها في هكذا موارد بحكم إلغائها ؛ لأنّه في تلك الموارد يجري الأصل الترخيصي ، ومعه لا نحتاج إلى إثبات الترخيص بالأمارة ؛ لأنّ البراءة تجري فيه سواء كانت هناك أمارة موافقة أم لا.

وهذه هي النكتة التي على أساسها كان تقديم الخاصّ على العامّ أو المطلق على المقيّد ؛ لأنّه لو قدّم المطلق أو العامّ للزم إلغاء الخاصّ أو المقيّد رأسا ، بينما لو قدّم الخاص والمقيّد لم يلزم إلغاء المطلق والعامّ رأسا ، وإنّما يلزم تخصيص العامّ وتقييد المطلق فقط.

وهنا كذلك فإنّ تقديم الأصل يعني إلغاء الأمارة رأسا ، بينما تقديم الأمارة لا يعني إلغاء الأصل ، بل تقييد إطلاقه لحال عدم وجود أمارة على الخلاف فقط.

وإذا لاحظنا خبر الثقة مع الاستصحاب وجدنا أنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه أيضا ؛ لأنّ الاستصحاب يشمل ما إذا كانت الحالة السابقة هي الإلزام أو الترخيص ، ويشمل ما إذا كان المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، سواء وجدت الأمارة على الخلاف أم كانت موافقة أم لم تكن موجودة أصلا ، بينما خبر الثقة يشمل ما إذا كان الحكم إلزاما أو ترخيصا أو موضوعا أو كانت هناك حالة سابقة موافقة له أو مخالفة له أو لم تكن هناك حالة سابقة أصلا أو كانت الحالتان متواردتين.

فيجتمعان مثلا إذا قام الخبر على الإلزام والاستصحاب على الترخيص أو الخبر على الترخيص والاستصحاب على إثبات التكليف.

١٣٩

ويفترق الاستصحاب في موارد عدم وجود الأمارة ، وتفترق الأمارة عن الاستصحاب في موارد عدم الحالة السابقة أو توارد الحالتين.

وهنا إذا قلنا بتقديم الاستصحاب في موارد اجتماعه مع خبر الثقة كان بحكم الإلغاء أيضا ؛ لأنّه يعني تخصيص الخبر في موارد عدم الحالة السابقة أو توارد الحالتين ، وهذان الأمران نادرا الوقوع والتحقّق ، بينما لو قدّمنا الأمارة على الاستصحاب فهذا معناه جريان الاستصحاب في الموارد التي لا يوجد فيها أمارة على الخلاف وهي كثيرة جدّا.

وهكذا الحال فيما إذا لاحظنا خبر الثقة مع الاحتياط مثلا ، فإنّه يجري فيه ما قيل في البراءة سابقا.

وكذلك إذا لاحظنا خبر الثقة مع أصالة الطهارة أو الحلّيّة ، فإنّه لا وجه لتخصيص خبر الثقة في غير موارد الطهارة أو النجاسة أو في غير موارد الحلّيّة والحرمة ؛ لعدم الفرق في ذلك في دليل الحجّيّة الذي هو السيرة العقلائيّة فإنّهم يأخذون بالخبر في جميع الموارد ولا يخصّصونه بغير هذه الموارد ، ممّا يعني أنّه في موارد التعارض يؤخذ بالخبر دون القاعدتين ، ويحكم بتخصيصهما في غير موارد ثبوت الخبر على الخلاف فيهما.

وبهذا يظهر أنّ النكتة الفنيّة والصناعيّة لتقديم الأمارة على الأصل هي القرينيّة النوعيّة ، أي الأخصّيّة بمعنى وجود ملاك الأخصّيّة وهو اللغويّة ، أو يقال بالنصّيّة كما تقدّم.

ولا نحتاج هنا إلى إثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، فإنّها حتّى لو لم تقم مقامه فإنّها تتقدّم على الأصل ؛ لأنّ القرينيّة العامّة النوعيّة لا تتوقّف على النظر ، ونحن إنّما نحتاج إلى إثبات قيامها مقام القطع الموضوعي لأجل إثبات النظر فمع انتفاء الحاجة إليه لا نحتاج لذلك أيضا.

٦ ـ إذا تعارض أصل سببي وأصل مسبّبي كان الأصل السببي مقدّما ، ولهذا يجري استصحاب طهارة الماء الذي يغسل به الثوب المتنجّس ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول.

وقد فسّر ذلك على أساس الحكومة ؛ لأنّ استصحاب نجاسة الثوب في المثال

١٤٠