شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

نعم ، في الأصول العمليّة الترخيصيّة كنّا نحكم بتعارضها وتساقطها ؛ لأنّها تؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، ولكن فرق بين الأمارة والأصل ، لأنّ الأصل لوازمه ليست حجّة فلا يمكن الالتزام بما يؤدّي إليه ، بينما الأمارة حجّة فيكون الالتزام بما تؤدّي إليه حجّة لو لا المعارضة ، ولذلك يحكم بالتعارض والتساقط.

فإن قيل : المبرّر لطرح الدلالة الالتزامية خاصّة دون المطابقيّة أنّها ساقطة عن الحجّيّة على أيّة حال ، سواء رفعنا اليد عنها ابتداء أو رفعنا اليد عن الدلالتين المطابقيّتين ؛ لأنّ سقوط المطابقيّة عن الحجّيّة يستتبع سقوط الالتزاميّة ، فالدلالة الالتزامية إذا ساقطة عن الحجّيّة على أيّة حال ، إمّا سقوطا مستقلاّ أو بتبع سقوط الدلالة المطابقيّة ، ومع هذا فلا موجب للالتزام بسقوط الدلالة المطابقيّة.

وقد يقال في بيان الإشكال بنحو آخر : إنّ المعارضة وإن كانت بين المدلول المطابقي في أحدهما وبين المدلول الالتزامي في الآخر ، إلا أنّه مع ذلك يحكم بسقوط الدلالتين الالتزاميّتين عن الحجّيّة دون المطابقيّتين ، حتّى ولو كان دليل الحجّيّة نسبته إليهما على حدّ واحد ؛ وذلك لوجود المرجّح والمبرّر لسقوطهما.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا قلنا باستقرار التعارض بين مجموع الدلالات الأربع في الدليلين المتعارضين ، فهذا معناه الحكم بسقوط المدلولين الالتزاميّين والمدلولين المطابقيّين معا ؛ بينما إذا قلنا باقتصار التعارض على المدلولين الالتزاميّين فسوف تبقى الدلالتان المطابقيّتان على الحجّيّة.

وهنا نلاحظ أنّ المدلولين الالتزاميّين ساقطان على كلّ حال ، أي سواء سقطت الدلالتان المطابقيّتان أيضا أم لا ، فيكون من الدوران بين الأقلّ والأكثر فيقتصر على الأقلّ دون الأكثر ، وهنا يدور الأمر بين سقوط الأقلّ وهو الدلالتان الالتزاميّتان وبين سقوط الأكثر وهو سقوط الدلالات الأربع جميعا ، فيقتصر فيه على الأقلّ ؛ لأنّه به ترتفع المعارضة أيضا ، فلا حاجة ولا مبرّر لرفع المعارضة بالأكثر ما دام الأقلّ يفي بذلك.

وهذا معناه وجود المرجّح لإسقاط المدلول الالتزامي في كلا المعارضتين والإبقاء على المدلول المطابقي فيهما وشمول دليل الحجّيّة له.

ويمكننا أن نقول بعبارة ثانية : إنّ دليل الحجّيّة لمّا كان شاملا للدلالات الأربع بمعنى

١٦١

وجود المقتضي للحجّيّة فيها جميعا ، ولمّا كان الأخذ بها جميعا يؤدّي إلى التعارض ، فنرفع اليد عن المقدار الذي يرتفع به التعارض ، وحيث إنّ المعارضة ترتفع بإسقاط الدلالات الأربع وترتفع أيضا بإسقاط الدلالتين الالتزاميتين ، كان الاقتصار على القدر المتيقّن هو المتعيّن خروجا به عن التعارض الذي لولاه لأخذنا بالدلالات الأربع جميعا.

كان الجواب : أنّ الدلالة الالتزاميّة في كلّ معارضة ثنائيّة تعارض الدلالة المطابقيّة للدليل الآخر ، وهي غير تابعة لها في الحجّيّة ليدور أمرها بين السقوط الابتدائي والسقوط التبعي ، فلا معيّن لحلّ المعارضة بإسقاط الدلالتين الالتزاميّتين خاصّة.

والجواب عن ذلك : أنّنا لا نعلم بسقوط المدلولين الالتزاميّين على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّنا إذا فرضنا صدق أحد الدليلين كما هو هكذا ، فهذا معناه أنّ إحدى الدلالتين الالتزاميّتين ثابتة وليست ساقطة على كلّ تقدير.

مضافا إلى أنّ العلم بسقوط الدلالتين الالتزاميّتين على كلّ تقدير فرع أن تكون هناك تبعيّة بينهما وبين الدلالتين المطابقيّتين في الحجّيّة ، بمعنى أن تكون حجّيّتهما في طول حجّيّة الدلالتين المطابقيّتين ، وهذه المعنى للتبعيّة غير صحيح ؛ لأنّ المقصود من التبعيّة هو التلازم في الوجود بينهما ثبوتا وعدما ، وأمّا دليل الحجّيّة فهو يشملهما معا وفي مرتبة عرضيّة واحدة.

ثمّ إنّ الافتراض المذكور إنّما يتمّ لو كانت المعارضة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي لنفس الدليل ، بحيث تكون الدلالة الالتزاميّة في طول الدلالة المطابقيّة المعارضة لها ، فهنا يقال : إمّا أن يحكم بسقوطهما معا أو بسقوط إحداهما فقط ، فيتعيّن الثاني لكونها ساقطة على كلّ تقدير.

وأمّا إذا كانت المعارضة بين المدلول المطابقي في أحد الدليلين مع المدلول الالتزامي في الدليل الآخر ـ كما هو في مقامنا ـ فلا يأتي الكلام المتقدّم ؛ لأنّ المدلول الالتزامي ليس في طول المدلول المطابقي المعارض له ، وإنّما هو في طول المدلول المطابقي لنفس دليله وهو ليس معارضا له ، فسقوط المدلول المطابقي لا يتبعه سقوط معارضه ؛ لأنّه ليس في طوله ، فلا يكون تابعا لسقوطه ليدور أمر سقوطه بين السقوط الابتدائي أو

١٦٢

السقوط التبعي ، وهذا يعني أنّه ليس فيه إلا سقوط واحد وهو السقوط الابتدائي ، وهذا شامل للدلالات الأربع على حدّ واحد ، فلا مرجّح ولا مبرّر لإسقاط الدلالتين الالتزاميّتين خاصّة.

وبهذا يظهر أنّ الشقّ الأوّل ـ وهو كون شمول دليل الحجّيّة للمتعارضين معا غير معقول ـ صحيح وتامّ.

وأمّا الشق الثاني ـ وهو شمول دليل الحجيّة لأحدهما المعيّن ـ فقد يبرهن على استحالته بأنّه ترجيح بلا مرجّح ، إلا أنّ هذا البرهان لا يطّرد في الحالات التالية :

أمّا الشقّ الثاني : وهو أنّ دليل الحجّيّة لا يمكن شموله لأحدهما المعيّن دون الآخر.

والدليل على ذلك : هو أنّ شموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ دليل الحجّيّة نسبته إلى كلا الدليلين المتعارضين على حدّ واحد ، بمعنى أنّ مقتضي الحجّيّة فيهما موجود لو لا المعارضة.

وهذا معناه أنّ دليل الحجّيّة كما ينطبق على هذا ينطبق على ذاك أيضا ، وحينئذ يكون تطبيقه في أحدهما بعينه دون الآخر ترجيح له على الآخر مع عدم وجود المرجّح كما هو المفروض ، والترجيح من دون مرجح قبيح عقلا. ولا يمكن القول به لاستحالته.

ولكن يقال : إنّ برهان الترجيح بلا مرجّح صحيح في نفسه ، ولكنّه لا يأتي في تمام الموارد التي يقع التعارض فيها بين الدليلين ، فإنّه في بعض الحالات يكون أحد الدليلين متعيّنا شمول دليل الحجّيّة له دون الآخر ، مع كونه بالنسبة إليهما على حدّ واحد.

وسوف نستعرض هذه الحالات فنقول :

الحالة الأولى : أن نعلم بأنّ ملاك الحجّيّة والطريقيّة غير ثابت في كلّ من الدليلين في حالة التعارض ، وفي هذه الحالة لا شكّ في سقوطهما معا بلا حاجة إلى برهان ؛ لأنّ المفروض عدم الملاك لحجّيّتهما.

الحالة الأولى : ما إذا علمنا من الخارج أنّ الدليلين المتعارضين ليسا واجدين لملاك الحجّيّة في حالة التعارض ، بمعنى أنّه حتّى في غير حالة التعارض يكون كلّ واحد

١٦٣

منهما مستقلاّ ـ لو جاء دون الآخر ـ غير واجد لملاك الحجّيّة والطريقيّة والكاشفيّة المفترض وجودها في الخبر ، وحيث إنّهما اجتمعا معا فيعلم بعدم ثبوت هذه الحيثيّة الكاشفة فيهما ، فإنّنا إذا قلنا بأنّ الحيثيّة الكاشفة أو نكتة الطريقيّة في حجّيّة خبر الثقة هي كونه مطابقا للواقع نوعا ، فإذا اجتمع خبران متعارضان علمنا بأنّ المطابقة للواقع غير موجودة فيهما وإلا لاجتمع النقيضان أو الضدّان بحسب مفاديهما المتنافيين.

وحينئذ نقول : إنّ الحكم بسقوطهما لا يتوقّف على الشقّ الثاني وهو كون شمول دليل الحجّيّة لأحدهما المعيّن يؤدّي إلى الترجيح من دون مرجّح ؛ وذلك لأنّ عدم وجود ملاك الحجّيّة وحده يكفي للحكم بتساقطهما من دون حاجة إلى ذلك البرهان العقلي.

وبهذا نكون قد استغنينا عن الشقّ الثاني في هذه الحالة ، ممّا يعني أنّنا حتّى لو أنكرنا محذور الترجيح بلا مرجّح وقلنا بإمكانه ، فإنّ التساقط هو المتعيّن ؛ لأنّه لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر من جهة أنّهما فاقدان معا لملاك الحجّيّة.

الحالة الثانية : أن نعلم ـ بقطع النظر عن دليل الحجّيّة ـ بوجود ملاكها في كلّ منهما ، وبأنّ الملاك في أحدهما المعيّن أقوى منه في الآخر ، ولا شكّ هنا في شمول دليل الحجّيّة لذلك المعيّن ، ولا يكون ترجيحا بلا مرجّح للعلم بعدم شموله للآخر.

الحالة الثانية : ما إذا علمنا من الخارج بوجود ملاك الحجّيّة في كلا الدليلين المتعارضين بأن كانت الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع موجودة فيهما على حدّ واحد ، وكان الكشف الظنّي النوعي في الخبرين على حدّ سواء ، ولكن نفترض هنا أنّنا نعلم من الخارج أيضا أنّ أحد الدليلين ملاكه على فرض ثبوته أقوى من ملاك الآخر على فرض ثبوته ، بمعنى أنّ المصلحة الموجودة في هذا الخبر أقوى منها في الخبر الثاني.

ففي هذه الحالة سوف لا يكون دليل الترجيح بلا مرجّح جاريا هنا ؛ لأنّه يمكننا أن نقول بحجّيّة الخبر الذي ملاكه أهمّ وأقوى ونرفع اليد عن الخبر الآخر الأقلّ أهمّيّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ دليل الحجّيّة بإطلاقه وإن كان شاملا لكلا الخبرين لوجود مقتضي الحجّيّة فيهما معا ، ولكن لمّا كان أحدهما أقوى ملاكا من الآخر فهنا نقطع بأنّ دليل الحجّيّة يشمله على فرض ثبوته بحيث لا يرضى الشارع بتفويته.

بينما الدليل الآخر الأقلّ أهمّيّة نقطع بعدم شمول دليل الحجّيّة له في حالة

١٦٤

التعارض ، وإن كان يشمله قطعا لو كان وحده وبقطع النظر عن المعارضة مع الآخر ، فيدور الأمر بين خبرين أحدهما لا يعلم عدم شمول دليل الحجّيّة له ، والآخر يقطع بعدم شمول دليل الحجّيّة له في حالة التعارض ؛ لأنّه إن كان أقلّ أهمّيّة واقعا فهو مرجوح قطعا ، وإن كان مساويا فهو ساقط بسبب المعارضة مع الآخر ، وهنا يتعيّن بحكم العقل الأخذ بالأقوى والأهمّ ، ولا يجري البرهان المتقدّم.

وهذا نظير موارد التزاحم بين الواجبين ، فإنّ العقل يحكم بتقديم الأهمّ على المهمّ ؛ لأنّ المكلّف لا يكون مفوّتا للملاك الأهمّ الذي لا يرضى الشارع بتفويته.

ومثال ذلك : ما إذا تعارض خبران أحدهما للثقة الإمامي والآخر للثقة من العامّة ، فهنا نعلم بأنّ دليل الحجيّة يشمل الخبر الإمامي قطعا لوجود ملاك الحجّيّة فيه بدرجة أقوى من الدليل الآخر ، بحيث لا يرضى الشارع برفع اليد عنه لو لا المعارضة.

بينما الخبر العامّي فهو وإن كان مشمولا لدليل الحجّيّة في نفسه إلا أنّ ملاكه ليس مساويا أو أقوى من الخبر الإمامي ، ولذلك لن نجد ما يمنع من رفع اليد عنه ؛ لأنّنا نعلم بأنّ الشارع يرضى بتفويته بحيث تسلب عنه الحجّيّة فيما لو كان منفردا فضلا عن حالة المعارضة.

وهذا معناه أنّنا لا نعلم بعدم شمول دليل الحجّيّة لخبر الإمامي في حالة التعارض وإنّما نحتمل الشمول كما نحتمل عدم الشمول ، ومنشأ هذا الاحتمال هو أقوائيّة ملاك الحجّيّة فيه لكونه إماميّا ، بينما نعلم بسقوط دليل الحجّيّة في الخبر العامّي في صورة المعارضة ، إمّا لأنّه ليس حجّة بسبب كونه أقلّ أهمّيّة من جهة الملاك وإمّا لكونه ساقطا عن الحجّيّة بسبب معارضته ومساواته للخبر الإمامي ، فهو في الحالتين معلوم السقوط ، فيدور الأمر بين الأقلّ والأكثر أي بين إسقاط كلا الخبرين أو الأخذ بالأقوى ملاكا ، وهنا يتعيّن الثاني لأنّ العقل يحكم بتقديم الأهمّ.

وكذلك الأمر إذا احتملنا أقوائيّة الملاك الطريقي في ذلك المعيّن ولم نحتمل الأقوائيّة في الآخر ، فإنّ هذا يعني أنّ إطلاق دليل الحجّيّة للآخر معلوم السقوط ؛ لأنّه إمّا مغلوب أو مساو ملاكا لمعارضه ، وأمّا إطلاق دليل الحجّيّة لمحتمل الأقوائيّة فهو غير معلوم السقوط فنأخذ به.

وهكذا أيضا لا يجري برهان الترجيح بلا مرجّح فيما لو كان أحد الخبرين محتمل

١٦٥

الأهمّيّة من جهة الملاك ، بينما الآخر لم يكن محتمل الأهمّيّة ، بل هو إمّا مساو أو أقلّ أهمّيّة.

والوجه في ذلك : هو ما تقدّم في معلوم الأهمّيّة ؛ وذلك لأنّ دليل الحجّيّة بالنسبة للخبر الذي لا تحتمل أهمّيّته ليس شاملا له ؛ لأنّه إن كان أقلّ أهمّيّة فهو ساقط بنفسه ؛ لأنّ الأهمّ يتقدّم على المهمّ ، وإن كان مساويا فيسقط بسبب المعارضة مع الخبر الآخر ، ولهذا يكون دليل الحجّيّة معلوم السقوط فيه.

وأمّا بالنسبة للخبر المحتمل كونه أقوى ملاكا ، فهذا لا يعلم بسقوطه عن الحجّيّة ، بل كما يحتمل سقوطه فيما إذا كان مساويا يحتمل أيضا شمول دليل الحجّيّة له خاصّة فيما إذا كان أهمّ واقعا من الآخر.

وحينئذ يدور الأمر بين خبرين أحدهما معلوم السقوط على كلّ تقدير بينما الآخر يعلم بسقوطه على تقدير دون آخر ، فيتعيّن الأخذ به بحكم العقل ، ولا يجري البرهان المتقدّم من الترجيح من دون مرجّح ؛ لأنّ المرجّح موجود وهو احتمال الأهمّيّة في الملاك.

الحالة الثالثة : ألاّ يكون الملاك محرزا بقطع النظر عن دليل الحجّيّة لا نفيا ولا إثباتا ، وإنّما الطريق إلى إحرازه نفس دليل الحجّيّة ، ونفترض أنّنا نعلم بأنّ الملاك لو كان ثابتا في المتعارضين فهو في أحدهما المعيّن أقوى ، وهذا يعني العلم بسقوط إطلاق دليل الحجيّة للآخر ؛ لأنّه إمّا لا ملاك فيه وإمّا فيه ملاك مغلوب ، وأمّا إطلاق دليل الحجّيّة للمعيّن فلا علم بسقوطه فيؤخذ به.

ومثل ذلك ما إذا كان أحدهما المعيّن محتمل الأقوائيّة على تقدير ثبوته دون الآخر.

ومن أمثلة ذلك : أن يكون أحد الراويين أوثق وأفقه من الراوي الآخر ، فإنّ نكتة الطريقيّة التي هي ملاك الحجّيّة لا يحتمل كونها موجودة في غير الأوثق والأفقه خاصّة.

الحالة الثالثة : ألاّ يكون ملاك الحجّيّة محرزا لا نفيا ولا إثباتا ، بمعنى أنّنا لا نعلم لا بوجود ملاكها ولا بعدم وجوده ، بل يحتمل كلا الأمرين ، خلافا للحالتين :

الأولى : حيث كنّا نعلم بانتفاء الملاك فيهما.

١٦٦

والثانية : حيث كنّا نعلم بوجوده فيهما ، فهنا نحتمل وجود الملاك كما نحتمل عدم وجوده في كلا الدليلين.

ولكنّنا نعلم من خلال نفس شمول دليل الحجّيّة لهما بأنّ ملاكها موجود فيهما معا ، بحيث كان إحراز الملاك متوقّفا على شمول دليل الحجّيّة لهما ، وأمّا لو لم يشملهما أو شمل أحدهما دون الآخر فلا ملاك فيهما أو في أحدهما فقط.

وعليه ، فنفترض هنا أنّ الملاك في أحدهما لو كان ثابتا فهو أهمّ من الآخر قطعا.

ففي هذه الحالة يقال بشمول دليل الحجّيّة لأحدهما المعيّن دون الآخر.

والوجه في ذلك : ما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الدليل الآخر الذي ملاكه على تقدير ثبوته ليس بأهمّ من ملاك الأوّل ، بل هو إمّا لا ملاك فيه أو لأنّ الملاك فيه على تقدير وجوده ، فهو نحو ملاك مغلوب ومرجوح ؛ لأنّ الملاك في الأوّل أهمّ فهو أقوى.

ولذلك سوف نعلم قطعا بسقوطه عن الحجّيّة : إمّا من نفسه لعدم وجود الملاك فيه ، وإمّا بسبب وجود الملاك الأقوى الغالب له.

بينما لو لاحظنا الدليل الذي ملاكه أهمّ وأقوى فسوف لن يحصل لنا العلم بسقوطه على كلّ تقدير ، وإنّما يحصل لنا العلم بسقوطه على تقدير أن يكون لا ملاك فيه ؛ لأنّنا نحتمل وجود الملاك كما نحتمل عدم وجوده ، فعلى تقدير انتفاء الملاك فيه يكون ساقطا ، ولكن على تقدير أن يكون الملاك فيه موجودا فنحن قد فرضنا أنّنا نعلم بأنّ الملاك فيه نحو ملاك يكون أقوى وأهمّ من الآخر ، ولذلك يشمله دليل الحجّيّة دون الآخر.

وهذا معناه أنّنا لا نعلم بسقوطه على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير فيتعيّن الأخذ به ، ولا يجري محذور الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ العقل يرجّح الأخذ بالأهمّ ملاكا.

وهكذا أيضا لو فرضنا أنّ الملاك فيه محتمل الأهمّيّة ، فإنّ الكلام المتقدّم يتمّ فيه ؛ لأنّ الملاك الآخر معلوم السقوط إمّا من نفسه لعدم وجود الملاك فيه رأسا وإمّا لأنّه على تقدير وجود الملاك فيه فهو إمّا مساو أو أقلّ أهمّيّة ، وفي الفرضين يسقط إمّا للمعارضة مع مساويه وإمّا لكونه مرجوحا ومغلوبا.

ويمكننا أن نعطي مثالا لهذه الحالة الثالثة ، وذلك فيما إذا فرضنا التعارض بين

١٦٧

خبرين الراوي لأحدهما أوثق وأفقه من الراوي للآخر ، فهنا لا يمكن أن نفترض أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل الأوثق والأفقه ويشمل غيره خاصّة ، بل دليل الحجّيّة إمّا أن يشمل الأفقه والأوثق خاصّة أو يشمله ويشمل غيره أيضا ؛ لأنّ ملاك الحجّيّة وهو الطريقيّة والكاشفيّة وإحراز الواقع وجوده في الأفقه والأوثق أقوى من وجوده في غيره ، ممّا يعني أنّه مقطوع شمول دليل الحجّيّة له إمّا له وحده وإمّا له ولغيره أيضا ، ولا يحتمل سقوطه عن الحجّيّة مع بقاء غيره مشمولا لها.

وهكذا يتّضح أنّ إبطال الشمول لأحدهما المعيّن ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجّح إنّما يتّجه في مثل ما إذا كان كلّ من الدليلين موردا لاحتمال وجود الملاك الأقوى فيه.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم : أنّ برهان الترجيح بلا مرجّح إنّما يؤخذ به في غير هذه الحالات الثلاث ؛ وذلك لأنّه في الحالة الأولى وهي ما إذا كان الملاك للحجّيّة غير موجود فيهما يتعيّن سقوطهما معا.

وفي الحالة الثانية وهي ما إذا كان الملاك للحجّيّة موجودا فيهما وكان أحدهما المعيّن أقوى ملاكا ولو احتمالا فيتعيّن الأخذ به دون الآخر.

وفي الحالة الثالثة وهي ما إذا لم نعلم بوجود الملاك فيهما ولم نعلم بانتفائه عنهما ، ولكن نعلم أنّ أحدهما المعيّن على تقدير وجود الملاك للحجّيّة فيه فهو أقوى وأهمّ ملاكا إمّا قطعا وإمّا احتمالا ، وهنا يتعيّن الأخذ به دون الآخر.

تبقى هناك حالة رابعة يجري فيها برهان الترجيح بلا مرجّح للمنع عن شمول دليل الحجّيّة لأحدهما المعيّن ؛ وذلك فيما إذا لم يكن لدينا علم من الخارج بوجود الأهمّيّة في الملاك لا قطعا ولا احتمالا ، ولم يكن لأحدهما مزيّة على الآخر ، بل كانا متساويين في سائر الخصوصيّات المفترضة بحيث يمكن أن يكون أحدهما المعيّن أقوى ملاكا من الآخر ويمكن العكس أيضا.

فهنا يكون شمول دليل الحجّيّة لهما معا غير معقول ؛ لأنّه يؤدّي إلى التعبّد بالمتنافيين ، وشموله لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وشموله لأحدهما تخييرا خلافا للظاهر من دليل الحجّيّة ، فيتعيّن سقوطهما معا عن الحجّيّة.

وهكذا يتّضح أنّ البرهان المذكور إنّما يجري لنفي شمول الحجّيّة عن أحدهما

١٦٨

المعيّن فيما إذا كان كلّ من الدليلين يحتمل فيه أن يكون أقوى وأهمّ ملاكا من الآخر ، مع فرض عدم العلم بالأهمّيّة ولا بعدمها من الخارج ، بل كانت سائر الخصوصيّات موجودة فيهما على حدّ واحد.

وبذلك يظهر أنّ الشقّ الثاني يمكن الاستغناء عنه في أغلب الحالات ولا نحتاج إليه إلا في حالة واحدة فقط.

وأمّا الشقّ الثالث ـ وهو إثبات الحجّيّة التخييريّة ـ فقد أبطل بأنّ مفاد الدليل هو كون الفرد مركزا للحجّيّة لا الجامع.

وأمّا الشقّ الثالث : وهو عدم معقوليّة الحجّيّة التخييريّة.

فقد استدلّ المشهور على بطلانها بأنّ مفاد دليل الحجّيّة ( أي حجّيّة الخبر ) أنّ كلّ خبر حجّة بنحو تكون الحجّيّة شاملة لكلّ فرد من أفراد خبر الثقة ، ممّا يعني أنّ موضوع الحجّيّة مركزها ومصبّها هو شخص هذا الخبر وذاك ، وهكذا.

وليس موضوع الحجّيّة هو الجامع أيّ عنوان أحد الخبرين أو أحدهما ؛ لأنّه لا وجود حقيقي وواقعي لهذا العنوان ، بمعنى أنّه لا يحكي عن حقيقة في الخارج ينطبق عليها أحدهما أو الفرد المردّد ؛ لأنّ ما هو موجود في الخارج هو هذا الخبر أو ذاك ، لا أحدهما المردّد.

وعليه ، فإرادة الحجّيّة التخييريّة معناها أن يكون الجامع هو المصبّ لموضوع الحجّيّة لا الفرد وهذا خلاف الظاهر ولا يمكن الالتزام به.

أمّا كونه خلاف الظاهر فلما ذكرنا من كون الحجّيّة موضوعها الفرد لا الجامع.

وأمّا أنّه يلزم من الحجّيّة التخييريّة كون الموضوع هو الجامع فلأنّه لا معنى للتخيير إلا بأن يكون هناك عنوان يشمل الخبرين أو الأخبار وليس ذاك إلا الجامع.

ويلاحظ : أنّ الحجّيّة التخييريّة لا ينحصر أمرها بحجّيّة الجامع ، ليقال بأنّ ذلك خلاف مفاد الدليل ، بل يمكن تصويرها بحجّيّتين مشروطتين ، بأن يلتزم بحجّيّة كلّ من الدليلين لكن لا مطلقا ، بل شريطة ألاّ يكون الآخر صادقا ، فمركز كلّ من الحجّتين الفرد لا الجامع ولكن نرفع اليد عن إطلاق الحجّيّة لأجل التعارض.

ويرد على هذا الاستدلال :

أوّلا : أنّه إنّما يتمّ لو فرض انحصار معنى الحجّيّة التخييريّة بالجامع ، فيقال : إنّ

١٦٩

استفادتها على خلاف الظاهر من مفاد دليل الحجّيّة ؛ لأنّه ظاهر في الفرد لأنّه هو الذي يحكي عن الواقع الخارجي لا الجامع الذي هو مفهوم وعنوان انتزاعي.

إلا أنّ الصحيح أنّ الحجّيّة التخييريّة لا ينحصر معناها بحجّيّة الجامع ، بل يمكن تصويرها في الفرد أيضا.

وثانيا : أنّ تصوير الحجّيّة التخييريّة يمكن معقوليّتها بنحو تتناسب مع مفاد دليل الحجّيّة ؛ وذلك بأن يقال : إنّنا نلتزم بأن يكون كلّ واحد من الخبرين حجّة في نفسه ولكن لا مطلقا ، بل بشرط ألاّ يكون الآخر صادقا بل كاذب ، وأمّا إذا كانت حجّيّة أحدهما تخييرا تستلزم صدق الآخر أيضا فيلزم اجتماع الضدّين أو النقيضين.

وعليه ، فنقول : إنّ الخبر الأوّل حجّة بشرط كذب الآخر أو ألاّ يكون صادقا ، والخبر الثاني حجّة بشرط كذب الأوّل أو ألاّ يكون صادقا ، فكان مصبّ الحجّيّة التخييريّة الفرد لا الجامع ؛ لأنّها متعلّقة ومتمركزة على الفرد ، غاية الأمر أنّنا رفعنا اليد عن إطلاق حجّيّته لحالة ما إذا كان الخبر الآخر صادقا أو غير كاذب ؛ لأنّ حجّيّته في هذه الحالة يلزم منها اجتماع الضدّين أو النقيضين.

ورفع اليد عن إطلاق الحجّيّة إنّما كان لأجل التعارض بينهما ، ولو لا ذلك لكانت الحجّيّة في كلّ واحد منهما مطلقة لا مشروطة.

وهذا معناه أنّ الدليل الذي من أجله ذهبنا إلى الحجّيّة التخييريّة بمعنى رفع اليد عن إطلاق الحجّيّة لحالة صدق الآخر أو عدم كذبه هو المعارضة بين الدليلين ، فإنّ رفع المعارضة يقتصر فيه على مقدار الضرورة لا أزيد ، وحيث إنّ الضرورة هنا ترتفع برفع اليد عن إطلاق الحجّيّة ، فلا داعي لرفع اليد عن أصل الحجّيّة رأسا ؛ لأنّه مقدار زائد خارج عن الضرورة.

ولا يلزم من هذه الحجّيّة التخييريّة اجتماعهما معا ؛ لأنّنا نعلم بكذب أحدهما غير المعيّن فأحدهما لا تشمله الحجّيّة التخييريّة قطعا.

يبقى التنبيه على أمر وهو أنّ الحجّيّة التخييريّة إنّما تتمّ فيما إذا كان التنافي بنحو التضادّ لا التناقض ، وأمّا إذا كان التنافي بنحو التناقض فلن يكون هناك أيّة فائدة من الحجّيّة التخييريّة بل تكون لغوا ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولا تنافي بين حجّيّتين مشروطتين من هذا القبيل ، ولا محذور في ثبوتهما إذا

١٧٠

لم يكن كذب كلّ من الدليلين مستلزما لصدق الآخر ، وإلا رجعنا إلى إناطة حجّيّة كلّ منهما بصدق نفسه وهو غير معقول.

ثمّ إنّ هذه الحجّيّة التخييريّة بالشرط الذي ذكرناه وهو ألاّ يكون الآخر صادقا بل يكون كاذبا ، لا تنافي في إثباتها لحجّتين مشروطتين بهذا الشرط كلّ واحدة منهما منصبّة على أحد الخبرين ؛ لأنّ هاتين الحجّتين لن تصلا معا إلى المكلّف ؛ لأنّه إذا وصلت الحجّيّة التخييريّة المتعلّقة بالخبر الأوّل فهذا فرع أن يتحقّق شرطها وهو ألاّ يكون الخبر الآخر صادقا بل كاذب ، فمع كذبه أو عدم صدقه لن تشمله الحجّيّة التخييريّة المتعلّقة به ، بمعنى أنّها ليست واصلة إلى المكلّف ؛ لأنّه كاذب أو غير صادق بحسب الفرض ، والحجّيّة إنّما تنصبّ على الخبر الذي لا يعلم كذبه ، وأمّا معلوم الكذب فهو ليس بحجّة بمعنى أنّه خارج عن دائرة الحجّيّة تخصّصا.

ثمّ إنّه لا محذور في ثبوت هذه الحجّيّة التخييريّة لكلّ واحد من الخبرين إذا لم يكن كذب كلّ منهما مستلزما لصدق الآخر كالنقيضين ، كما إذا قيل : ( تجب صلاة الجمعة ) ، وقيل : ( لا تجب صلاة الجمعة ) ، فإنّه إذا صدق أحدهما ارتفع الآخر لا محالة ، وإذا كذب أحدهما تعيّن صدق الآخر لا محالة ، ومعه لا معنى لثبوت حجّيّته التخييريّة ؛ لأنّه إمّا معلوم الصدق فهو حجّة لنفسه وإمّا معلوم الكذب فهو خارج عن دائرة الحجّيّة بنفسه.

ومن هنا كانت الحجّيّة التخييريّة ـ بمعنى أن يكون كلّ منهما حجّة بشرط كذب الآخر ـ غير معقولة ؛ لأنّه إذا كذب الآخر تعيّن صدق نقيضه ، فيكون مرجع الحجّيّة التخييريّة حينئذ إلى أنّ الخبر حجّة إذا كان صادقا في نفسه وهذا لغو واضح وتحصيل للحاصل ؛ لأنّه إذا علم صدقه أو كانت حجّيّته مشروطة بصدقه فلا معنى لها.

نعم ، إذا كان التنافي بينهما بنحو التضادّ كما إذا قيل : ( تجب صلاة الجمعة ) ، وقيل : ( تحرم صلاة الجمعة ) ، فهنا كذب أحدهما لا يستلزم صدق الآخر ؛ لأنّه إذا علم بأنّها غير واجبة فلا يتعيّن كونها محرّمة ، بل قد تكون مستحبّة أو غير ذلك.

وبهذا يظهر أنّ جعل الحجّيّة التخييريّة بمعنى أنّ كلّ واحد من الخبرين حجّة بشرط ألاّ يعلم بصدق الآخر معقولة في نفسها ، ولا يلزم منها التنافي في ثبوت الحجّتين ؛ لأنّهما لن يصلا معا فلا يلزم اجتماع الضدّين.

١٧١

ولا يلزم منها أيّ محذور آخر ؛ لأنّها إنّما تتمّ فيما إذا لم يكن التنافي بمعنى التناقض بل بمعنى التضادّ ؛ لأنّ التنافي لو كان بمعنى التناقض فكان كذب أحدهما مستلزما لصدق الآخر لا محالة فيلغو جعل الحجّيّة التخييريّة له ، وأمّا إذا كان بنحو التضادّ فالعلم بكذب أحدهما لا يلزم منه تعيّن الآخر لإمكان ارتفاعه فيكون جعل الحجّيّة التخييريّة فيهما معقولا (١).

فإن قيل : ما دمنا لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع أن نميّز أيّ الحجّيّتين المشروطتين تحقّق شرطها لنعمل على أساسها ، فأيّة فائدة في جعلهما؟

وقد يشكل على الحجّيّة التخييريّة بما حاصله : أنّنا لو سلّمنا بالحجّيّة التخييريّة وكونها معقولة في نفسها ولا تنافي الظاهر من مفاد دليل الحجّيّة ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن المصير إليها لعدم الفائدة من جعلها على الخبرين.

والوجه في عدم الفائدة : أنّنا لو قلنا بحجّيّة كلّ واحد من الخبرين مشروطا بأن لا يكون الآخر صادقا ، فحيث إنّنا لا نعلم الصادق من الكاذب منهما فسوف لن نعلم بتحقّق الشرط لا في هذا الخبر ولا في ذاك ؛ لأنّنا إذا أردنا تطبيقها على الخبر الأوّل فشرطها ألاّ يكون الثاني صادقا والحال أنّنا لا نعلم أنّه صادق أو كاذب ، إذ لو كنّا نعلم بذلك لانحلّ التعارض من أساسه ، وما دمنا لا نعلم بصدقه أو بكذبه فشرط الحجّيّة التخييريّة في هذا الخبر لا يعلم بتحقّقه ، ومع عدم العلم بتحقّقه لا تشمله الحجّيّة التخييريّة لعدم إحراز شرطها فيه.

وهكذا يقال بالنسبة للخبر الثاني ، وتكون النتيجة أنّ التعبّد بالحجّيّة التخييريّة كعدمه ليس له أيّ أثر فيلغو.

كان الجواب : أنّ الفائدة نفي احتمال ثالث ؛ لأنّنا نعلم بأنّ أحد الدليلين كاذب ، وهذا يعني العلم بأنّ إحدى الحجّيّتين المشروطتين فعليّة ، وهذا يكفي لنفي الاحتمال الثالث.

والجواب عن الإشكال بأنّ الفائدة موجودة وهي نفي الاحتمال الثالث.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا إمّا بوجوب الجمعة وإمّا بحرمتها ، وقلنا بالحجّيّة التخييريّة

__________________

(١) هذا إذا كان التضادّ من نوع الضدّين اللذين لهما ثالث ، وأمّا إن كانا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما فحكمهما حكم النقيضين حينئذ.

١٧٢

لكلّ من الدليلين الدالّين على هذين الحكمين ، فحيث إنّنا نعلم بكذب أحد الدليلين لأنّنا نعلم بعدم ثبوت أحد الحكمين واقعا لأنّه يستحيل صدقهما معا في الواقع ، فهذا معناه أنّ شرط الحجّيّة التخييريّة متحقّق وهو ألاّ يكون الآخر صادقا.

نعم ، هذا الشرط لا يعلم تفصيلا وإنّما يعلم بتحقّقه إجمالا ، فتكون الحجّيّة التخييريّة لأحدهما المجمل تامّة وفعليّة لتحقّق شرطها.

وفائدة هذه الحجّيّة التخييريّة المجملة هي نفي الاحتمال الثالث ؛ لأنّنا سواء طبّقناها في الواقع على الدليل الدالّ على الوجوب أو على الدليل الدالّ على الحرمة ، فهي في كلتا الحالتين تثبت الإلزام بمدلولها المطابقي وتنفي الترخيص بمدلولها الالتزامي ، فنأخذ بمدلولها الالتزامي ؛ لأنّه مدلول للوجوب وللحرمة معا. وبه ننفي احتمال الاستحباب أو الكراهيّة أو الإباحة وإن كان المدلول المطابقي لا يمكن الأخذ به ؛ لأنّه مردّد بين الوجوب والحرمة ؛ لأن الحجّيّة التخييريّة مجملة كما قلنا.

وهذا المقدار من الفائدة كاف لدفع محذور اللغويّة من جعلها ؛ لأنّه يكفي وجود أثر شرعي مترتّب على التعبّد بها ، وهذا الأثر موجود بمقدار نفي حكم ثالث.

وعلى ضوء ما تقدّم يتّضح :

أوّلا : أنّ دليل الحجّيّة يقتضي الشمول لأحدهما المعيّن إذا كان ملاك الحجّيّة على تقدير ثبوته أقوى فيه ، أو محتمل الأقوائيّة دون احتمال مماثل في الآخر.

ثانيا : أنّه في غير ذلك لا يشمل كلاّ من المتعارضين شمولا منجّزا.

ثالثا : أنّه مع ذلك يشمل كلاّ منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر لأجل نفي الثالث ، وذلك فيما إذا لم يكن كذب أحدهما مساوقا لصدق الآخر.

هذه هي النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ على مقتضى القاعدة.

تلخيص واستنتاج :

أوّلا : أنّ دليل الحجّيّة يشمل أحدهما المعيّن فيما إذا كان ملاك الحجّيّة فيه على تقدير ثبوته أقوى من الآخر أو كان محتمل الأقوائيّة ، وأمّا إذا كان كلّ منهما متماثلين ومتساويين في ذلك فلا يشمل دليل الحجّيّة أحدهما المعيّن ؛ لأنّه يكون من الترجيح من دون مرجّح.

١٧٣

وثانيا : أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل الدليلين المتعارضين شمولا منجّزا وفعليّا ومطلقا ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو النقيضين ؛ لأنّ التعبّد بالمتنافيين يؤدّي إلى ذلك لا محالة.

وثالثا : أنّ دليل الحجّيّة يمكن شموله للدليلين المتعارضين بنحو مشروط لا مطلقا ، أي بنحو الحجّيّة التخييريّة المشروطة بأن لا يكون الآخر صادقا ، ولكن هذه الحجّيّة التخييريّة إنّما تتمّ فيما إذا كان التنافي بنحو التضادّ لا التناقض ؛ لأنّ النقيضين إذا علم بكذب أحدهما كان صدق الآخر متعيّنا فيلغو جعل الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ، وأمّا الضدّان فلا يكون العلم بكذب أحدهما مستلزما لصدق الآخر ، بل قد يصدق وقد لا يصدق فيعقل جعل الحجّيّة التخييريّة عليه ، والفائدة منها نفي الاحتمال الثاني.

وبهذا ينتهي الكلام عن مقتضى القاعدة الأوّليّة في التعارض المستقرّ بين الدليلين.

تنبيهات النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ :

ومن أجل تكميل الصورة عن النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ يجب أن نشير إلى عدّة أمور :

الأوّل : أنّ دليل الحجّيّة الذي يعالج حكم التعارض المستقرّ على ضوئه تارة يكون دليلا واحدا ، وأخرى يكون دليلين.

وتوضيح ذلك باستعراض الحالات التالية :

التنبيه الأوّل في فرضيّات التعارض :

إنّ دليل الحجّيّة ـ الذي يتمّ علاج التعارض على ضوئه ـ من شموله لكلا الدليلين حيث يحكم بتعارضهما بلحاظه وبالتالي تساقطهما ، أو عدم شموله لشيء منهما فيسقطان من غير معارضة ، أو شموله لأحدهما المعيّن فيما إذا كان ملاكه أقوى وأهمّ ولو احتمالا ، أو شموله لأحدهما على نحو التخيير بشرط ألاّ يكون الآخر صادقا ـ كما تقدّم سابقا ـ فإنّ دليل الحجّيّة هذا تارة يكون واحدا وأخرى يكون متعدّدا ؛ لأنّه إمّا دليل حجّيّة الخبر وإمّا دليل حجّيّة الظهور.

فإذا كان واحدا فهذا معناه أنّ الدليلين إمّا أن يكونا ظنّيي السند فقط ، أو ظنّيي الدلالة فقط ، فهنا دليل الحجّيّة واحد ؛ لأنّ التعارض في الدليلين الظنّي السند يكون

١٧٤

في دليل حجّيّة الخبر وهو واحد ، بينما التعارض في الدليلين الظنّي الدلالة يكون بلحاظ دليل حجّيّة الظهور وهو واحد أيضا.

وإن كان متعدّدا فهذا معناه أنّ أحد الدليلين ظنّي السند والآخر ظنّي الدلالة ، فهذا معناه التعدّد في دليل الحجّيّة ؛ لأنّ التعارض يكون بين دليل حجّيّة الخبر في أحدهما ودليل حجّيّة الظهور في الآخر.

وهنا لا بدّ من استعراض الحالات المختلفة التي يمكن فرضها بالنسبة للتعارض في الدليل الواحد للحجّيّة أو الدليلين لها ؛ لأنّ النتيجة تختلف بلحاظها ، وهذه الحالات هي :

الأولى : إذا افترضنا دليلين لفظيّين قطعيّين صدورا ظنّيين دلالة تعارضا معارضة مستقرّة ، فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجّيّة كما تقدّم (١) ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّيّة الظهور.

الحالة الأولى : ما إذا كان لدينا دليلان لفظيّان قطعيّان من جهة الصدور كالآية الكريمة مع الخبر المتواتر ، ولكن الدلالة فيهما ظنّيّة ، فهنا يقع التعارض المستقرّ بينهما بلحاظ الدلالتين الظنّيّتين المتنافيتين ، ويسري إلى دليل الحجّيّة فيهما وهو هنا دليل حجّيّة الظهور الذي على أساسه يحكم بحجّيّة الدلالة الظنّيّة باعتبارها ظهورا عرفيّا.

والوجه فيما ذكرناه : هو أنّ السندين لمّا كانا قطعيّين من جهة الصدور ، فلا نحتاج إلى دليل حجّيّة السند ؛ لأنّه مع القطع بالصدور لا معنى لإثبات التعبّد بالصدور تمسّكا بدليل حجّيّة السند ، إذ لا موضوع له أصلا.

والوجه في استقرار المعارضة : هو أنّنا نفرض أنّه لا يمكن الجمع العرفي بين الدلالتين ، وإلا لدخل المورد في باب التعارض غير المستقرّ والجمع العرفي وهو خارج عن موضوع البحث.

والوجه في كون التعارض بلحاظ دليل الحجّيّة الواحد : هو أنّ دليل حجّيّة الظهور شامل بإطلاقه لكلتا الدلالتين الظنّيّتين المتنافيتين ، فلا يمكن الأخذ بهما معا للتنافي ، ولا بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن التعارض والتساقط بلحاظ دليل حجّيّة الظهور نفسه.

__________________

(١) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟

١٧٥

الثانية : إذا افترضنا دليلين لفظيّين قطعيّين دلالة ظنّيين سندا ، تعارضا معارضة مستقرّة ، فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجّيّة كما تقدّم (١) ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّيّة السند.

الحالة الثانية : ما إذا كان لدينا دليلان قطعيّان من حيث الدلالة ولكنّهما ظنّيّان من جهة السند كالخبرين مثلا ، فهنا يقع التعارض بينهما بلحاظ السند لا الدلالة ؛ وذلك لأنّ الدلالة فيهما وإن كانت متنافية ولكنّها لمّا كانت قطعيّة فلا يشملها دليل حجّيّة الظهور ؛ لأنّه مختصّ بالدلالة الظنّيّة.

نعم ، لا يمكن الأخذ بالدلالتين معا لمكان التنافي بينهما ، وهذا معناه أنّ التنافي والتعارض سوف يسري إلى السندين فتكون المعارضة في السند ؛ لأنّ دليل حجّيّة السند يشملهما معا بإطلاقه ، وحيث لا يمكن الأخذ بهما بسبب التنافي بينهما في الدلالة فيتساقطان.

وهنا نلاحظ أنّ المعارضة في دليل واحد وهو دليل حجّيّة السند فقط ، وأمّا دليل حجّيّة الظهور فلا تعارض بلحاظه ؛ لأنّه لا موضوع له أصلا ؛ لأنّ الدلالتين قطعيّتان وحجّيّتهما لا تحتاج إلى حجّيّة الظهور.

الثالثة : إذا افترضنا دليلين لفظيّين ظنّيّين دلالة وسندا ، فلا شكّ في سراية التنافي إلى دليل حجّيّة الظهور ، ولكن هل يسري إلى دليل حجّيّة السند أيضا؟

قد يقال بعدم السريان ؛ إذ لا محذور في التعبّد بكلا السندين ، وإنّما المحذور في التعبّد بالمفادين.

ولكنّ الصحيح هو السريان ؛ لأنّ حجّيّة الدلالة وحجّيّة السند مرتبطتان إحداهما بالأخرى ، بمعنى أنّ دليل حجّيّة السند مفاده هو التعبّد بمفاد الكلام المنقول ، لا مجرّد التعبّد بصدور الكلام بقطع النظر عن مفاده.

الحالة الثالثة : ما إذا كان لدينا دليلان ظنّيّان من جهة السند ومن جهة الدلالة أيضا.

فهنا لا إشكال في أنّ الدلالتين المتنافيتين يقع التعارض بينهما ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة الظهور يشملهما معا لكونهما معا ظنّيّين ، ولكنّ التعبّد بكلتا الدلالتين لمّا كان

__________________

(١) في تمهيد بحث التعارض تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟

١٧٦

ممتنعا لمكان التنافي والتعارض المستقرّ بينهما فيحكم بتعارضهما وتساقطهما ، وهذا معناه التنافي بلحاظ دليل حجّيّة الظهور.

وأمّا بالنسبة للسندين فهل يسري التعارض إليهما أو يبقى على الدلالتين فقط؟

قد يقال بأنّ المعارضة لا تسري إلى السندين بل تبقى على الدلالتين ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة السند يشملهما معا بإطلاقه ، ولا يوجد أيّ مبرر لرفع اليد عنه ؛ لأنّه لا يعلم بكذب أحدهما إذ يحتمل أن يكون صادرا تقية ، فما دمنا لا نقطع بكذب أحدهما فلا مانع من شمول دليل حجّيّة السند لهما والتعبّد بصدورهما معا ، ولا تنافي في التعبّد بصدورهما ؛ لأنّ دليل حجّيّة السند مفاده إثبات صدور الكلام من المعصوم ، وهنا يمكننا أن نتعبّد بصدورهما من المعصوم معا لاحتمال أن يكون أحدهما على الأقلّ صادرا على جهة التقية مثلا.

وعلى هذا فيكون التعارض في هذه الحالة بلحاظ دليل حجّيّة الظهور فقط وهو دليل واحد.

ولكنّ الصحيح : هو أنّ التنافي يسري من الدلالة إلى السند.

والوجه في ذلك : هو أنّ حجّيّة الظهور مرتبطة بحجّيّة السند أيضا ؛ وذلك لأنّ مفاد دليل حجّيّة السند ليس هو التعبّد بصدور الكلام من المعصوم فقط ، بل مفاده التعبّد بمفاد الكلام الصادر من المعصوم ، فإذا كان دليل حجّيّة السند بهذا المعنى ، فهذا لازمه أن يكون دليل حجّيّة السند في كلّ واحد من الخبرين مفاده التعبّد بالدلالة التي يحكي عنها خبر الثقة ، فيقع التنافي بينهما بلحاظ حجّيّة السند أيضا ؛ لأنّه لا يمكن التعبّد بمفاد كلا الخبرين الصادرين.

وبذلك تكون المعارضة بين دليل حجّيّة الظهور من جهة الدلالة ودليل حجّيّة السند من جهة التعبّد بمفاد الكلام الصادر من المعصوم الذي يحكيه خبر الثقة.

والوجه في الترابط بين حجّيّة السند وحجّيّة الظهور : هو أنّ المستفاد من الأخبار الدالّة على حجّيّة الخبر كونه حجّة بلحاظ المؤدّى ، أي بلحاظ ما يؤدّيه عن المعصوم ، وهذا يعني أنّ حجّيّة السند يستفاد منها مجموع أمرين : أحدهما الشهادة بالصدور والشهادة بالظهور أيضا.

من قبيل ما ورد : « فما أدّيا فعنّي يؤديان » ، أو « لا عذر لأحد من موالينا في

١٧٧

التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا » ، أو ... أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم » ، فهذه الألسنة تفيد حجّيّة الخبر بلحاظ ما يؤدّي ويحكي عن قول المعصوم من أجل التعبّد بمفاده والأخذ به لا لأجل إثبات صدور الكلام فقط.

وبهذا يظهر أنّ التعبّد بحجّيّة الظهور مرتبطة بالتعبّد بحجّيّة الصدور والسند.

الرابعة : إذا افترضنا دليلين لفظيّين أحدهما ظنّي سندا قطعي دلالة ، والآخر بالعكس ، ولم يكن بالإمكان الجمع العرفي بين الدلالتين ، فالتنافي الذي يسري هنا لا يسري إلى دليل حجّيّة الظهور بمفرده ولا إلى دليل حجّيّة السند كذلك ؛ إذ لا توجد دلالتان ظنّيّتان ولا سندان ظنّيّان ، وإنّما يسري إلى مجموع الدليلين بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّيّة السند في أحدهما ودليل حجّيّة الظهور في الآخر ، فإذا لم يكن هناك مرجّح لتقديم أحد الدليلين على الآخر طبّقت النظريّة السابقة.

الحالة الرابعة : ما إذا كان لدينا دليلان لفظيّان أحدهما ظنّي السند قطعي الدلالة كخبر الثقة الذي يكون مفاده ودلالته قطعيّة ، والآخر قطعي السند ظنّي الدلالة كالآية التي تكون دلالتها ظنّيّة.

فهنا حيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما فسوف تقع المعارضة بين السند الظنّي مع الدلالة الظنّيّة دون السند القطعي والدلالة القطعيّة ، وهذا معناه أنّ التعارض يكون في مجموع دليلين ، أي دليل حجّيّة السند بلحاظ الدليل الظنّي السند ، ودليل حجّيّة الظهور بلحاظ الدليل الظنّي الدلالة ، فتكون المعارضة في الحقيقة بين دليل حجّيّة السند في هذا ودليل حجّيّة الظهور في ذاك ، وحينئذ إذا لم يكن لأحدهما المعيّن مرجّح تعيّن القول بتساقطهما على رأي المشهور أو الأخذ بالحجّيّة التخييريّة فيهما.

والتعارض هنا لا يكون بلحاظ دليل حجّيّة السند فقط بمفرده ؛ لأنّه بهذا اللحاظ لا يوجد لدينا سندان متعارضان بل هناك سند قطعي وسند ظنّي ، فلا تعارض في دليل حجّيّة السند بمفرده بنحو مستقلّ ، وهكذا لا تعارض بلحاظ دليل حجّيّة الظهور بمفرده ؛ لأنّه يوجد دلالة قطعيّة في أحدهما وأخرى ظنّيّة ، ولا يوجد دلالتان ظنّيّتان ليشملهما الدليل وتقع المعارضة فيهما ، ولذلك تكون المعارضة بين دليلين للحجّيّة.

وهذا معناه أنّ السريان هنا ليس كالسريان في الحالة الثالثة ونحوها ؛ لأنّه هناك

١٧٨

كان يسري إلى السندين أو الظهورين ، بينما هنا يسري إلى دليل حجّيّة السند ودليل حجّيّة الظهور في كلّ منهما لا فيهما معا.

الخامسة : إذا افترضنا دليلا ظنّيّا دلالة وسندا معارضا لدليل قطعيّ دلالة وظنّيّ سندا ، وتعذّر الجمع العرفي ، سرى التنافي بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّيّة الظهور في ظنّيّ الدلالة ودليل السند في الآخر ، ويؤدّي ذلك إلى دخول دليل السند لظنّي الدلالة في التعارض أيضا ؛ لما عرفت من الترابط.

والمحصّل النهائي لذلك أنّ دليل السند في أحدهما يعارض كلاّ من دليل حجّيّة الظهور ودليل السند في الآخر.

الحالة الخامسة : ما إذا كان لدينا دليلان لفظيّان كالخبرين ، أحدهما ظنّي السند والدلالة معا والآخر ظنّي السند قطعي الدلالة ، فهنا حيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما فسوف تقع المعارضة بين دليل حجّيّة الظهور في الدليل الظنّي السند وبين دليل حجّيّة السند في الدليل الآخر ؛ وذلك لأنّ الدلالة القطعيّة في الدليل الظنّي السند تحتاج إلى دليل حجّيّة السند من أجل إمكان التعبّد بالصدور والمفاد معا ؛ لأنّ الدلالة القطعيّة إذا لم تكن صادرة عنهم فلا معنى للأخذ بها ، فإذا شمل دليل حجّيّة السند ـ السند الظنّي هنا ـ صار مفاد الدليل حجّة ، ولكن يتعارض هذا مع دليل حجّيّة الظهور في الآخر الشامل للدلالة الظنّيّة ؛ لأنّ التعبّد بها يتنافى مع التعبّد بتلك الدلالة القطعيّة.

ولكن إذا لاحظنا الترابط بين دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند كما بيّناه في الحالة الثالثة ، فسوف يسري التنافي من حجّيّة الظهور إلى حجّيّة السند أيضا في الدليل الظنّي السند والدلالة معا.

وحينئذ تكون المعارضة ثلاثيّة ؛ لأنّها تكون بين دليل حجّيّة السند في الدليل الظنّي السند والقطعي الدلالة من جهة ، وبين دليل حجّيّة السند ودليل حجّيّة الظهور في الدليل الظنّي السند والدلالة معا من جهة ثانية.

وفي هذه الحالة يحكم بتساقط الجميع ولا ينجو من السقوط حتّى الدلالة القطعيّة ؛ لأنّه لم يثبت صدورها عن المعصوم لسقوط دليل حجّيّة السند بالمعارضة ، فلا معنى للأخذ بها وإن كانت قطعيّة لعدم الفائدة والأثر الشرعي من ذلك ، إذ لا يوجد ما يحرز لنا كونها دلالة قطعيّة لكلام المعصوم.

١٧٩

وهنا أيضا تكون المعارضة بين دليلين للحجّيّة.

السادسة : إذا افترضنا دليلا ظنّيّا دلالة وسندا معارضا لدليل ظنّيّ دلالة وقطعيّ سندا ، سرى التنافي إلى دليل حجّيّة الظهور ؛ لوجود ظهورين متعارضين ، ودخل دليل التعبّد بالسند الظنّي في المعارضة لمكان الترابط المشار إليه.

الحالة السادسة : ما إذا كان لدينا دليلان لفظيّان أحدهما ظنّي الدلالة والسند معا ، والآخر ظنّي الدلالة ولكنّه قطعي السند ، كما إذا تعارض خبر ثقة مع خبر متواتر وكانا معا ظنّيّي الدلالة.

فهنا يقع التعارض في دليل حجّيّة الظهور بالنسبة للدلالتين الظنّيّتين في الخبرين للتنافي بينهما بحيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما.

ولكن يدخل في هذه المعارضة دليل حجّيّة السند بالنسبة للخبر الظنّي أي خبر الثقة ؛ وذلك لما ذكرناه من الترابط بين حجّيّة الظهور وحجّيّة السند فإنّه لا معنى للتعبّد بأحدهما مع عدم ثبوت الآخر ؛ لأنّه لا فائدة منه.

وعليه ، فتكون المعارضة ثلاثيّة الأطراف ؛ لأنّها تكون بين دليل حجّيّة الظهور في الخبر المتواتر أي الدليل القطعي السند ، وبين دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند معا في الخبر الظنّي السند والدلالة.

ويحكم حينئذ بتساقط الجميع ، وأمّا السند القطعي فلا يدخل في المعارضة ؛ لأنّه لا يحتاج إلى دليل حجّيّة السند ، وهنا يكون التعارض بين دليلين للحجّيّة أيضا.

هذه هي الصور التي يمكن فرضها مع الحفاظ على التعارض الذي هو مورد البحث.

وأمّا ما يقال : من أنّه توجد صور أخرى فكلّها خارجة عن موضوع البحث ؛ لأنّ المفروض فيها كون أحد الدليلين قطعيا من جهة السند ومن جهة الدلالة معا.

وقد ذكر السيّد الشهيد في أوائل بحث التعارض أنّ التعارض لا يتحقّق بين الدليل القطعي والدليل الظنّي ؛ لأنّه يكشف عن بطلان الكاشفيّة والطريقيّة في الدليل الظنّي فلا يشمله دليل التعبّد بحجّيّة السند أو بحجّيّة الظهور للعلم ببطلانه وكونه مخالفا للواقع.

الثاني : أنّ التعارض المستقرّ تارة يستوعب تمام مدلول الدليل ، كما في الدليلين

١٨٠