شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

المتعارضين الواردين على موضوع واحد ، وأخرى يشمل جزءا من المدلول كما في العامّين من وجه.

وما تقدّم من نظريّة التعارض كما ينطبق على التعارض المستوعب كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب.

التنبيه الثاني في التعارض المستوعب وغير المستوعب :

ينقسم التعارض إلى المستوعب وغير المستوعب ، فهنا قسمان :

أحدهما : التعارض المستوعب لتمام مدلول الدليلين ، وهو ما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو التباين ؛ بأن كانت النسبة بين مدلوليهما هي التباين بحيث لا يكون هناك مورد إلا وهو داخل في المعارضة ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( لا يجب إكرام العالم ) ، فإن تمام المدلول الذي يدلّ عليه الدليل الأوّل ينطبق عليه الدليل الثاني أيضا.

والآخر : التعارض غير المستوعب لتمام المدلول ، وهو ما إذا كانت النسبة بين المدلولين هي العموم من وجه ، بحيث يكون بينهما مادّة الاجتماع ويكون لكلّ واحد منهما مورد يفترق فيه عن الآخر ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( لا تكرم الفاسق ) ، فإنّهما يجتمعان في العالم الفاسق ، ويفترق العالم عن الفاسق في العالم العادل ، ويفترق الفاسق عن العالم في الفاسق الجاهل.

وما تحدّثنا به سابقا عن الحكم الأوّلي على مقتضى القاعدة من القول بالتساقط كما هي مقالة المشهور أو ما ذهبنا إليه من إمكان فرض الحجّيّة التخييريّة في بعض الموارد فهو شامل لكلا القسمين على حدّ سواء.

ولكن توجد نقطة اختلاف بينهما نشير إليها هنا :

ولكن يختلف هذان القسمان في نقطة : وهي أنّه في حالات التعارض المستوعب بين دليلين ظنّيّين دلالة وسندا يسري التنافي إلى دليل حجّيّة الظهور وبالتالي إلى دليل التعبّد بالسند ، وأمّا في حالات التعارض غير المستوعب بينهما فالتنافي يسري إلى دليل حجّيّة الظهور ولكن لا يمتدّ إلى دليل التعبّد بالسند ، بمعنى أنّه لا موجب لرفع اليد عن سند كلّ من العامّين من وجه رأسا.

والفارق بين القسمين يظهر فيما إذا كان لدينا دليلان لفظيّان كلاهما ظنّيّان سندا

١٨١

ودلالة ، فإنّه إذا كان التعارض بينهما مستوعبا لتمام المدلول فيهما كما إذا ورد خبر ثقة مفاده : ( أكرم العالم ) ، وورد خبر ثقة آخر مفاده : ( لا تكرم العالم ) ، فهاهنا التنافي بين الدليلين سوف يسري إلى دليل حجّيّة الظهور فيهما ؛ لأنّه لا يمكن أن يشملهما معا ، لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين أي وجوب إكرام العالم وعدم وجوب إكرامه وهو محال.

ويسري التنافي أيضا إلى دليل حجّيّة السند فيهما ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة السند مفاده التعبّد بمفاد الكلام الصادر من المعصوم لا إثبات الصدور فقط ، وهنا لا يمكننا التعبّد بالكلامين الصادرين على فرض شمول دليل حجّيّة السند لكلا الخبرين ؛ لمكان التنافي بينهما بحيث يكون التعبّد بهما معا موجبا لاجتماع النقيضين أو الضدّين وهو محال.

وأمّا إذا كان التعارض غير مستوعب لتمام المدلول فيهما ، كما إذا ورد خبر مفاده : ( أكرم العالم ) ، وورد خبر آخر مفاده : ( لا تكرم الفاسق ) ، فهنا سوف يسري التنافي إلى دليل حجّيّة الظهور في مورد اجتماعهما أي في العالم الفاسق ؛ لأنّ الأخذ بدليل حجّيّة الظهور في مادّة الاجتماع يؤدّي إلى التناقض أو اجتماع الضدّين وهو محال.

ولكن لا يسري التنافي من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل حجّيّة السند ؛ وذلك لأنّ الدليلين يمكن الأخذ بمفادهما في مادّتي الافتراق من دون محذور ، إذ لا مانع من وجوب إكرام العالم العادل وعدم وجوب إكرام الفاسق الجاهل.

وهذا يعني أنّ دليل حجّيّة السند يبقى شاملا لكلا الدليلين في غير مادّة الاجتماع ؛ لأنّ الترابط بين دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند في السقوط إنّما هو من أجل عدم إمكان التعبّد بمفاد الكلام الصادر من المعصوم ، وهذا المحذور موجود في مادّة الاجتماع فقط دون مادّتي الافتراق ، فلا موجب لسقوط الحجّيّة عن مادّتي الافتراق ؛ إذ لا تعارض ولا تنافي فيهما.

وهذا معناه أنّ دليل حجّيّة السند لا موجب لرفع اليد عنه رأسا وفي تمام مدلوليهما ، بل في خصوص مادّة الاجتماع.

فإن قيل : إنّ التنافي في دليل حجّيّة الظهور يتوقّف على افتراض ظهورين

١٨٢

متعارضين ، ونحن لا نحرز ذلك في المقام إلا بدليل التعبّد بالسند ، فالتنافي في الحقيقة نشأ من دليل التعبّد بالسند.

وقد يشكل على ما ذكرناه هنا بما حاصله : أنّ التنافي في دليل حجّيّة الظهور يتوقّف على أن يكون الظهوران المتعارضان في كلام المعصوم ؛ لأنّه إذا لم يكونا من المعصوم أو أحدهما على الأقلّ لم يكن كلاما للمعصوم ، فلا معنى لفرض التنافي بينهما في حجّيّة الظهور ، بل يحكم إمّا بتساقطهما معا إذا لم يكونا من المعصوم أو بسقوط أحدهما فقط وهو ما علم أنّه ليس من كلام المعصوم.

وهذا معناه أنّ موضوع حجّيّة الظهور ـ في المقام ـ إنّما هو فرض وجود كلامين للمعصوم متنافيين ، وهذا لا يمكن إثباته إلا بدليل حجّيّة السند في الخبرين ؛ لأنّه هو الذي يثبت أنّ الكلامين للمعصوم لأنّه يثبت الصدور.

وعليه ، فكما يقع التنافي بين الدليلين في دليل حجّيّة الظهور ، فكذلك يسري إلى دليل التعبّد بحجّيّة السند ؛ لأنّ دليل حجّيّة السند بإطلاقه يشمل كلا الخبرين ، وحيث إنّهما متنافيان فلا يمكن الأخذ بهما معا ، والأخذ بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح فيتعيّن سقوط دليل حجّيّة السند فيهما أيضا.

وبهذا يظهر أنّ التنافي في الحقيقة إنّما هو بسبب دليل حجّيّة السند الشامل لهما ؛ لأنّه لو لم يكن شاملا لهما أو لأحدهما المعيّن لم يكن هناك تعارض بينهما بلحاظ حجّيّة الظهور ؛ لأنّها إمّا ساقطة فيهما أو في أحدهما المعيّن فقط.

إذا فالترابط بين الدليلين أي دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند لا يمكن انفكاكه هنا.

كان الجواب : أنّ هذا صحيح ولكنّه لا يعني طرح السند رأسا ، فإنّ مفاد دليل التعبّد بالسند ثبوت الكلام المنقول بلحاظ تمام ما له من آثار ، ومن آثاره حجّيّة عمومه في مادّة الاجتماع وحجّيّة عمومه في مادّة الافتراق ، فإذا تعذّر ثبوت الأثر الأوّل للتعارض ثبت الأثر الثاني ، وهو معنى عدم سقوط السند رأسا.

وأمّا حين يتعذّر ثبوت كلّ ما للكلام المنقول من آثار كما في حالات التعارض المستوعب فيقوم التعارض بين السندين لا محالة.

والجواب عن هذا الإشكال أن يقال : إنّ الترابط بين دليل حجّيّة الظهور ودليل

١٨٣

حجّيّة السند صحيح وتامّ ، ولكنّه لا يعني أنّ التنافي الواقع في دليل حجّيّة الظهور يوجب سقوط دليل حجّيّة السند رأسا دائما ، بل قد يوجب سقوطه رأسا وقد لا يوجب سقوطه إلا في البعض.

وتوضيح ذلك : أنّ مفاد دليل حجّيّة السند ـ كما تقدّم سابقا ـ ليس هو إثبات الصدور فقط ، بل هو إثبات التعبّد بمفاد الكلام الصادر من المعصوم ؛ لأنّنا حينما نثبت حجّيّة خبر الثقة لا نريد به إثبات صدور الكلام عن المعصوم ، بل نريد به التعبّد بالكلام الذي ينقله الثقة عن المعصوم ، وحينئذ يكون مفاد دليل التعبّد بالسند هو ثبوت الكلام المنقول عن المعصوم بتمام ما له من آثار.

وعليه ، فإذا كان الخبران ينقلان كلامين للمعصوم النسبة بينهما هي العموم من وجه ، فيكون دليل التعبّد بالسند في كلّ منهما مفاده التعبّد بتمام ما لهذا الكلام من آثار ، أي حجّيّة الكلام في مادّة الاجتماع وحجّيّته في مادّة الافتراق أيضا ؛ لأنّهما معا من آثار الكلام المنقول.

ولكن حيث إنّه يتعذّر الأخذ بالخبرين بلحاظ مادّة الاجتماع لمكان التنافي فيهما بلحاظها فتسقط عن الحجّيّة ، وأمّا بالنسبة لمادّتي الافتراق فيهما فحيث لا تنافي بلحاظهما فيكون الأخذ بدليل التعبّد بالسند فيهما معقولا ولا محذور فيه.

وهذا معناه أنّنا نسقط دليل التعبّد بالسند عن الحجّيّة في الآثار التي لا يمكن الأخذ بها والتعبّد بمفادها ، وهذا تامّ في مورد الاجتماع ، وأمّا المفاد والآثار التي يمكن التعبّد بها فلا موجب لسقوطه فيها ، وهذا معناه عدم السقوط رأسا وفي تمام الآثار.

نعم ، إذا كان الخبران ينقلان كلامين للمعصوم النسبة بينهما التباين الكلّي ، بحيث يكون تمام المدلول والآثار التي ينقلها هذا الخبر منافية لما ينقله الخبر الآخر ، فهنا سوف يسقط دليل التعبّد بالسند رأسا ؛ لأنّ الآثار المنقولة لكلام المعصوم في الخبرين بتمامها لا يمكن التعبّد بها والأخذ بمفادها ، وهذا يعني التعارض في السندين أيضا فيحكم بسقوطهما عن الحجّيّة بلحاظه.

ومن هنا نستطيع أن نعرف أنّه في كلّ حالات التعارض بين مدلولي دليلين ظنّيين سندا يقع التعارض ابتداء في دليل التعبّد بالسند ، لا في دليل حجّيّة الظهور ؛ لأنّنا لا نحرز وجود ظهورين متعارضين إلا من ناحية التعبّد بالسند ، فإن

١٨٤

كان التعارض مستوعبا سقط التعبّد بالسند رأسا في كلّ منهما ، وإلا سقط بمقداره.

ومن هذا الجواب يتّضح لنا أمر مهمّ : وهو أنّ التعارض بين الدليلين الظنّيّين سندا ودلالة يقوم ابتداء وأساسا بين السندين لا الدلالتين ؛ وذلك لأنّ التنافي بين الدلالتين يتوقّف أوّلا على ثبوت السندين وكونهما حجّة ، بمعنى إثباتهما للكلام الصادر عن المعصوم أوّلا ثمّ يأتي دور حجّيّة الظهور ، وأنّه هل يمكن الأخذ بمفاديهما أو لا؟

وبتعبير آخر : إنّ دليل حجّيّة السند يثبت لنا أنّه يوجد ظهوران من كلام المعصوم ؛ لأنّه بشموله لكلا الخبرين يثبت التعبّد بمفاديهما وهو ما ينقلانه عن المعصوم ، فيثبت وجود هذين الظهورين.

وحينئذ يأتي دور حجّيّة الظهور التي تفيد أنّ كلّ ظهور حجّة في نفسه ، ولكن لمّا لم يمكن الأخذ بكلا الظهورين لمكان التنافي بينهما ولم يكن هناك جمع عرفي ، فيقع التعارض بلحاظ شمول دليل حجّيّة الظهور لكلا الظهورين.

وهذا معناه أنّ التعارض يقع ابتداء في دليل التعبّد بالسند ؛ لأنّه يثبت وجود ظهورين متنافيين ، وبعد استقرار حجّيّة كلا السندين يقع التعارض في دليل حجّيّة الظهور ؛ لأنّ التعبّد بالظهورين المتنافيين حيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما مستحيل.

ويتفرّع على ذلك أنّ التعارض إن كان مستوعبا لتمام المدلول فسوف يسقط دليل التعبّد بالسند في كلا الدليلين رأسا وبتمام ما ينقلانه من آثار ، وإن كان غير مستوعب لتمام المدلول فالتعارض في دليل التعبّد بالسند يسقط بالمقدار الذي يرتفع به التنافي ، وهو خصوص مادّة الاجتماع دون مادّتي الافتراق.

والحاصل : أنّ التعارض يلحظ ابتداء في دليل حجّيّة السند ثمّ في دليل حجّيّة الظهور.

وهذا الكلام بظاهره يتنافى مع ما ذكرناه سابقا ( التنبيه الأوّل في الحالة الثالثة ) ، حيث قلنا هناك بأنّ التعارض يسري من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل حجّيّة التعبّد بالسند ؛ ولكن يمكن توضيحه ، فنقول :

وأمّا ما كنّا نقوله : من أنّ التنافي يسري إلى دليل حجّيّة الظهور ويمتدّ منه إلى دليل التعبّد بالسند فهو بقصد تبسيط الفكرة ، حيث إنّ التنافي بين السندين في

١٨٥

مقام التعبّد متفرّع على التنافي بين الظهورين في مقام الحجّيّة على تقدير ثبوتهما ، فكأنّ التنافي سرى من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل التعبّد بالسند ، وأمّا من الناحية الواقعيّة وبقدر ما نمسك بأيدينا فالتعارض منصبّ ابتداء على دليل التعبّد بالسند ؛ لأنّنا لا نمسك بأيدينا سوى السندين.

توضيح : ذكرنا في الحالة الثالثة من التنبيه الأوّل أنّ الدليلين إذا كانا ظنّيّين سندا ودلالة فالتعارض يسري من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل التعبّد بالسند ، وفي جوابنا المتقدّم قلنا بأنّ حجّيّة الظهور متوقّفة على دليل التعبّد بالسند ، ممّا يعني أنّ التعارض ابتداء يقع في دليل التعبّد بالسند لا دليل حجّيّة الظهور.

وهذا الكلام يحتاج إلى توضيح لئلاّ يتوهّم منه التنافي فنقول : إنّ التنافي في دليل حجّيّة السند ينشأ من التنافي بين الظهورين بحسب الواقع ؛ لأنّه إذا لم يكن هناك تناف بين الظهورين وكان يمكن الأخذ بهما والتعبّد بمفاديهما ، لم يكن لدينا أيّ مانع أو محذور في تطبيق دليل حجّيّة السند على كلا الخبرين والأخذ بهما معا والتعبّد بمفاديهما وبما ينقلانه من كلام صادر عن المعصوم.

ولكن حيث يوجد التنافي في الظهورين بنحو لا يمكن الجمع العرفي بينهما حصل التنافي بين السندين ؛ لأنّ تطبيق دليل حجّيّة السند على الخبر الأوّل يفيد التعبّد بالكلام الذي ينقله عن المعصوم ، فيتنافى مع تطبيقه على الخبر الثاني للتنافي بين المفادين.

فمن خلال أنّ الظهورين هما المنشأ للتنافي في السندين يقال على سبيل المسامحة العرفيّة : إنّ التعارض يسري من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل حجّيّة السند.

إلا أنّ الصحيح بحسب الدقّة العقليّة وما هو موجود واقعا هو أنّ التعارض يحصل ابتداء بين السندين ؛ لأنّ حجّيّة الظهور موضوعها هو الظهور الواقعي والخبر لا يثبت الظهور الواقعي على حدّ السماع من المعصوم مباشرة ، بل يثبت الظهور تعبّدا على أساس تطبيق دليل حجّيّة السند عليه ممّا يعني أنّ دليل حجّيّة السند حاكم على موضوع حجّيّة الظهور ؛ لأنّه يثبت الظهور تعبّدا لا واقعا وحقيقة ، وهذا معناه أنّها متأخّرة عن دليل حجّيّة السند في الرتبة ، ولذلك فالتنافي بين الظهورين يؤدّي ابتداء إلى التعارض بين السندين ، ومن ثمّ يحصل التعارض بلحاظ دليل حجّيّة الظهور.

١٨٦

وبهذا يتّضح الوجه فيما قلناه هنا وقلناه سابقا ، فإنّه هنا مبني على الدقّة وما هو واقع حقيقة ، بينما ما ذكرناه هناك مبني على المسامحة العرفيّة.

التنبيه الثالث : وقع البحث في أنّ المتعارضين بعد عجز كلّ منهما عن إثبات مدلوله الخاصّ هل يمكن نفي الاحتمال الثالث بهما؟

وقد يقرّب ذلك بوجوه :

التنبيه الثالث : في إمكان نفي الاحتمال الثالث بالمتعارضين :

إذا وقع التعارض بين الدليلين وحكم بتساقطهما بمقتضى القاعدة والأصل الأوّلي ، وفرض أنّ لهما مدلولا التزاميّا مشتركا ينفيه كلّ واحد منهما ، فهل يؤخذ بهذا المدلول المشترك وينفى به الاحتمال الثالث أم لا؟

ومثال ذلك : ما إذا تعارض الدليل الدالّ على وجوب صلاة الجمعة والدليل الدالّ على حرمتها وتساقطا عن الحجّيّة معا ، فهل يمكن الأخذ بمفادهما الالتزامي لنفي استحباب صلاة الجمعة مثلا أو لا؟

وهكذا الحال في سائر الموارد التي تكون النسبة بين المتعارضين هي الضدّين اللذين لهما ثالث.

قد يقال : إنّه ينتفي الاحتمال الثالث بالمتعارضين ، وقرّب ذلك بوجوه :

أوّلها : التمسّك بالدلالة الالتزامية في كلّ منهما لنفي الثالث ، فإنّها غير معارضة فتبقى حجّة. وهذا مبنيّ على إنكار تبعية الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

التقريب الأوّل : أن يقال : إنّنا ننفي الاحتمال الثالث تمسّكا بالمدلول الالتزامي في كلّ من الدليلين المتعارضين ، وذلك لعدم التعارض بين الدليلين في المدلول الالتزامي ؛ لأنّ كلاّ منهما ينفي الاحتمال الثالث ولا تعارض بينهما في ذلك ؛ ولذلك يسقطان عن الحجّيّة بلحاظ المدلول المطابقي للتعارض بينما يبقيان على الحجّيّة بلحاظ مدلوليهما الالتزاميّين ؛ لعدم التعارض بينهما بلحاظه ، وبذلك ننفي الاحتمال الثالث المشترك بينهما.

وفيه : أنّه مبني على عدم التبعيّة بين الدلالة الالتزاميّة والدلالة المطابقيّة في الحجّيّة ، فتبقى الدلالة الالتزاميّة على الحجّيّة حتّى لو سقطت الدلالة المطابقيّة ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني.

١٨٧

إلا أنّ الصحيح هو التبعيّة بين الدلالتين في السقوط ؛ وذلك لما ذكرناه سابقا من أنّ النكتة الكاشفة عن الدلالتين في الأخبار واحدة ، وهي نكتة عدم الكذب في الراوي والشهادة ، فإذا ثبت كذبه ( بالمعنى الأعمّ من الكذب والخطأ والاشتباه ) فهذا معناه سقوط نكتة كشفه عن الواقع ، وهذه النكتة نسبتها إلى الدلالتين على حدّ واحد فيسقطان معا ، ولا مبرّر لبقاء إحداهما على الحجّيّة مع فرض سقوط نكتتها الكاشفة عن الواقع.

نعم ، في بعض الموارد التي تكون الدلالة الالتزاميّة بيّنة عرفا على مستوى المدلول التصوّري فلا تسقط ؛ لأنّها بدرجة من الوضوح بحيث تكون كالدلالة المطابقيّة فكأنّه يخبر عن مدلولين مطابقيين في عرض واحد ، وكذب أحدهما حينئذ لا يستلزم كذب الآخر ، بل يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة إضافة إلى النكتة الموجبة لسقوط الأولى منهما ، ولذلك فصّلنا في الدلالة التضمّنيّة فليراجع في محلّه.

ثانيها : التمسّك بدليل الحجّيّة لإثبات حجّيّة غير ما علم إجمالا بكذبه ، فإنّ المتعذّر تطبيق دليل الحجّيّة على هذا بعينه أو ذاك بعينه للمعارضة ، وأمّا تطبيقه على عنوان غير معلوم الكذب إجمالا فلا محذور فيه ؛ لأنّه غير معارض لا بتطبيقه على عنوان معلوم الكذب لوضوح أن جعل الحجّيّة لهذا العنوان غير معقول ، ولا بتطبيقه على عنوان تفصيلي كهذا أو ذاك لعدم إحراز مغايرة العنوان التفصيلي لعنوان غير المعلوم.

التقريب الثاني : ما لعلّه يظهر من كلمات صاحب ( الكفاية ) ، وحاصله : أنّ التعارض بين الدليلين يوجب العلم بكذب أحدهما فيسقط كلا المدلولين المطابقيين عن الحجّيّة للعلم الإجمالي بكذب أحدهما ؛ لأنّه يمكن أن ينطبق على كلا الخبرين فيتعارضان ويتساقطان عن الحجّيّة.

وأمّا ما لم يعلم بكذبه إجمالا فيبقى دليل الحجّيّة شاملا له فنطبّق دليل الحجّيّة على عنوان غير معلوم الكذب وأثره نفي الثالث.

وهذا العنوان لا محذور في شمول دليل الحجّيّة له ؛ وذلك لأنّ المحذور يرد إذا أردنا أن نطبّق هذا العنوان على أحدهما المعيّن ، فإنّ تطبيقه على هذا الدليل بعينه

١٨٨

يتعارض مع تطبيقه على ذاك الدليل بعينه ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يمكن أن يكون غير معلوم الكذب كما يمكن أن يكون معلوم الكذب أيضا ، فترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح.

إلا أنّنا نطبّق عنوان غير معلوم الكذب على أحدهما غير المعيّن ، فإنّ أحدهما غير المعيّن لا يعلم بكذبه ؛ لأنّنا نعلم بكذب أحدهما فقط ، وحينئذ يشمله دليل الحجّيّة بلحاظ نفي الاحتمال الثالث لا بلحاظ تطبيقه على هذا بعينه أو ذاك بعينه.

وبتعبير آخر : إنّ عنوان غير معلوم الكذب يتعذّر تطبيقه على هذا الدليل بعينه وعلى ذاك بعينه لمكان التعارض بينهما ، فإنّ كلاّ منهما يحتمل أن يكون غير معلوم الكذب ، وحيث لا ترجيح لأحدهما فيتعارضان ويتساقطان.

ولكنّ تطبيق عنوان غير معلوم الكذب إجمالا أي على أحدهما غير المعيّن لا محذور فيه ؛ لأنّه لا معارض له فيشمله دليل الحجّيّة.

نعم ، لا يمكن تطبيق هذا العنوان على عنوان معلوم الكذب واقعا ؛ لأنّ ما يعلم بكذبه واقعا لا يشمله دليل الحجّيّة كما هو واضح.

وكذلك لا يمكن تطبيقه على العنوان التفصيلي كهذا الدليل بعينه أو ذاك بعينه ؛ لأنّنا لا نحرز أنّ هذا الدليل بعينه وهو العنوان التفصيلي مغاير لعنوان غير معلوم الكذب ؛ لأنّه يحتمل أن يكون هو بعينه تفصيلا المعلوم الكذب.

وإنّما نطبّقه على عنوان إجمالي وهو عنوان أحدهما ، فإنّه ينطبق عليه غير معلوم الكذب على إجماله ، وأثره كذلك نفي الثالث ؛ لأنّه سواء كان واقعا منطبقا على هذا أو على ذاك فنفي الثالث دليل التزامي مشترك لهما.

وهذا الأثر يكفي لرفع محذور اللغويّة وعدم الفائدة من تطبيق دليل الحجّيّة على عنوان غير معلوم الكذب ؛ لأنّه وإن كان لا ينطبق على أحدهما بعينه للتعارض إلا أنّه ينطبق على عنوان أحدهما لا بعينه أي إجمالا وأثره نفي الثالث.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الخبرين المتعارضين إمّا أن يحتمل كذبهما معا أو لا.

فإن احتمل ففي حالة كذبهما معا لا تعيّن للمعلوم بالإجمال ولا لغير المعلوم بالإجمال لتجعل الحجّيّة له ، وإن لم يحتمل كذبهما معا فهذا بنفسه ينفي احتمال الثالث بلا حاجة إلى التمسّك بدليل الحجّيّة.

١٨٩

ويرد عليه : أنّ الخبرين المتعارضين إمّا أن نحتمل كذبهما معا أو لا نحتمل ذلك ، بل كان يمكن صدق أحدهما.

فإن احتملنا كذبهما معا فهذا معناه أنّ غير معلوم الكذب الذي نريد تطبيق دليل الحجّيّة عليه على إجماله لا تعيّن له في الواقع ، وبالتالي لا تعيّن لغير المعلوم كذبه إجمالا أيضا ؛ وذلك لتساوي العلم بالنسبة إليهما لأنّ المفروض عدم تميّز أحدهما عن الآخر بلحاظ الكذب وعدمه.

وهذا معناه أنّ دليل الحجّيّة لا يمكن أن يشمل غير معلوم الكذب ؛ لأنّه لمّا لم يكن له تعيّن في الواقع فلا يكون حجّة ؛ للتعارض في شمول دليل الحجّيّة لهما ؛ لأنّ كلاّ منهما يحتمل كونه غير معلوم الكذب.

والوجه في عدم التعيّن الواقعي : هو أنّ التعارض بينهما ناتج عن التنافي بين المدلولين فقط ، وأمّا سائر الخصوصيّات فهي متساوية بينهما.

وأمّا إذا كان التعارض بينهما ناتجا عن كون أحدهما فيه خصوصيّة تمنع من الأخذ بخبره ككونه من العامّة مثلا ، أو من الفرق المنحرفة واشتبه الأمر علينا فلم نميّز خبر الثقة الإمامي عن خبر الثقة من الفرقة المنحرفة ، فهذا يمكن فيه الأخذ بدليل الحجّيّة وتطبيقه على غير معلوم الكذب ؛ لأنّ له تعيّنا في الواقع وفي علم الله عزّ وجلّ.

وأمّا في مقامنا فلا تميّز لأحدهما على الآخر ، ممّا يعني أنّه لا تعيّن له في الواقع ، ودليل الحجيّة إنّما يطبّق على الخبر المشخّص والمتعيّن لا على مفهوم الخبر أو عنوان الخبر إجمالا ؛ لأنّه ليس خبرا بنفسه ليشمله دليل الحجّيّة.

وأمّا إن احتملنا كذب أحدهما فقط دون الآخر بأن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، ولم نميّز الصادق من الكاذب ، فهنا لا نحتاج إلى تطبيق دليل الحجّيّة على عنوان غير معلوم الكذب ، بل نطبّقه ابتداء على الخبر الصادق واقعا ، وبه ينتفي الاحتمال الثالث.

وبهذا ظهر أنّ تطبيق دليل الحجّيّة على عنوان غير معلوم الكذب غير معقول في نفسه بهذا المعنى.

ثالثها : وهو تعميق للوجه الثاني ، وحاصله : الالتزام بحجّيّة كلّ من المتعارضين

١٩٠

ولكن على نحو مشروط بكذب الآخر ، وحيث يعلم بكذب أحدهما فيعلم بحجّيّة أحدهما فعلا ، وهذا يكفي لنفي الثالث ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

التقريب الثالث : ما ذكرناه سابقا من الحجّيّة التخييريّة المشروطة بكذب الآخر ، فنقول هنا : إنّ كلّ واحد من الخبرين يكون حجّة بشرط كذب الآخر ، أو ألاّ يكون الآخر صادقا ، وهذا يتمّ في المتعارضين بنحو التضادّ لا التناقض ؛ لأنّ النقيضين إذا علم بكذب أحدهما تعيّن صدق الآخر من دون حاجة لجعل الحجّيّة له وهكذا العكس.

وفي مقامنا نقول : إنّنا نعلم بكذب أحد الخبرين ؛ لأنّ صدقهما معا غير ممكن ، وهذا يعني أنّ الشرط للحجّيّة التخييريّة متحقّق وهو العلم بكذب أحدهما ، ولكن تطبيق الحجّيّة التخييريّة على هذا الخبر بعينه يتنافى ويتعارض مع تطبيقها على الخبر الثاني ، فلا يمكن تطبيقها على أحدهما المعيّن ، ولكن يمكن تطبيقها على أحدهما غير المعيّن بالنسبة إلينا ولكنّه متعيّن في الواقع ؛ لأنّ أحدهما شرطه متحقّق فهو متعيّن في الواقع ولكنّه غير متعيّن بالنسبة إلينا ، وهذا معناه أنّ شرط الحجّيّة التخييريّة فعلي فتكون فعليّة ، وفائدتها هي نفي الثالث بالخبر الحجّة واقعا.

والحاصل : أنّنا نطبّق دليل الحجّيّة على الحجّيّة التخييريّة لأحد الخبرين المتعيّن في الواقع ، وأثرها نفي الاحتمال الثالث.

ولعلّ المقصود من التقريب الثاني هو هذا المعنى أي الحجّيّة التخييريّة لا تطبيق دليل الحجّيّة على عنوان غير معلوم الكذب.

الرابع : ينبغي أن يعلم أنّا في تنقيح القاعدة على ضوء دليل الحجّيّة كنّا نستبطن افتراضا ، وهو التعامل مع أدلّة الحجّيّة بوصفها أدلّة لفظيّة لا ترفع اليد عن إطلاقها إلا بقدر الضرورة ، إلا أنّ هذا الافتراض لا ينطبق على الواقع ؛ لأنّ دليل الحجّيّة في الغالب لبّي مرجعه إلى السيرة العقلائيّة وسيرة المتشرّعة والإجماع ، والأدلّة اللفظيّة إذا تمّت تعتبر إمضائيّة ، فتنصرف إلى نفس مفاد تلك الأدلّة اللبّيّة وتتحدّد بحدودها.

وعلى هذا الأساس سوف تتغير نتيجتان من النتائج التي انتهينا إليها سابقا :

التنبيه الرابع : في الفرق بين دليل الحجّيّة اللفظي ، ودليل الحجّيّة اللبّي :

١٩١

دليل الحجّيّة تارة يكون لفظيّا كالآيات والروايات الدالّة بإطلاقها أو على حجّيّة خبر الثقة أو حجّيّة الظهور.

وأخرى يكون دليلا لبّيّا كالسيرة العقلائيّة أو المتشرّعيّة أو الإجماع الدالّ على حجّيّة خبر الثقة أو حجّيّة الظهور.

وما ذكرناه من بحوث سابقة إلى الآن كنّا نقصد به التعارض مع افتراض مقدّر ومستبطن ، وهو أنّ الدليل الدالّ على حجّيّة السند أو على حجّيّة الظهور في الدليلين المتعارضين هو الدليل اللفظي كالآيات أو الروايات ، ولهذا كنّا نتمسّك بإطلاقه في بعض فرضيّات التعارض للدليلين معا أو لأحدهما بالخصوص أو لأحدهما غير المعيّن.

ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما هو من شئون باب الألفاظ ، وكذلك كنّا نسقط دليل الحجّيّة ونحكم بقصوره في بعض الموارد مقتصرين في ذلك على المقدار الذي ترتفع فيه غائلة التعارض دون المقدار الأزيد من ذلك ؛ لأن الإطلاق في دليل الحجّيّة لمّا كان مستقرّا ابتداء فلا ترفع اليد عنه بلحاظ الحجّيّة إلا بمقدار الضرورة فقط.

وأمّا في الأدلّة اللبّيّة فإذا فرضنا أنّنا نتعامل مع الدليلين المتعارضين على أساس كون دليل الحجّيّة فيهما هو الدليل اللبّي كالسيرة أو الإجماع ، فهنا حيث إنّ الدليل اللبّي لا إطلاق فيه فهو لا يشمل حالات التعارض بين الدليلين ؛ لأنّ القدر المتيقّن من دليل الحجّيّة للسند أو للظهور إنّما هو غير حالات التعارض ، وأمّا مع فرض المعارضة فلا يقين لدينا بشمول الدليل اللبّي لها ليحكم بحجّيّة الدليلين أو أحدهما ، ومن هنا كان الحكم هو التساقط في كلّ فرضيّات التعارض.

وحيث إنّ دليل حجّيّة السند ودليل حجّيّة الظهور العمدة فيهما هو السيرة العقلائيّة الممضاة من الشارع بسبب سكوته وعدم ردعه عنها ، وهكذا السيرة المتشرّعيّة ، وهما دليلان لبّيّان ، فسوف تختلف النتائج التي ذكرناها سابقا في موردين.

وأمّا الوجه في كون العمدة في دليل حجّيّة السند والظهور هو الدليل اللبّي لا اللفظي ، فلأنّ الآيات والروايات التي يدّعى دلالتها على الحجّيّة بالنسبة للسند أو الظهور فهي على فرض التسليم بها وتماميّة دلالتها لا تعدو كونها أدلّة إمضائيّة للنكتة

١٩٢

وللمرتكز العقلائي ، فتكون إرشادا إلى البناء العقلائي ، أو على الأقلّ يكون هذا البناء العقلائي قيدا لبّيّا متّصلا بهذه الأدلّة اللفظيّة وموجبا لمنع انعقاد الإطلاق فيها ، أو لصرفه عن حالات التعارض وتخصيصه أو تقييده بغير حالات التعارض بين السندين أو الظهورين.

وسوف نلاحظ حينئذ تغيّر النتائج السابقة في حالتين هما :

الأولى : ما كنّا نفترضه من التمسّك بإطلاق دليل الحجّيّة لإثبات حجّيّة في كلّ من المتعارضين مشروطة بكذب الآخر ، وكنّا نستفيد من ذلك لنفي احتمال الثالث ، فإنّ هذا الافتراض يناسب الدليل اللفظي الذي له إطلاق يشمل المتعارضين بحدّ ذاته.

وأمّا إذا كان مدرك الحجّيّة الأدلّة اللبّيّة من السيرة العقلائيّة وغيرها فلا إطلاق فيها للمتعارضين رأسا ، فلا يمكن أن نثبت بها حجّيّتين مشروطتين على النحو المذكور.

الحالة الأولى ـ التي يظهر الفرق فيها بين كون دليل الحجّيّة لفظيّا أو لبّيّا ـ هي أن يقال : إنّنا ذكرنا فيما سبق ـ تعليقا على الشقّ الثالث من الشقوق الثلاثة التي ذكرها المشهور كبرهان على التساقط بين الدليلين المتعارضين ـ أنّه يمكن إثبات الحجّيّة التخييريّة لكلّ من الدليلين المتعارضين مشروطة بكذب الآخر ، أو بألاّ يكون الآخر صادقا ، واستفدنا من هذه الحجّيّة لنفي الاحتمال الثالث ؛ لأنّنا لم نستطع من خلالها إثبات حجّيّة أحد الدليلين بالفعل لا بنحو تفصيلي ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا بنحو إجمالي ؛ لأنّه ليس موضوعا للحجّيّة ، لأنّه ليس خبرا.

وهذه الحجّيّة التخييريّة إنّما يمكن إثباتها فيما إذا كان دليل الحجّيّة لفظيّا كالآيات أو الروايات التي يتمسّك بإطلاقها لموارد التعارض بين الدليلين ، بحيث لا ترفع اليد عن الإطلاق فيها إلا بقدر ما تفرضه الضرورة وبالمقدار الذي ترتفع به غائلة التعارض دون المقدار الأزيد من ذلك.

بمعنى أنّنا إمّا نرفع اليد عن الإطلاق رأسا وإمّا في بعض الموارد ، وحيث إنّ الأوّل فيه عناية زائدة فتحتاج إلى دليل زائد ؛ لأنّ الضرورة لمّا كانت ترتفع برفع اليد عن الإطلاق في بعض الحالات فلا موجب ولا مبرّر لرفع اليد عنه في جميع الحالات رأسا.

١٩٣

ولذلك أثبتنا الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّها تعني رفع اليد عن الإطلاق لا مطلقا بل بنحو مجمل بحيث ترتفع بها المعارضة بين الدليلين من جهة ويثبت بها أثرا وفائدة من جهة ثانية وهي نفي الثالث.

إلا أنّ هذه الحجّيّة التخييريّة لا تتمّ فيما إذا كان الدليل الدالّ على الحجّيّة لبّيّا ـ كما هو الصحيح ـ كالسيرة العقلائيّة أو سيرة المتشرّعة أو الإجماع ؛ لأنّ الدليل اللبّي لا إطلاق فيه فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو غير حالات التعارض بين الدليلين.

وأمّا مع المعارضة فلا نحرز ولا نتيقّن بشمول دليل الحجّيّة للسند أو للظهور للمتعارضين ، ولذلك كان قول المشهور من الحكم بالتساقط مطلقا هو الصحيح بناء على أنّ دليل الحجّيّة لبّي ، ولذلك لا يمكن إثبات الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّها فرع وجود الإطلاق لنتمسّك به ولا نرفع اليد عنه إلا بمقدار الضرورة ، والمفروض أنّه لا إطلاق من الأساس.

الثانية : ما كنّا نفترضه ـ في حالة تعارض الدليل اللفظي القطعي سندا مع الدليل اللفظي الظنّي سندا وعدم إمكان الجمع العرفي ـ من وقوع التعارض بين دليل حجّيّة الظهور في الأوّل ودليل حجّيّة السند في الثاني ، فإنّ هذا يناسب الإقرار بتماميّة كلّ من هذين الدليلين في نفسه وصلاحيّته لمعارضة الآخر ، مع أنّ الواقع ـ بناء على أنّ دليل حجّيّة السند ( أي حجّيّة خبر الواحد ) السيرة ـ قصوره في نفسه عن الشمول لمورد المعارضة المستقرّة لظاهر كلام قطعي الصدور من الشارع ؛ لعدم انعقاد السيرة في مثل ذلك على التعبّد بنقل المعارض.

الحالة الثانية ـ للفرق بين دليل الحجّيّة اللفظي ودليلها اللبّي ـ هي ما يظهر في الحالة التالية :

إذا تعارض دليل لفظي قطعي السند ظنّي الدلالة مع دليل لفظي آخر ظنّي السند ، كما إذا تعارض خبر الثقة مع الخبر المتواتر أو مع الآية الكريمة ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الحالتين الرابعة والسادسة من التنبيه الأوّل من تنبيهات النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ.

فهناك قلنا : إنّه إذا أمكن الجمع العرفي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما ولم يمكن ترجيح أحدهما المعيّن على الآخر لعدم أقوائيّة ملاكه ولو احتمالا ، فيقع التعارض بين

١٩٤

دليل حجّيّة السند في الدليل الظنّي السند وبين دليل حجّيّة الظهور في الدليل القطعي سندا والظنّي دلالة ، وقلنا بأنّه يمكن تطبيق الحجّيّة التخييريّة فيما إذا كان ظنّي السند قطعي الدلالة كما هي الحالة الرابعة ، فإنّ هذا إنّما يتناسب مع كون دليل الحجّيّة لفظيّا الشامل بإطلاقه للدليل الظنّي السند مع فرض معارضته للدليل القطعي السند ، فإنّه في حالة المعارضة يمكن التمسّك بإطلاق دليل الحجّيّة اللفظي وتطبيقه على الخبر الظنّي السند ، فيكون صالحا لمعارضة الدليل القطعي بلحاظ دلالته الظنّيّة.

وأمّا إذا كان دليل الحجّيّة لبّيّا ـ كما هو كذلك ـ فلا يتمّ ذلك ؛ لأنّ السيرة ونحوها لا يعلم بانعقادها على العمل بالخبر الظنّي السند المعارض لما هو قطعي السند ، ولذلك لا يعلم بحجّيّة الخبر الظنّي في حالة المعارضة ليصلح للمعارضة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة حينئذ يعتبر قاصرا عن الشمول لمورد المعارضة ؛ لأنّ السيرة منعقدة على العمل بالقطعي السند والأخذ بظاهره وإن كان ظنّيّا ، وتقديمه على الخبر الظنّي سندا. ومن هنا لا تقع المعارضة بينهما ، بل يقدّم الدليل القطعي سندا.

وبهذا ينتهي البحث عن تنبيهات النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ ، وبه ينتهي البحث عمّا هو مقتضى القاعدة والأصل الأوّلي للتعارض المستقرّ.

* * *

١٩٥
١٩٦

حكم التعارض

على ضوء الأخبار الخاصّة

١٩٧
١٩٨

٤ ـ حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة

الروايات الخاصّة الواردة في علاج التعارض على قسمين :

المقام الثاني : في حكم التعارض المستقرّ على ضوء الأخبار الخاصّة التي عالجت هذه المسألة.

وهذا ما يصطلح عليه بحكم التعارض بمقتضى الأصل الثانوي ؛ وذلك لأنّ القاعدة الأوّليّة كانت تقتضي التساقط مع عدم إمكان الجمع العرفي ومع عدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر بعينه.

والمقصود من الروايات هي الأخبار التي افترضت التعارض بين الروايات وعالجت حكمها من هذه الناحية ، وهي على قسمين :

أحدهما : ما يتّصل بحالات التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظنّي السند ، إذ قد يقال بوجود ما يدلّ على إلغاء حجّيّة الدليل الظنّي السند في هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك عمّا قد يكون هو مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبّد بالسند في أحدهما مع دليل التعبّد بالظهور في الآخر وتساقطهما.

ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العرض على الكتاب ؛ لأنّها تقتضي عرض الأخبار على الكتاب.

القسم الأوّل : روايات العرض على الكتاب.

والمقصود من ذلك هو حالات التعارض بين الدليل القطعي السند مع الدليل الظنّي السند ، فقد تقدّم في حالات التعارض أنّه قد يكون التعارض بين دليل قطعي السند ظنّي الدلالة وبين دليل ظنّي السند قطعي الدلالة ، وقد يكون أيضا بين دليل قطعي السند ظنّي الدلالة وبين دليل ظنّي السند وظنّي الدلالة أيضا.

١٩٩

فهناك ذكرنا أنّه تسري المعارضة إلى دليل التعبّد بالسند أيضا من جهة الدليل الظنّي السند ، فتكون المعارضة بين دليلين للحجّيّة.

ولكن قد يقال هنا بأنّ الروايات دلّت على إلغاء حجّيّة الدليل الظنّي السند وبالتالي نرفع اليد عن مقتضى القاعدة الأوّليّة المتقدّمة في هذه الحالات من وقوع التعارض بين دليل التعبّد بالسند ودليل حجّيّة الظهور وتساقطهما ، وتكون النتيجة على ضوء القاعدة الثانويّة المستفادة من الروايات هي تقديم الدليل القطعي السند ، لسقوط الدليل الظنّي عن الحجّيّة رأسا حينئذ.

وتسمّى روايات هذا القسم بروايات العرض على الكتاب ؛ لأنّها تقتضي عرض الأخبار على الكتاب وطرح المخالف له.

ثمّ إنّ هذه القاعدة الثانويّة قد تكون مخالفة للقاعدة الأوّليّة فيما إذا كان دليل الحجّيّة هو الدليل اللفظي كالآيات والروايات حيث تكون بإطلاقها شاملة للخبر في حال التعارض بينه وبين الدليل القطعي السند ، وقد تكون موافقة للقاعدة الأوّليّة وذلك فيما إذا كان دليل الحجّيّة هو الدليل اللبّي كالسيرة والإجماع ـ كما هو الصحيح ـ فإنّه قلنا بأنّ القدر المتيقّن هو حجّيّة الخبر غير المعارض ؛ لأنّ العقلاء لا يبنون على العمل بالخبر المعارض للدليل القطعي ؛ لأنّه يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو غير حالات التعارض ، وهذا ما ذكرناه في التنبيه الرابع من تنبيهات النظريّة العامّة للتعارض المستقرّ فليراجع.

والقسم الآخر : ما يتّصل بحالات التعارض بين الدليلين الظنّيّين سندا ، إذ قد يقال بوجود ما يدلّ على عدم التساقط وثبوت الحجّيّة لأحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا على نحو نرفع اليد به عما تقتضيه القاعدة من التساقط ، ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العلاج.

وسنتكلّم عن هذين القسمين تباعا.

القسم الثاني : روايات العلاج :

والمقصود من ذلك هو حالات التعارض بين الدليلين الظنّيّين سندا ، حيث تقدّم إنّ مقتضى التعارض بينهما هو التساقط فيما إذا كانا ظنّيّي الدلالة أيضا ، لسريان التنافي من دليل حجّيّة الظهور إلى دليل التعبّد بالسند ، أو يقال بالحجّيّة التخييريّة كما ذكرنا

٢٠٠