شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

الورود والتعارض

٢١
٢٢

الورود والتعارض

وعلى ضوء ما تقدّم نعرف أنّ الورود ـ بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة السابقة (١) ـ ليس من التعارض ، سواء كان الدليل الوارد محقّقا في مورده لفرد حقيقيّ من موضوع الدليل المورود ، أو نافيا في مورده حقيقة لموضوع ذلك الدليل.

أمّا في الأوّل فواضح. وأمّا في الثاني فلأنّ التنافي إنّما هو بين المجعولين والفعليّتين لا بين الجعلين ، فالدليلان ( الوارد والمورود ) كلاهما حجّة في إثبات مفادهما ، وتكون الفعليّة دائما لمفاد الدليل الوارد ؛ لأنّه ناف لموضوع المجعول في الدليل الآخر.

وعلى هذا صحّ القول بأنّ الدليلين إذا كان أحدهما قد أخذ في موضوعه عدم فعليّة مفاد الدليل الآخر فلا تعارض بينهما ، إذ لا تنافي بين الجعلين ، ويكون أحدهما واردا على الآخر في مرحلة المجعول والفعليّة.

الورود والتعارض : الورود معناه أن يكون أحد الدليلين رافعا لفعليّة الدليل الآخر وذلك برفع موضوعه رفعا حقيقيّا ، هذا إذا كان نافيا ، وأمّا إذا كان مثبتا فيكون أحد الدليلين موجدا ومحقّقا لفرد حقيقيّ من موضوع الدليل الآخر ، والورود بكلا نحويه خارج عن باب التعارض.

أمّا الورود المثبت فلأنّ الدليل الوارد لا يتنافى مع الدليل المورود ؛ لأنّه مثبت لموضوعه ولا ينفيه ، والتعارض كما ذكرنا هو التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما ، وهذا غير متحقّق ؛ لأنّ المدلولين لا تنافي بينهما في الدليلين الوارد والمورود.

ومثاله ما إذا قيل : ( أكرم العالم ) ، ثمّ ورد دليل آخر يقول : ( إنّ التقي عالم ) ، فهنا يكون الدليل الوارد مثبتا لفرد من أفراد العالم على نحو الحقيقة ، وإن كان لسان هذا

__________________

(١) في أوائل بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

٢٣

الإثبات اعتباريّا وجعليّا ؛ لأنّه وارد من الشارع فالادّعاء موجود في عالم التعبّد لا في عالم الوجود الخارجي التكويني.

ولا تنافي بين هذين الدليلين لا في عالم الجعل والتشريع ؛ لأنّه يمكن جعلهما وتشريعهما معا من دون أيّة منافاة أو تكاذب وتمانع بينهما ، ولا في عالم الفعليّة والمجعول ؛ لأنّهما معا مثبتان ، ولا تنافي بين الحكمين والمجعولين فيهما ولا في عالم الامتثال ؛ لأنّه يمكنه إكرام العالم ويمكنه إكرام التقي أيضا.

ومثاله أيضا : دليل حجيّة الأمارات فإنّه يعتبر واردا على دليل جواز الإفتاء بما هو حجّة ؛ لأنّه يوجد فردا حقيقيّا من أفراد الحجّيّة.

وأمّا الورود النافي والرافع لموضوع الدليل المورود ، فإنّه لا تنافي بينهما بلحاظ الجعل والتشريع بل يمكن جعلهما معا ، وإن كان هناك تناف بينهما ؛ لأنّ أحدهما يثبت الحكم لهذا الفرد والآخر ينفيه عنه ؛ وذلك لأنّ هذا التنافي لن يؤدّي إلى التعبّد بالمتنافيين ؛ لأنّ الدليلين الوارد والمورود وإن كان كلّ واحد منهما حجّة في نفسه إلا أنّهما لن يكونا فعليّين معا ؛ لأنّ الدليل الوارد دائما يرفع موضوع الدليل المورود ومع ارتفاع موضوعه لا يكون الحكم فيه فعليّا ، بل هو منتف لانتفاء موضوعه ، فليس هناك إلا حكم واحد في عالم الفعليّة والمجعول.

ومثاله ما إذا قيل : ( أكرم العالم ) ، ثمّ ورد دليل آخر يقول : ( العاصي ليس بعالم ) ، فإنّه في الدليل الأوّل كان الحكم منصبّا على كلّ أفراد العالم من دون تفصيل بينها ، فكلّ فرد من أفراد العالم يجب إكرامه ، بينما الدليل الثاني يخرج العاصي العالم حقيقة عن كونه عالما بالتعبّد ، فهو إخراج حقيقي لهذا الفرد ولكن لسان هذا الإخراج ومنشؤه هو عالم التعبّد والاعتبار ، لا الواقع الخارجي ؛ لأنّه في الواقع الخارجي فرد من أفراد العالم ، ولكنّه أخرج عن فرديّته حقيقة بنحو من الاعتبار والتعبّد ، فكأنّه قال : ( اعتبر العاصي ليس بعالم أي اجعله غير عالم ) ، وهذه القضيّة حقيقيّة في عالم الجعل والاعتبار ، فالإخراج حقيقي ولكن في عالم الجعل.

وعليه ، فسوف يكون الدليل الوارد متقدّما على الدليل المورود حتما ؛ لأنّه يرفع موضوعه بلحاظ هذا الفرد ، فلا يكون حكم الدليل المورود فعليّا فيه ، وإنّما الحكم الفعلي هو ما يدلّ عليه الدليل الوارد.

٢٤

والحاصل : أنّ الدليلين الوارد والمورود وإن كان بينهما تناف بلحاظ المجعولين الفعليّين فيهما إلا أنّه بدوي وغير مستقرّ ؛ لأنّه يزول تلقائيّا بعد معرفة أنّ الدليل الوارد يرفع موضوع الدليل المورود ، فإنّ رفعه لموضوعه يعني رفع المجعول الفعلي فيه أيضا ، فلا تنافي بين المجعولين في الحقيقة كما لا تنافي بين الجعلين معا ، لإمكان التعبّد والعمل بكلا الدليلين.

وبهذا اتّضح خروج باب الورود بكلا قسميه أي ( النافي والمثبت ) عن باب التعارض ؛ لأنّه لا تنافي بين الجعلين أو مدلولي الدليلين ، ولا تنافي بين المجعولين لأنّ أحدهما فعلي والآخر مرتفع لارتفاع موضوعه ، ولمّا كان الورود المثبت خارجا عن محلّ كلامنا ؛ لأنّه لا يوجد فيه أيّ تناف ، فالحديث عن الورود النافي هو محطّ البحث ، ولذلك نقول :

ثمّ إنّ ورود أحد الدليلين على الآخر يتمّ ـ كما عرفت ـ برفعه لموضوعه ، وهذا الرفع على أنحاء :

منها : أن يكون رافعا له بفعليّة مجعوله ، بأن يكون مفاد الدليل المورود مقيّدا بعدم فعليّة المجعول في الدليل الوارد.

ومنها : أن يكون رافعا له بوصول المجعول لا بواقع فعليّته ولو لم يصل.

ومنها : أن يكون رافعا له بامتثاله ، فما لم يمتثل لا يرتفع الموضوع في الدليل المورود.

أقسام الورود الرافع والنافي : أو الورود من جانب واحد.

الدليل الوارد الرافع لموضوع الدليل المورود بلحاظ كيفيّة الرفع فيه ينقسم إلى عدّة أقسام أهمّها :

أوّلا : أن يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بلحاظ فعليّة مجعوله ، بحيث إذا صار المجعول في الدليل الوارد فعليّا فيرتفع به موضوع الدليل المورود ، وهذا معناه أنّ الدليل المورود مقيّد بعدم فعليّة المجعول في الدليل الوارد ، وأمّا إذا كان الدليل الوارد غير فعلي فسوف يكون الدليل المورود فعليّا حينئذ ؛ لتحقّق قيده وهو عدم فعليّة الدليل الوارد ، ومن هنا نلاحظ أنّه لا يمكن أن يكونا فعليّين معا.

وثانيا : أن يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بلحاظ وصوله إلى

٢٥

المكلّف ، فإذا صار فعليّا ووصل إلى المكلّف بأن علم المكلّف به إمّا علما حقيقيّا كالقطع وإمّا بالتعبّد كالأمارات ونحوها ، فهنا يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود ؛ لأنّه وصل إلى المكلّف ، وأمّا إذا لم يصل إلى المكلّف فهو لا يكون رافعا لموضوع الدليل المورود حتّى ولو كان فعليّا في الواقع بأن تحقّق موضوعه وسائر ما يتعلّق به ، إلا أنّه ما دام لم يعلم به المكلّف ولم يحرزه فهو لا يكون واصلا ، والقيد هنا الوصول لا الفعليّة.

وثالثا : أن يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بلحاظ الامتثال ، فإذا صار فعليّا ووصل إلى المكلّف بأنحاء الوصول وامتثله ارتفع بذلك موضوع الدليل المورود ، وأمّا إذا لم يمتثله فحتّى لو كان فعليّا وواصلا إلى المكلّف فلا يرتفع موضوع الدليل المورود به ؛ لأنّ شرطه وقيده غير متحقّق وهو امتثال الدليل الوارد فيكون فعليّا.

وهناك حالتان أخريان لم يذكرهما السيّد الشهيد هنا ، وهما : مرتبة التنجّز ، ومرتبة الجعل ؛ لأنّ مراحل تعارض الحكمين خمس :

١ ـ الجعل ٢ ـ الفعليّة ٣ ـ الوصول ٤ ـ التنجّز ٥ ـ الامتثال.

ولعلّه لعدم أهمّيّتهما أو لندرة وقوعهما في الفقه.

ومثال الأوّل : دليل حرمة إدخال الجنب في المسجد الذي يرفع بفعليّة مجعوله موضوع صحّة إجارة الجنب للمكث في المسجد ، إذ يجعلها إجارة على الحرام ، ودليل صحّة الإجارة مقيّد بعدم كونها كذلك.

ومثال الثاني : دليل الوظيفة الظاهريّة الذي يرفع بوصول مجعوله عنوان المشكل المأخوذ في موضوع دليل القرعة.

ومثال الثالث : دليل وجوب الأهمّ الذي يرفع بامتثاله موضوع دليل وجوب المهمّ ، كما تقدّم في مباحث القدرة (١).

مثال الدليل الوارد الرافع بفعليّة مجعوله لموضوع الدليل المورود : ما إذا ورد حرمة دخول الجنب إلى المسجد ، فإنّه يعتبر واردا على مثل دليل الإجارة ، بمعنى كونه رافعا لموضوع الإجارة المتعلّق بدخول الجنب إلى المسجد ؛ لأنّ موضوع الإجارة مقيّد بعدم

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ.

٢٦

كون الإجارة على الحرام ، والمقيّد هو : « إنّ شرط الله قبل شرطكم » أو « إلا شرطا حلّل حراما أو حرّم حلالا » ، ودليل حرمة دخول الجنب إلى المسجد يوجد فردا من أفراد الحرام في الخارج فيكون رافعا ونافيا لموضوع الإجارة في هذا المورد.

ويلاحظ هنا : أنّ الدليل الوارد إنّما يكون رافعا لموضوع الدليل المورود فيما إذا كان مجعوله فعليّا لا مطلقا ، بمعنى أنّ حرمة دخوله إلى المسجد فعليّا لكونه جنبا بالفعل ، ومع الحرمة الفعليّة يرتفع موضوع الإجارة ؛ لأنّه مقيّد بأن لا يكون متعلّقه حراما بالفعل.

ومثال الدليل الوارد الرافع بوصوله : الأحكام الظاهريّة التي أخذ في موضوع العلم مع الدليل القطعي.

فإنّ الدليل القطعي يعتبر واردا بوصوله إلى المكلّف على تلك الأحكام الظاهريّة ، كأصالة الطهارة مثلا ، أو أصالة الحلّيّة أو أصالة البراءة ، فإنّ المأخوذ في ألسنتها عدم العلم فيكون وصول الحكم بالدليل القطعي واردا.

ومثاله أيضا : دليل القرعة لكلّ أمر مشكل مع الوظيفة الظاهريّة الثابتة بالأمارات أو الأصول العمليّة ، فإنّ وصول الحكم بالأمارة أو الأصل إلى المكلّف يعتبر واردا على دليل القرعة ورافعا لموضوعه ؛ لأنّه بوصول الحكم يرتفع كونه مشكلا أي غير مشخّص ولا محدّد ؛ لأنّ الحكم قد تحدّد بتلك الأصول والأمارات.

ومثال الدليل الوارد الرافع بامتثاله : حالات التزاحم بين الأهمّ والمهمّ ، فإنّ الدليل الدالّ على الأهمّ يعتبر واردا على الدليل المهمّ ؛ لأنّه يرفع موضوعه حال الاشتغال بامتثال الأهمّ ، بناء على ما تقدّم في مباحث القدرة من أنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة ، فإنّه إذا اشتغل بالأهمّ ارتفع موضوع المهمّ ، وإذا لم يشتغل به وعصاه كان موضوع المهمّ فعليّا بناء على إمكان الترتّب.

وقد يتّفق التوارد من الجانبين ، وبعض أنحاء التوارد كذلك معقول ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين. وبعض أنحائه معقول ويكون أحد الورودين هو المحكّم دون الآخر ، وبعض أنحائه غير معقول فيؤدّي إلى وقوع التعارض بين الدليلين المتواردين.

أقسام التوارد من الجانبين : هناك عدّة أقسام للتوارد من الجانبين أهمّها :

٢٧

الأوّل : أن يكون التوارد من الجانبين بحيث يكون كلّ منهما رافعا لموضوع الآخر ، وهذا معناه أنّ كلّ واحد منهما مقيّد بعدم ثبوت الآخر ، فيكون الأثر المطلوب وهو رفع الموضوع ملحوظا وفعليّا في كلا الطرفين ، وهذا معقول في نفسه ولكنّه يؤدّي إلى انتفائهما معا.

الثاني : أن يكون التوارد من الجانبين ولكن يكون الأثر المطلوب في أحدهما دون الآخر ، بحيث يكون أحد الدليلين المتواردين هو المؤثّر في رفع موضوع الآخر دائما دون العكس ، وهذا معقول في نفسه أيضا.

الثالث : أن يكون التوارد من الجانبين ولكنّه غير معقول في نفسه بحيث يكون تقييد أحدهما بعدم الآخر غير ممكن لاستلزامه المحذور ، وهذا يؤدّي إلى التعارض بين الدليلين المتواردين.

فمثال الأوّل : أن يكون الحكم في كلّ من الدليلين مقيّدا بعدم ثبوت الحكم الآخر في نفسه ، وحينئذ حيث إنّ كلاّ من الحكمين في نفسه ولو لا الآخر ثابت فلا يكون الموضوع لكلّ منهما محقّقا فعلا ، وهذا معنى أنّ التوارد نفذ وأخذ مفعوله في كلا الطرفين.

مثال الأوّل : أي التوارد من الجانبين المعقول والذي يؤدّي إلى نفوذ التوارد وتأثيره في كلا الطرفين ، ما إذا قلنا بأنّ الحكم في كلا الدليلين مقيّد بعدم ثبوت وجود الدليل الآخر بنحو العدم اللولائي لا العدم الفعلي ، أي أنّه لو لا وجود الدليل الدالّ على هذا الحكم لكان الحكم في الدليل الآخر فعليّا ، وهكذا العكس ، فإذا لاحظنا الدليل الأوّل نجد أنّ الحكم فيه فعلي لو لا وجود ذاك الدليل الدالّ على الحكم الآخر ، ولكن حيث إنّ الدليل الدالّ على الحكم الآخر موجود فيكون الحكم في الدليل الأوّل منتفيا لارتفاع موضوعه ، وهكذا الحال إذا لاحظنا الدليل الثاني فإنّ الحكم فيه يرتفع لعدم تحقّق موضوعه.

وبهذا يكون التوارد من الجانبين نافذا ومؤثّرا بحيث يكون كلا الحكمين منتفيا معا.

وتطبيقه الفقهي ما إذا وجب الحجّ بالاستطاعة ووجبت زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة بالنذر ، فهاهنا يكون وجوب الحجّ مقيّدا بعدم ثبوت ووجود الدليل

٢٨

الدالّ على الحكم الآخر ، فمع وجود الدليل الآخر سوف يرتفع موضوع وجوب الحجّ ؛ لعدم تحقّق موضوعه ، ويكون وجوب الزيارة مقيّدا أيضا بعدم وجود وثبوت الدليل الدالّ على وجوب الحجّ ، فمع وجوده وثبوته يكون وجوب الزيارة منتفيا لعدم تحقّق موضوعه ، والنتيجة هي عدم ثبوت الحكمين معا بسبب التوارد من الجانبين.

وهذا النحو معقول في نفسه ؛ لأنّه لن يلزم منه توقّف أحد الحكمين على عدم الآخر ، وإنّما هو متوقّف على عدم وجود الدليل على الحكم الآخر ، أي أحد الحكمين متوقّف على عدم وجود المقتضي للحكم الآخر لا على عدم الحكم الآخر ليلزم أن يكون أحد الضدّين متوقّفا على عدم الضدّ الآخر.

ومثال الثاني : أن يكون الحكم في أحد الدليلين مقيّدا بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، وأمّا الحكم الثاني فهو مقيّد بعدم امتثال حكم مخالف ، ففي مثل ذلك يكون دليل الحكم الثاني تامّا ومدلوله فعليّا ، وبذلك يرتفع موضوع دليل الحكم الأوّل. وأمّا دليل الحكم الأوّل فيستحيل أن ينطبق مدلوله على المورد ؛ لأنّه إن أريد به إثبات مفاده حتّى في غير حال امتثاله فهو مستحيل ؛ لأنّ غير حال امتثاله هو حال فعليّة الحكم الثاني التي لا يبقى معها موضوع للحكم الأوّل.

وإن أريد إثبات مفاده في حال امتثاله خاصّة فهو مستحيل أيضا ؛ لامتناع اختصاص حكم بفرض امتثاله كما هو واضح.

مثال الثاني ـ أي التوارد من الجانبين المعقول في نفسه والذي يؤدّي إلى تقديم أحدهما فقط دون الآخر ـ : ما إذا كان أحد الحكمين مقيّدا بعدم ثبوت حكم على الخلاف بينما الحكم الثاني مقيّدا بعدم الاشتغال بامتثال حكم مخالف له.

فهنا سوف يتقدّم دليل الحكم الثاني على دليل الحكم الأوّل ـ وإن كان التوارد من الجانبين ؛ لأنّ القيد فيه هو عدم الاشتغال بحكم مخالف له ، فإذا فرض وجود حكم مخالف له وكان فعليّا وواصلا إليه ، فإن اشتغل به ارتفع الموضوع فيه وإن لم يشتغل به كان موضوعه فعليّا.

وأمّا الحكم الأوّل فدليله لن يتقدّم على دليل الحكم الثاني ؛ وذلك لأنّ القيد فيه هو عدم ثبوت حكم على الخلاف ، فمع ثبوت الحكم المخالف له ـ سواء كان فعليّا أم لا وسواء كان مشتغلا به أم لا ـ فسوف يرتفع موضوعه ؛ لعدم تحقّق القيديّة.

٢٩

نعم ، إذا لم يثبت ذاك الدليل الدالّ على الحكم المخالف له فيكون موضوع الدليل الأوّل فعليّا ، إلا أنّ هذا الفرض خلاف ما فرضناه من ثبوت الحكمين معا ، فإنّه في هذه الحالة يكون الدليل الدالّ على الحكم المخالف موجودا ولا معنى لفعليّة الدليل الدالّ على الحكم الأوّل ؛ وذلك لأنّه إن أريد إثبات فعليّته في غير حالة الاشتغال به فهذا مستحيل ؛ لأنّ حالة عدم امتثاله وعدم الاشتغال به هي حالة فعليّة الحكم الثاني ؛ لأنّه مقيّد بعدم الاشتغال بحكم مخالف ، فما دام لم يشتغل بالحكم المخالف الذي هو مفاد الدليل الأوّل كان الحكم الثاني فعليّا ، ومع فعليّته يرتفع موضوع الحكم الأوّل لعدم تحقّق موضوعه وهو عدم ثبوت الحكم على الخلاف ؛ لأنّ المفروض ثبوته حينئذ.

وإن أريد به إثبات فعليّته حال الاشتغال به ففي هذه الحالة ـ وإن كان قيد الحكم الثاني غير متحقّق ـ يلزم محذور كون الحكم مقيّدا بحال الاشتغال به ، ممّا يعني أنّ فرض ثبوته هو فرض الاشتغال به ، فما لم يشتغل به لا يكون ثابتا ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ الحكم يثبت أوّلا ثمّ يصير فعليّا ومنجّزا ، ثمّ يشتغل به المكلّف أو لا يشتغل به ، ولذلك إمّا يكون عاصيا أو مطيعا ، وإلا لانتفى العقاب في صورة الترك ؛ لأنّه لا يكون ثابتا ، والعقاب إنّما يكون على مخالفة الحكم الثابت على ذمّة المكلّف.

وتطبيقه الفقهي : ما إذا كان وجوب الحجّ مقيّدا بعدم الاشتغال بالضدّ الآخر ، أي بعدم الاشتغال بالحكم المخالف له ، وكان وجوب النذر مقيّدا بعدم ثبوت الحكم على الخلاف المستفاد من قوله : « إلا شرطا حلّل حراما » أو « شرط الله قبل شرطكم ».

فهنا يكون وجوب الحجّ فعليّا ومتقدّما على وجوب النذر فيما إذا اشتغل به ، وأمّا إذا لم يشتغل به فيستحيل أن يكون وجوب النذر فعليّا ؛ لأنّه مقيّد بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، ممّا يعني أنّ ثبوت وجوب الحجّ عند تحقّق الاستطاعة يمنع من فعليّة وجوب النذر ؛ لأنّه حكم على الخلاف.

وحينئذ إن أريد ثبوت وجوب النذر فتارة يراد ثبوت وجوبه وفعليّته حال الاشتغال به ، وأخرى في غير حالة الاشتغال به.

أمّا الثانية فهي صورة فعليّة وجوب الحجّ ؛ لأنّه يكون فعليّا في حال عدم الاشتغال بواجب آخر.

وأمّا الأولى فهي صورة ثبوت وجوب النذر حال الاشتغال به وهذا باطل في

٣٠

نفسه ؛ لأنّ الوجوب يثبت في مرتبة سابقة على الاشتغال ، والاشتغال متأخّر في الرتبة والوجود على ثبوت الحكم.

وبهذا يكون وجوب الحجّ أي الدليل الدالّ على الحكم المقيّد بعدم الاشتغال بالآخر ثابتا دائما ، وبثبوته يرتفع موضوع دليل الحكم الآخر المقيّد بعدم ثبوت حكم على الخلاف ؛ لأنّه يكون حكما على الخلاف.

ومثال الثالث : أن يكون الحكم في كلّ من الدليلين مقيّدا بعدم حكم فعليّ على الخلاف ، ففي مثل ذلك يكون كلّ منهما صالحا لرفع موضوع الآخر لو بدأنا به ، ولمّا كان من المستحيل توقّف كلّ منهما على عدم الآخر يقع التعارض بين الدليلين على الرغم من ورود كلّ منهما على الآخر ، ويشملهما أحكام التعارض.

مثال الثالث : أي التوارد من الجانبين غير المعقول ، ما إذا كان كلّ من الدليلين مقيّدا بعدم ثبوت ووجود الدليل الآخر بنحو العدم الفعلي ، أي أنّه إذا كان أحدهما ثابتا بالفعل فيرتفع الآخر ، فيكون كلّ منهما رافعا لموضوع الآخر بثبوته ووجوده الفعلي. أو بتعبير آخر : يكون كلّ من الحكمين مقيّدا بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، فمع ثبوت الحكم على الخلاف يرتفع الموضوع.

فهنا إذا بدأنا بالحكم الأوّل نلاحظ أنّ ثبوته ووجوده يعني ارتفاع موضوع الحكم الآخر ؛ لأنّه مقيّد بعدم ثبوت حكم على الخلاف ، وهنا حكم على الخلاف ، وإذا بدأنا بالحكم الثاني نلاحظ أيضا أنّ ثبوته يرتفع به موضوع الحكم الأوّل المقيّد بعدم ثبوت حكم على الخلاف ؛ لأنّه حكم على الخلاف أيضا.

وهذا نتيجته أنّ كلا الحكمين مقيّد أحدهما بعدم ثبوت الآخر ، وهذا معناه أنّ كلاّ منهما متوقّف ثبوته على عدم ثبوت الآخر ، وحيث إنّهما ضدّان فيلزم أن يكون أحد الضدّين متوقّفا على عدم الضدّ الآخر ، وهذا مستحيل في نفسه ؛ لما تقدّم سابقا في مباحث الضدّ وغيره أنّ الضدّ لا يكون عدمه من أجزاء العلّة لوجود الضدّ الآخر.

وفي هذه الحالة لا يعقل مثل هذا التوارد ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحذور العقلي ؛ لأنّ قبول هذا التقييد فيهما يؤدّي إلى التصديق بكون عدم أحد الضدّين علّة للآخر ، وهو مستحيل ، وما يلزم منه المحال فهو محال أيضا.

ولذلك يقع التعارض بين الدليلين لو فرض وجودهما بهذا النحو من التقييد ،

٣١

بحيث نقطع إمّا بعدم صدورهما معا أو بصدور أحدهما فقط ، فنطبّق عليهما أحكام التعارض الآتية.

وبهذا يكون القسم الثالث من التوارد من الجانبين داخلا في باب التعارض بالمصطلح ؛ لأنّه يؤدّي إلى التنافي بين الجعلين والدليلين.

وتطبيقه الفقهي ما إذا كان وجوب الحجّ ووجوب النذر مقيّدا كلّ منهما بعدم الآخر ، فيكون ثبوت وجوب الحجّ متوقّفا على عدم ثبوت وجوب النذر ، ووجوب النذر متوقّفا على عدم ثبوت وجوب الحجّ ، وتكون النتيجة توقّف الشيء على نفسه وهو دور ممتنع.

وسنتكلّم فيما يأتي عن أحكام التعارض ضمن عدّة بحوث.

* * *

٣٢

٢ ـ قاعدة

الجمع العرفي

ونتكلّم في بحث هذه القاعدة عن :

١ ـ النظريّة العامّة للجمع العرفي.

٢ ـ وعن أقسام الجمع العرفي ـ أو أقسام التعارض غير المستقرّ ـ وملاك الجمع في كلّ واحد منها وتكييفه على ضوء تلك النظريّة العامّة.

٣ ـ وعن أحكام عامّة للجمع العرفي تشترك فيها كلّ الأقسام.

٤ ـ وعن نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب.

٥ ـ وعن تطبيقات للجمع العرفي وقع البحث فيها.

فهذه خمس جهات رئيسية نتناولها بالبحث تباعا.

٣٣
٣٤

١ ـ النظريّة العامّة للجمع العرفي

تتلخّص النظريّة العامّة للجمع العرفي في أنّ كلّ ظهور للكلام حجّة ما لم يعدّ المتكلّم ظهورا آخر لتفسيره وكشف المراد النهائي له ، فإنّه في هذه الحالة يكون المعوّل عقلائيّا على الظهور المعدّ للتفسير وكشف المراد النهائي للمتكلّم ، ويسمّى بالقرينة ، ولا يشمل دليل الحجّيّة في هذه الحالة الظهور الآخر.

الجهة الأولى : يبحث فيها عن النظريّة العامّة للجمع العرفي :

وتتلخّص النظريّة العامّة للجمع العرفي في أن تكون هناك دلالتان ، تكون إحداهما مفسّرة للأخرى ، فإنّه في هذه الحالة تكون الدلالة المفسّرة موجبة للتغيير والتبديل في الدلالة المفسّرة ، فيجمع بين الدلالتين بحمل الدلالة المفسّرة على الدلالة المفسّرة.

والوجه في ذلك : هو أنّ حجّيّة الظهور معناها أنّ كلّ ظهور للكلام يكون حجّة في نفسه ، إلا إذا نصب المتكلّم قرينة على الخلاف ، فمع عدم نصب القرينة على الخلاف يؤخذ بما ظهر من كلامه ويكون هو الحجّة ، فإذا قال مثلا : ( رأيت أسدا ) ولم ينصب القرينة المتّصلة انعقد لهذا الكلام ظهور في إرادة إخطار صورة الأسد الحقيقي ، وهذه الإرادة جدّيّة أيضا.

وأمّا إذا قال : ( رأيت أسدا يرمي أو يلقي كلمة ) ، فهذا الكلام المتّصل يعتبر قرينة صارفة لانعقاد ظهور ( الأسد ) في معناه الحقيقي ، ولذلك يتبدّل ويتغيّر معناه وفقا للقرينة الصارفة ، فيكون المراد هو الرجل القوي الشجاع على مستوى الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجدّيّة معا.

وفي مقامنا هكذا أيضا ، فإنّ المتكلّم إذا لم يعدّ كلاما آخر لتفسير المراد الاستعمالي أو الجدّي من كلامه الأوّل فينعقد الظهور على طبق كلامه الأوّل ، ويكون حجّة ما

٣٥

لم يعارض بكلام آخر منفصل ، فإنّه في حالة وجود الكلام المنفصل اللاحق يقع التعارض بين الظهور ويقدّم الأقوى منهما على الآخر.

وأمّا إذا أعدّ المتكلّم كلاما آخر لتفسير المراد من كلامه الأوّل ، فيكون هذا الإعداد ـ سواء كان شخصيّا أم نوعيّا ـ هو المناط عند العقلاء والعرف لتفسير المراد الجدّي والنهائي من كلامه ، بحيث يكون المراد منعقدا على أساس الكلام الثاني لا الكلام الأوّل ، ولذلك يوجب التغيير والتبديل في الظهور الأوّل بحيث لا ينعقد إلا على أساس الظهور الثاني.

وهذا الإعداد يسمّى بالقرينة ، فيكون الدليل الثاني أو الكلام الآخر قرينة مفسّرة على المراد من الكلام الأوّل ، وحينئذ ينعقد الظهور طبقا للقرينة ويكون هو الحجّة ، وأمّا ظهور الدليل الأوّل ذي القرينة فلا ينعقد أساسا أو ينعقد ولكنّه لا يكون حجّة ولا يشمله دليل حجّيّة الظهور ؛ لأنّ العرف والعقلاء لا يرونه حجّة مع وجود الظهور الآخر المفسّر له.

والإعداد للتفسير تارة يكون شخصيّا وأخرى نوعيّا ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وهذا الإعداد تارة يكون شخصيّا وتقوم عليه قرينة خاصّة ، وأخرى يكون نوعيّا ، بمعنى أنّ العرف أعدّ هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد من ذلك النوع من التعبير ، وتحديد المراد منه ، والظاهر من حال المتكلّم الجري وفق الإعدادات النوعيّة العرفيّة.

فمن الأوّل قرينيّة الدليل الحاكم على المحكوم ، ومن الثاني قرينيّة الخاصّ على العامّ.

الإعداد للتفسير المسمّى بالقرينة على قسمين :

الأوّل : الإعداد الشخصي بأن يكون هناك قرينة خاصّة وشخصيّة أعدها المتكلّم لتفسير المراد النهائي من كلامه ، كما إذا قال : ( رأيت أسدا ) ثمّ قال عقيب ذلك أعني به الرجل الشجاع ، وهذا ما يسمّى بالحكومة التفسيريّة اللفظيّة عند الآخوند.

وكما إذا قال : ( الطواف في البيت صلاة ) فإنّه حاكم على ( شرطيّة الطهارة ) بمعنى كونه موسّعا لدليل الشرطيّة لتشمل الطواف أيضا ، وهذا هو معنى الحكومة عند الميرزا وغيره.

٣٦

الثاني : الإعداد النوعي ، وذلك بأن يكون أحد الكلامين مفسّرا وقرينة على الآخر عند العرف والنوع العقلائي ، وفقا لما هو المعمول عندهم في محاوراتهم العرفيّة وأساليب الكلام ، بحيث يكون كلّ متكلّم داخلا في هذا البناء العرفي النوعي العامّ ؛ لأنّ الغالب أنّ المتكلّم العرفي لا يشذّ عن طريقة العرف والنوع في أساليب المحاورات والتفاهم ، وإلا للزم عليه نصب القرينة الشخصيّة على أنّ لديه طريقة أخرى غير طريقة العرف العامّ والنوع.

وعليه ، فما دام المتكلّم تابعا للمحاورات العرفيّة فكلّ ما يعتبر قرينة عندهم يكون قرينة في كلام المتكلّم باعتباره داخلا معهم في البناء.

ومن هذا القبيل قرينة التقييد والتخصيص ، فإنّ العرف العامّ يحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، فإذا أفاد المتكلّم بكلامين وكان أحدهما أخصّ من الأوّل كان هذا قرينة عرفيّة نوعيّة على أنّ المراد من الكلام الأوّل هو وفق المراد من الكلام الثاني ، فيحمل عليه ويجمع بينهما جمعا عرفيّا.

وأمّا كيفيّة الجمع العرفي على أساس القرينة فهو راجع إلى نوعيّة القرينة ؛ وذلك لأنّ القرينة تارة تكون متّصلة وأخرى منفصلة ، ولذلك نقول :

وكلّ قرينة إن كانت متّصلة بذي القرينة منعت عن انعقاد الظهور التصديقي أساسا ولم يحصل تعارض أصلا ، وإن كانت منفصلة لم ترفع أصل الظهور وإنّما ترفع حجّيّته لما تقدّم ، وهذا هو معنى الجمع العرفي.

نتيجة الجمع العرفي : وعلى أساس ما تقدّم نصل إلى النتيجة من الجمع العرفي ، وهي تختلف باختلاف نوعيّة القرينة.

فتارة تكون القرينة متّصلة أي أنّ الكلام الثاني متّصل بالكلام الأوّل ، كما إذا قال : ( رأيت أسدا يرمي ) ، فهنا ظهور الكلام له ثلاث مراحل :

الأولى : مرحلة المدلول التصوّري ، وهذه لا تتغيّر ولا تتبدّل ؛ لأنّها ثابتة على أساس الوضع القائم بين اللفظ والمعنى ، بحيث يتبادر إلى الذهن المعنى الموضوع له من اللفظ عند صدوره ولو كان من غير ذي شعور أصلا ، ولذلك فكلمة ( الأسد ) ظاهرة ظهورا تصوّريا في معناها الحقيقي وهو الحيوان المفترس.

الثانية : مرحلة المدلول الاستعمالي أي التصديقي الأوّل ، وهذا المدلول لمّا كان دلالة

٣٧

تصديقيّة فلا بدّ فيه من النظر إلى حال المتكلّم ، وأنّه أراد استعمال الكلمة ( الأسد ) على طبق معناها الحقيقي أم لا؟ وهذا يرتبط بذكر ما يكون صارفا لهذه الدلالة في الكلام وحيث إنّه ذكر القرينة الصارفة وهي ( يرمي ) فيكون مراده الاستعمالي هو الأسد المجازي أي الرجل الشجاع ، ومن هنا كانت القرينة المتّصلة صارفة للظهور الاستعمالي والمدلول التصديقي الأوّل ومانعة من انعقاده على طبق المدلول التصوّري.

الثالثة : مرحلة المدلول الجدّي أو الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهذا ينعقد على وفق المدلول الاستعمالي ، وهو هنا الرجل الشجاع فيكون المراد الجدّي للمتكلّم هو الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس.

وحجّيّة الظهور تنعقد على أساس المراد الجدّي للمتكلّم ، وهو هنا الرجل الشجاع أي على طبق القرينة ولا يحصل أيّ تعارض ؛ لعدم وجود إرادتين مختلفتين ، وإنّما هناك إرادة واحدة فقط.

وأخرى تكون القرينة منفصلة كما إذا قال : ( رأيت أسدا ) ثمّ عقّب ذلك بعد فترة بقوله : ( يرمي قوسا ) ، فهنا ينعقد للكلام الأوّل ظهور تصوّري واستعمالي وإرادة جدّيّة في الحيوان المفترس ، وبتطبيق حجّيّة الظهور عليه يكون ظهور كلامه الأوّل في الحيوان المفترس حجّة ، إلا أنّه لمّا جاء الكلام الثاني كان هناك تعارض بين حجّيّة الظهور الأوّل في الحيوان المفترس وبين ظهور الكلام الثاني في إرادة الرجل الشجاع ، وحينئذ يقدّم الدليل الثاني ؛ لكونه قرينة عرفيّة مفسّرة للمراد الجدّي النهائي ، وبهذا التقديم سوف ترتفع حجّيّة الظهور عن الظهور الأوّل وتنعقد على طبق الظهور الثاني.

وبهذا يكون الكلام المنفصل الذي فيه القرينة المفسّرة رافعا لحجّيّة ظهور الكلام الأوّل وليس مانعا من أصل انعقاد الظهور في نفسه ؛ لأنّ الظهور ينعقد على طبق المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل ؛ لأنّه لم ينصب فيه قرينة على الخلاف ، وإنّما القرينة المخالفة جاءت منفصلة عن الظهور فهي تعارض حجّيّته فقط. وهذا تقدّم سابقا في بحث حجّيّة الظهور.

وبهذا يتّضح لنا معنى الجمع العرفي بشكل مجمل ومختصر ، وأمّا التفصيل فهو ضمن البحوث الآتية.

٣٨

وأمّا الفرق بين القرينة الشخصيّة والقرينة النوعيّة فهو مرتبط بكيفيّة إثباتهما ؛ ولذلك يقول :

والقرينيّة الناشئة من الإعداد الشخصي يحتاج إثباتها إلى ظهور في كلام المتكلّم على هذا الإعداد ، من قبيل أن يكون مسوقا مساق التفسير للكلام الآخر مثلا.

والقرينيّة الناشئة من الإعداد النوعي يحتاج إثباتها إلى إحراز البناء العرفي على ذلك ، والطريق إلى إحراز ذلك غالبا هو أن نفرض الكلامين متّصلين ونرى هل يبقى لكلّ منهما في حالة الاتّصال اقتضاء الظهور التصديقي في مقابل الكلام الآخر ، أو لا؟

فإن رأينا ذلك عرفنا أنّ أحدهما ليس قرينة على الآخر ؛ لأنّ القرينة باتّصالها تمنع عن ظهور الكلام الآخر وتعطّل اقتضاءه. وإن رأينا أنّ أحد الكلامين بطل ظهوره أساسا عرفنا أنّ الكلام الثاني قرينة عليه.

والكلام الآن في كيفيّة إحراز القرينيّة : بقي علينا أن نعرف كيف نحرز أو نثبت أنّ الكلام الثاني قرينة على تفسير المراد من الكلام الأوّل.

وهنا نقول : أمّا القرينيّة الناشئة من الإعداد الشخصي فالأمر فيها واضح جدّا ؛ لأنّ المتكلّم إذا أراد أن يذكر كلاما مفسّرا لكلامه الأوّل ومبيّنا للمراد النهائي منه فعليه أن يذكر ما يكون كذلك بشكل واضح وبيّن ؛ لأنّ هذه القرينة لمّا كانت شخصيّة وغير متعارفة لدى النوع فاللازم على المتكلّم بيانها بشكل واضح وجلّي ليتّضح مراده الجدّي النهائي ؛ لأنّه في مقام البيان والتفهيم كما هو الغالب وليس في مقام التقيّة والإجمال.

وحينئذ يأتي بكلام يكون ظاهرا في القرينيّة من قبيل أدوات التفسير مثلا ( أعني ، أقصد ، أريد ، أي ... ).

وأمّا القرينيّة الناشئة من الإعداد النوعي ، فهي لمّا كانت تابعة لما هو المتعارف عند العقلاء والنوع في محاوراتهم وأساليب التفاهم فيما بينهم ، فاللازم حينئذ إحراز هذا البناء العرفي.

وطريقة إحراز البناء العرفي العامّ الدالّ على القرينيّة هي أن نفرض الدليلين متّصلين دائما.

٣٩

وتوضيحه : أنّ المتكلّم تارة يأتي بكلامين متّصلين وأخرى منفصلين.

ففي حال الاتّصال يكون إحراز القرينيّة واضحا ؛ لأنّه إن كان في كلاميه المتّصلين ما يوجب صرف الظهور الأوّل وانعقاده على طبق الظهور الثاني بأن كان الثاني مقيّدا أو مخصّصا فهو وإلا فلا ، فإذا قال : ( أكرم علماء هذه البلدة ولا تكرم علماء تلك البلدة ) لم يكن الكلام الثاني المتّصل قرينة نوعيّة صارفة فيبقى ظهور الكلام الأوّل على حاله ، وأمّا إذا قال : ( أكرم علماء هذه البلدة ولا تكرم الفسّاق منهم ) كان الكلام الثاني قرينة نوعيّة عرفيّة دالّة على أنّ المقصود من العلماء غير الفسّاق أي العلماء العدول فقط دون غيرهم.

وأمّا في حالة الانفصال كما إذا تكلّم بكلام صباحا ثمّ تكلّم بكلام آخر عصرا ، فهنا لكي نحرز أنّ الكلام الثاني قرينة عرفيّة نوعيّة أو لا نجمع الكلامين معا بنحو متّصل ، ونلاحظ حال الظهور التصديقي في كلّ منهما ، فإن بقي الظهور التصديقي في كلّ منهما على حاله لم يكن فيهما تلك القرينة النوعيّة ، وإن تغيّر الظهور في أحدهما كان أحدهما قرينة نوعيّة على صرف الظهور ، بمعنى عدم انعقاده حال الاتّصال ممّا يعني أنّه ليس حجّة حال الانفصال.

فمثلا إذا قال : ( أكرم العلماء ) في الصباح ثمّ عصرا قال : ( لا يجوز إكرام أي عالم ) فهنا لو فرضناهما متّصلين معا كأن قال : ( أكرم العلماء ولا يجوز إكرام أي عالم ) فهنا لا يكون أحدهما قرينة نوعيّة على بيان المراد ؛ لأنّهما معا عامّين وشاملين لكلّ العلماء ممّا يعني وقوع التعارض بينهما.

وأمّا إذا قال : ( أكرم العلماء ) صباحا ثمّ قال عصرا : ( لا تكرم الفسّاق ) ، فهنا لو فرضناهما متّصلين معا كأن قال : ( أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ) كان الثاني قرينة نوعيّة على تفسير المراد الجدّي والنهائي من الأوّل ؛ لأنّه يكون مخصّصا أو مقيّدا له بحيث يكون المراد النهائي ( أكرم العلماء إلا الفسّاق ).

وبهذا ظهر أنّ إعداد القرينة الشخصيّة يرتبط بما يذكره نفس المتكلّم من كلام ظاهر في التفسير ، بينما إعداد القرينة النوعية فهو بما يراه العرف أنّه قرينة ، وهذا معناه الرجوع إلى البناء العرفي لمعرفة وجود مثل هذه القرينة في كلام المتكلّم أو لا.

وهذا يتمّ بتحويل الكلام المنفصل إلى متّصل فيكون حاله حال الكلام المتّصل

٤٠