ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت فإذا جئت حدّثتك» فقال : أسألك بقرابتك من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما حدّثتني .

قال : فنزل ، فقال له سفيان : مُر لي بدواة وقرطاس حتّى اُثبته فيه ، فدعا به ، ثمّ قال :

«اكتب : بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، خطبة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف : نضّر اللّه‏ عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه ، يا أيّها الناس ، ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرى‏ء مسلم : إخلاص العمل للّه‏ ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم» .

فكتبه سُفيان ، ثمّ عرضه عليه وركب أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام وجئت أنا وسُفيان ، فلمّا كنّا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتّى أنظر في هذا الحديث ، فقلت له : قد واللّه‏ ، ألزم أبو عبداللّه‏ رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً ، فقال : وأيّ شيء ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرى‏ءٍ مسلم : إخلاص العمل للّه‏ ، قد عَرفناه ، والنصيحة لأئمّة المسلمين» ، مَن هؤلاء الأئمّة الذين تجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان (١)

__________________

(١) هو يكنّى أبا عبدالرحمن ، هو اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعة مواطن ، ولي الحكومة عشرين سنة إلاّ شهراً ، وهو الذي نصب لواء العداوة لعليّ عليه‌السلام وأشاع لعنه في الناس ، واُمّه هند بنت عتبة بن ربيعة آكلة الأكباد أحوالها مشهورة ، وهلك بـ : دمشق سنة ٦٠ .

انظر : الخصال : ٣٩٧ / ١٠٥ ، الكنى والألقاب ١ : ٨٥ ، الطبقات لابن سعد ٧ : ٤٠٦ ، المعارف لابن قتيبة : ٣٤٩ ، تاريخ الطبري ٥ : ٢٧٩ ، مروج الذهب ٣ : ٣ ، تاريخ بغداد ١ : ٢٠٧ / ٤٨ ، المنتظم لابن الجوزي ٥ : ٢٤٣ .

٦١

ويزيد بن معاوية (١) ، ومروان بن الحكم (٢) وكلّ من لا تجوز شهادته عندنا ولا تجوز الصلاة خلفهم ؟ !

وكذا قوله : «واللزوم لجماعتهم» ، فأيّ الجماعة :

مرجئ (٣) يقول : من لم يصلّ ولم يصم ولم يغتسل من جنابة ، وهَدم الكعبة ، ونكح اُمّه ، فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ !

أو قدريٌّ (٤) يقول : لا يكون ما شاء اللّه‏ ، ويكون ما شاء إبليس ؟ !

أو حروريٌّ (٥) يبرأ من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ويشهد عليه بالكفر ؟ !

__________________

(١) يكنّى أبا خالد ، ولد في خلافة عثمان وقد أخذ أبوه «معاوية» من الناس بيعته ، وهو غلام يشرب الخمر ويلعب بالكلاب ، وفي أيامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة ، وأظهر الناس شرب الشراب ، يكفيه خبثاً قتله سيّد الشهداء الحسين بن علي وأنصاره عليهم‌السلام ، هلك سنة ٦٤ هـ .

انظر : الكنى والألقاب ١ : ٨٧ ، مروج الذهب ٣ : ٥٣ .

(٢) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن اُميّة بن عبدشمس ، يكنّى أبا الحكم وأبا عبدالملك ، نفاه رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأباه إلى الطائف؛ لأ نّه يتجسّس عليه، وقد رويت أخبار كثيرة في لعنه ولعن من في صلبه، واستعمله معاوية على المدينة ومكة والطائف، ولمّا مات معاوية بن يزيد ولم يعهد إلى أحد بايع بعض الناس بالشام مروان بن الحكم بالخلافة، وكانت مدة ولايته تسعة أشهر، هلك سنة ٦٥ هـ .

انظر : الكنى والألقاب ١ : ٢٨٦ ، مروج الذهب ٣ : ٨٩ ، الكامل لابن الأثير ٤ : ١٩٣ .

(٣) انظر : ص ٢٣ هامش : ٢ .

(٤) انظر : ص ٢٣ هامش : ٣ .

(٥) الحروريّة : هم الخوارج المارقون الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وأنكروا عليه كونه حكم الحكمين ، وسمّوا بالحرورية ؛ لأنّهم خرجوا من الكوفة واجتمعوا بقرية يقال لها : حروراء ، من ناحية الكوفة ، ورأسهم عبداللّه‏ بن الكواء ،

٦٢

أو جهميٌّ (١) يقول : إنّما هي معرفة اللّه‏ وحده ليس الإيمان شيء غيرها ؟ !

قال : ويحك ، أيّ شيء يقولون ؟ فقلت : يقولون : إنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام واللّه‏ ، للإمام الذي يجب علينا نصيحته ، و«لزوم جماعتهم» : أهل بيته .

قال : فأخذ الكتاب فخرقه (٢) ، ثمّ قال : لا تخبر بها أحداً (٣) .

أقول : هذه الخطبة ممّا ذكرها العامّة والخاصّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف ـ كما سيظهر ـ لا سيّما في حكاية الغدير ، واختصر الإمام عليه‌السلام هاهنا على هذه الفقرات منها لما فيها ممّا فسّره الرجل ، فتأمّل .

الثاني عشر : ما رواه جماعة من الأعلام الثقات في روايات معتبرة ، وتوقيعات معتمدة عن مولانا وسيّدنا القائم لإعلاء كلمة اللّه‏ الحُجّة بن الحسن صاحب الزمان عليه وعلى آبائه صلوات اللّه‏ الملك الديّان ، ونحن نقتصر فيها على ذكر ما هو المناسب هاهنا :

__________________

وعتاب بن الأعور ، وغيرهما .

انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ ، تاريخ الإسلام للذهبي (حوادث ١١ ـ ٤٠) : ٥٨٨ .

(١) هو الذي يقول بمعرفة اللّه‏ وحده ، وليس الإيمان شيء غيره ، من أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وأنكر الاستطاعات كلّها ، وزعم أنّ الإيمان هو المعرفة باللّه‏ تعالى فقط ، وأنّ الكفر هو الجهل به فقط .

انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢١١ ، التبصير في الدين : ١٠٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٨٦ .

(٢) في هامش بعض النسخ : فمزقه .

(٣) الكافي ١ : ٣٣٣ / ٢ (باب ما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم) ، بحار الأنوار ٢٧ : ٦٩ / ٦ .

٦٣

قد نقل ثقات من القدماء في كتبهم ، منهم أبو جعفر محمّد بن بابويه الملقّب بالصدوق (١) ، عن الثقة الجليل سعد بن عبداللّه‏ القمّي (٢) صاحب أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ، قال :

صارت بيني وبين رجل منازعة في الإمامة فذهبت مع الشيخ الجليل أحمد بن إسحاق (٣) الوكيل إلى سرّ من رأى ، ومعي بضع وأربعون مسألة لأسأل عنها مولانا أبا محمّد عليه‌السلام ، فلمّا دخلنا عليه رأينا وجهه كالقمر ليلة البدر ، ورأينا على فخذه غلاماً صغيراً يشبه المشتري في الحسن والجمال

__________________

(١) هو محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، يكنّى أبا جعفر شيخ مشايخ الشيعة ، وركن من أركان الشريعة ، جلالته وعظم شأنه ومنزلته أوضح من الشمس وأبين من الأمس ، لم ير في القمّيين مثله في حفظه وكثرة علمه ، ولد بدعاء صاحب الأمر والعصر ، وصفه الإمام عليه‌السلام في التوقيع الخارج من الناحية المقدسة بأ نّه فقيه خيّر مبارك ينتفع به ، له مصنفات كثيرة منها : من لا يحضره الفقيه ، والتوحيد ، وعلل الشرايع ، وتوفّي أعلى اللّه‏ مقامه سنة ٣٨١ هـ في الرّي .

انظر : الفهرست للطوسي : ١٥٦ ـ ١٥٧ / ٧٠٥ ، الخلاصة : ٢٤٨ / ٨٤٣ ، تنقيح المقال ٣ : ١٥٤ / ١١١٠٤ .

(٢) هو سعد بن عبداللّه‏ بن أبي خلف الأشعري القمّي ، يكنّى أبا القاسم ، من أصحاب أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ، وتشرّف بلقاء مولانا الحجة المنتظر عليه‌السلام ، ثقة جليل القدر بالاتّفاق ، واسع الأخبار ، كثير التصانيف ، وله كتب كثيرة منها : كتاب الرحمة ، وبصائر الدرجات ، وغيرهما ، توفّي سنة ٣٠١ هـ .

انظر : الفهرست للطوسي : ٧٥ / ٣١٦ ، الخلاصة : ١٥٦ / ٤٥٢ ، تنقيح المقال ٢ : ١٦ / ٤٧٠٢ .

(٣) هو أحمد بن إسحاق بن عبداللّه‏ بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري ، يكنّى أبا علي ، من ثقات محدّثي الشيعة ، ومن خواص أبي محمّد عليه‌السلام ، ورأى صاحب الزمان عجلّ اللّه‏ فرجه ، وهو شيخ القمّيين ووافدهم ، وله كتب منها : كتاب علل الصلاة ـ كبير ـ ومسائل الرجال .

انظر : رجال النجاشي : ٩١ / ٢٢٥ ، الفهرست للطوسي : ٢٦ / ٧٨ ، تنقيح المقال ١ : ٥٠ / ٢٩٤ .

٦٤

وله ذؤابتان ، فلمّا سلّمنا وجلسنا وأردنا المسألة ، قال للغلام : أخبرهم ياولدي عن مسائل شيعتك ومواليك» ، وذكر الخبر وجوابه عليه‌السلام عن سائر المسائل وما كان فيه المنازعة بينه وبين الرجل ـ إلى أن قال ـ فقلت له : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمامٍ لأنفسهم ؟

قال : «مفسد أو مُصلح ؟» قلت : مصلح .

قال : «هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟» قلت : بلى .

قال : «فهي العلّة ، أزيدها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك ؟» قُلت : نعم ، قال : «أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه‏ ، وأنزل عليهم الكتب ، وأيّدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الاُمم وأهدى إلى الاختيار منهم ، مثل موسى وعيسى عليهما‌السلام فهل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنّه مؤمن ؟» قلت : لا .

فقال : «هذا موسى كليم اللّه‏ عليه‌السلام مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلاً ممّن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، وقد شهد بذلك القرآن المبين ، قال اللّه‏ عزوجل : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ) (١) الآية ، فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه‏ بالنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنّه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكنّ الضمائر ، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٥٥ .

٦٥

أرادوا أهل الصلاح . . .» (١) ، الخبر .

وقد نقلوا أيضاً أنّه عليه‌السلام بعد ما مضى أبوه وتشاجر جماعة من الشيعة في الخلف وأنكر وجوده عليه‌السلام بعض منهم ، كتب إليهم بخطه عليه‌السلام : «بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، عافانا اللّه‏ وإيّاكم من [ . . .] الفتن ، ووهب لنا ولكم روح اليقين ، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب ، إنّه اُنهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين وما دخلهم من الشكّ والحيرة في ولاة أمرهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا ، وساءنا فيكم لا فينا ؛ لأ نّ اللّه‏ معنا فلا فاقة بنا إلى غيره ، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا [ . . .] .

يا هؤلاء ، ما لكم في الريب تتردّدون ، وفي الحيرة تنعكسون ، أما سمعتم اللّه‏ عزوجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) !

أوَ ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون ويحدث في أئمّتكم على الماضين والباقين منهم ؟

أوَ ما رأيتم كيف جعل اللّه‏ لكم معاقل تأوون إليها ، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم إلى أن ظهر الماضي عليه‌السلام ؟ ، كلّما غاب عَلَمٌ بدا عَلَمٌ ، وإذا أفل نجم طلع نجم ، فلمّا قبضه اللّه‏ إليه ظننتم أنّ اللّه‏ أبطل دينه ، وقطع السبب بينه وبين خلقه ، كلاّ ما كان ذلك ولا يكون ، حتّى تقوم الساعة ويظهر أمر اللّه‏ وهم كارهون .

وإنّ الماضي عليه‌السلام مضى سعيداً فقيداً على منهاج آبائه حذو النعل

__________________

(١) كمال الدين ٢ : ٤٥٤ / ٢١ (باب ٤٣) ضمن الحديث ، ص٤٦١ ـ ٤٦٢ ، الاحتجاج ٢ : ٥٢٤ / ٣٤١ ضمن الحديث ، ص٥٣٠ ، دلائل الإمامة: ٥٠٦ / ٤٩٢ ضمن الحديث ، ص٥١٤ .

(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩ .

٦٦

بالنعل وفينا وصيّته وعلمه ، ومن هو خلفه ومن يسدّ مسدّه ، ولا ينازعنا في موضعه إلاّ ظالم آثم ، ولا يدّعيه دوننا إلاّ جاحد كافر ، ولولا أنّ أمر اللّه‏ لا يغلب ، وسرّه لا يظهر ولا يعلن ، لظهر لكم من حقّنا ما (ستر عنه) (١) عقولكم ، ويزيل شكوككم ، لكنّه ما شاء اللّه‏ كان ، ولكلّ أجل كتاب .

فاتّقوا اللّه‏ وسلّموا (لنا وردّوا) (٢) الأمر إلينا ، فعلينا الإصدار كما كان منّا الإيراد ، ولا تحاولوا كشف ما غطّي عنكم [ . . .] فقد نصحت لكم واللّه‏ شاهد عليّ وعليكم» (٣) ، الخبر .

وقد نقلوا أيضاً عن الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق الوكيل أنّه قال : لما ادّعى جعفر الكذّاب الإمامة وكتب بذلك كتاباً إلى بعض الشيعة ، أخذت كتابه وكتبت كتاباً إلى صاحب الزمان عليه‌السلام وأعلمته بالأمر ، وأرسلت كتابه مع كتابي إليه عليه‌السلام ، فخرج إليّ الجواب في ذلك :

«بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، أتاني كتابك أبقاك اللّه‏ والكتاب الذي أنفذت في درجه ، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمّنه على اختلاف ألفاظه وتكرّر الخطأ فيه ، ولو تدبّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه ، والحمد للّه‏ ربّ العالمين على إحسانه إلينا وفضله علينا ، أبى اللّه‏ عزوجل للحقّ إلاّ إتماماً وللباطل إلاّ زهوقاً ، وهو شاهد عليّ بما أذكره [ . . .] إذا اجتمعنا اليوم الذي لا ريب فيه ، ويسألنا عمّا نحن فيه مُختلفون ، وإنّه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي البحار (تبهر منه) ، وفي الاحتجاج والغيبة (تبين منه) .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٣) الغيبة للطوسي : ٢٨٥ / ٢٤٥ ، الاحتجاج ٢ : ٥٣٥ / ٣٤٢ ، الصراط المستقيم ٢ : ٢٣٥ ، منتخب الأنوار المضيئة : ٢٢٢ ، بحار الأنوار ٥٣ : ١٧٨ / ٩ .

٦٧

الخلق إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمّة ، وسأبين لكم جملة تكتفون بها إن شاء اللّه‏ تعالى :

يا هذا ، يرحمك اللّه‏ إنّ اللّه‏ تعالى لم يخلق الخلق عبثاً ، ولا أهملهم سدىً ، بل خلقهم بقدرته ، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً ، ثمّ بعث إليهم النبيّين عليهم‌السلام مبشّرين ومنذرين ، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتاباً ، وبعث إليهم ملائكة وباين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم ، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة ، والبراهين الباهرة ، والآيات الغالبة ، فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتّخذه خليلاً ، ومنهم من كلّمه تكليماً ، وجعل عصاه ثعباناً مبيناً ، ومنهم من أحيا الموتى بإذن اللّه‏ وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه‏ ، ومنهم من علّمه منطق الطير واُوتي من كلّ شيء .

ثمّ بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمةً للعالمين ، وتمّم به نعمته ، وختم به أنبياءه ، وأرسله إلى الناس كافّة ، وأظهر مِن صدقه ما أظهر ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن .

ثمّ قبضه إليه حميداً فقيداً سعيداً ، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً بعد واحدٍ ، أحيا بهم دينه ، وأتمّ بهم نوره ، وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمّهم [ . . .] فرقاً بيّناً يُعرف به الحُجّة من المحجوج ، والإمام من المأموم ، بأن عصمهم من الذنوب وبرّأهم من العيوب وطهّرهم من الدنس [ . . . ]وجعلهم خزّان علمه ومستودع حكمته وموضع سرّه ، وأيّدهم بالدلائل . ولولا ذلك لكان الناس على سواء ، ولادّعى أمر اللّه‏ كلّ أحد ،

٦٨

ولما عرف الحقّ من الباطل ، ولا العلم من الجهل .

وقد ادّعى هذا المبطل المدّعي على اللّه‏ الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأيّ حالة بقي (١) له رجاء أن تتمّ دعواه ، أبفقه في دين اللّه‏ ؟ فواللّه‏ ، لا يعرف حلالاً من حرام ، ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم ؟ فلا يعلم حقّاً من باطل ولا محكماً من متشابه ، [ . . .] أم بورع ؟ واللّه‏ شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً [ . . . ]ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه للّه‏ عزوجل مشهورة قائمة ، أم بآية ؟ فليأت بها ، أم بحجّة ؟ فليقمها ، أم بدلالة ؟ فليذكرها» .

ثمّ ذكر عليه‌السلام آيات مناسبة إلى أن ذكر له : «فامتحن هذا الظالم واسأله عن آية من كتاب اللّه‏ يفسّرها ، أو صلاة يبيّن حدودها وما يجب فيها ؛ لتعلم حاله ومقداره (٢) » (٣) ، الخبر .

وقد ذكر عليه‌السلام في توقيع آخَر : «وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ اللّه‏ عزوجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٤) ، إنّه لم يكن أحد من آبائي إلاّ وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإنّي لأخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي .

وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب ، وإنّي لأمان لأهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمان لأهل

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي المصادر : (هي) .

(٢) في «م» : وخبره .

(٣) الغيبة للطوسي : ٢٨٧ / ٢٤٦ ، الاحتجاج ٢ : ٥٣٨ / ٣٤٣ ، تفسير نور الثقلين ٥ : ٧ / ٤ ، بحار الأنوار ٥٣ : ١٩٣ / ٢١ .

(٤) سورة المائدة ٥ : ١٠١ .

٦٩

السماء» (١) .

وفي توقيع آخَر (٢) : «وأمّا ظهور الفرج فإنّه إلى اللّه‏ وكذب الوقّاتون ، وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حُجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه‏» .

ومفاد الجميع واضح ، لا سيّما في الدلالة على عدم صحّة اختيار الرعيّة إماماً لهم ، وعلى صفات الإمام وفوائده في زمان الغيبة مع الحكمة المقتضية للغيبة ، وعدم لزوم تعطيل الأحكام حينئذٍ ، كما توهمه المخالفون ، وسيأتي تفصيل هذه المضامين ، لا سيّما في ذكر أحوال الصاحب عليه‌السلام ، فتأمّل .

ثمّ هاهنا أيضاً نقل لطيف مناسب للمقام مأخوذ من حديث شريف عنه عليه‌السلام ، وهو أنّ جمعاً ، منهم الصدوق رحمه‌الله نقلوا عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (٣) ، قال : كنت أنا وجماعة عند الشيخ الثقة الجليل أبي القاسم الحسين بن روح (٤) رضی‌الله‌عنه ـ وهو من الأبواب والسفراء في الغيبة

__________________

(١) كمال الدين ٢ : ٤٨٣ / ٤ باب ذكر التوقيعات الواردة عن القائم عليه‌السلام ، الغيبة للطوسي : ٢٩٠ / ٢٤٧ ، الاحتجاج ٢ : ٥٤٢ / ٣٤٤ ، بحار الأنوار ٥٣ : ١٨٠ / ١٠ .

(٢) الظاهر من المصادر أنّه توقيع واحد يشتمل على أجوبة لعدة من المسائل ، وعدّه توقيعاً آخَر سهو من النُّسّاخ ، أو أنّ المؤلف اعتبر جواب كلّ مسألة توقيعاً مستقلاًّ .

(٣) محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني يكنّى أبا العباس ، وقد أكثر الصدوق من الرواية عنه في كتبه مترضّياً ومترحّماً عليه ، ومنه يظهر حسن حاله ، بل جلالة شأنه ، ويحتمل أن يكون من مشايخ الصدوق رحمه‌الله ، بل وجزم به المجلسيّ الأوّل .

انظر : تعليقة البهبهاني : ٢٦٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٥٥ / ١٠٢٠٨ من أبواب الميم .

(٤) هو ثالث السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى ، شيخ جليل وثقة أمين ، عظيم القدر والمنزلة ، وكان من أعقل الناس عند المخالف والموافق ، وهو أجلّ من أن

٧٠

الصغرى ـ فقام إليه رجل ، فقال له : إنّي اُريد أن أسألك عن شيء ، فقال له : سل عمّا بدا لك .

فقال الرجل : أخبرني عن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام أهو وليّ اللّه‏ ؟ قال : نعم .

قال : أخبرني عن قاتله لعنه اللّه‏ أهو عدّو اللّه‏ ؟ قال : نعم !

قال : فهل يجوز أن يسلّط اللّه‏ عزوجل عدّوه على وليّه ؟

فقال له أبو القاسم : افهم عنّي ما أقول لك : اعلم أنّ اللّه‏ تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ، ولا يشافههم بالكلام ، ولكنّه جلّت عظمته يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم ، ولو بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم ، فلمّا جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم : أنتم مثلنا لا نقبل منكم حتّى تأتونا بشيء نعجز عن أن نأتي بمثله فنعلم أنّكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه ، فجعل اللّه‏ عزوجل لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها ، فمنهم : من جاء بالطوفان بعد الإنذار والأعذار ، فغرق جميع من طغى وتمرّد ، ومنهم : من اُلقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً ، ومنهم : من فلق له البحر ، وجعل له العصا ثعباناً ، ومنهم : من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن اللّه‏ ، ومنهم : من انشقّ له القمر وكلّمته البهائم وغير ذلك .

فلمّا أتوا بمثل ذلك عجز الخلق من اُممهم أن يأتوا بمثله ، وكان من تقدير اللّه‏ جلّ جلاله ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه

__________________

يوصف ، توفّي رحمه‌الله في شعبان سنة ٣٢٦ ، وقبره ببغداد .

انظر : أعيان الشيعة ٦ : ٢١ ، وتنقيح المقال ١ : ٣٢٨ / ٢٩١٠ .

٧١

المعجزات في حال غالبين وفي اُخرى مغلوبين ، وفيحال قاهرين وفي اُخرى مقهورين ، ولو جعلهم اللّه‏ عزوجل في جميع أحوالهم غالبين قاهرين ، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتّخذهم الناس آلهة من دون اللّه‏ ، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار ، ولكنّه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ؛ ليكونوا في حال المحنة والبلاء صابرين ، وفي حال العافية والظهور على‏الأعداء شاكرين ، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبّرين ، وليعلم العباد أنّ لهم عليهم‌السلام إلهاً هو خالقهم ومدبّرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله ، وتكون حجّة اللّه‏ ثابتةً على من تجاوز الحدّ فيهم وادّعى لهم الربوبيّة ، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل ، وليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة .

قال محمّد بن إبراهيم رضی‌الله‌عنه : فعدت من غدٍ إلى الشيخ أبي القاسم رضی‌الله‌عنه ، وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر لنا ما ذكر أمس من عند نفسه ؟

فابتدأني وقال : أخرّ من السماء فتخطفني الطير ، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أقول (١) في دين اللّه‏ برأيي ومن عند نفسي ، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجّة صلوات اللّه‏ عليه (٢) .

الثالث عشر : ما رواه جماعة ، منهم الكليني ، عن أبي حمزة الثمالي (٣) ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في حديث طويل نحن نذكر خلاصته

__________________

(١) في «م» زيادة : من نفسي .

(٢) كمال الدين ٢ : ٥٠٧ / ٣٧ باب ذكر التوقيعات الواردة عن القائم عليه‌السلام ، علل الشرائع ١ : ٢٤١ باب ١٧٧ / ١ ، الغيبة للطوسي : ٣٢٤ / ٢٧٣ ، الاحتجاج ٢ : ٥٤٦ / ٣٤٦ ، منتخب الانوار المضيئة : ١١٣ ـ ١١٥ ، بحار الأنوار ٤٤ : ٢٧٣ / ١ .

(٣) هو ثابت بن دينار ، يكنّى أبا حمزة ، كوفي ثقة جليل القدر بالاتّفاق ، من أصحاب

٧٢

التي لا بدّ من ذكرها هاهنا :

قال عليه‌السلام : «إنّ اللّه‏ عزوجل عهد إلى آدم عليه‌السلام أن لا يقرب هذه الشجرة ، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه‏ أن يأكل منها نسي فأكل منها ، وهو قوله تعالى :( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (١) ، فلمّا أكل منها اُهبط إلى الأرض ، فولد له هابيل واُخته توأماً ، وولد له قابيل واُخته توأماً .

ثمّ إنَّ آدم عليه‌السلام أمر هابيل وقابيل أن يقرّبا قُرباناً ، وكان هابيل صاحب غنم وقابيل صاحب زرع ، فقرّب هابيل كبشاً من أفاضل غنمه وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنَقَّ ، فتُقبّل قربان هابيل ولم يُتقبّل قربان قابيل ، وكان القربان تأكله النار ، فعمد قابيل إلى النار فبنى لها بيتاً ، وهو أوّل من بنى بيوت النار ، فقال : لأعبدنّ هذه النار حتّى تتقبّل قرباني .

ثمّ إنّ إبليس لعنه اللّه‏ قال لقابيل : قد تُقبّل قربان هابيل ولم يُتقبّل قربانك فإن لم تقتله يكون له عقب يفتخرون على عقبك ، فقتله، وبكى آدم عليه‌السلام على هابيل أربعين ليلة ، ثمّ سأل ربّه ولداً ، فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه‏ .

فلمّا انقضت نبوّة آدم واستكملت أيّامه أوحى اللّه‏ إليه أن : يا آدم ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك ، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في العقب من ذرّيُتك عند هبة

__________________

علي بن الحسين والباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، وروي عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام أ نّه قال : «أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه» . وله كتب منها : كتاب النوادر ، والزهد ، وتفسير القرآن ، وتوفّي سنة ١٥٠ هـ .

انظر : رجال النجاشي : ١١٥ / ٢٩٦ ، الفهرست للطوسي : ٩٠ / ١٣٨ ، تنقيح المقال ١ : ١٨٩ / ١٤٩٤ ، أعيان الشيعة ٤ : ٩ .

(١) سورة طه ٢٠ : ١١٥ .

٧٣

اللّه‏ ، فإنّي لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وآثار علم النبوّة من العقب من ذرّيّتك إلى يوم القيامة ، ولن أدع الأرض إلاّ وفيها عالم يُعرف به ديني وتعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لِمَن يولد فيما بينك وبين نوح عليه‌السلام ، وبشّر آدم بنوح عليه‌السلام ، فقال : إنّه باعث نبيّاً اسمه نوح ، وإنّه يدعو جهاراً إلى اللّه‏ عزّ ذكره ، ويكذّبه قومه فيهلكهم اللّه‏ بالطوفان . وكان بين آدم ونوح عشرة آباء كلّهم أنبياء وأوصياء ، وأوصى آدم إلى هبة اللّه‏ : أنّ من أدرك نوحاً عليه‌السلام منكم فليؤمن به وليتّبعه ، فإنّه ينجو من الغرق .

ومرض آدم عليه‌السلام مرضه الذي مات فيه ، ولمّا قُبض آدم هبط جبرئيل وأرى هبة اللّه‏ كيف يغسّل أباه ، فغسّله حتّى إذا بلغ الصلاة عليه ، قال هبة اللّه‏ : يا جبرئيل ، تقدّم فصلّ على آدم ، فقال له جبرئيل : إنّا اُمرنا أن نسجد لأبيك آدم وهو في الجنّة فليس لنا أن نؤمّ شيئاً من ولده ، فتقدّم هبة اللّه‏ فصلّى على أبيه وجبرئيل خلفه مع جنود من الملائكة .

ثمّ إنّ هبة اللّه‏ لمّا دفن أباه أتاه قابيل فقال له : إنّي قد رأيت أبي آدم قد خصّك من العلم بما لم اُخصّ به أنا ، وهو العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتُقبّل قربانه ، وإنّما قتلتُه ؛ لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي ، فإنّك إن أظهرت من العلم الذي اختصّك به أبوك شيئاً قتلتك ، كما قتلت هابيل .

فلبث هبة اللّه‏ والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة ، حتّى بعث اللّه‏ نوحاً عليه‌السلام ، وظهرت وصيّة هبة اللّه‏ حين نظروا في وصيّة آدم عليه‌السلام ، فوجدوا نوحاً عليه‌السلام نبيّاً قد بشّر به آدم عليه‌السلام ، فآمنوا به وصدّقوه واتّبعوه ، وقد كان آدم عليه‌السلام وصّى هبة اللّه‏ أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة فيكون يوم عيدهم

٧٤

فيتعاهدون نوحاً وزمانه الذي يخرج فيه ، وكذلك جاء في وصيّة كلّ نبيّ ، حتّى بعث اللّه‏ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما عرفوا نوحاً بالعلم الذي عندهم ، وكان بين آدم ونوح عليهما‌السلام من الأنبياء مستخفين ؛ ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول اللّه‏ عزوجل : ( وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) (١) ، يعني : لم اُسمِّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء .

فمكث نوح عليه‌السلام في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً لم يشاركه في نبوّته أحد ، ولكنّه قدم على قوم مكذّبين للأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم عليه‌السلام ، وذلك قوله عزوجل : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) ، يعني : من كان بينه وبين آدم .

ثمّ إنّ نوحاً عليه‌السلام لمّا انقضت نبوّته واستكملت أيّامه أوحى اللّه‏ عزوجل إليه أن : يا نوح ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيامك ، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في العقب من ذريّتك فإنّي لن أقطعها ، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين آدم ، ولن أدع الأرض إلاّ وفيها عالم يُعرف به ديني ويعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لِمَن يولد فيما بين قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخَر .

فأوصى نوح إلى سام ابنه وبشّر ساماً بهود عليه‌السلام ، فكان بين نوح وهود من الأنبياء عليهم‌السلام [مستخفين ومستعلنين (٣) ] ، وقال نوح عليه‌السلام : إنّ اللّه‏ باعث

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١٦٤ .

(٢) سورة الشعراء ٢٦ : ١٠٥ .

(٣) أضفناها من كمال الدين والبحار .

٧٥

نبيّاً يقال له : هود ، وإنّه يدعو قومه إلى اللّه‏ عزوجل فيكذّبونه ، واللّه‏ عزوجل مهلكهم بالريح ، فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه ، حتّى ينجيه اللّه‏ من عذاب الريح ، وأمر نوح عليه‌السلام ابنه ساماً أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة فيكون يومئذٍ عيداً لهم ، فيتعاهدون فيه [بعث هود وزمانه الذي يخرج فيه فلمّا بعث اللّه‏ تبارك هوداً نظروا فيما (١) ] عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر ومواريث العلم وآثار علم النبوّة فوجدوا هوداً نبيّاً وقد بشّر به أبوهم نوح عليه‌السلام فآمنوا به وصدّقوه فنجوا من عذاب الريح ، وهو قول اللّه‏ عزوجل : ( وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً» (٢) .

وقوله سُبحانه وتعالى : ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) الآية .

وقال تبارك وتعالى : ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) (٤) .

وقوله :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا ) (٥) ؛ لنجعلها في أهل بيته ، ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) (٦) ؛ لنجعلها في أهل بيته .

وأمر (٧) ـ يعني هود ـ العقب من ذرّيّته (٨) الأنبياء عليهم‌السلام من كان قبل إبراهيم لإبراهيم عليه‌السلام ، فكان بين إبراهيم وهود من الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو قوله : ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) (٩) .

__________________

(١) أضفناها من كمال الدين والبحار .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٦٥ .

(٣) سورة الشعراء ٢٦ : ١٢٣ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٣٢ .

(٥ و٦) سورة الأنعام ٦ : ٨٤ .

(٧) كذا في النسخ والكافي ، وفي بعض نسخ الكافي وباقي المصادر : آمن .

(٨) في البحار وكمال الدين : ذرّيّة .

(٩) سورة هود ١١ : ٨٩ .

٧٦

وقوله سبحانه : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) (١) الآية .

وقوله عزوجل : ( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) (٢) الآية .

فجرى بين كلّ نبيّين عشرة أنبياء (٣) وتسعة وثمانية أنبياء (٤) وكلّهم أنبياء ، وجرى لكلّ نبيّ ما جرى لنوح عليه‌السلام ، وكما جرى لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ، حتّى انتهت إلى يوسف بن يعقوب عليهم‌السلام ، ثمّ صارت من بعد يوسف في أسباط (٥) إخوته ، حتّى انتهت إلى موسى عليه‌السلام ، فكان بين يوسف وبين موسى عليهما‌السلام (عشرة) (٦) من الأنبياء عليهم‌السلام .

فأرسل اللّه‏ موسى وهارون عليهما‌السلام إلى فرعون وهامان وقارون ، ثمّ أرسل الرسل تترى : ( كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) (٧) .

وكانت بنو إسرائيل تقتل نبيّاً واثنان قائمان ، وتقتل اثنين وأربعة قيام ، حتّى أنّه كان ربّما قتلوا في اليوم الواحد سبعين نبيّاً ، ويقوم سوق قتلهم (٨) آخر النهار .

فلمّا نزلت التوراة على موسى عليه‌السلام بشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكان بين يوسف وموسى من الأنبياء ، وكان وصيّموسى يوشع بن نون وهو فتاه الذي ذكره اللّه‏ تعالى في كتابه (٩) ، فلم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ٢٦ .

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٦ .

(٣ و٤) كذا في النسخ والكافي ، وفي باقي المصادر : «آباء» بدل أنبياء .

(٥ و٦) كذا في النسخ والكافي ، وفي باقي المصادر : الأسباط .

(٧) سورة المؤمنون ٢٣ : ٤٤ .

(٨) كذا في النسخ والمصادر ، وفي البحار : سوق بقلهم .

(٩) سورة الكهف ١٨ : ٦٢ .

٧٧

بعث اللّه‏ تعالى المسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، فبشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ،وذلك قوله تعالى : ( يَجِدُونَهُ ) ، يعني : اليهود والنصارى . ( مَكْتُوبًا ) ، يعني : صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . ( عِنْدَهُمْ ) يعني : ( فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (١) ، وهو قوله عزوجل يخبر عن عيسى عليه‌السلام : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٢) . وبشّر موسى وعيسى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما بشّر الأنبياء بعضهم ببعض حتّى بلغت محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا قضى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبوّته واستكملت أيّامه أوحى اللّه‏ إليه يا محمّد ، قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة في أهل بيتك عند علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإنّي لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة من العقب عن ذرّيّتك ، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين آدم عليه‌السلام . وذلك قوله عزوجل : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

وإنّ اللّه‏ تعالى لم يجعل العلم جهلاً ، ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه لا إلى ملك مقرّب ، ولا إلى نبيّ مرسل ، ولكنّه أرسل رسولاً من ملائكته [إلى نبيه (٤) ] ، فقال له : قل كذا وكذا فأمرهم بما يحبّ ونهاهم عمّا يكره ، فقصّ عليهم أمر خلقه بعلم ، فعلم ذلك العلم وعلّم أنبياءه وأصفياءه من

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٥٧ .

(٢) سورة الصفّ ٦١ : ٦ .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٣٣ ـ ٣٤ .

(٤) لم ترد في النسخ والكافي ، أضفناها من البحار وكمال الدين .

٧٨

الأنبياء والإخوان ، والذرّيّة التي بعضها من بعض ، فذلك قوله عزوجل : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (١) .

فأمّا الكتاب فهو النبوّة ، وأمّا الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة ، وأمّا الملك العظيم فهم الأئمّة من الصفوة ، وكلّ هؤلاء من الذرّيّة التي بعضها من بعض والعلماء الذين جعل فيهم البقية وفيهم العاقبة وحفظ الميثاق حتّى تنقضي الدنيا ، فهذا شأن الفُضّل من الصفوة والرسل والأنبياء والحكماء وأئمّة الهدى والخلفاء الذين هم ولاة أمر اللّه‏ ، و[أهل (٢) ] استنباط علم اللّه‏ ، وأهل آثار علم اللّه‏ من الذرّيّة التي بعضها من بعض من الصفوة بعد الأنبياء .

فمن اعتصم بهؤلاء الفُضَّل انتهى بعلمهم (٣) ونجا بِنصرتهم ، ومن وضع (ولاة أمر) (٤) اللّه‏ وأهل استنباط علمه في غير الصفوة من بيوتات الأنبياء ، فقد خالف أمر اللّه‏ وجعل الجهّال ولاة أمر اللّه‏ والمتكلّفين بغير هدى من اللّه‏ وزعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه‏ ، فقد كذّبوا على اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورغبوا عن وصيّه وطاعته (٥) ولم يضعوا فضل اللّه‏ حيث وضعه اللّه‏» ، الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام :

«إنّ اللّه‏ عزّ وجل طهّر أهل بيت نبيّه وسأل لهم أجر المودّة وأجرى لهم الولاية وجعلهم أوصياءه وأحبّاءه ثابتة (٦) بعده في اُمّته (٧) ، فاعتبروا أيّها

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٤ .

(٢) أضفناها من المصدر .

(٣) في «م» : بعملهم .

(٤) في البحار وكمال الدين : ولاية .

(٥) لم ترد في «م» .

(٦) كذا في النسخ والكافي وكمال الدين، وفي بعض نسخ كمال الدين هكذا: وهجبه ثابتة.

(٧) في البحار العبارة هكذا : في اُمّته من بعده .

٧٩

الناس فيما قلت ؛ حيث وضع اللّه‏ ولايته وطاعته ومودّته واستنباط علمه وحججه ، فإيّاه فتقبّلوا وبه فاستمسكوا تنجوا به ، وتكون لكم الحجّة يوم القيامة» (١) ، الخبر .

ولا يخفى دلالته على ما نحن فيه ، وصراحته في دوام الوصيّة في الذرّيّة الطاهرة من آدم عليه‌السلام ، وكتمان بعض تقيّةً ، وإعلان بعض عند الإذن من اللّه‏ ، كما هو بعينه في هذه الاُمّة ، وسيأتي تبيانه في فصل الوصيّة .

وقوله عليه‌السلام : «إنّ اللّه‏ لم يجعل العلم جهلاً» ردّ على من قال بأنّ اللّه‏ بيّن بعض أحكامه على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وفوّض الباقي إلى ظنون المجتهدين وأفكارهم واجتهاداتهم الظنّيّة ، وأمر من لم يبلغ درجة الاجتهاد باتّباع ظنون هؤلاء المجتهدين .

وملخّص الكلام أنّ الظنّ قد يكون باطلاً فيكون جهلاً ؛ لعدم مطابقته الواقع ، فتأمّل .

الرابع عشر : منقولات غريبة مؤيّدات للمقصود أحببنا ذكرها هاهنا :

أحدها : ما نقله الكراجكي (٢) في كتاب كنز الفوائد : عن عليّ بن محمّد البغدادي ، عن أحمد بن محمّد الجوهري ، عن محمّد بن لاحق بن سابق ، [عن هشام بن محمّد السائب الكلبي (٣) ] ، عن أبيه ، عن الشرقي بن

__________________

(١) الكافي ٨ : ١١٣ / ٩٢ ، كمال الدين ١ : ٢١٣ / ٢٢ ، بحار الأنوار ١١ : ٤٣ / ٤٩ ، بتفاوت في بعض الألفاظ .

(٢) في النسخ : ابن الكراجكي ، والظاهر زيادة «ابن» وهو محمّد بن عليّ بن عثمان الكراجكي يكنّى أبا الفتح ، عالم فاضل ، متكلّم فقيه محدّث ، ثقة جليل القدر ، له كتب ، منها : كنز الفوائد ، ومعدن الجواهر ، ورياضة الخواطر وغيرهما ، توفّي سنة ٤٤٩ هـ .

انظر : أمل الآمل ٢ : ٢٨٧ / ٨٥٧ ، الكنى والألقاب ٣ : ٨٨ ، لؤلؤة البحرين : ٣٣٧ / ١١٢ ، روضات الجنات ٦ : ٢٠٩ / ٥٧٩ .

(٣) في النسخ: لاحق بن سابق عن أبيه . والصواب ما أثبتناه ، كما جاء ذلك في المصادر.

٨٠