ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وروى البغوي ، وكذا عبد الغني (١) في الإيضاح ، وابن عساكر وغيرهم ، عن سلمان رضی‌الله‌عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «سمّى هارون ابنَيه شبراً وشُبَيراً ، و إنّي سمّيتُ ابنيّ الحسن والحسين عليهما‌السلام كما سمّى به هارون ابنيه» (٢) ، وسيأتي هذا وغيره في فصل ذكر أحوالهما في الفصل الثالث من تلك المقالة .

وفي كتب وروايات عديدة ، منها : كتابا ابن عدي وابن عساكر ، عن ابن مسعود وغيره أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الخلفاء بعدي عدّة نقباء بني إسرائيل» (٣) ، وسيأتي هذا مفصَّلاً في الفصل الحادي عشر من تلك المقالة .

وفي كتاب أبي الشيخ (٤) وابن عساكر ، والرافعي : عن أنس ، عن

__________________

(١) عبدالغني بن سعيد أبو محمّد الأزدي المصري ، الحافظ النسّابة محدّث الديار المصرية ، له كتب منها : المؤتلف والمختلف ، مشتبه النسبة ، ولد سنة ٣٣٢ هـ ومات سنة ٤٠٩ هـ بمصر .

انظر : المنتظم ١٥ : ١٣٠ / ٣٠٧٨ ، وفيات الأعيان ٣ : ٢٢٣ / ٤٠١ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٢٦٨ / ١٦٤ ، شذرات الذهب ٣ : ١٨٨ ، هدية العارفين ١ : ٥٨٩ .

وقد نقل عن كتاب الإيضاح لعبدالغنيّ بن سعيد العسقلاني في تهذيب التهذيب ٤ : ١٢٢ / ٢٣٤ والمتّقي الهندي في كنز العمّال ٣ : ٤٩٠ / ٧٥٥٥ ، و١٢ : ٣٢١ / ٣٥٢٠٥ ، والمناوي في فيض القدير ٣ : ٢٠٨ / ٣١٦٣ ، و٤ : ١٨٦ / ٤٩٧١ . ولم نر من نسب إليه هذا الكتاب فيما رأينا من تراجمه ، واللّه‏ العالم .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ١٤ : ١١٨ ، و١١٩ / ١٥٦٦ ، وحكاه عنهم السيوطي في جامع الأحاديث ٦ : ٥ / ١٣٠٠٨ .

(٣) الكامل لابن عديّ ٣ : ٤٣٢ ، و٨ : ٥٧٨ ، تاريخ مدينة دمشق ١٦ : ٢٨٦ / ١٩٢٨ ، المناقب لابن شهرآشوب ١ : ٣٥٢ ، و٣٦٢ ، وفيها بتفاوت .

(٤) عبداللّه‏ بن محمّد بن جعفر بن حيّان ، يكنّى أبا محمّد ، المعروف بأبي الشيخ ، الحافظ المحدّث ، وقد سمع من أبي خليفة الجُمحي ، والمروزي ، وأبي القاسم البغوي وغيرهم ، وحدّث عنه ابن مندة ، وابن مردويه ، وأبو سعد الماليني

٤٠١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ يُوشع بن نون دعا ربَّه ـ وذكر الدعاء ـ فاحتبست له الشمسُ بإذن اللّه‏» (١) ، الخبر ، وسيأتي هو ، وصدور مثله عن عليّ عليه‌السلام في الفصل الثالث من تلك المقالة .

وفي مسند ابن حنبل وغيره : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل يس ، وحزبيل مؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو أفضلهم» (٢) وسيأتي هذا مع غيره ، لاسيّما في الفصل التاسع من تلك المقالة .

وفي أخبار كثيرة مرَّ بعضها سابقاً ويأتي بعضها أيضاً : أنّ الاُمّة تغدر بعليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

منها : ما في الجمع بين الصحيحين عن عبداللّه‏ الغنوي (٣) ، عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال بالرحبة : «أَيُّها الناسُ ، إنّكم قد أبيتم إلاّ أن أقولها ، وربّ السماء والأرض ، إنّ من عهد النبيّ الاُمّي إليّ : إنّ الاُمّة ستغدر بك من بعدي» (٤) .

__________________

وغيرهم ، ولد سنة ٢٧٤ هـ ، ومات سنة ٣٦٩ هـ .

انظر : ذكر أخبار إصبهان ٢ : ٩٠ ، سير أعلام النبلاء ١٦ : ٢٧٦ / ١٩٦ ، تذكرة الحفّاظ ٣ : ١٠٥ / ٨٩٦ ، العبر ٢ : ١٣٢ ، النجوم الزاهرة ٢ : ٣٦٩ .

(١) التدوين في أخبار قزوين ٤ : ٦٤ ـ ٦٥ بتفاوت ، وحكاه عنهم السيوطي في جامع الأحاديث ٣ : ١٨١ / ٨٠٢٤ .

(٢) فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لابن حنبل : ١٣١ / ١٩٤ ، المؤتلف والمختلف للدارقطني ٢ : ٧٧٠ ، معرفة الصحابة لأبي نعيم ١ : ٣٠٢ / ٣٣٨ ، المناقب لابن المغازلي : ٢٤٥ / ٢٩٢ ـ ٢٩٤ .

(٣) عبداللّه‏ بن بكير الغنوي الكوفي ، روى عنه : ابن مهديّ ، وإبراهيم بن الحسن الثعلبي ، وغيرهما ، وروى عن حكيم بن جبير ، ولم يذكروا تاريخ وفاته .

انظر : الجرح والتعديل ٥ : ١٦ / ٧٣ ، الثقات لابن حبّان ٨ : ٣٣٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٩٩ / ٤٢٣٣، لسان الميزان ٣ : ٧٣٥ / ٧٥٣٢ .

(٤) المصدر غير متوفّر لدينا ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج عن الغنوي ٤ : ١٠٧ .

٤٠٢

ومنها : ما في كتاب الخوارزمي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : «اتّق الضغائن التي لك في صُدور من لا يُظهرها إلاّ بعد موتي» ثمّ بكى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : «أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ، ويمنعونه حقّه ، ويقاتلونه ويقتلون ولده ويظلمونهم بعده ، وأخبرني أنّ ذلك يزول إذا قام قائمهم ، وعلت كلمتهم ، واجتمعت الاُمّة على محبّتهم وكان الشانئ لهم قليلاً» (١) ، الخبر .

وسيأتي في فصل الآيات ـ وهو الفصل التاسع من المقالة الثانية عشرة من المقصد الأوّل ـ عند ذكر قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (٢) حديث من طريق المخالفين ، بأنّ جميع اُمم الأنبياء كآدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم‌السلام ما وفوا بعهد أنبيائهم في تعيين أوصيائهم ، وأنّ هذه الاُمّة أيضاً تسلك مسلكهم ولا تُوفي بوصيّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي : عليّاً عليه‌السلام ، لينظر في الحديث .

وإذ قد تبيَّن هذا كلّه ، فنقول : إذ كان عليّ عليه‌السلام نظير هارون ، فجميع الذين تركوا مبايعته بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي هو بمنزلة زمان غيبة موسى عليه‌السلام للمناجاة ـ واتّخذوا من لم يأمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إماماً ومطاعاً ، زاعمين كون إطاعته أحقّ من إطاعة عليّ عليه‌السلام ـ الذي نصّ النبيّ على منزلته المذكورة ـ بمحض اختيار جماعة إيّاه عليه ، فهم نظراء عُبّاد العجل من بني إسرائيل .

ولا يندفع هذا باجتماع عامّة الاُمّة على ذلك الاتّخاذ ، بل إنّما هو من شواهد الانطباق ؛ ضرورة أنّ قوم موسى عليه‌السلام أيضاً هكذا فعلوا ، كما ينادي به قول هارون عليه‌السلام : ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (٣) .

__________________

(١) المناقب للخوارزمي : ٦٢ / ٣١ ضمن الحديث .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٤٠ .

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٥٠ .

٤٠٣

وقد ورد في الحديث ـ كما يأتي في محلّه ـ أنّ عليّاً عليه‌السلام أيضاً توجّه أيّام السقيفة إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخاطبه شاكياً بهذه الآية (١) .

ولا يخفى أنّه على هذا تكون ضلالة هذه الاُمّة أشدّ ؛ لأنّ بني إسرائيل رجعوا أخيراً وهؤلاء لم يرجعوا ؛ ضرورة أنّ بيعتهم لعليّ عليه‌السلام بعد عثمان إنّما كانت على الترتيب والتشريك .

ثمّ إنّ هذا ليس مختصّاً بحكاية السقيفة ، بل يمكن التطبيق على حكاية الجَمل ومعاوية أيضاً ، كما هو ظاهر ، إلاّ أنّ تطبيق أمر السقيفة أوفق ؛ لعدم محاربة هارون عليه‌السلام أصحاب العجل ، بل تمسّك بالصبر والسكوت بعد إيضاح النصيحة لهم وعدم قبولهم منه .

وأمّا حكاية الجمل فهي بعينها مثل ما فعل بعض أصحاب موسى بيوشع بن نون وصيّ موسى عليه‌السلام ؛ حيث إنّهم ـ كما هو مذكور في كتب اليهود أيضاً ـ خالفوا يوشع بن نون بعد ما تمكّن على أمره ، فأخرجوا صفوراء امرأة موسى عليه‌السلام ـ حيث كانت معتبرة عند بني إسرائيل أيضاً ـ معهم ، ونازعوه بالمحاربة ، فقاتلهم حتّى غلب عليهم ولزم صفوراء وأرسلها إلى مسكنها ، وقال لها : سأشكو عليك عند موسى عليه‌السلام يوم القيامة ، حتّى أنّ في بعض الكتب وقع التصريح بأنّ ذلك كان بعد أن تقدّم على يوشع ـ بدون أمر موسى عليه‌السلام ، بل بقوّة بني إسرائيل ـ بعض قومه (٢) .

وقد اتّفق اليهود أيضاً على أنّ الوصاية انتقلت بعد يوشع بأمر موسى عليه‌السلام ، وتسليم يوشع إلى شُبّر ، ثمّ إلى شبير ابني هارون عليه‌السلام ، ثمّ

__________________

(١) انظر : تفسير العيّاشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥٦ ـ ٧٦ ضمن الحديث ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ١١١ .

(٢) انظر : بشارة المصطفى : ٤٢٨ / ٩ .

٤٠٤

كانت في نسل شبير (١) .

من أراد تحقيق ذلك كلّه فعليه بعلماء اليهود وكتبهم ، وقد أخبر به أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً ، ونقل نبذاً منه العامّة عن كعب الأحبار وغيره ، كما سيأتي في محلّه .

وأمّا حكاية معاوية فهي بحكاية فرعون وموسى أشبه ، لاسيّما بعد ورود ما سيأتي في المقالة السادسة من المقصد الثاني من تصريح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ : «معاوية فرعون هذه الاُمّة يموت على غير الملّة» (٢) ولا شكّ حينئذٍ أنّ هامانه عمرو بن العاص .

ومن الشواهد هاهنا ما صدر منه ومن أتباعه ـ الذين بمنزلة قوم فرعون ـ بالنسبة إلى شيعة عليّ عليه‌السلام وأتباعه ـ الذين بمنزلة مؤمني بني إسرائيل ـ من القتل والقمع والنهب والسبي ، حتّى أنّه لم يكن أحد يذكر عليّاً عليه‌السلام بخير إلاّ قتلوه وأخربوا بيته ، كما هو مسطور (٣) في التواريخ مفصّلاً (٤) ، إلى أن غرق هو وجنوده في بحر ضلالة الغواية ، ولم ينجوا منه ؛ ضرورة أنّه لم يرجع إلى أن مات ، ويمكن أن يكون نظير الغرق يوم انكساره في صفّين ، حيث رفع القرآن وأظهر الإيمان ، كما قال فرعون عند الإشراف على الغرق ، بل الحقّ أنّ كلّ من لم يكن حكمه في هذه الاُمّة من اللّه‏ كان بمنزلة فرعون وسائر الجبّارين في الاُمم .

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١١ .

(٢) انظر : الإيضاح لابن شاذان : ٨٧ ، الخصال : ٥٧٥ / ١ ، (أبواب السبعين) ضمن الحديث .

(٣) في «م» : مذكور .

(٤) انظر : الغارات ٢ : ٥٩٨ ـ ٦٢١ ، مروج الذهب ٣ : ٢١ ـ ٢٢ ، الاستيعاب ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، تاريخ مدينة دمشق ١٠ : ١٥١ ، و١٥٢ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٣٧٧ ـ ٣٨٥ .

٤٠٥

والإمام الحقّ في زمانه كالنبيّ في تلك الأعصار ، كما قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل» (١) .

ألا ترى إلى الحسين عليه‌السلام كيف ذبح كالكبش لأجل ولد زنا ، كما ذبح يحيى لأجل زانية ؟ ولهذا قال النبيّ ـ كما سيأتي في محلّه ـ : «إنّ اللّه‏ تعالى قتل بدم يحيى سبعين ألفاً ، وسيقتل بدم ابني هذا ـ يعني الحسين عليه‌السلام ـ سبعين ألفاً ، وسبعين ألفاً ، وسبعين ألفاً» (٢) .

وروى أبو مخنف (٣) وغيره : أنّ رجلاً من الصحابة لقي عليّ بن الحسين عليهما‌السلام بالشام ، فقال له : كيف أَصبحت يابن رسول اللّه‏ ؟ فقال : «أصبحنا كبني إسرائيل في قوم فرعون ، يذبّحون رجالنا ويسبون نساءنا» (٤) .

ودخل أبو بصير (٥) على الصادق عليه‌السلام ، وله نفس عالٍ وحال مشوّش

__________________

(١) غوالي اللآلي ٤ : ٧٧ / ٦٧ ، منية المريد : ١٨٢ .

(٢) إعلام الورى ١ : ٤٢٩ ، تاريخ بغداد ١ : ١٤٢ في ترجمة الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، فردوس الأخبار ٣ : ٢٣٨ / ٤٥٥٤ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ : ٢٢٥ ، وفيها بتفاوت في بعض الألفاظ .

(٣) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن سالم الأزدي الغامدي ، يكنّى أبا مِخنف ، من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين والسجّاد والباقر والصادق صلوات اللّه‏ عليهم ، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم ، وكان يُسكن إلى ما يرويه .

وله كتب كثيرة ، منها : المغازي ، السقيفة ، مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام وغيرها .

انظر : رجال النجاشي : ٣٢٠ / ٨٧٥ ، رجال الطوسي ٢٧٥ / ٣٩٧٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٤٣ / ٩٩٩٢ من أبواب اللام .

(٤) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ٢ : ٧١ ، مثير الأحزان : ١٠٥ ، اللهوف : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، الفتوح لابن أعثم الكوفي ٥ : ١٥٥ .

(٥) هو ليث بن البختري المرادي ، يكنّى أبا محمّد ، أو أبا بصير الأصغر ، من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، ومن المخبتين الأربعة الذين بشّرهم أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام

٤٠٦

فسأله عن ذلك ، فقال : لِما نرى من هؤلاء المخالفين من الطعن والأذى حتّى سمّونا رافضة ؟ فقال له ما خلاصته : «لا تحزن من هذا ، فإنّ بني إسرائيل لمّا آمنوا بموسى عليه‌السلام ورفضوا فرعون وقومه ، سمّاهم قوم فرعون رافضة ، فأنزل اللّه‏ تعالى على موسى عليه‌السلام : أن بَشّر بني إسرائيل بأنّي كتبت لهم هذا الاسم في اللوح ، واصطفيتهم به ، فما ترضى يا أبا محمّد بما سمّاكم اللّه‏ تعالى به ! فإنّكم واللّه‏ ، رفضتم الباطل وتمسّكتم بالحقّ ، كما كان كذلك المؤمنون قبلكم ، وإنّ هؤلاء القوم رفضوا الحقّ الذي أمر اللّه‏ به من ولاية عليّ عليه‌السلام والتمسّك بالعترة الطاهرة ، واتّبعوا ما أسخط اللّه‏ بأهوائهم وآرائهم ، فهم على سبيل فرعون وقومه ، وأنتم على بيّنة من ربّكم كموسى عليه‌السلام وقومه» (١) وأمثال هذا كثيرة .

ويكفي ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، حتّى أنّ من أشبه الاُمور ما وقع بالنسبة إلى كتاب اللّه‏ عزوجل ، فإنّ عليّاً عليه‌السلام ـ كما نقل المخالف والمؤالف ـ شرع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجمع كتاب اللّه‏ عزوجل ، وقال : «أمرني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهأن لا أرتدي بردائي حتّى أجمعه» (٢) ، وأخبرهم أنّه جمعه على تنزيله ، وما

__________________

بالجنّة : هو وبريد بن معاوية العجلي ومحمّد بن مسلم وزرارة ، وعدّه الإمام الصادق من أوتاد الأرض وأعلام الدين .

انظر : رجال النجاشي : ٣٢١ / ٨٧٦ ، رجال الطوسي : ٢٧٥ / ٣٩٧٠ ، الخلاصة للعلاّمة الحلّي : ٢٣٤ / ٧٩٨ ، تنقيح المقال ٢ : ٤٤ / ٩٩٩٨ من أبواب اللام .

(١) انظر : الكافي ٨ : ٣٣ / ٦ ، الاختصاص : ١٠٤ ، وفيهما : ضمن الحديث .

(٢) انظر : كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨١ ، تفسير العياشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥٦ ـ ٧٦ ، تفسير القمي ٢ : ٤٥١ ، المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٥١ ، الاحتجاج ١ : ٢٠٧ ، حلية الأولياء ١ : ٦٧ ، الاستيعاب ٣ : ٩٧٤ في ترجمة أبي بكر ، المناقب للخوارزمي ٩٤ / ٩٣ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٦ / ٢٣ ـ ٢٥ ، الصواعق المحرقة : ١٩٧ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٤ .

٤٠٧

ينبغي أن يكون عليه ، فلم يعبأوا بقوله ولم يتوجّهوا إليه ، فبقي على حاله مهجوراً ، وحفظه الأئمّة من أهل البيت بعد عليّ عليهم‌السلام مستوراً ، كما هو ثابت عندنا بأخبارهم متواتراً (١) ، وإن عمت عنه عيون الأجانب ، بل تدلّ عليه بعض منقولات المخالفين أيضاً (٢) ، ولبيانه موضع آخَر .

فكانت الصحابة مكتفين برهة من الزمان بما كان منه عندهم متفرّقاً ، إلى أن قتل عامّة حفّاظه في حرب اليمامة ، حتّى نقلوا أنّه كانت بعض الأوراق منه عند منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأكلته عنزة ، فعند ذلك قعد عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت في المسجد بشور أبي بكر (٣) ، ونادوا بالناس أن يأتي كلّ أحد بما عنده من القرآن ، فمن كان له شاهدان على أنّ ما عنده من القرآن كتباه وإلاّ فلا ، إلى أن قُتل عمر واستخلف عثمان فشرع هو في جمعه وترتيبه على هذا الوضع المشهود والكيفيّة الموجودة ، وكتب أربعة (٤) مصاحف على هذا الوضع المخصوص ، وأرسل كلّ واحد إلى بلدة ، وأمر

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ١٧٨ / ١ (باب أ نّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم‌السلام ) ، و٢ : ٤٦٢ / ٢٣ (باب النوادر) ، والاحتجاج ١ : ٣٥٨ ـ ٣٦١ .

(٢) انظر : التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ٤ .

(٣) هو عبداللّه‏ بن أبي قحافة، يكنّى أبا بكر ، تقمّص الحكومة يوم وفاة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمبايعة صوريّة ، كما بيّن ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الشقشقية : «أما واللّه‏ ، لقد تقمّصها ابن أبي قحافة... » وكانت حكومته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيّام .

مات سنة ١٣ هـ .

انظر : الإمامة والسياسة ١ : ٢١ ، أنساب الأشراف ٢ : ٢٥٩ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٤ ، الاستيعاب ٣ : ٩٦٣ / ١٦٣٣ ، وفيات الأعيان ٣ : ٦٤ / ٣٣٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٥١.

(٤) في النسخ المعتمدة ورد (أربع) والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصحيح .

٤٠٨

بالاجتماع على ذلك ، وجمع سائر ما كان عند الناس من المصاحف فأحرقها ، حتّى ما جمعه عمر وزيد ، ومصحف ابن مسعود واُبيّ بن كعب (١) وغيرهم معتذراً بأنّ مراده رفع الاختلاف ، وجميع هذا ممّا استفاضت فيه أَخبار المخالفين (٢) .

وفي الأخبار المستفيضة عن أهل البيت عليهم‌السلام : ( (٣) أنّ مقصدهم إنّما كان إسقاط ما لم يريدوا ذكره ونحو ذلك ، كإسقاط أسامي جماعة من المشركين ، ولفظةٍ «في عليّ» من آية التبليغ (٤) (٥) وأمثال ذلك .

حتّى ورد في أخبار : «أنّ اللّه‏ تعالى لمّا كان يعلم بعلمه الكامل أنّهم يُسقطون بعض الأشياء الصريحة ، أجمل في ذكر بعض الأشياء ليسلم من

__________________

(١) هو أُبيّ بن كعب بن قيس النجّاري الأنصاري المدني ، يكنّى أبا المنذر ، أسلم وصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين سعيد بن زيد ، شهد العقبة الاُولى وبدراً ، والمشاهد كلّها مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عُدّ من القرّاء ، وتصدّى لإقراء كتاب اللّه‏ تعالى .

واختلف في وفاته على أقوال ، منها : أنهّ مات سنة ٢٠ هـ .

انظر : رجال البرقي : ٦٣ ، رجال الطوسي : ٢٢ / ١٥ ، الخلاصة للعلاّمة الحلّي : ٧٤ / ١٢٣ ، الطبقات لابن سعد ٣ : ٤٩٨ ، الاستيعاب ١ : ٦٥ / ٦ ، تهذيب الأسماء واللغات ١ : ١٠٨ / ٤٤ ، طبقات القرّاء ١ : ٩ / ٣ .

(٢) انظر : جامع الاُصول ٢ : ٥٠١ / ٩٤٧ ، و٥٠٣ / ٩٧٥ ، التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ٤ ، تفسير غرائب القرآن للنيسابوري في هامش جامع البيان ١ : ٢٣ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١ : ٥٢ ـ ٥٤ .

(٣) من هنا إلى صفحة ٤١٣ هامش (٢) بياض في «ن» .

(٤) سورة المائدة ٥ : ٦٧ ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ . . . ) .

(٥) انظر : تفسير العيّاشي ٢ : ٦٣ ، اختيار معرفة الرجال : ٣٥٨ / ٥١١ ، ثواب الأعمال : ١٣٧ / ١ ، تفسير القمي ١ : ١٠ ، شواهد التنزيل ١ : ١٨٧ / ٢٤٣ ، الاحتجاج ١ : ١٣٨ ـ ١٤٣ / ٣٢ .

٤٠٩

الإسقاط ، ويهتدي به أصحاب البصائر» (١) ؛ حتّى قال علي عليه‌السلام : «إنّ من جملة ذلك قوله تعالى : ( ‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٢) » (٣) ، وأمثال ذلك .

وعلى أيّ تقدير ، لا شكّ في أنّ مثل هذا الجمع يستلزم عدم إدخال بعض الآيات وتغيير بعض الكلمات ، ولحن بعض العبارات والتقديم والتأخير ونحو ذلك، وإن لم ندع التعمّد، كما ورد أنّ قوله تعالى: ( هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) (٤) تصحيف ( عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) يعني : أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥) ، وأنّ ( إِلْ يَاسِينَ ) (٦) هو : آل ياسين ، أي : آل محمّد عليهم‌السلام (٧) ، وأنّ آية بيعة الرضوان في سورة الفتح (٨) كانت قبل آية البيعة (٩) ونكثها (١٠) ، وأنّ آية

__________________

(١) انظر : الاحتجاج ١ : ٥٩٥ / ١٣٧ .

(٢) سورة الفرقان ٢٥ : ٢٧ ـ ٢٩ .

(٣) انظر : الاحتجاج ١ : ٥٧٥ / ١٣٥ .

(٤) سورة الحجر ١٥ : ٤١ .

(٥) بصائر الدرجات : ٥٣٢ / ٢٥ ، تفسير فرات الكوفي : ١٣٧ / ١٦٤ ، الكافي ١ : ٣٥١ / ٦٣ ، (باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية) ، الطرائف ١ : ١٤٠ / ١٣٥ ، تأويل الآيات الظاهرة ١ : ٢٤٧ / ١ .

(٦) سورة الصافّات ٣٧ : ١٣٠ .

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٧ قطعة من حديث ١ ، (باب ٢٣) ، تفسير فرات الكوفي : ٣٥٦ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦ ، تفسير القمّي ٢ : ٢٢٦ ، معاني الأخبار : ١٢٢ ، الاحتجاج ١ : ٥٩٧ / ١٣٧ ، تأويل الآيات الظاهرة ٢ : ٤٩٨ ـ ٥٠٠ / ١٣ ـ ١٨ .

(٨) سورة الفتح ٤٨ : ١٨ ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . . . ) .

(٩) سورة الفتح ٤٨ : ١٠ ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ . . . ) .

(١٠) تفسير القمّي ٢ : ٣١٥ .

٤١٠

التطهير (١) لم تكن بين آيات النساء (٢) ، وأمثال ذلك .

وبالجملة : إنكار تطرّق الاشتباه والسقوط والتحريف باللحن والتصحيف والتقديم والتأخير مكابرة صريحة في مقابل العقل والنقل ، حتّى نقلوا : أنّ عثمان أيضاً اعترف بأنّ فيه بعض اللحن ، إلاّ أنّه قال : لكن العرب يصحّحونه (٣) بألسنتهم (٤) ! وهذا هو بعينه ما صدر من اليهود والنصارى من تحريف الكتابين وتضييع جمّة منهما .

وخلاصة هذه القصة ـ على ما يظهر من ملاحظة مجموع ما نقله هم ، وأهل الإسلام ، لاسيّما أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام الذين كانوا أعرف منهم بكتبهم وأحوالهم ، بل أصل الكتب السماويّة كلّها عندهم ، كما ينادي به ما يأتي في فصل بيان علومهم ـ : أنّ موسى عليه‌السلام لمّا ارتحل عن الدنيا أوصى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون عليه‌السلام وصيّه من بعده ، وأودعه ما كان عنده من العلوم وكتب الأنبياء عليهم‌السلام ، فلمّا شوّش على يوشع أمره مـن دخـل في أمـره من قومه ، ولم يتمكَن يوشع بذلك مـن إظهار ما عنده ، بقي التوراة متفرّقاً ، وكان يحفظ كلّ شخص شيئاً منه إلى أن غلب عليهم بخت نصّر (٥) ، فقتل كثيراً من حفّاظ ذلك ، فلمّا رأى بعض أولاد

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣ ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

(٢) انظر : تفسير القمّي ٢ : ١٩٣ .

(٣) في النسخ وردت : (يصحّحوه) ، والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصواب .

(٤) التفسير الكبير ١١ : ١٠٦ بتفاوت ، كنز العمّال ٢ : ٥٨٦ ـ ٥٨٧ / ٤٧٨٤ ـ ٤٧٨٦ .

(٥) بخت نصّر : اسمه ( بخترشه ) ، وهو مرزبان العراق والغرب من قِبَل الملك لهراسب ، أحد ملوك الفرس ، والمرزبان مَن كان صاحب ربع مِن المملكة وقائداً عسكريّاً ووزيراً ، وصاحب ناحية من النواحي وواليها ، وقد بعث به للنفوذ إلى

٤١١

هارون ذلك جمع من محفوظاته ومن الفصول التي كانت عند غيره أسفاراً .

فهذه التوراة التي بيد اليهود ذلك المجموع لا كتاب اللّه‏ التامّ ، وعلى هذا اتّفاق اليهود ، كما صرّح به بعضهم ، قال : وفيه التبديل والتغيير ولو من غير تعمّد ، لكن يظهر من الآيات القرآنية أنّ بعض الأحبار ـ وهم علماء اليهود والصلحاء منهم ـ أيضاً غيّروا بعض الأشياء تعمّداً ، حتّى أنّ من جملة ما غيّروا اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما مرّ في أوّل الكتاب ـ من عبارة التوراة ؛ حيث ذكرنا أنّ فيها : (بماذٍ ماذ شنيم عار سار سني ايم) فغيّر (ماذ ماذ) الذي هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغتهم (بماذو ماذو) بإضافة الواو ، بمعنى : عظيم عظيم ، وقرأ بعضهم : (مائذ مائذ) بإضافة الهمزة ، بمعنى : جداً جداً ، وهكذا غيره من التحريفات والإسقاط .

قال الشهرستاني (١) : إنّ التوراة بأسرها مشتملة على دلالات وآيات تدلّ على كون شريعة المصطفى حقّاً ، وكون صاحب الشريعة صادقاً ، ولكنّهم حرّفوه وغيّروه وبدّلوه ، إمّا تحريفاً من حيث الكتابة والصورة ، وإمّا تحريفاً من حيث التفسير والتأويل .

__________________

أرض الشام وبيت المقدس ، فقتل كثيراً منهم ، وأجلى اليهود من هناك وسبى ذراريهم ، وكان ذلك قبل الهجرة النبوية الشريفة ١٥٨١ سنة .

انظر : تاريخ الطبري ١ : ٥٣٨ ، مروج الذهب ١ : ٢٤٠ ، ٢٥١ ، الكامل في التاريخ ١ : ٢٦١ ، و١٢ : ٣٥٨.

(١) هو محمّد بن عبدالكريم بن أحمد الشهرستاني الشافعي ، يكنّى أبا الفتح ، المتكلّم على مذهب الأشعري ، له كتب منها : الملل والنحل ، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام ، والمناهج والبيّنات ، ولد بشهرستان بين نيسابور وخوارزم سنة ٤٧٩ هـ ، ومات فيها سنة ٥٤٨ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٤ : ٢٧٣ / ٦١١ ، العبر ٣ : ٧ ، معجم المؤلّفين ١٠ : ١٨٧ .

٤١٢

ثمّ ذكر من ذلك الآية المذكورة بطولها كما مرّت في أوّل الكتاب ، ثمّ قال : إنّهم أوّلوها بالملك دون النبوّة ، وذكر جواباً شافياً عن ذلك ، ثمّ قال : ومن العجيب أنّ في التوراة : إنّ الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون علماء القبائل من بني إسماعيل ، ويعلمون أنّ عندهم علماً لدنّيّاً لم يشتمل التوراة عليه ، حتّى كانوا يسمّونهم آل اللّه‏ ، أي : أهل اللّه‏ (١) .

أقول : تأمّل في هذا حتّى تعرف التشابه فيه أيضاً ، حيث إنّ المخالفين ـ كما يأتي ـ معترفون بأمثال هذه الكمالات في أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ) (٢) ، ويجدون دلالة بعض الآيات على إمامتهم ، ومع هذا يؤوّلونها بتأويلات غير مستقيمة ، فافهم .

وكذلك لمّا ارتحل عيسى عليه‌السلام أوصى إلى شمعون الصفا ، وأودعه الأسرار والعلوم والكتب السابقة والإنجيل ، وكان هو أفضل الحواريّين علماً وزهداً وورعاً وأدباً ، فشوّش أمره من أدخل نفسه في أمره (٣) .

قال الشهرستاني في الملل والنحل : إنّ قولوس هو الذي شوّش أمر شمعون ، وصيّر نفسه شريكاً له ، وغيّر أوضاع علمه ، وخلطه بكلام الفلاسفة ووسواس خاطره (٤) .

وبالجملة : لمّا صاروا كذا بقي الإنجيل أيضاً متفرّقاً متشتّتاً بيد الحواريّين ، حتّى ضاع كثير منه إلى أن تصدّوا لجمعه ، فجمع أربعة رجال منهم ، كلّ واحد إنجيلاً .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٢ ـ ٢١٣ .

(٢) من صحفة ٤٠٩ هامش (٣) إلى هنا بياض في «ن» .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢١ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢١ ، وفيه : (فولوس) بدل (قولوس) .

٤١٣

قال الشهرستاني : كان أحدهم : متى ، والآخر : الوقا ، والثالث : مارقوس ، والرابع : يوحنّا (١) ؛ ولأجل هذا صارت فيه التحريفات والتغييرات ، ثمّ تصرّفوا فيه أيضاً فيما بعد .

قال الشهرستاني : ومنهم نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون (٢) ، وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه (٣) .

أقول : إذا تأمّلت فيما ذكرناه ـ مع كونه مختصراً من المطوّل ـ ظهر لك ما ادّعيناه من التطبيق في هذا أيضاً ، بل ظهر التطابق والتشابه في أصل إدخال جمع أنفسهم في أمر يوشع وصيّ موسى عليه‌السلام وشمعون وصيّ عيسى عليه‌السلام قسراً بغير أمر النبيّ ورضا الوصيّ ، وأنّ ذلك صار سبب التفرّق وتغيير الكتاب وخراب الدين ، حتّى أنّ فيه فساد بعض الحواريّين (٤) ، وفيه من التشابه ما لا يخفى .

ومن العجائب أنّ هذا ممّا نقله جمع من المخالفين ، كالشهرستاني وغيره من أرباب نقل المذاهب ، ومع هذا لم يتفطّنوا بما فيه من الإفساد عليهم ، وأمثال هذه الأشياء كثيرة .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢١ ، وفيه : «لوقا» بدل «الوقا» و«مرقس» بدل «مارقوس» .

(٢) هو عبداللّه‏ بن هارون الرشيد بن محمّد المهدي ، يكنّى أبا العبّاس ، سابع الحكّام من بني العبّاس في العراق ، وعلى يده كان استشهاد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام بعد أن دسّ له السمّ .

ولد سنة ١٧٠ هـ ، ومات سنة ٢١٨ هـ .

انظر : مروج الذهب ٣ : ٤١٦ ، تاريخ بغداد ١٠ : ١٨٣ / ٥٣٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٧٢ / ٧٢ ، العبر ١ : ٢٩٥ ، شذرات الذهب ٢ : ٣٩ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٤ .

(٤) في «م» : الروحانيين .

٤١٤

وكفى ما نقلناه هاهنا من هذا النوع من التشابه ، فلنرجع حينئذٍ إلى بيان نبذٍ من التشابه في المذاهب .

قال الشهرستاني وغيره : إنّ اليهود أنكروا البداء على اللّه‏ ، وإنّ أكثرهم قالوا بالتشبيه والرؤية ؛ حيث وجدوا التوراة مشتملة على كثير من المتشابهات ، مثل : الصورة ، والمشافهة ، والتكلّم ، والنزول على طور سيناء ، والاستواء على العرش ، وغير ذلك ، حتّى قالوا : له صورة آدم ، وله شعر قطط ، وبكى على طوفان نوح عليه‌السلام ، وإنّه ضحك ، وأمثال ذلك (١).

قال الشهرستاني : وأمّا القول في القدر ، فهم مختلفون فيه أيضاً ، فمنهم كالمعتزلة ، ومنهم كالجبريّة . . .

قال : وكذا أكثرهم أنكروا الرجعة وأحالوها ، وفيهم القول بها ؛ استناداً إلى قصّة عزير ؛ إذ أماته اللّه‏ مائة عام ، ثمّ بعثه (٢) .

وقال أيضاً : إنّ اليهود انشعبت إلى إحدى وسبعين فرقة ، وكبارهم أربعة ، وذكر تفاصيل أكثرها .

ثمّ قال : وإنّهم بأسرهم أجمعوا على أنّ في التوراة بشارةً بواحدٍ بعد موسى عليه‌السلام ، وافترقوا في تعيين ذلك الواحد ، وفي الزيادة على الواحد .

قال : وذكر المسيح وآثاره ظاهرة في الأسفار ، وخروج واحد في آخر الزمان هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضاً متّفق عليه ، وهم على انتظاره (٣) .

ثمّ إنّه ذكر في فِرَق اليهود فرقة صرّح غيره بأنّهم من أتباع بعض ولد

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١١ ـ ٢١٧ ، وردت متفرقة .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٢ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٩ بتفاوت .

٤١٥

هارون ، وعدّهم هو من أتباع رجل يسمّى يوذعان ، أو يهوذا ، ولا ينافي أيضاً كونه من ولد هارون .

وبالجملة : ذكر هو مع غيره ـ لاسيّما رجل أسلم من اليهود وكتب في ذلك كتاباً ـ : أنّ تلك الفرقة من أتباع رجل كان يحثّ على الزهد وتكثير الصلاة ، وينهى عن اللحوم والأنبذة ، وكان يزعم أنّ للتوراة ظاهراً وباطناً وتنزيلاً وتأويلاً ، وخالف بتأويلاته عامّة اليهود ، وخالفهم في التشبيه والرؤية والجبر ، وأثبت الفعل حقيقةً للعبد ، وقدّر الثواب والعقاب عليه ، وقال : إنّ الشريعة لا تكون إلاّ واحدة ، وإنّه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر ، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها (١) ، وأمثال ذلك حتّى القول بالبداء والنسخ في بعض الأحكام .

أقول : سيأتي في بيان المذاهب ـ ومن الواضحات أيضاً ـ أنّ ما سوى مذهب الهاروني والقول بالرجعة بعينه مذاهب المخالفين ، كما أنّ قول الهاروني والرجعة عين مذهب الإماميّة ، ولا يبعد كون الهاروني أيضاً هو القائل بالرجعة ، بل هو الظاهر ، وكذا الإماميّة هم أشباه من عين المبشّر بعد موسى بأنّه عيسى بن مريم عليه‌السلام ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد عيسى ؛ لتعيينهم المهدي المبشّر في هذه الاُمّة بأنّه الحجة بن الحسن عليه‌السلام ، فتأمّل ولا تغفل عن مشابهة إنكار الرجعة في هذه الاُمّة بإنكار الكفّار الحشر يوم القيامة ، فافهم .

ثمّ إنّ الرجل الذي أسلم وألّف كتاباً في ذلك قال : إنّ بعد مضيّ مدّةٍ تسلّط على بني إسرائيل جماعة من الملوك الكفرة وعبدة الأصنام ، وقتلوا

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٦ ـ ٢١٨ بتفاوت .

٤١٦

الأنبياء منهم وأتباعهم ، وبالغوا في تطلّبهم ليقتلوهم ، وبنوا لأصنامهم بيعاً عظيمة ، وقرّروا آداباً ورسوماً لعبادتها ، ودعوا الناس إلى ذلك حتّى عكف على عبادتها الملوك ومعظم بني إسرائيل ، لاسيّما في زمان ملكٍ كان يقال له : ياربعام بن نواط ، فإنّه الذي خرج على ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وانضمّ إليه تسعة أسباط (١) ونصف من بني إسرائيل ، وتركوا أحكام التوراة وشرعها مدة طويلة بعد أن صارت مقاتلة عظيمة بينهم وبين بقيّة بني إسرائيل المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان في بيت المقدس ؛ بحيث قتل خمسمائة ألف رجل ، وتفرّق اليهود في البلدان ، وغلب عليهم الفرس واليونان ، بحيث منعوهم عن الصلاة زعماً منهم أنّهم يدعون عليهم في صلاتهم ، فاخترع اليهود أدعية مشتملة على بعض فصول صلواتهم ، وشرعوا يقرأونها مجتمعين في أوقات صلواتهم بألحان عديدة وأنواع من التغنّي والنوح ، فكان الفرس إذا أنكروا عليهم ذلك قالوا لهم : إنّهم يغنّون أحياناً وينوحون على أنفسهم أحياناً ، فيكفّوا عنهم ، إلى أن صار ذلك الغناء مباحاً عندهم ، بل صار من السنن المستحبّة في الأعياد ومواضع أفراحهم يجعلونها ـ أي الدعوات ـ عوضاً عن الصلاة ، واستغنوا بها عنها من غير ضرورة داعية إلى ذلك (٢) . انتهى خلاصة كلامه .

ولا يخفى أنّ هذا المخترَع الصادر من اليهود هو عين ما اتّخذه تعبّداً أكثرُ فِرَق الصوفية ، الذين اشتهروا من زمن بني اُميّة وبني العباس ، الذين

__________________

(١) السبط : الاُمّة ، كما جاء في الحديث : «الحسين عليه‌السلام سبط من الأسباط» أي اُمّة من الاُمم في الخير ، وهو الولد أيضاً ، والسبط من اليهود : كالقبيلة من العرب .

انظر : لسان العرب ٧ : ٣١٠ ـ سبط ـ .

(٢) لم نعثر عليه .

٤١٧

هم نظراء هؤلاء الكفرة من الملوك في قتل أهل البيت عليهم‌السلام وقمع أتباعهم وشتات شيعتهم ، وعبادة الشيطان بعداوة خلفاء الرحمن ، وترك العمل بالقرآن وأشباه ذلك ، لاسيّما يزيد بن معاوية الذي فعل بآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل المدينة ما لم يفعله أحد بالكفّار .

ومن العجائب أنّ اشتهار هذه البدعة صار بحيث تشبّه بهذه الجماعة ـ بل بتعبّد طوائف النصارى أيضاً ـ خطباء المخالفين في الجمعات والأعياد ، حتّى أنّهم بَنوا لهم ولِمؤذّنيهم محافل في مساجدهم يتغنّون فيها وعلى المنابر بالقرآن والخطب والأذكار ، مع أنّهم يدرون أنّ ذلك لم يكن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا الصحابة ، بل إنّه من البدع المأخوذة من الكفّار ، فافهم .

ثمّ قال الشهرستاني في بيان مذاهب النصارى ـ بعد ما بيّن أنّهم اُمّة عيسى عليه‌السلام ، وأنّه بعد ما رفع إلى السماء اختلف الحواريّون وغيرهم إلى أن انتهى اختلافهم إلى اثنتين وسبعين فرقة ، حيث شوّشوا أمر وصيّه شمعون الصفا كما مرّ آنفاً ـ : إنّ كبار فِرَقهم ثلاثة : الملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، وإنّهم بين قائل بأنّ الكلمة اتّحدت بجسد المسيح عليه‌السلام وتدرّعت بناسوته ، وقائل بأنّها مازجت جسد المسيح كما يمازج الماء اللبن ، وقائل بالإشراق كإشراق النور على الجسم ، وقائل بالانطباع كانطباع النقش في الشمعة ، حتّى قال بعضهم بأنّ المسيح قديم أزلي (١) .

وصرّح جمع : بأنّ الكلمة انقلبت لحماً ودماً ، فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده ، وهو هو كما أخبر اللّه‏ عنهم بقوله : ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢٢ بتقديم وتأخير .

٤١٨

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) (١) (٢) .

قال : وإنّهم يعنون بالكلمة : اُقنوم (٣) العلم ؛ لأنّهم أثبتوا للّه‏ تعالى أقانيم ثلاثة ، ويعنون بالأقانيم : الصفات كالوجود والحياة والأب والابن ، وروح القدس ، ويقولون : إنّه سبحانه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالاُقنومية ، يعني تلك الصفات المذكورة ، وقالوا : إنّ العلم تدرع وتجسد دون سائر الصفات .

قال : وسبب هذه كلّها أنّهم رأوا في الإنجيل إطلاق الابن على المسيح ، والأب على اللّه‏ ، فزعموا أنّ ذلك على الحقيقة ولم يعلموا أنّ ذلك من باب المجاز في اللغة ، كما يقال لطالب الدنيا : ابن الدنيا ، ولطالب الآخرة : ابن الآخرة ، وكما يقال : الأب على المربّي ، والكامل ، والمعلّم ونحوهم ؛ ولهذا ورد في الإنجيل : أبوكم أيضاً .

ثمّ قال : وفي النصارى من قال بحشر الأرواح دون الأجساد ، وقال : إنّ عاقبة الأشرار في القيامة غمّ وحزن الجهل ، وعاقبة الأخيار سرور وفرح العلم ، وأنكر أنْ يكون في الجنّة نكاح وأكل وشرب (٤) .

أقول : لا يخفى على من له اطّلاع بمذاهب الصوفيّة والغُلاة أنّها موافقة لهذه المذاهب ، بل أخذوها من هؤلاء .

ثمّ قال الشهرستاني عند نقل مذهب النسطورية : إنّ نسطور الحكيم تصرّف في الأناجيل بحكم رأيه ، وإضافته إلى النصارى إضافة المعتزلة إلى

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٧٢ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٥ .

(٣) الأُقنوم : واحد الأقانيم ، وهي الاُصول ، وهي كلمة روميّة .

انظر : الصحاح ٥ : ٢٠١٦ ـ قنم ـ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢٣ .

٤١٩

هذه الشريعة ، وذكر أنّه قال بأنّ الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو .

ثمّ قال : وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في الصفات أحوال أبي هاشم (١) من المعتزلة ، وذكر وجهه بما لا نطيل الكلام ببيانه .

ثمّ قال : ومن النسطورية قوم قالوا : إذا اجتهد الرجل في العبادة ، وترك التغذّي باللحم والدسم ، ورفض الشهوات الحيوانيّة والنفسانيّة يصفو جوهره حتّى يبلغ ملكوت السماوات ، ويرى اللّه‏ جهراً ، وينكشف له ما في الغيب فلا تخفى عليه خافية (٢) .

أقول : لا يخفى أنّ هذا بعينه قول جماعة من الصوفية وأكثر براهمة الهند وأمثالهم .

قال : ومن النسطورية أيضاً من ينفي التشبيه ويثبت القول بالقدر كما قالت القدرية ، ثمّ قال : ولهم أقوال اُخَر أيضاً ، وكلّها كفر وضلال (٣) .

وذكر جماعة : أنّ في النصارى كان قوم تبعاً لأوصياء عيسى عليه‌السلام ، ولم يقولوا فيه ، غير أنّه كان عبداً صالحاً للّه‏ تعالى واصطفاه اللّه‏ وجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، وأوجب عليهم طاعته وطاعة أوصيائه من بعده . ولم يرتضوا بتلك الأقوال ولم يعبأوا بها (٤) .

أقول : لا يخفى أنّ هذا هو مذهب الإماميّة في هذه الاُمّة ، كما سيأتي

__________________

(١) هو عبدالسلام بن محمّد بن عبدالوهّاب ، يكنّى أبا هاشم الجبّائي ، المتكلّم المشهور ، كان هو وأبوه أبو عليّ الجبّائي من كبار المعتزلة ، سكن بغداد إلى أن مات ، ولد سنة ٢٧٧ هـ ، ومات سنة ٣٢١ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم ٢٢٢ ، تاريخ بغداد ١١ : ٥٥ / ٥٧٣٥ ، وفيات الأعيان ٣ : ١٨٣ / ٣٨٣ ، سير أعلام النبلاء ١٥ : ٦٣ / ٣٢ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٥ .

(٤) انظر : الفصل في الملل والأهواء ١ : ٤٨ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٥ .

٤٢٠