ضياء العالمين - المقدمة

ضياء العالمين - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

١

٢

٣

٤

المقدمة

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

الحمد للّه‏ كما هو أهله أن يحمد ، وصلّى اللّه‏ على عبده المنتجب ورسوله المصطفى ، الذي غمسه في بحر الفضيلة ، واستأمنه على رسالته الخاتمة ، وبعثه إلى آخر الأُمم نبيّاً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه‏ بإذنه وسراجاً منيراً ، اتّخذ الحكمة منهجاً والنصيحة سبيلاً وطريقاً ، فبالغ في النصيحة وبذل غاية الجهد في سبيل انقاذ خلق اللّه‏ من غياهب الضلالة ، وإخراجهم من ظلمات الغيّ وحيرة الجهالة ، محمّد صلّى اللّه‏ عليه وعلى آله الطاهرين الغرّ الميامين ، الذين اختارهم اللّه‏ خلفاء لرسوله ، وأئمّةً لعباده ، وأركاناً لبلاده ، وأبواباً لرحمته ، وخزّاناً لعلمه ، وترجماناً لوحيه ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .

قبيل رحيل رسول الرحمة وينبوع الحكمة نزل جبرئيل الأمين إلى الرسول الكريم ليخبره بأن يستغفر لأهل البقيع ؛ ليكون هذا إبلاغاً وإنذاراً للأُمّة الإسلاميّة ، فقد قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً أهل البقيع : « السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل‏المظلم يتبع أوّلها آخرها . . » (١) .

__________________

(١) انظره في : الإرشاد للمفيد ١ : ١٨١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

٥

فقد ضاق الوقت وآن الرحيل فلابدّ ـ وهو الحكيم البليغ ـ أن يجمع كلّ معنىً ممكن مطلوب في كلّ حرف منه ملفوظ ، فلو نظرت إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ممّا فيه الناس» تراه يرى الفتن أمراً واقعاً ، وقد انغمس الناس فيها وصدق الرسول الأمين فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، فلو عطفت النظر إلى تاريخ الأُمة الإسلامية منذ رحيل رسولها وإلى يومنا هذا لرأيت ما يجعل الولدان شيباً ، ويكفيك يوم الحرّة ، وقتل مالك بن نويرة ، وقتل سبط الرسول ، وغصب ابنته نحلتها من أبيها ، ولو أحصيت ما صنعته الفتن في بلاد المسلمين من هتك الأعراض وسفك الدماء سواء التي بينهم أو فتن مغول وتتر الأمس واليوم ، لكانت النتيجة عالماً يضاهي عالمنا هذا أبحره دماً ، جباله جماجم ، سهوله اشلاءً مقطعة .

ثمّ لو أحصيت المذاهب وما فعله أصحابها من التلاعب بالدين لرأيت العجب العجاب ، فلو علمت أنّ عدد المذاهب والفِرق التي حصلت يتجاوز عددها عدد القرى والقصبات في بلاد المسلمين ، لكان يكفي لأن تقف وتتساءل كيف يترك رسول الرحمة أمّة مثل هذه وهو يرى رأي العين أنّها في فتن كهذه ـ ياليتها كانت كقطع الليل المظلم ـ بلا نصيحة وبلا مأمن ؟ ! ليس هذا فعل من يقول : «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الاخلاق» ، ومن هو مبعوث رحمة للعالمين ، كيف ولا يرضى بهذا ذو أدنى وجدان إنساني !

نعم ، لا يفعل هذا رسول الرحمة ، وقد تحمّل ما تحمّل في سبيل إنقاذها حتّى قال : «ما أُوذي نبي بمثل ما أُوذيت» (١) ، بل أشار إلى الركن

__________________

١٠ : ١٨٣ و ١٣ : ٢٧ ، مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٤٨٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ٥٦ .

(١) المناقب لابن شهر آشوب ٣ : ٢٨٦ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٥٦ ، كشف الغمّة ٣ : ٣٤٦ ، جواهر المطالب ٢ : ٣٢٠ .

٦

الأمين والملاذ الحصين علي باب حكمة ربّ العالمين (١) ، وأولاده الأئمّة المعصومين ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏ وعترتي أهل بيتي» ، وقال : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (٢) ، وهذا حديث متّفق عليه عند جميع المسلمين ، ولا خلاف فيه .

إنّما حصل الخلاف في تفسيره ، والمراد منه وإن كان واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار ، لكن من في قلبه مرض يتّبع الهوى فيضلّ عن سبيل الحق . ومن هنا بدأ الحوار وتحمّل الشيعة وأئمّتهم ما تحمّلوا في سبيل إرشاد العباد إلى صواب الكلام وطريق الرشاد .

الحوار طريقة الأنبياء والصالحين ، بل طريقة ربّ العالمين فقد بدأ اللّه‏ هذه الطريقة حين خلق آدم ، وتساؤل الملائكة عن حكمة هذا الخلق ، والاستخلاف في الأرض ، وما يمتاز هذا المخلوق عنهم وهم يسبّحون اللّه‏ ويحمدوه ويقدّسوه ، ومثل هذا يسفك الدماء ويهتك الأعراض ؟

ثمّ جعل سبحانه هذه الطريقة هي طريقة أنبيائه في دعوتهم عباده إلى الصواب وجادة الحق ، واتّخذها من تبعهم بحقّ وإحسان .

فظاهرة الحوار هذه تجدها بين المرشد الناصح العالم بالحال ، وبين الجاهل محاولة من العالِم لإنقاذ الجاهل من جهله ، فترى الأنبياء والصالحين يبذلون قصارى جهودهم في سبيل هداية عباد اللّه‏ وإرشادهم ، فالجهل بأمر

__________________

(١) كما في : الإقبال لابن طاوُس ٣ : ٣٤١ ، المزار للشهيد الأوّل : ١٤٣ ، بحار الأنوار ٨٩ : ٣٣٦ .

(٢) انظره في : بصائر الدرجات : ٤٣٣ ، الإمامة والتبصرة : ١٥٠ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٠ ، مسند أحمد ٣ : ٣٨٨/١٠٧٢٠ و٣٩٣/١٠٧٤٧ و٤٠٨/١٠٨٢٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٣٠ .

٧

يثير هذه الظاهرة بين العالم والجاهل .

ومن أهم المسائل التي كثر حولها الحوار هي مسألة الإمامة ، فقد تعدّدت فيها المذاهب ، واختلفت حولها الآراء ، وذهب كلّ قوم بها إلى حيث يشاءُون ، وليس من الغريب ذلك فقد اتّبعوا أهواءهم ورغباتهم وتركوا الوحي وأهله جانباً ، فتعدّدت آراؤهم لتعدد أهوائهم والفرع تابع لأصله .

فالعامة من الناس عذرهم جهلهم ، فهم يرون أنّ الإمامة زعامة وسلطان وحكم ، ولكن هذا فهم خاطئ للإمامة ، وخلط بين وظائف الإمام وما عليه من المسؤوليات وبين الإمامة نفسها ، حصل من الواقع الذي يعيشه المسلم ، فكل من تصدّى للحكم جعل نفسه إماماً فأوحى هذا إلى العوام بأنّ الإمامة هي السلطان .

وأما الخاصّة من الناس فقد عرّفها بعضهم بأنّها : رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم (١) ، أو : أنّها الرئاسة العامة في أمر الدين والدنيا لشخص من الأشخاص (٢) ، وأمثال هذه التعاريف وجميعها تدور حول هذا المحور ، لكن لم يوضّحوا ما هي هذه الرئاسة والخلافة ولمن وممّن تكون ، فتركوها على عهدة القارئ وفهمه اللّغوي ، وكأنّهم جهلوا ـ بل تجاهلوا ـ أنّها منزلة يختصّ اللّه‏ بها خلّص عباده . نعم من شؤون الإمامة الحكم والرئاسة .

ولأجل معرفة موقف المدرسة الإمامية من مسألة الإمامة نستعرض هذا النص المروي فيالكافي عن الإمام الرضا عليه‌السلام .

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ : ٢٣٢ .

(٢) شرح المقاصد ٥ : ٢٣٤ .

٨

وقبل استعراض النص هناك عدّة أسئلة نترك الجواب عنها للنصّ . فالسؤال الأوّل سؤال موضوعي ، وهو : هل يحقّ لنا الكلام في هذا المجال ؟ ! ومن المعلوم الكلام إنّما يصحّ في منطقه الفراغ سواء كان تشريعياً أو سياسياً أو غير ذلك . ثمّ ما هي الإمامة ؟ ومن هو الإمام ؟ وما هي الشروط المطلوب توفّرها في الإمام ؟ وهل الإمامة منحصرة في طائفة معيّنة ؟ وما هي وظائف الإمام وغيرها من قبيل مصدر علم الإمام عليه‌السلام و . . .

وفي جانب الرعية هل يمكنهم معرفة الإمام ؟ وهل يحقّ لهم ويصحّ منهم الاختيار للإمام وأسئلة اُخرى .

أمّا النص : فقد روي في الكافي عن عبدالعزيز بن مسلم ، قال : كنّا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيه فتبسّم عليه‌السلام ، ثمّ قال : «ياعبدالعزيز ! جهل القوم وخدعوا عن آرائهم» ، فقد وضّح عليه‌السلام منشأ الاختلاف والسبب في تعدّد الآراء ، وبيّن أنّه لا داعي للرأي ولا مجال للقول ، فقال عليه‌السلام : «إنّ اللّه‏ عزوجل لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً فقال عزوجل : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (١) » .

ثمّ بيّن عليه‌السلام كيفية حصول تمام الدين وبمَ كمل ، حيث قال عليه‌السلام : «وأنزل في حجّة الوداع ، وهي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٣٨ .

٩

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (١) ، وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بيّن لأُمّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم عليّاً علماً وإماماً وما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللّه‏ عزّوجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه‏ ، ومن ردّ كتاب اللّه‏ فهو كافر به» .

الإمامة إذَنْ كمال الدين ، فكيف يُعقل أن يدع اللّه‏ من لا معرفة له بالدين ولا اطّلاع له على غيب أن يكمل دينه ! ؟ هذه المعلومة الاُولى عن الإمامة ، أمّا المعلومة الثانية فهي إنّ الإمامة منزلة يخصّ اللّه‏ فيها من يشاء : «إنّ الإمامة خصّ اللّه‏ عزّوجلّ بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوّة ، والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره ، فقال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (٢) ، فقال الخليل سروراً بها : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) ، قال اللّه‏ تبارك وتعالى : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثمّ أكرمه اللّه‏ تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣) فلم تزل في ذريّته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً» .

فمن هنا يتّضح أنّها خاصة باللّه‏ تعالى يورثها من يشاء من عباده فليس للعباد التدخل ومنحها حسب أهوائهم .

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٣ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٢٤ .

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٧٣ .

١٠

المعلومة الثالثة عن الإمامة ، هي : انحصارها في رسول اللّه‏ وأهل بيته حتّى ورّثها اللّه‏ تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال جلّ وتعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكانت له خاصة فقلّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام بأمر اللّه‏ تعالى على اسم ما فرض اللّه‏ ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم اللّه‏ العلم والإيمان بقوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢) ، فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة ؛ إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أين يختار هؤلاء الجهّال ؟ !

أمّا المعلومة الرابعة عن الإمامة ـ وبها إتمام بيان معنى ومنزلة الإمامة ـ :

إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء . إنّ الإمامة خلافة اللّه‏ وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام.

إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين .

إنّ الإمامة أُسس الإسلام النامي ، وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحجّ ، والجهاد ، وتوفير الفيء ، والصدقات ، وإمضاء الحدود ، والأحكام ومنع الثغور والأطراف» .

بعد معرفة حقيقة الإمامة ، يتّضح الجواب عن سؤال قد يطرح نفسه ، وهو : لماذا لا يحقّ لنا التدخّل في هذه المسألة ، وأنّها ليست من مقولة حق تقرير المصير وغير هذا من الجمل البرّاقة ؟

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٦٨ .

(٢) سورة الروم ٣٠ : ٥٦ .

١١

ولأجل إيضاح المسألة أكثر انتقل الإمام عليه‌السلام لبيان صفات الإمام ومن هو ، فقال : «الإمام يحلّ حلال اللّه‏ ، ويحرّم حرام اللّه‏ ، ويقيم حدود اللّه‏ ، ويذبّ عن دين اللّه‏ ، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجّة البالغة ، الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار .

الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار .

الإمام الماء العذب على الظماء والدالّ على الهدى والمنجي من الردى .

الإمام النار على اليفاع (١) الحار لمن اصطلى به ، والدليل في المهالك ، من فارقه فهالك .

الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة ، والأرض البسيطة ، والعين الغزيرة ، والغدير والروضة .

الإمام الأنيس الرفيق ، والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، والأُم البرَّة بالولد الصغير ، ومفزع العباد في الداهية النآد .

الإمام أمين اللّه‏ في خلقه ، وحجّته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى اللّه‏ والذابُّ عن حرم اللّه‏ .

الإمام المطهّر من الذنوب ، والمبرأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين ، وعزّ المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين .

__________________

(١) اليَفَاعُ : ما ارتفع من الأرض . الصحاح للجوهري ٣ : ٦١٢ «يفع» .

١٢

الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضِّل الوهاب» .

بعد بيان هذه الصفات التي من الواضح أنّها ليست حاصلة بالتعلم والاكتساب ، بل هي بإرادة اللّه‏ تعالى فهو أعلم حيث يجعل رسالته سأل عليه‌السلام أنّه هل يمكن لأحد أن يشخص تواجد واجتماع هذه الصفات في شخص «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره هيهات هيهات ! ضلّت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء ، وتحيّرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألبَّاء ، وكلّت الشعراء ، وعجزت الأُدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله ، وأقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكُلّه ، أو ينعت بكُنهه ، أو يفهم شيء من أمره ، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف وأنّى ؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا ؟ ! أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كذبتهم واللّه‏ أنفسهم ، ومنَّتهم الأباطيل ، فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً تزِّلُّ عنه إلى الحضيض أقدامهم».

بعد بيان أنّ المسألة سالبة بانتفاء الموضوع ولأجل إقناع الطرف المقابل ، غضّ الإمام عليه‌السلامالنظر عن هذا الجواب ، وأخذ ببيان آخر وهو : بيان أطراف الموضوع ، فوضّح الإمامة ما هي ، ووضّح صفات الإمام ، أي : من هو الإمام ، وبيّن أنّ الإمامة من الأُمور الخاصة به ، ومن المعلوم معنى الاختصاص : هو انحصار المعرفة به ، كما سبق بيانه ، فلا يجوز لغيره

١٣

الجاهل بالموضوع العديم المعرفة التدخّل .

جاء دور مسألة حق تقرير المصير ، وحق الاختيار ، والجواب واضح وهو : كيف يختار الجاهل ، فالاختيار فرع معرفة الأطراف حتّى يختار أحدها ، قال عليه‌السلام : «هل يعرفون قدر الإمامة ومحلَّها من الأُمّة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟ ! إنّ الإمامة أجلّ قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلا مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم» .

وقال أيضاً : «راموا إمامة الإمام بعقول حائرة جائرة ناقصة وآراء مضلّةٍ فلم يزدادوا منه إلاّ بُعْداً ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (١) .

ولقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً ، وضلّوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ، رغبوا عن اختيار اللّه‏ واختيار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) ، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٣) وقال :( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏* أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ *‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ *‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ *‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٠ .

(٢) سورة القصص ٢٨ : ٦٨ .

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦ .

١٤

فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) (١) ، وقال عزوجل : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (٢) ، أم : ( طُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) (٣) ، أم : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *‏ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ *‏ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٤) ، أم : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) (٥) ، بل هو : ( فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (٦) ، فكيف لهم باختيار الإمام ؟ ! والإمام عالم لايجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوصٌ بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول والرضا من اللّه‏ عزّوجلّ ، شرف الأشراف والفرع من عبدمناف ، نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر اللّه‏ عزّوجلّ ، ناصح لعباد اللّه‏ ، حافظ لدين اللّه‏» .

ولزيادة الاقناع ، وإتمام الحجّة في الجواب ، وضّح عليه‌السلام مصدر علم الإمام ، وأنّه معصوم بتسديد من اللّه‏ تعالى ، ومن المعلوم أنّ شمول التسديد من اللّه‏ لعبدٍ والعصمة له وتعليمه إنّما يكون باختيار اللّه‏ واصطفائه ، وبهذا تمّ

__________________

(١) سورة القلم ٦٨ : ٣٧ ـ ٤٢ .

(٢) سورة محمّد ٤٧ : ٢٤ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ٧٨ .

(٤) سورة الأنفال ٨ : ٢١ ـ ٢٣ .

(٥) سورة البقرة ٢ : ٩٣ .

(٦) سورة الحديد ٥٧ : ٢١ .

١٥

الاختيار ، فماذا يختار العباد ؟ ! فالمؤمن ليس له حقّ الاختيار بعد اختيار اللّه‏ تعالى وهذا أمر نصّ عليه القرآن الكريم : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) .

«إنّ الأنبياء والأئمّة صلوات اللّه‏ عليهم يوفّقهم اللّه‏ ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) ، وقوله تبارك وتعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) (٣) ، وقوله في طالوت : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٤) ، وقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :( أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (٥) ، وقال في الأئمّة من أهل بيت نبيّه وعترته وذرّيّته صلوات اللّه‏ عليهم : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا *‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ) (٦) .

وإنّ العبد إذا اختاره اللّه‏ عزوجل لأُمور عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعي بعده بجواب

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦ .

(٢) سورة يونس ١٠ : ٣٥ .

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٦٩ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ٢٤٧ .

(٥) سورة النساء ٤ : ١١٣ .

(٦) سورة النساء ٤ : ٥٣ ـ ٥٤ .

١٦

ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد ، قد أمِنَ من الخطايا والزّلل والعثار يخصّه اللّه‏ بذلك ؛ ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه وذلك فضل اللّه‏ يؤتيه من يشاء من عباده واللّه‏ ذو الفضل العظيم .

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه ؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّمونه ؟ تعدّوا ـ وبيت اللّه‏ ـ الحقّ ونبذوا كتاب اللّه‏ وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون وفي كتاب اللّه‏ الهدى والشفاء ، فنبذوه واتّبعوا أهواءهم فذمّهم اللّه‏ ومقتهم وأتعسهم ، فقال جلّ وتعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١) وقال : ( فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (٢) ، وقال : ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (٣) » (٤) .

فمن خلال هذا الحديث نعرف أنّ الإمامة مسؤولية كبرى تعطى من قِبَل اللّه‏ تعالى بعد الاختبار والكمال ، فالإمام قدوة للمجتمع والقاعدة الإيمانية المتجسّدة التي يتحرك المجتمع منها ، فهو قدوة الناس في أفعاله وأقواله ، بحيث يمثل القاعدة التي ينطلق من خلالها الناس إلى القيم التي يؤمنون بها ، لتكون حياته الوجه الأمثل للقيمة الروحية للحياة ، فهي تختلف عن النبوّة في مفهومها ؛ فإنّ النبوّة تعتبر منطلقاً للدعوة على أساس الوحي والرسالة ، بينما تعتبر الإمامة قاعدة للاقتداء والاتّباع على أساس الطاقات الفكرية والروحية والعلمية التي يملكها ، فكأنّ النبوّة صفة تأتي

__________________

(١) سورة القصص ٨ : ٥٠ .

(٢) سورة محمّد ٤٧ : ٨ .

(٣) سورة غافر ٤٠ : ٣٥ .

(٤) الكافي ١ : ١٥٤/١ (باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته) .

١٧

النبيّ من الخارج ، أمّا الإمامة فهي صفة ترتبط بالذات من خلال المعاني الكامنة في الداخل ، وبعبارة اُخرى : النبوّة تمثّل بداية الدعوة ، فالنبيّ يستلم الشريعة من اللّه‏ تعالى عن طريق الوحي فيبلّغها الناس ، ويغرسها في شخص مختار من قِبَل اللّه‏ تعالى ، وبكمال الشريعة من اللّه‏ تعالى تكمل في ذلك الشخص ، فتكون ذاته تجسّداً لتلك الشريعة وانعكاساً لها في المجتمع ، فلابدّ من مؤهّلات من حيث العلم والإيمان والعمل والتاريخ الذي تحمله الشخصية لتحمّل مسؤولية الإمامة ، فالإمامة كمال ولا يناسبها إلاّ الكامل ، والظالم لنفسه فيه شائبة تمنعه من تحمّل مثل هذه المسؤولية .

نعم ، سعيد الذات بنفسه أهل لها دون من يحتاج إلى الغير لتحصيل هذه السعادة ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ) (١) .

ومن هنا يتّضح عدم إمكان إخضاع الإمامة للشورى أو اختيار أهل العقد والحلّ أو غير ذلك من الأُمور التي ذكرها من تعرّض لمسألة الإمامة ، بل هي بالنصّ من اللّه‏ تعالى العالم بكمُل الناس لا غير ، ومسألة النصّ سنّة اللّه‏ سبحانه وتعالى في الأُمم السابقة .

هذا ، بالإضافة إلى أنّ القوم أنفسهم تدور تعاريفهم للإمامة بأنّها خلافة الرسول وكون الإمام مَنْ يخلّف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فهي استخلاف شخص لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهنا يأتي السؤال ، وهو : مَنْ له حقّ جَعْل الخلافة ؟ هل الناس يعطون الخلافة لشخصٍ مّا ، ليكون هو الرابط بينهم وبين اللّه‏ تعالى ، كيف عرفوا رضا اللّه‏ تعالى لأن يكون هذا الشخص مبلّغاً

__________________

(١) سورة يونس ١٠ : ٣٥ .

١٨

لرسالته ؟ ما هو مائز هذا عن غيره ؟ فإنّ اللّه‏ سبحانه لا يُطلع على‏علمه وأحكامه إلاّ من ارتضى من رسول ، فلابدّ من دليل يدلّ على رضا اللّه‏ تعالى له ، والتزكية لا تجوز من أحد إلاّ من اللّه‏ تعالى ، ولا سبيل لمعرفة التزكية إلاّ النصّ ، وهو لا يرد إلاّ لمن يرضاه اللّه‏ تعالى ، فحصل الدور ولا منجى من الدور إلاّ الوصاية من رسول اللّه‏ تعالى .

هذا ، ومن الواضح أنّه لا يصح لأحد أن يجعل خليفة لأحد إلاّ إذا كان ذا علاقة بالموضوع ، وصاحب العلاقة هو اللّه‏ تعالى فقط ؛ لأنّ الرسالة رسالته والرسول رسوله ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ) (١) فهو صاحب حقّ الاستخلاف ، وله وحده لا شريك له حقّ جعل الخليفة .

هذا بالإضافة إلى ضرورة اتّصال الخليفة بنفس المصدر الذي كان المستخلف متّصلاً به ، حتّى يمكنه مواصلة المسير والاطّلاع على أحكام وأسرار الرسالة .

ثمّ إنّ الوصول إلى مرحلة بحيث يهتدى ويقتدى به يحتاج إلى دليل وشاهد ، وما هو الشاهد وأين الدليل ؟ !

ولا يمكن جعل الإمامة لشخص وجعل الإمام والحاكم شخصاً آخَر ؛ فإنّ هذا عزل للدين عن عباد اللّه‏ تعالى ، وكون المسلمين جديدي عهد بالإسلام لا يطيقون العدل ، فلابدّ من عزلهم عن الدين كلام لا محصّل له ، فهم في حين عدم إسلامهم لم يعزلوا ، كيف يعزلوا بعد إسلامهم ؟ !

فلا مناص من الأخذ بنظرية الشيعة الإماميّة في مسألة الإمامة ، وهي

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٤٠ .

١٩

النصّ والوصاية من رسول اللّه‏ تعالى لا غير ، بالاضافة أيضاً أنّ مقتضى العبودية أن لا يتكلّم العبد إلاّ بإذنٍ من مولاه ، ولا يفعل شيئاً إلاّ بالإذن الصريح من مولاه ، خصوصاً إذا كان الأمر ليس من الأُمور التي تخصّهم حتّى يكون حلّه بالشورى ، فأمرهم شورى بينهم ، لا الأمر الذي هو من شؤون اللّه‏ تعالى ، فكيف يتكلمون فيه ؟ !

ومن جملة اختلاف المسلمين في مسألة الإمامة : الاختلاف في استحقاق الإمامة بماذا يكون ، فهنا عدّة أقوال ، قول : إنّها بالشورى ، وقول : إنّها بالنصّ ، وقول : إنّها بالقربى والوراثة ، وقول : إنّها بالطلب والخروج بالسيف و . . .

وأيضاً الاختلاف في جواز وجود إمامين أو أكثر في وقت واحد ، أو لا يجوز ذلك ، وفي صورة الجواز هل يجوز ذلك في بلد واحد أم لا و . . .

ثمّ اختلفوا في إمامة المفضول هل تجوز أم لا ؟ فبعض قال : نعم ، وبعض قال : لا يجوز ذلك ولا يستحقّها إلاّ الفاضل .

وجرى الاختلاف في أنّ الإمامة في أيّ طائفة من الناس تكون ، فبعض قال : لا تنحصر في طائفة ، بل تجوز في جميع الناس ، فمن تتوفّر فيه شروط الاستحقاق يستحقّها .

وبعض قال : إنّها لأكرم الخلق وخيرهم عند اللّه‏ تعالى .

وذهبت طائفة إلى أنّها منحصرة في قريش ما وجد فيهم من يصلح لها ، وإن لم يوجد فيهم الصالح لها جازت في الفضلاء من سائر الناس .

وقال قوم : إنّها منحصرة في قريش ولا تخرج من قريش ولن تخلو قريش من الصالح للإمامة .

وذهب بعض إلى أنّ الأعجمي أولى بها من العربي. وقول: إنّها للعباس

٢٠