ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وقد جعل اللّه‏ للعلم أهلاً ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .

وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٢) .

وبقوله : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٣) .

وبقوله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٤) .

وبقوله : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (٥) ، والبيوت هي بيوت العلم الّتي استودعها الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل الاصطفاء ، وعهودهم ، وحدودهم ، وشرائعهم ، وسننهم ، ومعالم دينهم مردود غير مقبول ، وأهله بمحل كفر وإن شملتهم صفة الإيمان ؛ ألم تسمع قول اللّه‏ تعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ) (٦) ( وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٧) .

فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه باللّه‏ مع دفعه حقّ أوليائه ، وحبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين .

وقد قال اللّه‏ عزوجل : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٨) ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذا الموضع هم المؤتمنون

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٩ .

(٢) سورة النساء ٤ : ٨٣ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ١١٩ .

(٤) سورة آل عمران ٣ : ٧ .

(٥) سورة البقرة ٢ : ١٨٩ .

(٦) سورة التوبة ٩ : ٥٤ .

(٧) سورة التوبة ٩ : ١٢٥ .

(٨) سورة المائدة ٥ : ٥٦ .

٤١

على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر .

وليس كلّ من أقرّ من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً ، إنّ المنافقين كانوا يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه‏ ، وأنّ محمّداً رسول اللّه‏ ، ويدفعون عهد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما عهد به من دين اللّه‏ وعزائمه وبراهين نبوّته إلى وصيّه ، ويضمرون من الكراهة لذلك والنقض لما أبرمه عند إمكان الأمر لهم فيما قد بيّنه اللّه‏ لنبيّه بقوله : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١) .

وبقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٢) .

ومثل قوله : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) (٣) ، أي : لتسلكنّ سُبُلَ من كان قبلكم من الاُمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء ، وهذا كثير في كتاب اللّه‏ [تعالى ] .

وقد شقّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يؤول إليه عاقبة أمرهم ، واطّلاع اللّه‏ إيّاه على بوارهم ، فأوحى اللّه‏ عزوجل إليه بقوله : ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) (٤) ، ( فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (٥) » (٦) الخبر ، ومعناه واضح .

وستأتي أخبار من كتب القوم في تفسير بعض هذه الآيات بما فسّره

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٦٥ .

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤ .

(٣) سورة الانشقاق ٨٤ : ١٩ .

(٤) سورة فاطر ٣٥ : ٨ .

(٥) سورة المائدة ٥ : ٦٨ .

(٦) الاحتجاج ١ : ٥٨٠ ـ ٥٨٤ / ١٣٧ ، بحار الأنوار ٦٨ : ٢٦٤ / ٢٣ .

٤٢

الإمام عليه‌السلام في الفصل التاسع من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ، فتأمّل .

التاسع : ما نقلوه أيضاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في روايات نحن نجمعها ونذكرها باختصار بعض منها ، ولنقدّم قوله المشهور المسلّم وروده :

قال عليه‌السلام : «أيّها الناس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو سألتموني عن أيّة آية في ليل اُنزلت أو في نهار اُنزلت ، مكّيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها ، لأنبأتكم (١) ، وقد أقرأنيها رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلّمني تأويلها ، فواللّه‏ ، لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة» (٢) .

سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين . . . ولولا آية في كتاب اللّه‏ لأخبرتكم بما كان ، وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) .

أما واللّه‏ ، لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتّى ينطق كلّ كتاب من كتب اللّه‏ فيقول : صدق عليّ عليه‌السلام لقد أفتاكم بما أنزل اللّه‏ فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما أنزل اللّه‏ فيه ؟ » (٤) .

وسيأتي مثله منقولاً من كتب القوم في الفصل الأوّل من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل مع مؤيّدات كثيرة .

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٤٧ ـ ٤٨ ، وفيه : لأخبرتكم ، بدل : لأنبأتكم .

(٢) الاحتجاج ١ : ٦١٠ ، ٦١٧ ، ٦١٨ / ١٣٨ ، ١٤٠ ، ١٤١ .

(٣) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٤) الاحتجاج ١ : ٦١٠ / ١٣٨ . وفيه بعضه .

٤٣

ثمّ قال بعد الجواب عن مسائل كثيرة غريبة سألوها : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنّة ، وهي التي اتّبعت يوشع بن نون وصيّ موسى عليه‌السلام .

وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، إحدى وسبعين فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت شمعون وصيّ عيسى عليه‌السلام .

وتفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت وصيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » وضرب بيده على صَدره ، ثمّ قال : «ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين فرقة كلّها تنتحل مودّتي ومحَبّتي ، واحدة منها في الجنّة ، وهي النمط الأوسط ، واثنتا عشرة في النار» (١) .

وسيأتي أمثاله من كتب القوم في الفصل الرابع من الباب الرابع من المقدّمة .

ثمّ قال عليه‌السلام : «أيّها الناس ، عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته ، فإنّ العلم الذي هبط به آدم عليه‌السلام وجميع ما فضّلت به النبيّون إلى خاتم النبيّين في عترة نبيّكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنّى يُتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟

يا من نُسخ من أصلاب أصحاب السفينة ! هذه مثلها فيكم فاركبوها ، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو في هذه من دخلها ، أنا رهين بذلك قسماً حقّاً وما أنا من المتكلّفين ، والويل لِمَن تخلّف ، ثمّ الويل لِمَن تخلّف .

أما بلغكم ما قال فيكم نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقول في حجّة الوداع : إنّي

__________________

(١) كتاب سُليم بن قيس ٢ : ٨٠٣ ، الأمالي للطوسي : ٥٢٣ / ١١٥٩ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٥ / ١٤٥ .

٤٤

تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا (١) : كتاب اللّه‏ وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ؟ ألا هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح اُجاج فاجتنبوا» (٢) .

ثمّ قال عليه‌السلام : «إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه‏ تعالى رجلان : رجل وكله اللّه‏ إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف (٣) بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هَدْي (٤) من كان قبله ، مضلّ لِمَن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .

ورجل قَمش (٥) جهلاً ، فوضع في جهّال الاُمّة قد سمّاه أشباه الرجال عالماً وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده ، كفعله بمن كان قبله ، فإن نزلت به إحدى المُبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ، ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ؟ جاهل خبّاط (٦) جهالات ،

__________________

(١) في «م» زيادة : أبداً .

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣٢ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٤ / ١٤٤ .

(٣) كذا في النسخ ، وفي نهج البلاغة والاحتجاج : مشغوف . وكلاهما متقارب المعنى . الشعَفُ محرّكة : شدّة الحبّ . انظر : صحاح اللغة ٤ : ١٣٨١ و١٣٨٢ ، مجمع البحرين ٥ : ٧٥ و٧٦ ، لسان العرب ٩ : ١٧٧ و١٧٩ .

(٤) الَهدْيُ : السيرة والهيئة والطريقة .

انظر : النهاية لابن الأثير ٥ : ٢٥٣ .

(٥) القَمش : جمع الشيء من هنا ومن هنا .

انظر : صحاح اللغة ٣ : ١٠١٦ ، ومجمع البحرين ٤ : ١٥١ .

(٦) الخبط : حركة على غير النحو الطبيعي وعلى غير اتّساق .

انظر : النهاية لابن الأثير ٢ : ٨ ، ومجمع البحرين ٤ : ٢٤٤ .

٤٥

غاشٍ (١) ركّاب عَشَوات ، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره ، وإن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه ؛ كيلا يقال : لا يعلم» الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام : «إلى اللّه‏ أشكو من معشر يعيشون جهّالاً ويموتون ضلاّلاً» (٢) .

وقال عليه‌السلام أيضاً : «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ! ونبيّهم واحد ! وكتابهم واحد ! أفأمرهم اللّه‏ سُبحانه بالاختلاف فأطاعوه ! أم نهاهم عنه فعصوه ! أم أنزل اللّه‏ سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ! أم أنزل اللّه‏ سبحانه ديناً تامّاً فَقَصَّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه ! واللّه‏ سُبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٣) وفيه تبيان لكلّ شيء ، وذكر ( عزوجل ) أنّ الكتاب يُصدّق بعضه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سُبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٤) . فإنّ القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تنكشف الظلمات إلاّ به» (٥) .

ثمّ قال عليه‌السلام : «وقد قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم اللّه‏ امرأً علم حقّاً فقال

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي نسخة «ش» وفي نهج البلاغة : عاش .

(٢) نهج البلاغة : ٥٩ الخطبة ١٧ ، الكافي ١ : ٤٤ / ٦ (باب البدع والرأي والمقاييس) بتفاوت ، نثر الدر لأبي سعد الآبي ١ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، الاحتجاج ١ : ٦٢١ / ١٤٣ بتفاوت .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٣٨ .

(٤) سورة النساء ٤ : ٨٢ .

(٥) نهج البلاغة : ٦٠ الخطبة ١٨ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٠ / ١٤٢ .

٤٦

فغنم ، أو سكت فسلم ، نحن أهل البيت نقول : إنّ الأئمّة منّا ، وإنّ الخلافة لا تصلح إلاّ فينا ، وإنّ اللّه‏ تبارك وتعالى جعلنا أهلها في كتابه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره ، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) .

وقال عليه‌السلام : «اللّهمّ إنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز (٢) كلّه ولا ينقطع موادّه ، وإنّه لابدّ لك من حجج في أرضك حجّة بعد حجّة على خلقك ، يهدونهم إلى دينك ويعلّمونهم علمك ؛ كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ، ظاهر ليس بالمطاع ، أو مكتتم يترقّب ، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم ، مبثوث علمهم ، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، اُولئك الأقلّون عدداً الأعظمون عند اللّه‏ أجراً» (٣) .

والأخبار عنه عليه‌السلام من هذا القبيل كثيرة ، كفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسنذكر كثيراً منها في مواضعها إن شاء اللّه‏ تعالى .

وفي روايات عن سُليم بن قيس (٤) ، وكذا في كتاب سليم أنّه قال

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٥٦ / ١٥٥ ، في ضمن الحديث ص ٦٢ .

(٢) يأرِز : ينضمَّ إلى بعضه ويجتمع ، ولا ينبسط .

انظر : النهاية لابن الأثير ١ : ٣٧ ـ أرز ـ .

(٣) الكافي ١ : ٢٧٤ / ١٣ (باب في الغيبة) ، الغيبة للنعماني : ١٣٦ / ٢ ، بحار الأنوار ٢٣ : ٥٤ / ١١٦ بتقديم وتأخير وتفاوت يسير .

(٤) سُليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي ، يكنّى أبا صادق ، عدّوه من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين والسجّاد والباقر عليهم‌السلام ، كان موثّقاً عندهم عليهم‌السلام مقتبساً من علومهم الفيّاضة ، وهو من العلماء المشهورين بين العامّة والخاصّة .

انظر : روضات الجنات ٤ : ٦٥ ، مجمع الرجال ٣ : ١٥٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٥٢ ، أعيان الشيعة ٧ : ٢٩٣ ، الأعلام للزركلي ٣ : ١١٩ .

٤٧

لعليّ عليه‌السلام : إنّي سمعت من سلمان (١) وأبي ذر (٢) والمقداد (٣) شيئاً من تفسير القرآن والرواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنتم تخالفونهم [فيها (٤) ] وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفَتَرى الناس يكذبون متعمّدين على نبيّ اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويفسّرون القرآن بآرائهم ؟

__________________

(١) هو روزبه ، وقيل ماهو ، وقيل مابه بن بهبود بن بدخشان من ولد منوجهر الملك ، وقيل : بهودان بن بودخشان بن موسلا بن فيروز بن مهرك ، كنيته أبو عبداللّه‏ ، وكان إذا قيل له : من أنت ، يقول : أنا سلمان ابن اسلام ، من أعاظم أصحاب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، حاله في علوّ الشأن وجلالة القدر ووفور العلم والتقوى والزهد أشهر من الشمس وأبين من الأمس ، وهو أوّل الأركان الأربعة ، وممّن شهد الصلاة على فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وفي حقّه ورد الحديث المعروف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلمان منّا أهل البيت» ، توفّي سنة ٣٦ هـ .

انظر : اختيار معرفة الرجال ١ : ٢٦ ـ ٩٦ ، نفس الرحمن في فضائل سلمان : ٤ ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : ١٩٨ ، الأعلام للزركلي ٣ : ١١١ .

(٢) هو جُندب بن جُنادة ، وقيل : جُندب بن السكن ، يكنّى أبا ذرّ الغفاري ، أسلم والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، وهو أوّل من حيّا رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحيّة الإسلام ، من أكابر الصحابة جليل القدر عظيم الشأن ، ومن أحد الأركان الأربعة ، يكفي في جلالته الحديث المعروف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذرّ» ، توفّي سنة ٣٢ هـ بالربذة .

انظر : الكنى والألقاب ١ : ٧٠ ، اُسد الغابة ١ : ٣٥٧ / ٨٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ٤٦ / ١٠ ، الأعلام للزركلي ٢ : ١٤٠ .

(٣) هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد الأسود ، قديم الإسلام من السابقين ، من أصحاب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام وثاني الأركان الأربعة ، جلالة قدره ووثاقته بين الخاصّة والعامّة أشهر من الشمس ، وأوّل من أظهر الإسلام بمكة وشهد اُحداً والمشاهد كلّها مع رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توفّي بالمدينة في خلافة عثمان سنة ٣٣ هـ .

انظر : اُسد الغابة ٤ : ٤٧٥ / ٥٠٦٩ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٥٤ /٥٠٥ ، الأعلام للزركلي ٧ : ٢٨٢ .

(٤) أثبتناها من المصدر ، ولعلّها سقطت سهواً .

٤٨

فأقبل عليه‌السلام عليه وقال له : «قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصّاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كُذب على رسول اللّه‏ [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] وهو حيّ ، حتّى قام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كُذب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل : منافق يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّداً ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره اللّه‏ عن المنافقين بما أخبره ، ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزوجل : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبُهتان ، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم اللّه‏ ، فهذا أحد الأربعة.

ورجل : سمع من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً لم يحفظه على وجهه ووَهَم فيه ، ولم يتعمّد كذباً ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو علم المسلمون أنّه وَهم [فيه (٢) ] لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وَهم [فيه (٣) ] لرفضه.

ورجل ثالث : سمع من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو

__________________

(١) سورة المنافقين ٦٣ : ٤ .

(٢ و ٣) أضفناها من المصدر .

٤٩

لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لَرَفضوه .

وآخَر رابعٍ : لم يكذب على رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مبغض للكذب خوفاً من اللّه‏ وتعظيماً لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يَسْهَ ، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ وتجنّب عن المنسوخ ، وعرف العامّ والخاصّ فوضع كلّ شيء موضعه ، وعرف المتشابه والمحكم . فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه .

وقد كان يكون من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام له وجهان : كلام عامّ ، وكلام خاصّ مثل القرآن ، فيشتبه على من لم يعرف ، ولم يدر ما عنى اللّه‏ به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه‏ كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتّى أن كانوا لَيحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يسمعوا .

وقد كنت أدخل على رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم دخلةً وكلّ ليلة دخلةً ، فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ .

وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا أمسكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ،

٥٠

وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وعامّها وخاصّها ، ودعا اللّه‏ أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آيةً من كتاب اللّه‏ ولا علماً أملاه عليّ وكتبته مُنذ دعا اللّه‏ لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه اللّه‏ ، من حلال ، ولا حرام ، ولا أمر ، ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً منذ دعا لي» (١) ، الخبر ، وستأتي بقيّته وشواهده في الفصل الأوّل ، والحادي عشر من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .

ودلالته على ما سبق ، مع الدلالة على بطلان الرأي وضلالة الاختلاف ، وكون حكم اللّه‏ واحداً مأخوذاً من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مودوعاً عند أهله ، وعلى عدم حُسن حال كلّ الصحابة ، ووجود الكذّابين والمنافقين والمتوهّمين فيهم ، وأن لا اعتماد على كلّ ما رووه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرة .

وسيأتي ما يوضّح كلاًّ ممّا ذكره مفصّلاً ، كلّ واحد في محلّه ، فلا تغفل .

العاشر : ما رووه أيضاً عن هشام بن الحكم وغيره ، عن أبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام ، في جواب الزنديق الذي سأله عن مسائل كثيرة ، منها :

إنّه قال : لأيّ علّة خلق اللّه‏ هذا الخلق وهو غير محتاج إليهم ، ولا مضطرّ إلى خلقهم ، ولا يليق به التعبّث بنا ؟

قال عليه‌السلام : «خلقهم لإظهار حكمته ، وإنقاذ علمه ، وإمضاء تدبيره» .

قال : وكيف لم يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه ؟

__________________

(١) كتاب سُليم بن قيس ٢ : ٦٢٠ / ١٠ ، الكافي ١ : ٥٠ / ١ ، باب اختلاف الحديث ، الخصال ١ : ٢٥٥ / ١٣١ ، كتاب الغيبة للنعماني : ٧٥ / ١٠ ، تحف العقول : ١٩٣ بتفاوت يسير .

٥١

قال عليه‌السلام : «إنّ هذه الدار دار ابتلاء ، ومتجر الثواب ، ومكتسب الرحمة ، ملئت آفات ، وطبقت شهوات ؛ ليختبر بها عبيده بالطاعة ، فلا يكون دار عمل دار جزاء» .

قال : فأخبرني عن اللّه‏ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟

قال عليه‌السلام : «لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأنّ الطاعة إذا ما كانت من فعلهم لم تكن جنّة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتجّ عليهم برسله ، وقطع عذرهم بكتبه ؛ ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ، ويستوجبون بطاعتهم [له (١) ] الثواب وبمعصيتهم [ إياه (٢) ] العقاب ، وما نهاهم اللّه‏ عن شيء إلاّ وقد علم أنّهم يطيقون تركه ، ولا أمرهم بشيء إلاّ وقد علم أنّهم يستطيعون فعله ، فمن خلقه اللّه‏ كافراً ، يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة» .

ثمّ قال عليه‌السلام : «وإنّ اللّه‏ عزوجل اختار من ولد آدم اُناساً فطهّر ميلادهم ، وطيّب أبدانهم ، أخرج منهم الأنبياء والرسل ، فهم أزكى فروع آدم ، ما فعل ذلك لأمر استحقّوه من اللّه‏ ، ولكن علم منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً ، فهؤلاء بالطاعة نالوا من اللّه‏ الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ، وسائر الناس سواء ، ألا من اتّقى اللّه‏ أكرمه ، ومن أطاعه أحبّه ، ومن أحبّه لم يعذّبه بالنار» .

ثمّ قال عليه‌السلام أيضاً : «وإنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ولا تكون الحجّة إلاّ من عقب الأنبياء ، ما بعث اللّه‏ نبيّاً قطّ من غير نسل الأنبياء .

__________________

(١و٢) أضفناها من المصدر .

٥٢

وذلك أنّ اللّه‏ شرع لبني آدم طريقاً منيراً ، وأخرج من آدم عليه‌السلام نسلاً طاهراً طيّباً ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة اللّه‏ وخلص الجوهر ، طهروا في الأصلاب ، وحفظوا في الأرحام ، لم يصبهم سفاح الجاهليّة ، ولا شاب أنسابهم ؛ لأنّ اللّه‏ عزوجل جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمن كان خازن علم اللّه‏ ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه ، لا يكون إلاّ بهذه الصفة .

فالحجّة لا يكون إلاّ من نسلهم ، يقوم مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء (١) ما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ، ظهر العدل وذهب الاختلاف والتشاجر واستوى الأمر وأبان الدين وغلب على الشكّ اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به أو نجعوا (٢) له بعد فقد النبيّ ، وما مضى رسول ولا نبيّ قطّ إلاّ وتختلف اُمّته من بعده ، وإنّما كان علّة اختلافهم خلافهم على الحجّة وتركهم إيّاه» .

قال السائل : فما يصنع بالحجّة إذا كان بهذه الصفة ؟

قال : «قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء فيه منفعة الخلق وصلاحهم ، فإن أحدثوا في دين اللّه‏ شيئاً أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم . . .» (٣) ، الخبر .

ودلالته ظاهرة ، ولاسيّما على ذمّ الاختلاف وبطلان العمل بالرأي

__________________

(١) في النسخ : بقائه ، وما أثبتناه من المصدر .

(٢) في «م» : يحقوا ، وكذا في البحار ، وفي الاحتجاج (ولا يطيعوا له أو يحفظوا له) .

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢١٢ / ٢٢٣ ، بحار الأنوار ١٠ : ١٦٤ / ٢ بتقديم وتأخير .

٥٣

والقياس ، وإنّ ذلك إنّما يكـون بعـد كلّ نبيّ وبسبب مخالفة حجج اللّه‏ وترك متابعتهم ، وأنّ اللّه‏ لم يجعل الأرض خالية قطّ عن حجّة عالم بكلّ ما يحتاج إليه الناس ، وأن لا يكون حجّة إلاّ من نسل سابقه من زمان آدم ، وهلّم جرّاً .

وفيه أيضاً دلالة على بطلان الجبر ، وبعض حِكم الخِلقة وأنّ السّبب العمدة إنّما هو الطاعة والعبادة ، وسيأتي أيضاً ما فيه تبيان كلّ ما ذكره عليه‌السلام ، لاسيّما في الباب الرابع من المقدّمة ، فتأمّل .

الحادي عشر : ما رواه جماعة من أصحاب الصادق عليه‌السلام في روايات عَديدة ، منها : النسخة التي كتبها لهم وأمرهم بحفظها وتعاهدها أوقات الصلوات ، ونحن نذكر من كلّ رواية ما يناسب المقام :

قال عليه‌السلام في النسخة التي ذكرناها ـ وقد اختصرناها ـ : «واعلموا أيّتها العصابة المرحومة المفلحة ، أنّ اللّه‏ عزوجل إنّما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عمّا نهى عنه ، فمن اتّبع أمره فقد أطاعه وأدرك كلّ شيء من الخير عنده ، ومن لم ينته عمّا نهى اللّه‏ عنه فقد عصاه ، فإن مات على معصيته أكبّه اللّه‏ على وجهه في النار .

واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه‏ أحد من خلقه شيئاً ، وأنّه ليس بين اللّه‏ وبين أحد من خلقه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلّهم ، إلاّ طاعتهم له ، فاجتهدوا في طاعة اللّه‏ واجتنبوا معاصيه إن سرّكم أن تكونوا مؤمنين حقّاً حقّاً ، وعليكم باتّباع آثار رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده وسنّتهم ، فإنّ من أخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ؛ لأنّهم هم الذين أمر اللّه‏ بطاعتهم وولايتهم .

٥٤

واعلموا أنّه ليس من علم اللّه‏ ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق اللّه‏ في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، وقد أنزل اللّه‏ القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن ولتعلّم القرآن أهلاً ، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم اللّه‏ علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، أغناهم اللّه‏ عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من اللّه‏ أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الذين أمر اللّه‏ هذه الاُمّة بسؤالهم ، وهم الذين مَن سألهم وتتّبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى اللّه‏ بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم اللّه‏ به وجعله عندهم ، إلاّ من سبق عليه في علم اللّه‏ الشقاء ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، ويأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتّى دخلهم الشيطان ؛ لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه‏ كافرين ، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللّه‏ مؤمنين ، وجعلوا ما أحلّ اللّه‏ في كثير من الأمر حراماً وما حرّم اللّه‏ حلالاً فذلك أصل ثمرة أهوائهم .

فواللّه‏ ، إنّ للّه‏ على خلقه أن يطيعوه ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد موته ، فكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافاً لأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكذلك لم يكن ذلك لأحد من الناس بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن زعم أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ برأيه ومقائيسه ، فقد كذب على اللّه‏ وضلّ ضلالاً بعيداً .

واعلموا أنّ من لم يجعله اللّه‏ من أهل صفة الحقّ ، فأُولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وأنّ لشياطين الإنس حيلةً ومكراً وخدائع ووسوسة

٥٥

بعضهم إلى بعض ، يريدون ـ إن استطاعوا ـ أن يردّوا بشبههم أهل الحقّ عمّا أكرمهم اللّه‏ به من النظر في دين اللّه‏ ، الذي لم يجعل اللّه‏ شياطين الإنس من أهله ، إرادة أن يستوي أعداء اللّه‏ وأهل الحقّ في الشكّ والإنكار والتهذيب ، [فيكونون سواء (١) ] كما وصف اللّه‏ تعالى في كتابه من قوله : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) (٢) (٣) .

وقال عليه‌السلام في حديثٍ آخَر : «اعلموا أنّ اللّه‏ تبارك وتعالى إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه .

وكلّ اُمّة قد رفع اللّه‏ عنهم علم الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم عدوّهم حين تولّوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ، وكان أيضاً من نبذهم الكتاب أن ولّوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيّروا عرى الدين ، ثمّ ورثوه في السفه والصبا . . . » الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام :

«فاعرفوا أشباه الأحبار والرهبان الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (٤) فإنّ أشباههم من هذه الاُمّة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرّفوا حدوده ، فهم مع السادة والكبرة ، فإذا تفرّقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنياً وذلك مبلغهم من

__________________

(١) أضفناه من المصدر .

(٢) سورة النساء ٥ : ٨٩ .

(٣) الكافي ٨ : ٢ / ١ (رسالة أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام إلى جماعة الشيعة) بتقديم وتأخير .

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٦ .

٥٦

العلم [ . . .] ، لا يزال يُسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير ، يصبر منهم العلماء على الأذى والتعنيف ، ويعيبون على العلماء بالتكليف . . .» الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام :

«تركهم رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على البيضاء ليلها من نهارها ، لم يظهر فيهم بدعة ولم يبدّل فيهم سنّة ، لا خلاف عندهم ولا اختلاف ، فلمّا غشي الناس ظلمة خطاياهم صاروا إمامين : داعٍ إلى اللّه‏ ، وداعٍ إلى النار ، فعند ذلك نطق الشيطان فعلا صوته على لسانه أوليائه وكثر خيله ورجله ، وشارك في المال والولد من أشركه ، فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنّة ، ونطق أولياء اللّه‏ بالحجّة ، وأخذوا بالكتاب والحكمة ، فتفرّق من ذلك اليوم أهل الحقّ وأهل الباطل . . .» (١) ، الخبر .

وقال عليه‌السلام في حديثٍ آخَر : «إنّ اللّه‏ عزوجل جعل في كلٍّ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون (من ضلّ) (٢) إلى الهدى ويصبرون معهم على الأذى ، يجيبون داعي اللّه‏ ، ويدعون إلى اللّه‏ فأبصروهم رَحمكم اللّه‏ فإنّهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة ، إنّهم يحيون بكتاب اللّه‏ الموتى ، ويبصرون بنور اللّه‏ من العمى ، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضالّ قد هدوه ، يبذلون دماءهم دون هلكة العباد ، ما أحسن أثرهم على العباد وأقبح آثار العباد عليهم» (٣)

وقال عليه‌السلام في حديثٍ آخَر في قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥٢ / ١٦ (رسالة أبي جعفر عليه‌السلام إلى سعد الخير) ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٥٨ / ٢ .

(٢) لم ترد في «م» .

(٣) الكافي ٨ : ٥٦ / ١٧ (رسالة أبي جعفر عليه‌السلام إلى سعد الخير) ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٦٢ / ٣ .

٥٧

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) : «واللّه‏ ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً ، فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٢) .

وقال عليه‌السلام في حديثٍ آخَر : «أبى اللّه‏ أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وجعل لكلّ سبب شرحاً ، وجعل لكلّ شرحٍ علماً ، وجعل لكلّ علمٍ باباً ناطقاً ، عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن» (٣) .

وقال عليه‌السلام : «من أصبح من هذه الاُمّة لا إمام له من اللّه‏ عزوجل ظاهر عادل أصبح تائهاً ضالاًّ ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة جاهلية . . .» (٤) ، الخبر .

والمراد بالظاهر : واضح الحال والإمامة وإن كان شخصه غائباً عن المكلّف .

وقال عليه‌السلام : «يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً ، وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض فاطلب لنفسك دليلاً» (٥) .

وقال عليه‌السلام : «إنّ عيسى عليه‌السلام حين تكلّم في المهد كان نبيّاً وحجّةً على

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣١ .

(٢) المحاسن ١ : ٣٨٣ / ٨٤٨ بتفاوت يسير ، بحار الأنوار ٢ : ٩٨ / ٥٠ .

(٣) بصائر الدرجات : ٢٦ / ١ ، الكافي ١ : ١٤٠ / ٧ (باب معرفة الإمام والرد إليه) ، بحار الأنوار ٢ : ٩٠ / ١٤.

(٤) الكافي ١ : ١٤٠ / ٨ (باب معرفة الإمام والرد إليه) ، بحار الأنوار ٨ : ٣٦٩ / ٤١ ، بتفاوت يسير .

(٥) الكافي ١ : ١٤١ / ١٠ (باب معرفة الإمام والرد إليه) .

٥٨

من سمع كلامه في تلك الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان ، وكان زكريّا الحُجّة للّه‏ عزوجل على الناس بعد صمت عيسى عليه‌السلام بسنتين ، ثمّ مات زكريا فورثه يحيى ابنه الكتاب والحكمة وهو صبي صغير ، فلمّا بلغ عيسى عليه‌السلام سبع سنين تكلّم بالنبوّة والرسالة حين أوحى اللّه‏ إليه ، فكان عيسى عليه‌السلام الحجّة على الناس أجمعين ، وليس تبقى الأرض يوماً واحداً بغير حجّة للّه‏ على الناس .

وكان عليٌّ عليه‌السلام حجّةً من اللّه‏ ورسوله على هذه الاُمّة يوم أقامه للناس ، ونصبه علماً ، ودعاهم إلى ولايته ، ولكنّه صمت فلم يتكلّم مع رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت الطاعة لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاُمّة وعلى عليّ عليه‌السلام في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت الطاعة من اللّه‏ ومن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس كلّهم لعلي عليه‌السلام بعد وفاة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان عليّ عليه‌السلام حكيماً عالماً» (١) .

«والعلم يتوارث فلا يهلك عالم إلاّ بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه‏ (٢).

فقيل له : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده ؟

فقال : «أمّا أهل هذه البلدة ـ يعني المدينة ـ فلا ؛ لأنّ الإمام إذا هلك وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، إنّ اللّه‏ تعالى يقول : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا ) (٣) ، الآية .

__________________

(١) الكافي ١ : ٣١٣ / ١ (باب حالات الأئمّة عليهم‌السلامفي السنِّ) .

(٢) بصائر الدرجات ١٣٨ / ٢ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ١ ( باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم ) ، بحار الأنوار ٢٦ : ١٦٩ / ٣٣ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ١٢٢ .

٥٩

فإن نفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم فهو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمَّ يدركه الموت» .

قيل : فإذا قدموا بأيّ شيء يعرفون صاحبهم ؟

قال : «يعطى السكينة والوقار والهيبة» (١) .

وقال : «يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال مع العلم لا تكون في غيره : هو أولى الناس بالذي قبله ، وهو وصيّه ، وعنده سلاح رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّته . . .» (٢) ، الخبر .

والأخبار منه عليه‌السلام ، ومن سائر الأئمّة عليهم‌السلام من هذا القبيل كثيرة ، وكفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسيأتي أمثالها في المواضع المناسبة لذكرها سيّما في فصل الوصيّة .

ثمّ إنّ ها هنا حكاية لطيفة مشتملة على رواية شريفة عنه عليه‌السلام أحببنا ذكرها ، وهي ما رواه جماعة عن رجل من قريش من أهل مكّة ، قال : قال لي سُفيان الثوري (٣) : إذهب بنا إلى أبي عبداللّه‏ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، قال : فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابّته ، فقال له سفيان : يا أبا عبداللّه‏ حدّثنا بحديث خطبة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف ، قال : «دعني

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٥٩١ / ٤٠ .

(٢) بصائر الدرجات : ٢٠٢ / ٢٨ ، بحار الأنوار ٢٦ : ٣٣ .

(٣) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، كنيته أبو عبداللّه‏ ، وذكر الطريحي في مجمعه أ نّه كان في شرطة هشام بن عبدالملك ، وهو ممّن شهد قتل زيد بن علي ابن الحسين عليهما‌السلام ، له كتب منها : الجامع الكبير ، والجامع الصغير ، وكان مولده سنة ٩٧ هـ ، مات بالبصرة مستتراً من السلطان ودفن عشاءً وذلك في سنة ١٦١ .

انظر : الكنى والألقاب ٢ : ١١٩ ، مجمع البحرين ٣ : ٢٣٨ ـ ثور ـ الفهرست لابن النديم : ٢٨١ ، وفيات الأعيان ٢ : ٣٨٦ / ٢٦٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٩٩ / ١٩٩ .

٦٠