أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٣٠
وقال أيضاً : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) (١) .
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) (٢) الآية .
وقال سبحانه : ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) (٣) الآية .
وقال تعالى : ( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٤) .
وقال تعالى : ( لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) (٥) .
وقال : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ) (٦) .
وقال : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٧) الآية .
وقال عزوجل : ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
__________________
(١) الإسراء ١٧ : ١٦ .
(٢) سورة الأحقاف ٤٦ : ٢٠ .
(٣) سورة الرعد ١٣ : ٣٢ .
(٤) سورة هود ١١ : ٤٨ .
(٥) سورة الكهف ١٨ : ٥٨ .
(٦) سورة الحجر ١٥ : ٤ .
(٧) سورة فاطر ٣٥ : ٤٥ .
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .
وقال : ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٢) .
وقال تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (٣) .
وقال تعالى : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .
وقال تعالى: ( وَذَرْنِي (٥) وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) (٦) .
وقال عزوجل : ( فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) (٧) .
وقال تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ) (٨) إلى آخر الآيات وغيرها كثيرة ، وكفى ما ذكرناه هاهنا ، لاسيّما مع ما مرّ ويأتي سابقاً ولاحقاً .
وفي نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «أيّها الناس ، إنّ اللّه تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يُعذكم من أن يبتليكم ، وقد قال جلّ من قائل : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) (٩) » (١٠) .
__________________
(١) سورة الزّخرف ٤٣ : ٣٣ ـ ٣٥ .
(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٨٦ .
(٣) سورة الأنعام ٦ : ١١٢ .
(٤) سورة الأعراف ٧ : ١٨٠ .
(٥) من صفحة ٢٨٣ إلى هنا بياض في «ن» .
(٦) سورة المزّمّل ٧٣ : ١١ .
(٧) سورة الطارق ٨٦ : ١٧ .
(٨) سورة المدّثر ٧٤ : ١١ ـ ١٣ .
(٩) سورة المؤمنون ٢٣ : ٣٠ .
(١٠) نهج البلاغة : ١٥٠ خطبة ١٠٣ .
وقال عليهالسلام : «كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مغرور بالستر عليه ، وكم من مفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى اللّه سبحانه أحداً بمثل الإملاء» (١) .
وبرواية اُخرى : «كم من مغرور بما أنعم اللّه عليه ، وكم من مستدرج بستر اللّه عليه ، وكم من مفتون بثناء الناس عليه» (٢) .
وقال عليهالسلام : «أيّها الناس ، ليراكم اللّه من النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين ، إنّه من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمِن مخوفاً ، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختباراً فقد ضيّع مأمولاً» (٣) .
وسئل عليهالسلام عن قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت ؟
فقال : «هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني ، كذبوا ، ليسوا براجين ، من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف من شيء هرب منه» (٤) .
وفي أخبار أهل البيت : أنّ الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام قال : «إذا أراد اللّه بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمةٍ ويُذكّره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ، ويتمادى بها ، وهو قول اللّه عزوجل : ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) (٥) ، أي : بالنعم عند المعاصي» (٦) .
__________________
(١) نهج البلاغة : ٤٨٩ و٥١٣ ، قصار الحكم ، رقم ١١٦ و٢٦٠ .
(٢) الكافي ٢ : ٣٢٧ / ٤ (باب الاستدراج) ، بحار الأنوار ٧٨ : ٢٢٥ / ٩٥ .
(٣) نهج البلاغة ٥٣٧ / ٣٥٨ ، قصار الحكم .
(٤) الكافي ٢ : ٥٥ / ٥ (باب الخوف والرجاء) .
(٥) سورة الأعراف ٧ : ١٨٢ .
(٦) الكافي ٢ : ٣٢٧ / ١ (باب الاستدراج) .
وفي رواية اُخرى : أنّه سئل عن الاستدراج ، فقال : «هو العبد يذنب الذنب فيملى له ، ويجدّد له عنده النعمة ، فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب ، فهو مستدرج من حيث لا يعلم» (١) .
وقال صلىاللهعليهوآله ـ كما رواه الغزالي وغيره ـ : «إذا رأيتم الرجل يعطيه اللّه ما يحبّ وهو مقيم على معصيته ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج ، ثمّ قرأ قوله تعالى : ( لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) » (٣) الآية .
وقال رجل للرضا عليهالسلام : إنّي تركت فلاناً ـ يعني رجلاً أكل مال أبيه وأنكره ـ من أعدى خلق اللّه لك !
قال : «ذلك شرّ له» ، قال الرجل : ما أعجب ما أسمع منك جعلت فداك !
قال : «أعجب من ذلك إبليس ، كان في جوار اللّه في القرب منه ، فأمره فأبى ، وتعزّز وكان من الكافرين ، فأملى اللّه له ، واللّه ما عذّب اللّه بشيءٍ أشدّ من الإملاء ، واللّه ، ما عذّبهم اللّه بشيءٍ أشدّ من الإملاء» (٤) .
أقول : الإملاء بمعنى : الإمهال وترك الاستعجال .
والاستدراج قيل : هو من المدرجة وهي الطريق . ودرج : إذا مشى سريعاً ، فمعنى الآية : أنّا سنأخذهم من حيث لا يعلمون ، أيّ طريق سلكوا ، فإنّ مرجع جميع الطرق إلينا ولا يفوتنا هارب .
__________________
(١) الكافي ٢ : ٣٢٧ / ٢ (باب الاستدراج) ، بحار الأنوار ٥ : ٢١٧ / ١٠ .
(٢) سورة الأنعام ٦ : ٤٤ .
(٣) إحياء علوم الدين ٤ : ١٣٢ ، المعجم الكبير ١٧ : ٣٣٠ / ٩١٣ ، مسند أحمد ٥ : ١٣٩ / ١٦٨٦٠ ، شعب الإيمان ٤ : ١٢٨ / ٤٥٤٠ ، إحياء .
(٤) رجال الكشّي : ٥٩٦ ـ ٥٩٧ / ١٠٤٥ ، بحار الأنوار ٥ : ٢١٦ / ٣ ، وفيهما بتفاوت في بعض الألفاظ .
وقيل : إنّه من الدرج ، أي : سنطويهم في الهلاك ، ونرفعهم عن وجه الأرض ، يقال : طويت فلاناً وطويت أمر فلان ، إذا تركته وهجرته (١) .
وقيل : أي : نقرّبهم إلى الهلاكة ، أو إلى العذاب درجة درجة حتّى يقعوا فيه .
وقيل : معناه كلّما جدّدوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة (٢) ، كما هو صريح ما ذكرناه من الأخبار ، ومآله أيضاً إلى بعض ما ذكر ، لاسيّما الأخير .
وما قيل : من أنّ معناه أنّه يستدرجهم إلى الكفر والضلال غير وجيه ؛ لأنّ الآية وردت في الكفّار ، وتضمّنت أنّه يستدرجهم في المستقبل ، فإنّ السين مختصّ بالمستقبل ، ولأنّه جعل الاستدراج جزاءً على كفرهم وعقوبةً ، فلابدّ أن يريد به معنى آخر غير الكفر .
نعم ، قد يتحقّق هذا في الفسّاق من أهل القبلة ؛ ضرورة كون بعض المعاصي مستلزمةً للكفر ، ومنتهيةً إليه ، بل بعضها عين الكفر .
وعلى أيّ تقدير ، التفسير بالهلاكة أولى وأحسن ؛ لأنّ الكفر هو الهلاكة أيضاً ، فتأمّل .
وفي الحديث المشهور ـ الذي مرّ ويأتي أيضاً ـ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «سبعة لعنتهم ولعنهم اللّه وكلّ نبيّ مجاب» ، وعدّ منهم : «المتسلّط في سلطانه بالجبريّة (٣) ليعزّ من أذل اللّه ، ويذلّ من أعزّه اللّه ، والمتكبّر على عباد اللّه ، والمستحلّ من عترة النبيّ صلىاللهعليهوآله ما حرّم اللّه» (٤) .
__________________
(١) انظر : لسان العرب ١٥ : ١٩ ـ مادّة طوي ـ .
(٢) انظر : مجمع البيان ٢ : ٥٠٤ .
(٣) في «م» و«ش» : بالجبروت .
(٤) المعجم الكبير ١٧ : ٤٣ / ٨٩ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٦ ، كنز العمّال ١٦ : ٩٠ / ٤٤٠٣٨ ، وفيها بتفاوت في بعض الألفاظ .
وفي تفسير العياشي : أنّ الصادق عليهالسلام قال في قوله تعالى : ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) ـ مشدّدة منصوبة ـ يعني : كثّرنا أكابرها ( فَفَسَقُوا فِيهَا ) (١) » (٢) .
وفي القاموس : أمِر ـ كفرِح ـ أمَراً وأمَرَةً : كثر ، وتمّ ، فهو أمِرٌ ، والأمر : اشتدّ ، والرجل كثرت ماشيته ، وآمره اللّه ، وأمره ، كنصره ، لُغيَّة : كثّر ماشيته ونسله (٣) . انتهى .
وفي تفسير النعماني عن عليّ عليهالسلام : أنّه قال في معنى الضلال الوارد في القرآن : «الضلال منه محمود ومنه مذموم ، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم ، ومنه ضلال النسيان».
ثمّ قال : أمّا الضلال المحمود فهو المنسوب إلى اللّه تعالى ، كقوله : ( يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ) (٤) ، هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم ، والمذموم هو قوله تعالى : ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (٥) وأمثاله .
أمّا الضلال المنسوب إلى الأصنام ، كقوله في قصّة إبراهيم عليهالسلام : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) (٦) ، فالأصنام لا يضللن أحداً على الحقيقة ، إنّما ضلّ الناس بها وكفروا حين عبدوها .
وأمّا الضلال الذي هو النسيان ، فهو قوله تعالى : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
__________________
(١) سورة الإسراء ١٧ : ١٦ .
(٢) تفسير العيّاشي ٣ : ٤١ / ٢٤٧٨ عن أبي جعفر عليهالسلام ، ولم يرد فيه قوله تعالى : «فَفَسقوا فيها» .
(٣) القاموس المحيط ٢ : ٨ ـ مادّة الأَمْر ـ .
(٤) سورة المدّثّر ٧٤ : ٣١ .
(٥) سورة طه ٢٠ : ٨٥ .
(٦) سورة إبراهيم ١٤ : ٣٥ ـ ٣٦ .
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ) (١) » .
قال عليهالسلام : «وأمّا ما نسبه منه إلى نبيّه على ظاهر اللفظ ، كقوله : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ) (٢) ، معناه : ووجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك» .
ثمّ قال عليهالسلام : «وأمّا الضلال المنسوب إلى اللّه تعالى الذي هو ضدّ الهدى ، والهدى هو البيان ، مثل قوله تعالى : ( فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ ) (٣) ، أي : بيّنّا لهم» .
وبسط الكلام عليهالسلام إلى أن قال : «فإنّه لمّا أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به النبيّ المنذر فخالفوه ، ولمّا بيّن لهم ما يأخذون وما يذرون فخالفوه ، ضلّوا» إلى أن قال عليهالسلام :
«فحرّفوا دين اللّه ، وبدّلوا أحكامه ، وعدلوا عمّن اُمروا بطاعته ، واضطرّهم ذلك إلى استعمال الرأي والقياس ، فزادهم ذلك حيرةً والتباساً ، فكان تركهم اتّباع الدليل الذي أقام [ اللّه (٤) ] لهم ضلالةً لهم ، فصار ذلك كأنّه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام».
وقال : «ثمّ إنّهم افترقوا واختلفوا ، ولعن بعضهم بعضاً ، واستحلّ بعضهم دماء بعض ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ، فأنّى يؤفكون؟ !» (٥) .
أقول : وعلى هذا ، فمعنى ما مرّ من قوله تعالى : ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
__________________
(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٢ .
(٢) سورة الضحى ٩٤ : ٧ .
(٣) سورة فصّلت ٤١ : ١٧ .
(٤) أضفناها من البحار ٩٣ : ١٤ ـ ١٥ .
(٥) نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار ٥ : ٢٠٨ / ٤٨ ، و٩٣ : ١٣ ـ ١٥ .
فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (١) : أنّ من خالف اللّه في اتّباع الإمام الحقّ الهادي إليه ، وضلّ بذلك عن طريق الجنّة ، فلا مخلص له عن الباطل ، ولم يزل في مخالفة اللّه عزوجل ، فافهم ، حتّى تعلم أنّ مآل تحقيق الحال في معنى الإضلال ، وكذا ما يفيد مفاده إلى منع التوفيق الذي هو الخذلان ؛ إذ كما في الحديث : «لا حول لنا عن معصية اللّه إلاّ بعون اللّه ، ولا قوّة لنا على طاعة اللّه إلاّ بتوفيق اللّه» (٢) ، كما هو معنى الحوقلة .
ولا شكّ أيضاً : أنّ اللّه تعالى رؤوف بعباده ، ويريد لهم الخير ويحثّهم عليه ، حتّى يتوجّهوا إليه ، فيعينهم حينئذٍ لطفاً منه بأنواع أسباب التوفيق ، ليفعلوا ، فعلى هذا إذا لم يتوجّهوا إلى ما يريد ، ولم يعزموا على ما أحبّ ، بل وطّنوا أنفسهم على خلاف ذلك ، وهو لم يرد إجبارهم ، تركهم حينئذٍ وأنفسهم ، وحرمهم عن التوفيق والإعانة .
ومعلوم أنّ النفس أمّارة بالسوء فتوقعهم فيه ، ويستحوذ عليهم حينئذٍ الشيطان ، فهذا هو الضلال ، وكلّما داموا على هذا الحال زاد الضلال (٣) وقسي القلب ، وبعدوا عن شمول التوفيق ، واستحقّوا زيادة الخذلان إلى أن التهوا بالشهوات النفسانيّة ، واندرجوا في مقام الاستدراج والتجاهر بالمعاصي وهلّم جرّاً إلى حدّ عدم المبالاة بمخالفة اللّه بالكلّيّة ، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا .
فتأمّل جدّاً ، حتّى تعرف صريحاً أنّ نسبة الإضلال إليه سبحانه على سبيل التجوّز والاتّساع ، وأنّ هذا هو المراد به وبأمثاله ممّا هو من هذا
__________________
(١) سورة الأعراف ٧ : ١٨٦ .
(٢) التوحيد للصدوق : ٢٤٢ / ٣ .
(٣) في «م» : زاده الضلالة .
القبيل ، لا كما توهّمه الجبريّة (١) والمشبّهة (٢) ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
وهذا هو «الأمر بين الأمرين» (٣) الوارد عن أهل البيت المصطفين الأخيار ، وأخبارهم كلّها تنطبق على هذا ، بل الآيات أيضاً تستقيم على هذا بأدنى معونة تلوح في كلّ موضع على المتأمّل الصادق ، فتأمّل ولا تغفل عن عدم تنافي هذا [مع (٤) ] سائر ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام عن معنى الضلال في بعض الآيات ، كما مرّ شيء من ذلك ؛ لعدم لزوم الورود في جميع المواضع بمعنى واحد ، وأهل البيت أدرى بما في البيت .
نعم ، مهما لم يصل إلينا معنى منهم حملناه على هذا لئلاّ يشتبه على بعض الجهّال فيقعوا في الضلال ، ولأجل هذا أيضاً ذكرنا هاهنا هذا المرام وإن لم يكن مقام بسط هذا الكلام ، فتفطّن .
وفي الحديث أنّ اللّه عزوجل يقول : «لولا أن يجد عبدي المؤمن في
__________________
(١) المجبّرة أو الجبريّة : فرقة ظهرت أوائل الحكم الاُموي منادية : أنّ الإنسان مجبور في جميع شؤونه ، ولا حول ولا قوّة ولا اختيار ، ولا قدرة له مؤثّرة ولا كاسبة ، وكلّ ما يصدر منه بمشيئة البارئ تعالى وإرادته ، حاله حال الماء الجاري على وجه الأرض .
انظر : كتاب الردّ على المجبّرة للقاسم الرسّي (ضمن رسائل العدل والتوحيد) : ٣٠٣ ، التمهيد لقواعد التوحيد للماتريدي : ٩٧ / ١٢٨ ، كشّاف اصطلاحات الفنون ١ : ٥٥١ وهامشه .
(٢) المشبّهة أو الحلوليّة : فرقة شبّهوا البارئ عزوجل بالمخلوقات ، ومثّلوه بالحادث على اختلاف في الطريقة ، منهم مشبّهة الحشويّة والكراميّة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
انظر : العدل والتوحيد للقاسم الرسّي (ضمن رسائل العدل والتوحيد) : ٢٦٠ ، اُصول الدين للبغدادي : ٣٣٧ ، التبصير في الدين : ١١٩ ، كشّاف اصطلاحات الفنون ٢ : ١٥٤٥ .
(٣) التوحيد للصدوق ٣٦٢ / ٨ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٧ / ٣٠٤ .
(٤) إضافة يقتضيها السياق .
نفسه لعصّبت الكافر بعصابة من ذهب» (١) .
أقول : وهذا معنى ما مرّ من قوله تعالى : ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ ) (٢) الآية ، فإنْ معناه : ولولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفّار في سعة وتنعّم ، لحبّهم الدنيا فيجتمعوا عليه لجعلنا . . . إلى آخره .
وفي الخبر عن الصادق ، عن آبائه عليهمالسلام : «لم يكن من وُلد آدم مؤمن إلاّ فقيراً ، ولا كافر إلاّ غنيّاً ، حتّى جاء إبراهيم عليهالسلام ، فقال : ( رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (٣) ، فصيّر اللّه تعالى في هؤلاء أموالاً وحاجة ، وفي هؤلاء أموالاً وحاجة» (٤) .
وفيه : أنّ عمر بن الخطاب قال : دخلت على النبيّ صلىاللهعليهوآله في مشربة اُمّ إبراهيم (٥) ، وإنّه لمضطجع على خصفة (٦) وإنْ بعضه على التراب ، وتحت
__________________
(١) علل الشرائع : ٦٠٤ / ٧٤ باب ٣٨٥ نوادر العلل .
(٢) سورة الزخرف ٤٣ : ٣٣ .
(٣) سورة الممتحنة ٦٠ : ٥ .
(٤) الكافي ٢ : ٢٠٢ / ١٠ (باب فضل فقراء المسلمين) ، بحار الأنوار ٧٢ : ١٢ / ١٢ .
(٥) المشربة : بفتح الميم وفتح الراء وضمّها : الغرفة ، ومنه مشربة اُمّ إبراهيم عليهمالسلام ، وإنّما سمّيت بذلك لأنّ إبراهيم ابن النبيّ صلىاللهعليهوآله ولدته اُمّه فيها .
انظر : مجمع البحرين ٢ : ٨٩ .
واُمّ إبراهيم هي مارية القبطيّة مولاة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، واُمّ ولده إبراهيم ، أهداها واُختها سيرين لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله المقوقس صاحب الإسكندريّة ومصر ، فوهب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله سيرين لحسّان بن ثابت .
توفّيت سنة ١٦ هـ في خلافة عمر .
انظر : الاستيعاب ٤ : ١٩١٢ / ٤٠٩١ ، اُسد الغابة ٦ : ٢٦١ / ٧٢٦٨ .
(٦) الخصفة ـ محرّكة ـ الجُلّة تُعمل من الخُوص للتمر ، والثوب الغليظ جدّاً .
انظر : القاموس المحيط ٣ : ١٨٠ ، والنهاية ٢ : ٣٧ ـ خصف ـ .
رأسه وسادة محشوّة ليفاً ، فسلّمت عليه ، ثمّ جلست ، فقلت : يارسول اللّه ، أنت نبيُّ اللّه وصفوته وخيرته من خلقه ، وكسرى وقيصر على سرير الذهب وفرش الديباج والحرير ، فقال : «اُولئك قوم عجّلت طيّباتهم ، وهي وشيكة (١) الانقطاع ، وإنّا اُخّرت لنا طيّباتنا» (٢) .
وفيه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله دعاه رجل إلى طعام فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فوقعت البيضة على وتدٍ في حائط ، فثبتت عليه ولم تسقط ، ولم تنكسر ، فتعجّب النبيّ صلىاللهعليهوآله منها، فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة ؟ فوالذي بعثك بالحقّ ، ما رزئت شيئاً قطّ ، فنهض النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم يأكل من طعامه شيئاً وقال : «من لم يرزأ فما للّه فيه من حاجة» (٣) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم ، وصحيحي الترمذي وابن ماجة : عن أبي موسى ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «إنّ اللّه تعالى ليُملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يُفلته» (٤) .
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام : «أيّها الناس ، إنّ اللّه تعالى لم يقصم جبّاري دهر إلاّ من بعد تمهيل ورخاء ، ولم يجبر كسر عظم من الاُمم إلاّ بعد أزل وبلاء» (٥) .
«فقد أمهل شداد بن عاد ، وثمود بن غبود ، وبلعم بن باعوراء ،
__________________
(١) وَشُك، يوشُك وشكاً : أي أسرع فهو وشيك، أي : سريع.
انظر : مجمع البحرين ٥ : ٢٩٧ ـ وشك ـ.
(٢) مجمع البيان ٥ : ٨٨ ، بحار الأنوار ٦٦ : ٣٢٠ .
(٣) الكافي ٢ : ١٩٨ / ٢٠ (باب شدّة ابتلاء المؤمن) ، بحار الأنوار ٢٢ : ١٣٠ / ١٠٧ .
(٤) صحيح البخاري ٦ : ٩٤ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٩٧ / ٢٥٨٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٨٨ / ٣١١٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣٢ / ٤٠١٨ .
(٥) نهج البلاغة : ١٢١ الخطبة ٨٨ .
وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، وأمدّهم بالأموال والأعمار ، وأتتهم الأرض ببركاتها ، ليذَّكروا آلاء اللّه ، وليعرفوا الإهابة له والإنابة إليه ، ولينتهوا عن الاستكبار ، فلمّا بلغوا المدّة واستتموا الأكلة أخذهم اللّه تعالى واصطلمهم (١) فمنهم من خسف (٢) ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أحرقته الظلمة (٣) ، ومنهم من أودته الرجفة ، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٤) » (٥) .
وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام : «إنّ اُمّتي سيفتنون بعدي ، يفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (٦) ، الخبر .
__________________
(١) الاصطلام : الاستئصال وإبادة القوم من أصلهم .
انظر : العين ٧ : ١٢٩ ، المحيط في اللغة ٨ : ١٥٢ ، لسان العرب ١٢ : ٣٤٠ ، مادّة ـ صلم ـ .
(٢) في هامش «س» و«م» و«ن» نسخة بدل : (حصب) والحَصْبُ : رميك بالحصباء ، وهي صغار الحصى أو كبارها .
انظر : كتاب العين ٣ : ١٢٣ ، المحيط في اللغة ٢ : ٤٦٦ ، لسان العرب ١ : ٣١٩ ، مادّة ـ حصب .
(٣) في المصدر : الظُّلّة ، إشارة إلى قوله تعالى : ( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) في سورة الشعراء ٢٦ : ١٨٩ .
والظُّلّة : ما سترك من فوق ، والشيء يستتر به من الحرّ والبرد . والظُّلَّة : الصَّيحة . والظُّلّة : الغاشية .
انظر : كتاب العين ٨ : ١٤٩ ، المحيط في اللغة ١٠ : ٩ ، لسان العرب ١١ : ٤١٧ ، مادّة ـ ظلل ـ .
(٤) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٠ .
(٥) الكافي ٨ : ١٨ ـ ٣٠ (خطبة الوسيلة) ، في ذيل الخطبة .
(٦) نهج البلاغة : ٢٢٠ الخطبة ١٥٦ .
وقد مرّ ويأتي أيضاً قول النبيّ صلىاللهعليهوآله لأصحابه : «إنّي أخاف عليكم من فتنة السرّاء أكثر ممّا أخاف من فتنة الضرّاء» (١) .
وقال بعض الصحابة : بلينا بفتنة الضرّاء فصبرنا وبلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر (٢) .
أقول : وسنذكر إن شاء اللّه تعالى ـ فيما سيأتي ـ نبذاً ممّا ورد في الحديث من التصريح بكون خصوص جماعة من هذه الاُمّة على هذا المنوال ، وأنّهم من الأشرار ، كالتصريح بخصوص بني اُميّة ، وبني العبّاس وأتباعهم وأمثال ذلك ، لاسيّما المعادين لآل محمّد عليهمالسلام .
وقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «اطّلعت على الجنّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ، واطّلعت على النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء» (٣) .
وفي خطاب اللّه تعالى لموسى عليهالسلام : «ياموسى ، أبناء الدنيا فتن بعضهم لبعض ، فكلّ مزيّن له ما هو فيه ، والمؤمن (مَن) (٤) زيّنت له الآخرة ، ياموسى ، إذا رأيت الفقر مقبلاً ، فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً ، فقل : ذنب عجّلت عقوبته» .
وقال : «ولا تغرّنّك الدنيا وزهرتها ، ولا ترض بالظلم ، فإنّي للظالم رصيد حتّى اُديل منه المظلوم ، كيف يجد قوم لذّة العيش لولا التمادي في الغفلة ، والاتّباع للشقوة ، والتتابع للشهوة ، ومن دون هذا يجزع
__________________
(١) الجامع الصغير ٢ : ٣٩٨ / ٧١٩٨ ، مجمع الزوائد ١٠ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ، كنز العمّال ٣ : ٢٥٧ / ٦٤٣١ ، وفيها بتفاوت في بعض الألفاظ .
(٢) سنن الترمذي ٤ : ٦٤٢ / ٢٤٦٤ عن عبدالرحمن بن عوف بتفاوت .
(٣) مسند أحمد ١ : ٣٨٨ / ٢٠٨٧ ، و٥٩٣ / ٣٣٧٦ ، و٥ : ٥٩٢ / ١٩٣٥١ ، كنز العمّال ١٦ : ٣٨٧ / ٤٥٠٣٥ بتفاوت يسير فيهما .
(٤) أثبتناها من نسخة «ش» .
الصدّيقون» (١) .
وفي الحديث : «أنّ نبيّاً من الأنبياء مرّ بساحل فإذاً هو برجل يصطاد حيتاناً ، فقال : باسم اللّه ، وألقى الشبكة فلم يخرج فيها إلاّ حوت واحدة ، ثمّ مرّ بآخَر ، فقال : باسم الشيطان ، وألقى شبكته فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها ، فقال النبيّ : ياربّ ، ما هذا ، وقد علمت أنّ كلّ ذلك بيدك ؟ فقال اللّه تعالى : اكشفوا لعبدي من منزلتهما ، فلمّا رأى ما أعدّ اللّه لهذا من الكرامة ، ولذلك من الهوان ، فقال : رضيت ياربّ ، الأمر لك وعزّت قدرتك» (٢) .
وفيه : «إنّ جبرئيل عليهالسلام نزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فقال : يامحمّد ، إنّ اللّه يقرأ عليك السلام ويقول : أتحبّ أن أجعل هذه الجبال ذهباً وتكون معك حيث ما كنت ؟ فأطرق رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ساعة ، ثمّ قال : ياجبرئيل ، إنّ الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، قد يجمعها من لا عقل (٣) له ، فقال له جبرئيل : يامحمّد ، ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (٤) .
وكان عليّ عليهالسلام يقول : «يا صفراء ، غُرّي سواي ، ويا بيضاء ، غرّي غيري» (٥) .
ويقول : «يادنيا ، غُرّي غيري ، فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها» (٦) .
__________________
(١) الكافي ٨ : ٤٧ ـ ٤٨ / ١٨ قطعة من الحديث ، تحف العقول : ٤٩٤ ـ ٤٩٦ ، أعلام الدين : ٢٢١ ـ ٢٢٢.
(٢) انظر : المؤمن : ١٩ / ١٤ ، أعلام الدين : ٤٣٣ ، بحار الأنوار ١٣ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ / ٣٨ ، وفيها بتفاوت .
(٣) في «م» : مال .
(٤) الشفا للقاضي عياض ١ : ٢٨٠ بتفاوت .
(٥) كشف الغمّة ١ : ١٦٥ بتفاوت يسير ، بحار الأنوار ٤٠ : ٣٣٣ .
(٦) نهج البلاغة : ٤٨٠ / ٧٧ ( قصار الحكم ) .
وكان يقول : «إنّ دنياكم هذه لأهون عندي من عفطة عنز» (١) .
وقد روي : أنّ اللّه تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه «احذر أن أمقتك فتسقط من عيني ، فأصبّ عليك من الدنيا صبّاً» (٢) .
وفي كلام اللّه عزوجل لرسوله صلىاللهعليهوآله ليلة المعراج : «يا أحمد ، لا تتزيّن بليّن اللباس ، وطيب الطعام ، وليّن الوطاء ، فإنّ النفس مأوى كلّ شرّ ، وهي رفيق كلّ سوء ، تجرّها أنت إلى طاعة اللّه ، وتجرّك إلى معصيته ، وتخالفك في طاعته ، وتطيعك فيما يكره ، وتطغى إذا شبعت ، وتتكبّر إذا استغنت ، وتنسى إذا كبرت ، وتغفل إذا أمنت ، وهي قرينة الشيطان .
يا أحمد ، أبغض الدنيا وأهلها ، وأحبّ الآخرة وأهلها» .
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «ياربّ ، ومن أهل الدنيا ؟ ومن أهل الآخرة ؟».
قال : «أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرضا ، قليل التفقّه ، قليل الخوف ، كثير الكلام ، لا يعتذر إلى من أساء إليه ، ولا يقبل عذر من اعتذر إليه ، كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، إنّ أهل الدنيا يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس لهم» (٣) ، الخبر .
وفي الحديث : أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه ، فقال : أمّا ما في ضروعها فصبوح (٤) الحيّ ، وأمّا ما في آنيتنا فغبوقهم (٥) .
__________________
(١) نهج البلاغة : ٥٠ الخطبة ٣ ، بتفاوت .
(٢) فيض القدير ١ : ٨٣ .
(٣) إرشاد القلوب ١ : ٣٧٥ (الباب ٥٥ في معراج النبيّ صلىاللهعليهوآله ) ، بحار الأنوار ٧٧ : ٢٣ ، الجواهر السنيّة : ١٥٢ ـ ١٥٣ .
(٤) الصبوح بالفتح : الشرب بالغداة .
انظر : مجمع البحرين ٢ : ٣٨٢ ، الصحاح ١ : ٣٨٠ ، مادّة ـ صبح ـ .
(٥) الغبوق : الشرب بالعشيّ .
انظر : مجمع البحرين ٥ : ٢٢١ ، الصحاح ٤ : ١٥٣٥ ، مادّة ـ غبق ـ .
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «اللّهم أكثر ماله وولده» .
ثمّ مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه ، فحلب ما في ضروعها وأكفى ما في إنائه في إناء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وبعث إليه بشاة وقال : هذا ما عندنا وإن أحببت أن نزيدك زدناك ؟
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «اللّهمّ ارزقه الكفاف» .
فقال له بعض أصحابه : يارسول اللّه ، دعوت للّذي ردّك بدعاءٍ عامّتنا نحبّه ، ودعوت للّذي أسعفك (١) بحاجتك بدعاء كلّنا نكرهه ؟
فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، اللّهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف» (٢) .
وفيه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات» (٣) .
وقال صلىاللهعليهوآله : «إنّ اللّه خلق النار فقال لجبرئيل : اذهب انظر إليها ، فذهب فنظر إليها فقال : وعزّتك ، لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفّها بالشهوات ، ثمّ قال : اذهب فانظر إليها ، فنظر فقال : وعزّتك ، خشيت أن لا يبقى أحد إلاّ يدخلها ، وخلق الجنّة فقال لجبرئيل : اذهب فانظر إليها ، فقال : فبعزّتك ، لا يسمع بها أحد إلاّ دخلها فحفّها بالمكاره ، ثمّ قال :
__________________
(١) الإسعاف : الإعانة وقضاء الحاجة .
انظـر : مجمع البحرين ٥ : ٧٠ ، والصحاح ٤ : ١٣٧٤ ـ سعف ـ .
(٢) الكافي ٢ : ١١٣ / ٤ ، (باب الكفاف) ، بحار الأنوار ٧٢ : ٦١ / ٤ بتفاوت يسير .
(٣) مسند أحمد ٣ : ٧٩ / ٨٧٢١ ، و٦٢٥ / ١٢١٤٩ ، و٤ : ١٤٨ / ١٣٢٥٩ ، و٢٠٠ / ١٣٦١٦ ، صحيح مسلم ٤ : ٢١٧٤ / ٢٨٢٢ ، سنن الترمذي ٤ : ٦٩٣ / ٢٥٥٩ ، جامع الاُصول ١٠ : ٥٢١ / ٨٠٧٠ ، كنز العمّال ٣ : ٣٣٢ / ٦٨٠٥ .
اذهب فانظر إليها ، فنظر فقال : وعزّتك ، خشيت أن لا يدخلها أحد» (١) .
وفي كلام لعليّ بن الحسين عليهماالسلام : «أيّها المؤمنون ، لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المفتونون بها ، المقبلون عليها وعلى حطامها» (٢) ، الخبر .
وقال الصادق عليهالسلام في حديث له في أئمّة الضلالة : «قضى اللّه أن يكون لهم دول في الدنيا على أولياء اللّه ـ الأئمّة من آل محمّد عليهمالسلام ـ يعملون في دولتهم بمعصية اللّه ومعصية رسوله ؛ ليحقّ عليهم كلمة العذاب ، وليتمّ أمر اللّه فيهم الذي خلقهم له في الأصل من الكفر الذي سبق في علمه أن يخلقهم له في أصل الخلق ، ومن الذين سمّاهم اللّه في كتابه : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (٣) » .
ثمّ قال : «تدبّروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه ، فإنّ من جهل هذا وأشباهه ممّا افترض اللّه عليه في كتابه ممّا أَمر به ونهى عنه ، ترك دين اللّه وركب معاصيه ، فاستوجب سخط اللّه ، فأكبّه اللّه على وجهه في النار» (٤) الخبر .
وفي الحديث : «لو أنّ الوضيع (٥) في قعر بئر لبعث اللّه تعالى إليه
__________________
(١) مسند أحمد ٢ : ٦٣٦ / ٨١٩٤ ، سنن النسائي ٧ : ٣ ـ ٤ ، كنز العمّال ١٤ : ٥٤٥ / ٣٩٥٦٣ ، بتفاوت فيها .
(٢) الكافي ٨ : ١٤ / ٢ ، الأمالي للمفيد : ٢٠٠ (المجلس الثالث والعشرون) ، تحف العقول : ٢٥٢ ، بحار الأنوار ٧٨ : ١٤٨ / ١١ .
(٣) سورة القصص ٢٨ : ٤١ .
(٤) الكافي ٨ : ٢ / ١ (رسالة أبي عبداللّه عليهالسلام إلى جماعة الشيعة)، آخر الرسالة ، بحار الأنوار ٧٨ : ٢٢٣ / ١٠.
(٥) الوضيع : الدنيء من الناس .
انظر : الصحاح ٢ : ١٢٩٩ ، مجمع البحرين ٤ : ٤٠٥ ، مادّة ـ وضع ـ .
ريحاً ترفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار» (١) .
وروى الطبراني عن ابن عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها» (٢) .
وفيه أيضاً عنه صلىاللهعليهوآله قال : «قوام اُمّتي بشرارها» (٣) .
أقول : الأخبار فيما نحن فيه كثيرة ويأتي بعضها أيضاً ، وكفى ما ذكرناه ، بل كفى ما رأيناه وسمعناه : من اطّراد تسلّط أهل الباطل والجائرين في كلّ زمان كفراعنة الأزمنة السابقة المذكورة في القرآن ، وكسلاطين بني اُميّة وبني العباس ، والذين من بعدهم في كلّ أوان بحيث يعلم كلّ أحد أنّ إنكار ذلك ظاهر البطلان ، بل محض الجهل والطغيان ، واللّه الهادي .
__________________
(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٦٢ / ٥٧٦٢ ، (باب النوادر ، وصايا النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام )، مكارم الأخلاق ٢ : ٣٢٦ / ٥٧٦٢ ، بحار الأنوار ٧٧ : ٥٣ / ٣ ، وفيها قطعة من الحديث ، وفي الأخيرين : المتواضع بدل الوضيع .
(٢) المعجم الأوسط ٨ : ٢٤ / ٧٧٥٤ .
(٣) المعجم الأوسط ١ : ٣١٢ / ٧٥٩ ، و٨ : ١٠٩ / ٧٩٨٨ .
الفصل الثاني
في بيان اقتضاء الحكمة ابتلاء أولياء اللّه في الدنيا وأهل طاعته ـ المتمسّكين بالحقّ واليقين ـ بالمصائب ، والمتاعب ، والخوف ، والأذى من الجهّال وأعداء الدين ، وكونهم في أغلب الأوقات مقهورين ، وبين الناس في أكثر الحالات مستضعفين ، لاسيّما الأنبياء والأوصياء والصالحين ؛ بحيث كلّما زادت رتبة شخص في العقبى زاد بلاءً وعناءً في الدنيا ، وفيه ذكر نبذ من مناقب هؤلاء وعظيم أجرهم وقربهم عند اللّه عزوجل .
اعلم أنّه قد تبيّن السرّ في ذلك والحكمة فيه ممّا ذكرناه في ابتداء ما مرّ من الفصل السابق عليه ، فلا حاجة إلى الإعادة مع وضوح استلزام ما مرّ في ذلك الفصل من غلبة أهل الباطل ، وتوجّه الدنيا إليهم ، وعكس ذلك بالنسبة إلى أهل الحقّ ، فافهم .
ولنذكر هاهنا بعض الآيات والروايات الواردة فيه :
قال اللّه عزوجل : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .
__________________
(١) سورة البقرة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٧ .
وقال : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) .
وقال : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) (٢) .
وقال : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) (٣) .
وقال: ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) (٤) .
وقال تعالى : ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) (٥) الآية .
وقال سبحانه خطاباً للكفّار : ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) (٦) .
وقال عزوجل : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) (٧) ، الآية .
وقال : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ) (٨) .
وقال حكاية عن قول الأنبياء لمن خالفهم : ( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ) (٩) ، الآية .
__________________
(١) سورة آل عمران ٣ : ١٨٦ .
(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٣٥ .
(٣) سورة محمّد ٤٧ : ٣١ .
(٤) سورة محمّد ٤٧ : ٤ .
(٥) سورة آل عمران ٣ : ١٩٥ .
(٦) سورة البقرة ٢ : ٨٧ .
(٧) سورة إبراهيم ١٤ : ١٣ .
(٨) سورة التوبة ٩ : ٥١ .
(٩) سورة إبراهيم ١٤ : ١٢ .