ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وقد صار ذلك ديدنهم ، بحيث إنّ جماعة منهم منعوا عن مطالعة بعض كتبهم التي نقلوا فيها ما يؤيّد مدّعى الشيعة ، نحو كتب ابن قتيبة (١) ، وابن أبي الحديد (٢) ، وتفاسير التفضيليّة وأمثالها ، واعتذروا عن ذلك بأنّها تورث الشكّ ، حتّى أنّه إن حاول أحد منهم الملاحظة التفصيليّة ، أو عاشر علماء الشيعة ، اتّهموه وإن كان من أعلم علمائهم .

ولعلّ الحقّ معهم في ذلك ؛ لما يظهر من تلويحات جمع منهم ، بل تصريحاتهم ، لاسيّما من عاشر منهم الشيعة ومارس كتبهم ، من الميل إلى مسلكهم والنصرة لطريقتهم ، فلا أقلّ حينئذٍ من عروض الشكّ والتردّد لهم ؛ ولهذا ترى علماء رجالهم قد يقولون في ترجمة أحوال بعض رواتهم ومشايخهم : إنّه اختلط في أواخر عمره ! ونحو ذلك ، فإنّ مرادهم الميل إلى التشيّع ، وعباراتهم الدالّة على ما ذكرناه كثيرة من أرادها فعليه بكتاب مجالس المؤمنين ، وأمثاله .

__________________

(١) هو عبداللّه‏ بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ النحوي اللغوي ، يكنّى أبا محمّد ، ولي قضاء الدينور مدّة ، صاحب التصانيف الحِسان في الفنون والعلوم ، له كتب منها : المعارف ، وغريب القرآن ، وغريب الحديث ، والإمامة والسياسة ، ولد سنة ٢١٣هـ ببغداد ، ومات سنة ٢٧٦ هـ .

انظر : إنباه الرواة ٢ : ١٤٣ / ٣٥٧ ، وفيات الأعيان ٣ : ٤٢ / ٣٢٨ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٩٦ / ١٣٨ .

و« الدينور » مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين ، انظر : معجم البلدان ٢ : ٥٤٥ ، وقرميسين : معرب كرمان شاهان ، انظر معجم البلدان ٤ : ٣٣٠ ، والجبل اسم لعدّة مناطق ، انظر تفصيلها في معجم البلدان ٢ : ١٠٢ ـ ١٠٣ .

(٢) هو عبد الحميد بن هبة اللّه‏ بن محمّد ، يكنّى أبا حامد ، عالم بالأدب ، من أعيان المعتزلة ، ومعدود في أعيان الشعراء ، وله ديوان مشهور ، وشرح نهج البلاغة ، والقصائد السبع العلويات ، ولد سنة ٥٨٦ هـ في المدائن ، ومات سنة ٦٥٥ هـ .

انظر : فوات الوفيات ٢ : ٢٥٩ / ٢٤٦ ، الأعلام ٣ : ٢٨٩ .

١٦١

وفي مقابل ذلك دأب الشيعة ، فإنّ الإمامة عندهم من عمدة اُصول الدين ، والتقليد لاسيّما في الاُصول عندهم غير جائز ، فحينما برزوا في العلم شرعوا في تتبّع المذاهب وتصفّح الكتب والصحائف ، واستنقاد الأدلّة واستفادة المسألة ، ولا يجوز عندهم الاكتفاء بمحض قول المؤالف حتّى في نقل الأدلّة والمذاهب ؛ إذ لا يسمع دعوى المدّعي بدون إقرار الخصم أو الشاهد .

فلهذا جعلوا مدار التحقيق على تتبّع كتب القوم أيضاً ، حتّى استخرجوا منها ما يدلّ على إقرار خصومهم ، وشواهد ما أنكروه ، وسائر ما فيه إتمام الحجّة ، حتّى على الخصم ، وصار ذلك ديدنهم ، بحيث إنّ جماعة منهم لم يقنعوا بما نقل علماؤهم من القوم ، حتّى راجعوا كتبهم ورواياتهم ، فرأوا ما أرادوه رأي العين وإن لم يقبلوا من ذلك ـ ما سوى خبر مقبول الفريقين ـ إلاّ ما فيه حجّة على الخصم ممّا قبله ورواه .

ومن شواهد صحّة جميع ما ذكرناه : كمال اطّلاع الفرقة المحقّة من الشيعة على مذاهب القوم وأحاديثهم ، ووجود أكثر كتبهم عندهم بحيث ربّما يقال : إنّهم أكثر اطّلاعاً بمذاهب القوم من أنفسهم ، كما تنادي بذلك الكتب الاستدلاليّة من الفرقة المحقّة فروعاً واُصولاً ، فإنّها مشتملة على نقل تمام مذاهب القوم في كلّ مسألة مسألة موافقاً لما في كتبهم ، مع أدلّتهم عليها وجواب الأدلّة ، من أراد الامتحان فليرجع إليها فإنّ منها : كتاب منتهى المطلب ، وكتاب تذكرة الفقهاء للعلاّمة ابن المطهّر الحلّي (١) في الفروع ،

__________________

(١) هو الحسن بن يوسف بن عليّ بن محمّد بن المطهر الحلّي ، يكنّى أبا منصور ، المشتهر بالعلاّمة على الاطلاق ، مفخرة الجهابذة الاعلام ، ومركز دائرة الإسلام ، له مؤلّفات تنيف على المائتين ، منها : نهج الحق ، ومناهج اليقين ، ومختلف الشيعة ،

١٦٢

وكتاب كشف الحقّ له أيضاً في الاُصول ، وغيرها ، وشرحه إحقاق الحقّ للسيّد التستري (١) ، وكتب المفيد (٢) ، والمرتضى (٣) وغيرها .

ولعمري يكفي هذا الكتاب أيضاً لاُولي الألباب ؛ لأنّ مدارنا فيه على نقل ما في كتب القوم من الأخبار والأقوال وغيرها في كلّ باب .

وإنّ دأب القوم بعكس ذلك ؛ إذ لا اطّلاع لهم ـ كما يظهر من كتبهم ـ

__________________

ونهاية الإحكام ، وغيرها ، ولد سنة ٦٤٨ ، وتوفّي ليلة السبت ٢١ من المحرم سنة ٧٢٦ هـ .

انظر : رياض العلماء ١ : ٣٥٨ ، روضات الجنّات ٢ : ٢٦٩ / ١٩٨ ، أعيان الشيعة ٥ : ٣٩٦ ، منتهى المقال ٢ : ٤٧٥ / ٨٣١ .

(١) هو السيد نور اللّه‏ بن السيد شريف الدين الحسيني المرعشي التستري الشهير بالأمير ، الساكن بالبلاد الهندية ، فاضل عالم صالح علاّمة فقيه محدّث ، بصير بالسير والتواريخ ، له أشعار وقصائد في مدح الأئمّة عليهم‌السلام ، له كتب منها : مصائب النواصب ، حاشية على تفسير البيضاوي ، مجالس المؤمنين ، ولد سنة ٩٥٦ ، واستشهد في لاهور سنة ١٠١٩ هـ .

اُنظـر : أمل الآمل ٢ : ٣٣٦ / ١٠٣٧ ، رياض العلماء ٥ : ٢٦٥ ، الكنى والألقاب ٣ : ٤٥ ، روضات الجنّات ٨ : ١٥٩ / ٧٢٧ ، الأعلام ٨ : ٥٢ .

(٢) محمّد بن محمّد بن النعمان ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، ويلقّب بالمفيد ويعرف بابن المعلّم ، أوثق أهل زمانه وأعلمهم ، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية ، له كتب ، منها : الإرشاد ، المقنعة ، أوائل المقالات ، ولد سنة ٣٣٦ ، وتوفّي ـ قدّس اللّه‏ روحه ـ سنة ٤١٣ هـ .

انظر : الخلاصة ٢٤٨ / ٨٤٤ ، معالم العلماء : ١١٢ / ٧٦٥ ، رياض العلماء ٥ : ١٧٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٣٤٤ / ٢١٣ .

(٣) هو عليّ بن الحسين بن موسى ، يكنّى أبا القاسم ، ويلقّب بالمرتضى علم الهدى . فقيه الإماميّة ومتكلّمها ، له ديوان شعر يزيد على عشرين ألف بيت ، وانتهت إليه الرئاسة في المجد والشرف والعلم بعد الشيخ المفيد ، له كتب ، منها : الشافي في الإمامة ، والذخيرة ، والذريعة ، ولد سنة ٣٥٥ ، وتوفّي ـ قدس اللّه‏ روحه ـ سنة ٤٣٦ هـ.

انظر : الخلاصة : ١٧٩ / ٥٣٣ ، رياض العلماء ٤ : ١٤ ، معجم الأدباء للحموي ١٣ : ١٤٦ / ١٩ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٥٨٨ / ٣٩٤ .

١٦٣

على حقائق طريقة الفرقة المحقّة ، ولا على كتبهم وتصانيفهم ، حيث استقر أمرهم ـ كما مرّ ـ على عدم تحصيلها وترك النظر إليها ، حتّى أنّهم قد ينسبون إلى فرقةٍ ما هو قول اُخرى ، بل كثيراً ما طعنوا على الفرقة المحقّة بباطلٍ قاله غيرهم ، كما سنبيّن بعض ذلك في هذا الكتاب.

ولقد كفى شاهداً على ذلك أنّ مبنى اعتماد أكثرهم في ذكر قول الخصم وإبطاله على كتاب الصواعق وأمثاله ، وليس في ذلك ما سوى شتم الشيعة ، والطعن عليهم ، ونسبة الحمق والسفه والكذب إليهم بلا دليل كاشف عن ادّعائهم ، بل بمحض التوهّم واشتهائهم حيث رسخ في قلوبهم أنّ هؤلاء يعادون أجلّة الصحابة ، وهو بمعزل عن الحقّ ، بل محض الفرية ، وفي كمال السخافة ؛ لأنّهم لا يعادون إلاّ من ثبت عندهم أنّه من أعداء محمّد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحابيّاً كان أم غيره ، وسيأتي ، كما هو واضح أيضاً وجود الأخبار في الصحابة والأشرار ، وبيان حال كلّ واحد ، فانتظر .

الثالث : أن يجتهد في تحصيل قوّة تمييز ، وجودة بصيرة ، وصفاء ذهن يعرف بها نور الحقّ من ظلمة الباطل ، بحيث لا يشتبه عليه الشبهة بالدليل والصحيح بالعليل ، فإنّ كثيراً من الناس حُرموا عن حقّ هذا المقام ، فزلّت فيه أقدام وضلّ به أقوام ؛ إذ لا شكّ أنّ لكلّ أحد مبطلاً كان أو محقّاً مستمسكاً يلوذ به ويلجأ إليه ، وكلٌّ يزعم صحّة ما هو معتمد عليه ، كما سيأتي في الفصل الثاني من الباب الرابع من هذه المقدّمة .

وظاهر أنّ الجميع ليس بصحيح ، بل إنّما المبطلون في قيد شبهة (١) وحيرة ضلالة وإن كان بطلانها عندهم غير صحيح .

__________________

(١) في «م» زيادة : واحدة .

١٦٤

ولهذا قال عليّ عليه‌السلام : «إنّما سمّيت الشبهة شبهةً ؛ لأنّها تشبه الحقّ ، فأمّا أولياء اللّه‏ فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء اللّه‏ فدعاؤهم [فيها (١) ] الضلال ، ودليلهم العمى» (٢) ، الخبر .

وقال عزوجل : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٣) .

وقال سبحانه : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) (٤) ، الآيات وغيرها .

فعلى هذا ، يجب على كلّ قاصد لتحقيق الحقّ أن يوزن كلّ دليل يرد عليه بميزان الاعتدال ، الذي هو ثبوت كونه ممّا أتاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما سيتّضح ممّا سيأتي ، لاسيّما في الباب الرابع ـ حتّى يخلص من الوقوع في تيه الشبهة وحيرة الجهالة ، وينجو بسبب اليقين عن شكوك الضلالة ، ويفرّق بين ما هو وسيلة القرب إلى الرحمن ، وما هو من خطوات الشيطان ، ويعرف ما أحلّ اللّه‏ له من الطيبات ، وما حرّم عليه من الخبائث .

ولا يخفى أنّ هذه الحالة أيضاً إنّما تتحقّق بتصفية النيّة ، وتزكية النفس عمّا ذكرناه من المرديات ، واتّخاذ طريق تيقّن كونه من المنجيات .

وبالجملة : أصل توفيق فهم الحقّ وإدراك دليله إنّما يكون بإلهام من اللّه‏ تعالى وهدايته .

وذلك موقوف على السعي في تزكية النفس ، وتخليص النيّة ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٢) نهج البلاغة : ٨١ الخطبة رقم ٣٨ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٢١ .

(٤) سورة النور ٢٤ : ٢٦ .

١٦٥

وتفحّص السبيل الذي يكون خالياً عن الريب في كونه سبيل اللّه‏ الموصل إلى ما أراد من عباده ؛ إذ حينئذٍ لا محالة يشمله التوفيق من اللّه‏ عزوجل ويهديه إلى الصراط المستقيم ، كما وعد في قوله عزوجل : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) .

وقال عزوجل : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (٢) .

وقال : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) (٣) .

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه اللّه‏ في قلب من يريد اللّه‏ أن يهديه» (٤) .

وقال الصادق عليه‌السلام في حديث له : «وكلّما ارتفع حجاب ازداد نوراً ، فيقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح صدره ، ويطّلع على حقائق الأشياء ، [وتجلّى له الغيوب (٥) ] ، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم‌السلام في جميع ما أخبروا عنه» (٦) .

وفي الحديث : «من علم وعمل بما علم ورّثه اللّه‏ علم ما لم يعلم» (٧) .

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٩ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٥٧ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٢٢ .

(٤) منية المريد : ١٦٧ عن الصادق عليه‌السلام ، وفي بحار الأنوار ٧٠ : ١٤٠ من دون نسبة بتفاوت يسير .

(٥) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٦) أورده المجلسي في بحار الأنوار ٧٠ : ١٤٠ من دون نسبة .

(٧) الفصول المختارة : (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ج٢ ) ١٠٧ ، حلية الأولياء ١٠ : ١٥ ، إحياء علوم الدين ١ : ٧١ ، بحار الأنوار ٤٠ : ١٢٨ بتفاوت يسير .

١٦٦

وفيه : «إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء ، فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتّى يبيضّ القلب كلّه ، وإنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء ، فإذا انتهكت الحرمات زادت حتّى يسودّ القلب كلّه ، فيطبع على قلبه ، فذلك الختم» (١) .

وفيه أيضاً : «الخشية ميزان (٢) العلم ، والعمل (٣) شعاع المعرفة وقلب الإيمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً ، وإن (شقّ العلم في مشابهات) (٤) العلم ، قال اللّه‏ تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٥) » (٦) .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه‌السلام : «دع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لا تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خِفت ضلالته . . .» .

وقال أيضاً : «وليكن طلبك بتفهّم وتعلّم لا بتورّط الشبهات وغلوّ الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولَجَتْك في شبهة ، واستسلمتك إلى ضلالة» ، ثمّ قال : «ليس طالب الدين من خبط وخلط» ، وقال : «يا بنيّ ، إنّ أحبّ ما أنت آخذّ به إليّ من وصيّتي تقوى اللّه‏ ، والاقتصار على ما فرض اللّه‏ عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك فإنّهم

__________________

(١) لم نعثر على نصّه ، وانظر : المصنّف لابن أبي شيبة ١١ : ١١ / ١٠٣٧٠ ، عن الإمام عليّ عليه‌السلام .

(٢) في المصدر : «ميراث» .

(٣) في المصدر : «العلم» .

(٤) ما بين القوسين في المصدر هكذا : «يشق الشعر بمتشابهات» .

(٥) سورة فاطر ٣٥ : ٢٨ .

(٦) مصباح الشريعة : ٢٠ ، وأورده المجلسي في بحار الأنوار ٢ : ٥٢ / ١٨ ، وفيهما بتفاوت .

١٦٧

[لم يدعوا أن (١) ] نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلفّوا» (٢) ، الخبر .

والآيات والروايات والتجربات فيما نحن فيه كثيرة ، وكفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، فعلى العاقل الكامل أن لا يعتمد على ما في يده ، حتّى يتيقّن بثبوت برهان صدقٍ على حقّيّته ، ولا شكّ أنّ القطع بذلك إنّما يكون بثبوت وروده من اللّه‏ ورسوله ، فافهم .

* * *

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٢) نهج البلاغة (رسائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ) : ٣٩٢ / ٣١ ، تحف العقول : ٦٩ ـ ٧٢ ، اختيار مصباح السالكين : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، وفيها بتقديم وتأخير .

١٦٨

الفـصل الثالث

في بيان ما هو من متفرّعات هذا الباب ، من لزوم الحبّ في اللّه‏ ، والبغض للّه‏ ، وموالاة أولياء اللّه‏ ، ومعاداة أعدائه ، ونصرة دينه وإن كان ذلك مخالفاً لمقتضى الحميّة العاديّة وحبّ الآباء والأقرباء .

وذلك لأنّ الإنسان إذا صفت نيّته ، وأخلص العمل لربّه ، وأخرج شوائب الباطل من قلبه يدعوه ذلك إلى أن يحبّ اللّه‏ ويحبّ محبوبه من أوامره ودينه ومحبّيه ، ومطيعيه المؤتمرين بأمره ، المستنّين بسنّته ، المتمسّكين بحبله ، لاسيّما المروّجين للدين ، والهداة المهديّين ، والمجاهدين في نصرة الحقّ المبين كالأنبياء والمرسلين ، والأوصياء والصدّيقين ، والعلماء والناصحين ، والشهداء والصالحين ؛ ضرورة أنّ كلاًّ يميل إلى جنسه ، ويحبّ من هو من سنخه ، وحيثما ازدادت المناسبة زادت الرغبة والمحبّة ، والمؤمنون كلّهم من سنخ واحد ومن طينة واحدة ، كما أنّ الكفّار والفسّاق والمنافقين أيضاً كذلك ، والمناسبة بينهم وبين الشياطين لذلك ، كما ورد في الأخبار (١) وجرّبه الأخيار .

وقد قال اللّه‏ عزوجل : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) (٢) .

__________________

(١) انظر : الكافي ٢ : ٢ (باب طينة المؤمن والكافر) .

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٠٣ .

١٦٩

وقال عزّوجل : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) (١) .

وقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (٢) .

ولا كلام في حبّ الأخ لأخيه ، وهكذا الحال في حبّ محبوب المحبوب ، وهلّم جرّاً .

ولا يخفى أنّ من اللوازم البيّنة لهذا بغض من خالف هذه الرويّة ، وناقض هذه الطريقة ، لاسيّما الصادّ عن المحبوب والداعي إلى خلاف ما هو المرغوب ؛ ضرورة أن حبّ الشيء يستلزم كراهة ضدّه ، وكراهة الشيء تقتضي بغض أهله ، وقد قال عزوجل : ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) (٣) .

فمن كان صادقاً في حبّ اللّه‏ أحبّ الإيمان وأهله ، ووالاهم وتمسّك بلوازمه ، وكره الكفر والفسوق والعصيان ، وأبغض أهل ذلك وعاداهم ، وتبرّأ منهم ، ومن لم يكن كذلك فهو كاذب في دعواه ، غادر بهواه ، بل هو من نوع هؤلاء وعدوٌّ لمولاه .

قال اللّه‏ سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٤) .

وقال تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٦٢ ـ ٦٣ .

(٢) سورة الحجرات ٤٩ : ١٠ .

(٣) سورة الحجرات ٤٩ : ٧ .

(٤) سورة التوبة ٩ : ٢٣ .

١٧٠

حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) (١) ، الآية .

وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) (٢) .

وقال : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) (٣) .

وقال : ( تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى قوله تعالى : ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ) (٤) ، الآية .

وقال عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) (٥) .

وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٦) ، الآية .

وقال : ( لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) (٧) ، الآية .

وقال : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ

__________________

(١) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢ .

(٢) سورة الممتحنة ٦٠ : ١ .

(٣) سورة الممتحنة ٦٠ : ٤ .

(٤) سورة المائدة ٥ : ٨٠ ـ ٨١ .

(٥) سورة الممتحنة ٦٠ : ١٣ .

(٦) سورة المائدة ٥ : ٥١ .

(٧) سورة آل عمران ٣ : ١١٨ .

١٧١

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) (١) .

وقال : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ) (٢) .

وقال : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٣) .

وقال : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) (٤) .

وقال : ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) (٥) .

وقال : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) (٦) الآية .

وقال : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٧) .

وقال : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (٨) .

وقال : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (٩) ، الآية .

والآيات من هذا القبيل كثيرة ، وسيأتي بعضها ، وكذلك الأخبار ، ولنذكر نبذاً منها:

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٦٧ .

(٢) سورة التوبة ٩ : ٥٦ .

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٧٣ .

(٤) سورة الأعراف ٧ : ٢٧ .

(٥) سورة الأعراف ٧ : ٣٠ .

(٦) سورة البقرة ٢ : ١٦٥ .

(٧) سورة التوبة ٩ : ٧١ .

(٨) سورة المائدة ٥ : ٥٥ .

(٩) سورة المائدة ٥ : ٥٤ .

١٧٢

ففي الحديث من طريق أهل البيت عليهم‌السلام : «من أحبّ للّه‏ وأبغض للّه‏ وأعطى للّه‏ ، فهو ممّن كمل إيمانه» (١) .

وفيه أيضاً : «إنّ من أوثق عُرى الإيمان أن تحبّ في اللّه‏ وتبغض في اللّه‏» (٢) ، الخبر .

ورواه ابن أبي الدنيا (٣) في كتاب الإخوان : عن البراء (٤) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نقل عنه السيوطي في جامعه (٥) .

وفيه أيضاً قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏ ، وتوالي أولياء اللّه‏ والتبرّي من أعداء اللّه‏» (٦) .

وروى مثله الطبراني في كتابه الكبير عن ابن عبّاس ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) .

وسئل الصادق عليه‌السلام عن الحبّ والبغض [أ (٨) ] من الإيمان هو ؟ فقال :

__________________

(١) المحاسن ١ : ٤١٠ / ٩٣٤ ، الكافي ٢ : ١٠١ / ١ (باب الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏) ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٩١ .

(٢) المحاسن ١ : ٤١٠ / ٩٣٢ ، ثواب الأعمال : ٢٠٢ / ١ ، الأمالي للمفيد : ١٥١ .

(٣) هو عبداللّه‏ بن محمّد بن عبيد بن سفيان ، يكنّى أبا بكر ، المشهور بابن أبي الدنيا ، من الوعّاظ العارفين بأساليب الكلام وما يلائم طبائع الناس ، له كتب ، منها : الإخوان ، الأدب ، الأشراف ، ولد سنة ٢٠٨ ، ومات سنة ٢٨١ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٨٩ / ٥٢٠٩ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٣٩٧ / ١٩٢ .

(٤) هو البراء بن عازب بن الحارث بن عدي ، يكنّى أبا عمارة ، وقيل : أبا عمرو ، صحابي من أصحاب الفتوح ، أسلم صغيراً وغزا مع رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمس عشرة غزوة ، وروى حديثاً كثيراً ، مات سنة ٧٢ ، وقيل : سنة ٧١ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١ : ١٧٧ / ١٦ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٩٤ / ٣٩ ، الأعلام ٢ : ٤٦ .

(٥) الإخوان : ٣٥ / ١ ، جامع الأحاديث ٣ : ٣٠٤ / ٨٧٩٦ .

(٦) المحاسن ١ : ٤١١ / ٩٣٩ ، الكافي ٢ : ١٠٢ /٦ (باب الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏) .

(٧) المعجم الكبير للطبراني ١١ : ١٧١ ـ ١٧٢ / ١١٥٣٧ بتفاوتٍ في بعض الألفاظ .

(٨) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .

١٧٣

«وهل الإيمان إلاّ الحبّ والبغض» ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْءِيمَنَ» (١) » (٢) ، الآية .

وقال عليه‌السلام : «من لم يحبّ على الدين ولم يُبغض على الدين فلا دين له» (٣) .

وفي مستدرك الحاكم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «من أحبّ قوماً حُشر معهم» (٤) .

وفي كتاب السخاوي (٥) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «من أحبّ قوماً ووالاهم حشره اللّه‏ فيهم» (٦) .

وفيه أيضاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (٧) .

وقد رواه أيضاً أبو داود والتِرمذي وغيرهما (٨) ، لكن عدّه ابن

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ٧ .

(٢) المحاسن ١ : ٤٠٩ / ٩٣٠ ، الكافي ٢ : ١٠٢ / ٥ (باب الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏) ، بحار الأنوار ٦٩ : ٢٤١ / ١٦ .

(٣) الكافي ٢ : ١٠٤ / ١٦ (باب الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏) .

(٤) المستدرك للحاكم ٣ : ١٨ .

(٥) هو محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن أبي بكر بن عثمان ، يكنّى أبا عبداللّه‏ بن الزين ، ويلقّب شمس الدين أبو الخير الشافعي المذهب ، عالم بالحديث والتفسير والأدب ، أصله من سخا (من قرى مصر) له كتب ، منها : الضوء اللامع ، والمقاصد الحسنة ، والتحفة اللطيفة ، ولد في ربيع الأوّل سنة ٨٣١ في القاهرة ، ومات سنة ٩٠٢ هـ بالمدينة .

انظر : شذرات الذهب ٨ : ١٥ ، والأعلام ٦ : ١٩٤ .

(٦) المقاصد الحسنة ٤٤٥ / ١٠١١ .

(٧) المصدر السابق ٤٤٣ / ١٠٠٩ .

(٨) سنن أبي داود ٤ : ٢٥٩ / ٤٨٣٣ ، سنن الترمذي ٤ : ٥٨٩ / ٢٣٧٨ ، مسند الطيالسي : ٣٣٥ / ٢٥٧٣ ، مسند الشهاب ١ : ١٤١ / ١٨٧ .

١٧٤

الجوزي (١) في الموضوعات (٢) ، وقال : وحديث «المرء مع من أحبّ» متّفق عليه (٣) . وهو ما رواه البخاري في صحيحه بأسانيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قيل له : الرجل يحبّ قوماً ولم يلحق بهم ؟ فقال : «المرء مع من أحبّ» (٤) .

وفي صحيحه أيضاً : أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : متى الساعة يا رسول اللّه‏ ؟ قال : «ما أعددت لها؟» قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ، ولكنّي اُحبّ اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «أنت مع من أحببت» (٥) .

وفيه أيضاً : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه‏ إخواناً» (٦) .

وفي أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، عن جابر الجعفي قال : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه‏ ويبغض أهل معصيته ، ففيك خير واللّه‏ يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه‏ ويحبّ أهل معصية اللّه‏ ، فليس فيك خير واللّه‏

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد الجوزي القرشي البغدادي الفقيه الحنبلي ، يكنّى أبا الفرج ، كان من علماء عصره في الحديث والتاريخ وغيرهما من فنون العلم ، عدد تصانيفه تربو على ثلاثمائة وأربعين مصنّفاً منها : زاد المسير في علم التفسير ، المنتظم ، الموضوعات ، ولد سنة ٥٠٨ أو ٥١٠ ، وتوفّي في شهر رمضان سنة ٥٩٧ ببغداد .

انظر : وفيات الأعيان ٣ : ١٤٠ / ٣٧٠ ، شذرات الذهب ٤ : ٣٢٩ ، الأعلام ٣ : ٣١٦ .

(٢) وجدناه في العلل المتناهية ٢ : ٧٢٣ / ١٢٠٦ ، وانظر : التذكرة في الأحاديث المشتهرة للزركشي : ٨٩ ، والمقاصد الحسنة : ٤٤٣ / ١٠٠٩ ، وتذكرة الموضوعات للفتي : ٢٠٤ .

(٣) المقاصد الحسنة : ٤٤٥ / ١٠١١ .

(٤ و٥) صحيح البخاري ٨ : ٤٩ .

(٦) صحيح البخاري ٨ : ٢٥ .

١٧٥

يبغضك ، والمرء مع من أحبّ» (١) .

أقول : لقد تبيّن ممّا بيّنّاه أنّ الحبّ الحقيقي الذي يكون خالصاً للّه‏ تعالى إنّما يتحقّق من صميم القلب ويتمّ ، والمحبّ الصادق الواقعي الكامل في المحبّة إنّما يكون باجتماع شرائط يستلزم كلٌّ منها الآخَر إذا كان كاملاً تامّاً غير ناقص ، بل كلٌّ علامة الآخَر وثمرة تمام الحبّ ، بحيث مهما ظهر النقص في أحدهما كان ذلك علامة نقص أصل الحبّ ، بل ربّما يدلّ على نفيه اُمور :

أحدها : حبّ أصفياء اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوليائهما ، وما أنزله اللّه‏ وما أمر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ ذلك من حبّ محبوب المحبوب ، فيجب أن يحبّ ما ثبت أنّه من الدين الذي أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، وأن يحبّ كتاب اللّه‏ المجيد ، وأن يحبّ آل محمّد عليهم‌السلام وأهل بيته الذين نصّ اللّه‏ تعالى بطهارتهم (٢) ، وأوجب في كتابه مودّتهم (٣) ، وجعلهم الرسول قريناً لكتاب اللّه‏ (٤) ، وصرّح بمناقبهم وحسن حالهم ووجوب حبّهم ، وأنّهم منه وهو منهم ، كما سيأتي في مناقبهم مفصّلاً ، وأنّ أصلهم عليّ وفاطمة والحسنان صلوات اللّه‏ عليهم ، وأن يحبّ عموماً من السابقين واللاحقين كلّ مؤمن باللّه‏ وكتبه ورسله وجميع ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محبّ لما ذكرناه وخصوصاً من لم تكن شبهة في ثبوت إيمانه وظهور حُسن حاله ، بحيث يكون بيّناً من أحواله وأفعاله وأقواله وأطواره وآثاره رسوخ حبّ جميع هؤلاء الذين

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠٣ / ١١ (باب الحبّ في اللّه‏ والبغض في اللّه‏) .

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣ .

(٣) سورة الشورى ٤٢ : ٢٣ .

(٤) كما في حديث الثقلين المتواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٧٦

ذكرنا وجوب حبّهم في قلبه ، صحابيّاً كان أو غيره ؛ لما سيظهر ممّا يأتي من وجود غير الخيّر في الصحابي أيضاً .

وثانيها : اتّباع أوامر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتابعة هؤلاء الذين بيّنّا وجوب محبّتهم ، واكتساب حالتهم ، واقتفاء آثارهم ، والاقتداء بأطوارهم ، وترك مخالفتهم ، بل اجتناب ما فيه استشمام كراهتهم ؛ ضرورة أنّه من أحبّ قوماً اكتسب أحوالهم واتّبع آثارهم ، ولم يرض إلاّ بما فيه رضاهم ، كما هو المجرَّب المتعارف أيضاً .

ونعم ما قال من قال ـ كما نقل السخاوي وغيره ـ : اعلم أنّك لن تلحق بالأخيار حتّى تتّبع آثارهم ، وحتّى تأخذ بهديهم وتقتدي بسنّتهم ، وتصبح وتمسي على منهاجهم حرصاً على أن تكون منهم ، ثمّ ذكر شعراً :پ

تَعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حُبَّهَ

هذا لَعمري في القياس بدَيعُ

لَوّ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعتَهُ

إنّ المُحِبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيع (١)

قال : ومنه قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٢) (٣) ، وسيأتي لهذا زيادة توضيح .

وثالثها : بغض أعداء اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخالفيهما سرّاً أو جهاراً كالذين لم يأتمروا بأوامرهما ولم يستنّوا بسنّتهما ، واتّبعوا الأهواء وتمسّكوا بالآراء ، لاسيّما الذين نبذوا كتاب اللّه‏ وراء ظهورهم ، ولم يعبأوا بما جاء به نبيّهم ، فعادوا أولياءه ووالوا أعداءه ، وظلموا أهل بيته ، وحملوا الناس على

__________________

(١) وردت الأبيات في ديوان محمود بن الحسن الورّاق : ١٩٠ ، وديوان ذي الرمّة ٢ : ٣٤٥ ، وديوان النابغة الذبياني : ٢٣١ ، وأيضاً في شعر الشافعي : ٢٨٦ ، وقد نسبه الغزالي في إحياء علوم الدين لابن المبارك ٤ : ٣٣١ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ١٨ .

(٣) المقاصد الحسنة : ٤٤٦ .

١٧٧

أكتاف آل محمّد عليهم‌السلام ، كما يأتي تبيانه غير مرّة .

ولنذكر هاهنا بعض كلام القاضي عياض بن موسى (١) في كتاب الشفا ذكره في هذا المقام حيث إنّ كلامه مقبول عند المخالفين وحجّة عليهم ؛ فإنّه من أعاظمهم .

قال في فصل علامة محبّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اعلم أنّ من أحبّ شيئاً آثره وآثر موافقته (٢) وإلاّ لم يكن صادقاً في حبّه وكان مدّعياً محضاً ، فالصادق في حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تظهر علامات ذلك عليه .

وأوّلها الاقتداء به واستعمال سنّته ، واتّباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدّب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (٣) .

ثمّ إيثار ما شرعه وحضّ عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته ، قال اللّه‏ تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) إلى قوله : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٤) ، الآية .

__________________

(١) عياض بن موسى بن عياض بن عمرو (عمرون) بن موسى ، يكنّى أبا الفضل ، أحد أئمّة المالكيّة الفقهاء ، المحدّثين ، الأدباء ، له كتب منها : مشارق الأنوار ، والغنية والشفا بتعريف حقوق المصطفى ، ولد سنة ٤٧٦ هـ بالمدينة المنوّرة ، ومات سنة ٥٤٤ هـ بمراكش .

انظر : وفيات الأعيان ٣ : ٤٨٣ / ٥١١ ، سير أعلام النبلاء ٢٠ : ٢١٢ / ١٣٦ ، الأعلام ٥ : ٩٩ .

(٢) في «م» : محبّته .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٣١ .

(٤) سورة الحشر ٥٩ : ٩ .

١٧٨

ثمّ إسخاط العباد في رضا اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال : وقد روى سعيد بن المسيّب (١) عن أنس ، قال : قال لي رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غشّ لأحد فافعل ، فإنّ ذلك من سنّتي ، ومن أحيا سنّتي فقد اُحبّني ، ومن أحبنّي كان معي في الجنّة» (٢) .

قال : فمن اتّصف بهذه الصفة فهو كامل المحبّة [للّه‏ (٣) ] ، ومن خالفها في بعض ما ذكر فهو ناقص المحبّة ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للذي حدّه في الخمر فلعنه بعضهم ، فقال : «لا تلعنه فإنّه يحبّ اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) (٥) .

أقول : ولكن قد ينجرّ بكثرة المخالفة كمّاً وكيفاً إلى أن يخرج عن الاسم بالمرّة ، بل يحكم بنفاقه إن ادّعاها ، كما يشهد لهذا قول اللّه‏ سبحانه وتعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ) إلى قوله : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ

__________________

(١) سعيد بن المسيّب بن حَزْن بن أبي وهب المخزومي القرشيّ ، يكنّى أبا محمّد ، من التابعين ، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، وكان يعيش من التجارة بالزيت ، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب ، وقيل : لأربع ، واختلف في سنة وفاته على أقوال ، منها : أنّه مات سنة ٩٤ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٢ : ٣٧٥ / ٢٦٢ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٢١٧ / ٨٨ ، الأعلام ٣ : ١٠٢ .

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٤٦ / ٢٦٧٨ .

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .

(٤) صحيح البخاري ٨ : ١٩٧ ، مشكاة المصابيح ٢ : ٥١ / ٣٦٢٥ .

(٥) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٥٦ ـ ٥٨ ، وانظر : نسيم الرياض في شرح الشفا ٣ : ٣٥٧ .

١٧٩

الْمَوْتُ ) (١) ، الآية ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) (٢) ، الآية وغيرهما ، فافهم .

قال القاضي : ومن علامات محبّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كثرة ذكره ، وكثرة شوقه إلى لقائه ، وتعظيمه له ، وتوقيره عند ذكره ، وإظهاره الخشوع والانكسار عند سماع اسمه وأمثال ذلك (٣).

أقول : وقد روى الحافظ أبو نعيم (٤) والديلمي (٥) وغيرهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أحبّ شيئاً أكثر ذكره» (٦) .

وقد قال سبحانه في صفة المؤمنين : ( إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (٧) ، الآية .

وأمثالهما من الآيات والروايات الدالّة على ما ذكره عديدة ، مع

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١٧ ـ ١٨ .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٤ .

(٣) الشفا ٢ : ٥٨ ـ ٥٩ .

(٤) هو أحمد بن عبداللّه‏ بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني ، يكنّى أبا نعيم ، من المحدّثين ، له كتب ، منها : دلائل النبوّة ، وحلية الأولياء ، وذكر أخبار أصبهان ، والشعراء ، ولد في رجب سنة ٣٣٦ ، ومات سنة ٤٣٠ هـ في إصبهان .

انظر : وفيات الأعيان ١ : ٩١ / ٣٣ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٤٥٣ / ٣٠٥ ، ميزان الاعتدال ١ : ١١١ / ٤٣٨ ، الأعلام ١ : ١٥٧ .

(٥) هو شِيرويه بن شهردار بن شِيرويه ، يكنّى أبا شجاع ، ويلقّب بالكيا ، المعروف بالديلمي ، محدّث ، له كتب ، منها : الفردوس ، حكايات المنامات ، تاريخ همذان ، ولد سنة ٤٤٥ ، ومات سنة ٥٠٩ هـ .

انظر : سير أعلام النبلاء ١٩ : ٢٩٤ / ١٨٦ ، طبقات الحفّاظ للسيوطي : ٤٥٧ / ١٠٢٨ ، شذرات الذهب ٤ : ٢٣ ـ ٢٤ ، الأعلام ٣ : ١٨٣ .

(٦) حكاه عنهما السخاوي في المقاصد الحسنة : ٤٦١ / ١٠٥٠ ، وانظر : الجامع الصغير ٢ : ٥٥٣ / ٨٣١٢ ، وكنز العمّال ١ : ٤٢٥ / ١٨٢٩ ، والشفا ٢ : ٥٨ ، بتفاوت يسير .

(٧) سورة الأنفال ٨ : ٢ .

١٨٠