ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

ولهذا ورد في الحديث : «أنّ المؤمن في المسجد كالسمك في الماء ، والمنافق في المسجد كالطير في القفص» (١) .

فإذا كان الأمر بهذه المثابة في الشيوع والوضوح وعموم الجريان ، حتّى في بديهي البطلان ، فكيف أمكن استطراق المنع من جريان ذلك في الاُمور الخفيّة كالعقائد الدينيّة والمسائل النظريّة ؟ فلا يبعد ، بل كثيراً ما متحقّق ثابت اعتقاد كلّ اُناس بحقّيّة ما ذهب إليه آباؤهم ومشايخهم وأسلافهم بمحض أنّهم نشأوا عليه ورسخ في أذهانهم من بدو الحال وأوّل الوهلة ولو كان واضح البطلان عند صحيح النظر الذي لم يكن بهذه المثابة ، وأكثر هؤلاء الأقوام يصير رسوخهم ، بحيث لا يدركون المعايب التي تكون في ذلك ولا ضعف دليله ، ولا قوّة دليل الخصم ؛ إذ لم يتوجّهوا إليه بقلب صاف ولا فكر صائب ؛ لما في صميم قلوبهم من الميل إلى ما اعتادوا عليه ورسخ في أذهانهم وإن لم يشعروا بهذه العلّة ، كما هو أحد معاني ما ورد من أنّ «حبّك للشيء يعمي ويصمّ» (٢) .

ولهذا قال اللّه‏ عزوجل : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (٣) ، وقال : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٤) .

وقال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المرء مع من أحبّ» (٥) .

__________________

(١) انظر : كشف الخفاء ٢ : ٣٨٨ / ٢٦٨٩ ، تحفة الاحوذي ٧ : ٦٨ .

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٨٠ / ٥٨١٤ ، غوالي اللآلي ١ : ١٢٤ / ٥٧ و٢٩٠ / ١٤٩ ، في الجميع عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٧١ .

(٤) سورة الروم ٣٠ : ٣٢ .

(٥) الأمالي للطوسي : ٦٢١ / ١٢٨١ ، كشف الريبة : ٦٩ ، مسند أحمد ١ : ٦٤٨ / ٣٧١٠ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٠٣٤ / ٢٦٤٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٥٩٥ / ٢٣٨٥ ، إحياء علوم الدين ٣ : ٢٩٨ .

١٤١

وقد أخبر اللّه‏ عزّ شأنه في مواضع كثيرة من كتابه بشيوع هذه الحالة ، وأنّها دأب أهل الباطل في عدم قبول الحقّ ، حتّى بعد وضوحه أيضاً ، كقوله عزوجل في قوم نوح عليه‌السلام لمّا دعاهم إلى التوحيد : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا (١) [ تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (٢) .

وفي قوم إبراهيم عليه‌السلام : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *‏ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (٣) .

وفي قوم شعيب [عليه السلام] : ( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) (٤) .

وفي قوم موسى عليه‌السلام : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) (٥) .

وكقوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) (٦) .

وكقوله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) (٧) .

__________________

(١) من هنا إلى ص ١٤٧ هامش ٣ ساقط من نسخة «م» .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٧٠ .

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٥٢ ـ ٥٤ .

(٤) سورة هود ١١ : ٧٨ .

(٥) سورة يونس ١٠ : ٧٨ .

(٦) سورة الحج ٢٢ : ٨ .

(٧) سورة لقمان ٣١ : ٢١ .

١٤٢

وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) (١)

وقوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) (٢) .

وقال : ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ *‏ فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ *‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) (٤) .

وقوله : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٥) .

وقوله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) (٦) .

وقوله سبحانه : ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ *‏ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَٰلِكَ

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ١٠٤ .

(٢) سورة الأحقاف ٤٦ : ١١ .

(٣) سورة الصافات ٣٧ : ٦٩ ـ ٧٣ .

(٤) سورة سبأ ٣٤ : ٤٣ .

(٥) سورة الجاثية ٤٥ : ٢٥ .

(٦) سورة الأعراف ٧ : ٢٨ .

١٤٣

مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) (١) .

وقوله جلّ شأنه : ( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

وقوله : ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) (٣) .

وقوله : ( وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) (٤) .

وقوله : ( مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ) (٥) .

وقوله : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (٦) .

وقوله : ( اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) (٧) .

وقوله : ( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (٨) .

وقوله : ( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) (٩) .

__________________

(١) سورة الزخرف ٤٣ : ٢١ ـ ٢٤ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ٧٥ .

(٣) سورة المائدة ٥ : ٧٠ .

(٤) سورة الرّوم ٣٠ : ٥٨ .

(٥) سورة هود ١١ : ١٠٩ .

(٦) سورة التوبة ٩ : ٣١ .

(٧) سورة الأعراف ٧ : ٣٠ .

(٨) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٧ .

(٩) سورة سبأ ٣٤ : ٣١ .

١٤٤

وقوله : ( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ) (١) الآيات ، وغيرها .

وفي الحديث المشهور : «كلّ مولود يولد على الفطرة لكن أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» (٢) .

واعلم أنّ هذه الحالة ليست مقصورة على العوام ومتابعة الآباء فقط ، بل كما تبيّن ممّا بيّنّاه وظهر من الآيات التي ذكرناها وغيرها أنّ عمدة هذه المصيبة العظمى والبليّة الكبرى ما هو بين المتعلّمين والعلماء الذين هم مناط اعتماد الناس ، فإنّ من المعلوم الواضح أنّ مبدأ تحصيل كلّ محصّل ـ ما سوى الأنبياء والأوصياء ـ هو التعلّم والأخذ ممّن يعتقد أنّه أعلم منه ، وهذا يقتضي أن يعتقد بصحّة ما عنده وحقّيّة ما علمه ؛ إذ لا قدرة له على تمييز أكثر الدقائق وحقّ الأقوال في مبدأ الحال ، وعلى هذا يأخذ كلّ ما يأخذ منه على وجه التصديق والتسليم ، ويرسخ ذلك في ذهنه ، وهذا مع الوداد الذي من لوازم المعاشرة لاسيما بين المتعلّم والمعلّم خصوصاً في المتعلّم ، والاعتياد في المتابعة الذي يزداد بطول المدّة يستلزم زيادة الرسوخ وتمكين التصديق يوماً فيوماً ، بحيث ربّما ينجرّ الأمر إلى أن يحكم ببداهة صحّة ما يكون واضح البطلان من قول اُستاذه .

فإذا نشأ على هذه الحالة إلى أن استغنى عن التعلّم ، وعُدّ من العلماء ، وكملت جودة ذهنه ، وقويت مادّة فكره ، فحينئذٍ :

إمّا أنّه ممّن يدركه التوفيق من اللّه‏ عزوجل فيراجع إلى ما مضى عليه قاصداً لتحقيق ما هو الحقّ من ذلك ، وتمييز ما هو المرشد إلى الصواب ،

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ٣٨ .

(٢) الأمالي للمرتضى ٢ : ٨٢ ، غريب الحديث للهروي ٢ : ٢١ ، مسند أحمد ٢ : ٤٦٤ / ٧١٤١ ، غريب الحديث لابن قتيبة ١ : ٣٤٩ / ٦١ ، تأويل مختلف الحديث : ١٢٨ ، وفي النسخ المعتمدة ورد : « وينصّرانه . . . » وما أثبتناه من المصادر .

١٤٥

متّكلاً في ذلك بهداية ربّ الأرباب بقلبٍ صافٍ عن شوب الاعتماد في الاعتقاد على ما رسخ في ذهنه بسبب ما ذكر من الاعتياد ، فهذا هو الذي يأتي في الفصل الآتي أنّه من أهل الاهتداء ، ومن يُرجى له النجاة من مرديات الأهواء ، وأنّهم الأقلّون عدداً ، والأعظمون قدراً ، كما سيظهر فيما بعد كمال الظهور .

وإمّا أنّه ممّن يبقى على حالته الاُولى بحيث لو راجع أيضاً لا يرجع بخير ؛ لما في قلبه من شوب الاعتماد على ما رسخ في ذهنه من الاعتياد ، كما هو حال أكثر المشاهير ، وجمهور الجماهير ، فمثل هذا كالمقلّد وإن عُدّ كاملاً ، وكالجاهل وإن عُدّ عالماً ، وكلّما ازداد فكراً وخيالاً زاد ـ إن كان على الخطأ ـ بُعْداً وضلالاً .

قال ابن عباس (١) : الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها (٢) .

قال اللّه‏ تعالى : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) (٣) .

وقال سبحانه : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (٤) .

وكفى في هذا ما يرى في أصناف العلماء من بقاء كلٍّ منهم على تحسين فنٍّ نشأ عليه ومارسه ، وتحصين علم اعتاد عليه وماهر فيه ؛ لأنّ كلّ إنسان يخوض فيما أحبّ ويدفع ما لا يوافق محبوبه ؛ ولهذا قال اللّه‏

__________________

(١) هو عبداللّه‏ بن عباس بن عبد المطلب ، يكنّى أبا العباس ، من العلماء بالفقه والحديث والتفسير في صدر الإسلام ، وهو ابن عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، له كتب منها : تفسير القرآن ، وغريب القرآن ، ولغة القرآن ، ولد بمكة ونشأ بها ، وتوفّي سنة ٦٨ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٣ : ٦٢ / ٣٣٨ ، طبقات المفسّرين لنويهض ١ : ٣١٠ ، شذرات الذهب ١ : ٧٥ .

(٢) دفع الشُبهة عن الرسول والرسالة لتقي الدين الحصيني : ٦٤ .

(٣) سورة فاطر ٣٥ : ٨ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ٩٣ .

١٤٦

سبحانه : ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (١) ، اَلاَ ترى إلى الأشعري كيف يعتقد بصحّة عقائده ، والمعتزلي يحكم بضلالتها ، والمتفلسفي يجزم بأنّ الحقّ معه ، والمتشرّع يقطع ببطلان مذهبه ويكفّره ؟ ! وكذلك سائر فِرَق الشيعة والسنّة ، مع وضوح أنّ الحقّ واحد وخلافه باطل ؛ ضرورة امتناع صحّة المتناقضين معاً ، فلولا ما ذكرناه من علّة الاعتياد ، مع ما سيأتي من أسباب التخالف والعناد ، لما حصل النزاع والاختلاف ، ولا مال أحد عن طريق الانصاف .

ولا يخفى أنّ هذا عمدة أسباب ما ذمّه اللّه‏ عزوجل من الحميّة الجاهليّة ، وما لم يترك الإنسان هذه الحالة ولم يجعل الطرفين متساويين عند إرادة التحقيق في المسائل الخلافيّة ، لم يمكنه تحقيق الحقّ ، سواء كان سنّيّاً أو شيعيّاً أو غيرهما ، فيجب على كلّ من يريد الحقّ أن يبذل أوّلاً جهده في استخلاص نفسه عن هذه الحالة ، كما سيأتي في الفصل الآتي ؛ لأنّ العادات قاهرات ، وقد امتحن اللّه‏ عباده بذلك حتّى يميز الخبيث من الطيّب ، ويكون المجاهد في سلب هذه الحالة مستحقّاً للأجر العظيم ، والخلاص من نار الجحيم ؛ لأنّه أحد أفراد الجهاد الأكبر الذي فسّره رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : «هو جهاد النفس التي بين الجنبين» (٢) ، وقد قال عليّ عليه‌السلام : (٣) . «الناس ثلاثة : فعالم ربّانيّ ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٢٨ .

(٢) الأمالي للصدوق : ٥٥٣ / ٧٤٠ ، معاني الأخبار : ١٦٠ وفيها نحوه .

(٣) إلى هنا سقط من نسخة «م» ، انظر صفحة ١٤٢ هامش «١» .

١٤٧

يلجأوا إلى ركن وثيق» (١) ؛ إذ لا شكّ في أنّ العالم الربانيّ الذي لا ريب فيه هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الآخذ علمه من كتاب اللّه‏ ووحيه وإلهامه ، وكذا الذين اقتبسوا من نوره ، وأخذوا من علومه ، واستقاموا على ذلك ، بحيث أن لا مستند لكلامهم إلاّ قول اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهؤلاء أيضاً هم المتعلّمون على سبيل النجاة مع أتباعهم المقتفين لآثارهم المستقيمين على أطوارهم ، فحينئذٍ يبقى البواقي تحت الفرد الباقي .

ولهذا قال الصادق عليه‌السلام : «من أخذ دينه من كتاب اللّه‏ وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال» (٢) .

وفي الحديث : «العلم ثلاثة : كتاب ناطق ، وسنّة قائمة ، ولا أدري» (٣) ، أي : لا يجوز التكلّم بغيرهما .

وفيه : «إنّما هما اثنان : الكلام والهَدْيُ ، فأحسن الكلام كلام اللّه‏ تعالى ، وأحسن الهَدْي هَدْي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا وإيّاكم ومحدَثات الاُمور ، فإنّ شرّ الاُمور محدَثاتها ، وإنّ كلّ محدَثة بدعة ، وإن كلّ بدعة ضلالة» ، رواه جماعة منهم ابن ماجة في صحيحه (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة ٤٩٦ / ١٤٧ ، الخصال : ١٨٦ / ٢٥٧ ، كمال الدين ١ : ٢٩٠ / ٢ ، تحف العقول : ١٦٩، الأمالي للطوسي ١٢٠ : ٢٣ / ٢٣ ، الأمالي للمفيد: ٢٤٧ / ٣، الإرشاد للمفيد ١ : ٢٢٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٥ ، العقد الفريد ٢ : ٢١٢ ، تاريخ بغداد ٦ : ٣٧٩ .

(٢) الكافي ١ : ٦ ، الفصول المهمة للحر العاملي ١ : ١٢٤ / ٢٢ (باب ٥) .

(٣) إحياء علوم الدين ١ : ٦٩ .

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ١٨ / ٤٦ ، إحياء علوم الدين ١ : ٨٠ ، كنز العمّال ١٥ : ٩٢٣ / ٤٣٥٨٩ .

١٤٨

وقد نقل الغزالي (١) عن بعض السلف أنّه قال : ما جاءنا عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلناه على الرأس والعين ، وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ ونترك ـ يعني إذا كان مأخوذاً من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنأخذ ـ وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال (٢) .

وفي الحديث الثابت عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال في قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏ ) (٣) : «أما واللّه‏ ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم» (٤) .

وفي رواية : «ما صاموا لهم ولا صلّوا ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً ، فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٥) .

وفي رواية قال الصادق عليه‌السلام : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللّه‏ فقد عبد اللّه‏ ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس» (٦) .

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبَع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه‏ ، يتولّى فيها رجال رجالاً» (٧) ،

__________________

(١) محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي الطوسي ، كنيته أبو حامد ، فقيه شافعي وفيلسوف ، متصوّف ، وسمّي الغزالي لأنّ والده كان يغزل الصوف ، وهناك قول آخَر ، له كتب ، منها : إحياء علوم الدين ، والمستصفى ، ومشكاة الأنوار ، ولد سنة ٤٥٠ ، ومات سنة ٥٠٥ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٤ : ٢١٦ / ٥٨٨ ، شذرات الذهب ٤ : ١١ ، الأعلام ٧ : ٢٢ .

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٧٩ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ٣١ .

(٤ و٥) الكافي ١ : ٤٣ / ١ ، ٣ (باب التقليد) .

(٦) الكافي ٦ : ٤٣٤ / ٢٤ ، الاعتقادات للصدوق : (ضمن مصنفات الشيخ المفيد ج٥) ١٠٩ / ٣٩ ، بحار الأنوار ٧٢ : ٢٦٤ / ١ .

(٧) نهج البلاغة : ٨٨ الخطبة ٥٠ ، الكافي ١ : ٤٣ ـ باب البدع والرأي ـ .

١٤٩

الخبر .

وقال أيضاً في بعض كلامه : «اعلموا أنّ اللّه‏ تعالى لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممّن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون في أثر بيِّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال قبلكم» (١) .

وفي بعض خطبه أيضاً : «إنّ أبغض الخلق إلى اللّه‏ عزوجل لرجلين : رجل وكله اللّه‏ إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف (٢) بكلام بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة ، فهو فتنة لِمَن افتتن به ، ضالّ عن هَدْي من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .

ورجل قَمَشَ جهلاً في جهّال الناس ، عان (٣) بأغباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً ، بكّر فاستكثر [من جمع (٤) ] ما قلّ منه خيراً ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، وإن خالف قاضياً سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي من بعده ، كفعله بمن كان قبله ، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ، ثمّ قطع به ، فهو من لَبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ؟ لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكر ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٦٦ الخطبة ١٨٣ .

(٢) في الكافي ١ :٤٤ / ٦ : «مشعوف» .

(٣) في الاحتجاج ١ : ٦٢١ / ١٤٣ : «غاد» ، وفي نهج البلاغة : «عادٍ» وفي بعض نُسَخ النهج : «غارّ» ، أي : غافل .

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .

١٥٠

مذهباً ، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره ، وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به ؛ لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له : لا يعلم .

ثمّ جسر فقضى ، فهو مفتاح عشوات ، ركّاب شبهات ، خبّاط جهالات ، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم ، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث ، وتصرخ منه الدماء ، يستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم بحكمه الفرج الحلال ، لا مليّ بإصدار ما عليه ورد ، ولا هو أهل لما منه فرط من ادّعائه علم الحقّ» ، الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام : (١)

«إلى اللّه‏ أشكو من معشر يعيشون جهّالاً ويموتون ضلاّلاً ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق سلعة منه إذا حرّف عن مواضعه» (٢) ، الخطبة .

والأخبار من هذا القبيل كثيرة تركناها خوفاً من الإطالة من غير ضرورة ، ويأتي بعضها في الأبواب الآتية مع نقل نبذ ممّا صدر من بعض الناس سلفاً وخلفاً من إخفاء ما كان فيه دلالة على الحقّ ، وتحريفه لفظاً ومعنىً ؛ للميل المذكور وغيره ، فانتظر ولا تغفل عنه .

لكن هاهنا رواية صحيحة في حكاية مليحة مناسبة لما نحن فيه ، مع دلالتها على أنّ دأب مخالف الشيعة كان تلك المتابعة الباطلة ، كما هو كذلك اليوم :

__________________

(١) نهج البلاغة : ٥٩ خطبة : ١٧ بتفاوت ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١١ ، الكافي ١ : ٤٤ / ٦ ، دعائم الإسلام ١ : ٩٧ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٢٣١ ، الاحتجاج ١ : ٦٢١ / ١٤٣ ، نهج السعادة للمحمودي ١ : ٥٢٨ / ١٥٢ بتفاوت يسير .

(٢) نهج البلاغة : ٦٠ ، خطبة ١٧ ، وفيه : ولا سلعة أنفق بيعاً . . . .

١٥١

روى الكشي (١) وغيره بإسناد معتبر عن ثقات من العلماء ، عن أبي كهمس الكوفي (٢) قال : دخلت على جعفر بن محمّد عليهما‌السلام فقال لي : «شهد محمّد بن مسلم الثقفي (٣) عند [ابن (٤) ] أبي ليلى القاضي (٥) بشهادة فردّ شهادته» ، قلت : نعم .

فقال : «إذا صرت إلى الكوفة فأت ابن أبي ليلى وقل له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بالقياس ، ولا تقل (٦) : قال أصحابنا ومشايخنا ،

__________________

(١) محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي ، يكنّى أبا عمرو ، ثقة بصير بالأخبار وبالرجال ، صحب العيّاشي وأخذ منه ، له كتب منها : كتاب الرجال .

انظر : الفهرست : ٢١٧ / ٦١٤ ، الخلاصة : ٢٤٧ / ٨٣٨ ، رجال ابن داود : ١٨٠ / ١٤٧١ .

(٢) هو الهيثم بن عبداللّه‏ ، من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، يشترك مع القاسم بن عبيد في هذه الكنية .

انظر : جامع الرواة ٢ : ٤١٢ ، الكنى والألقاب ١ : ١٤١ ، رجال النجاشي : ٤٣٦ / ١١٧٠ .

(٣) هو محمّد بن مسلم بن رباح الكوفيّ الثقفيّ ، من أصحاب الإجماع ، ومن فقهاء أصحاب الباقر والصادق والكاظم صلوات اللّه‏ عليهم ، فقيه ورع جليل ، من حواريّ الباقرين صلوات اللّه‏ عليهما ، والروايات الواردة في مدحه وجلالته كثيرة ، له كتاب ، يسمّى الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام ، توفّي سنة ١٥٠ هـ .

انظر : رجال النجاشي : ٣٢٣ / ٨٨٢ ، الخلاصة : ٢٥١ / ٨٥٨ ، قاموس الرجال للتستري ٩ : ٥٧٢ / ٧٢٧٥ .

(٤) أضفناها من المصدر .

(٥) هو محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار ، ويقال : داود بن بلال بن أُحَيحة بن الجُلاح الأنصاري الكوفي من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وبينه وبين أبي حنيفة منافرات ، وتولّى القضاء بالكوفة ، وأقام حاكماً ثلاثاً وثلاثين سنة ، ولد سنة ٧٤ ، ومات سنة ١٤٨ هـ بالكوفة .

انظر : الكنى والألقاب ١ : ١٩٤ ، قاموس الرجال للتستري ٩ : ٣٥٦ / ٦٨٧٧ ، وفيات الأعيان ٤ : ١٧٩ / ٥٦٤ .

(٦) في النسخ ورجال الكشي : «تقول» . وما أثبتناه من الاختصاص للمفيد .

١٥٢

ثمّ سله عن الرجل شكّ في الركعتين الأوّلتين من الفريضة ، وعن الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله ؟ وعن الرجل يرمي الجمار سبع حصيات فتسقط منه واحدة كيف يصنع ؟ فإذا لم يكن عنده فيها شيء ، فقل له : يقول لك جعفر بن محمد عليهما‌السلام : ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام اللّه‏ منك ، وأعلم بسنّة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله منك» ؟

ومراده عليه‌السلام : أنّه أخذها وتعلّمها من معادنها التي هي علماء أهل البيت عليهم‌السلام الذين تنتهي علومهم كلّها إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللّه‏ عزوجل ، كما سيأتي بيانه وتحقيقه في محلّه.

قال أبو كهمس : فأتيت ابن أبي ليلى فقلت له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بكذا وكذا ، قال : هات ، فسألته المسألة الاُولى ، فأطرق ثمّ رفع رأسه إليّ ، فقال : قال أصحابنا ، فقلت له : شرطي عليك أن لا تقول : قال أصحابنا ومشايخنا ، فقال : ما عندي فيها شيء ، فسألته المسألة الثانية ، فأطرق ، ثمّ رفع رأسه ، ثمّ قال : قال مشايخنا ، فأجبته بالجواب الأوّل ، فقال : ما عندي فيها شيء ، فسألته الثالثة ، فأطرق أيضاً ، ثمّ قال ما قال في الاُولى والثانية ، فأجبته أنا بذلك الجواب أيضاً ، فقال : ما عندي فيها شيء .

فقلت له : يقول لك جعفر بن محمّد عليهما‌السلام كيت وكيت .

فقال : ومَنْ هذا الذي رددت شهادته وقال فيه جعفر كذا وكذا ؟

قلت له : محمّد بن مسلم الثقفي .

فقال : واللّه‏ ، إنّ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال لك هذا ؟

فقلت : واللّه‏ ، إنّه لقال لي هذا .

فأرسل إلى محمّد بن مسلم فدعاه فشهد عنده بتلك الشهادة ، فأجاز

١٥٣

شهادته (١) .

أقول : ولنكتف في هذا الفصل بما ذكرناه ، لاتّضاح المسألة على من أراد الحقّ ، فعليه حينئذٍ التخلّي عن هذه الحالة ، والتحلّي بما سيأتي في هذا الفصل الآتي ، واللّه‏ الهادي.

* * *

__________________

(١) رجال الكشي : ٢٤٠ / ٢٧٧ ، الاختصاص : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ بتفاوت .

١٥٤

الفـصل الثاني

في بيان أنّ الواجب على طالب الحقّ غاية بذل الجهد في تصفية نيّته وتفريغ قلبه عن الميل المذكور سابقاً وأمثاله ممّا يأتي ، حتّى يصير قابلاً لإلهام الحقّ وإدراكه ، فإنّ اللّه‏ عزوجل وعد التوفيق لمثل هذا الشخص وهدايته إلى فهم الحقّ ، كما هو صريح قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) الآية .

اعلم أنّه قد تبيّن ممّا مرّ آنفاً أنّ الميل الذي ذكرناه من آفات النفس وموانع فهم الحقّ وتحقيقه والإقرار به ، وستأتي أيضاً آفات اُخَر وموانع شتّى ، كميل النفس إلى الهوى ، وحبّ شهوات الدنيا .

فعلى هذا يجب على كلّ أحد ـ لاسيّما من أراد أن تظهر عليه أنوار العلم والدين ، حتّى يطّلع على حقيقة الحقّ فيتمسّك به على نهج اليقين ـ أن يسلب عن نفسه :

أوّلاً : تلك الرذائل وينظّفها عن تلك الخبائث ؛ إذ ما لم يشتغل بتعهّد القلب وإصلاحه وتطهيره عنها ، لم يصر من علماء الدين ، فضلاً عن أن يكون من أهل الحقّ واليقين ؛ لأنّ العلم عبادة القلب ، وصلاة السرّ ، وقربة

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٩ .

١٥٥

الباطن إلى اللّه‏ عزوجل ، فكما لا تصحّ الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة ، إلاّ بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث ، فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم ، إلاّ بعد طهارته عن (خبائث الأخلاق) (١) وأنجاس الأوصاف ، قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بُني الدين على النظافة» (٢) ، وهو كذلك ظاهراً وباطناً ، وقال اللّه‏ عزوجل : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (٣) ؛ تنبيهاً للعقول على أنّ الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر المدركة بالحِسّ ، فالمشرك ولو قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ، لكنّه نجس الجوهر خبيث الباطن .

ثمّ يجب عليه ثانياً : اكتساب ما به يحصل ضياء القلب ، وصفاء النيّة ، وجلاء الفكر (٤) وسائر لوازم إدراك حقيقة الحقّ وقبوله التام ، وما يستعدّ به لشمول التوفيق ونيل الهداية وحصول الإلهام من اللّه‏ الربّ العلاّم .

قال اللّه‏ سبحانه : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) (٥) ، وقال أيضا : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) (٦) ، وقال عَزّ سلطانه : ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) (٧) .

__________________

(١) ما بين القوسين في «م» هكذا : الخبائث والأخلاق الرديّة .

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٤٩ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ٢٨ .

(٤) في «م» : الأفكار والقلوب .

(٥) سورة الأنعام ٦ : ١٢٥ .

(٦) سورة الزمر ٣٩ : ٢٢ .

(٧) سورة النور ٢٤ : ٤٠ .

١٥٦

ومن الواضحات البيّنة أيضاً أنّ القلب مرآة إدراك الحقّ ، فمهما لم يكن مجليّاً صافياً ـ لاسيّما إذا كان مصدأً ـ كيف يمكن الانتقاش فيه ، ورؤية ما يراد رؤيته منه ؟ بل ربّما يرى فيه الحقّ بصورة الباطل ، كما يرى الصورة البيضاء في المرآة المصدءة مظلمة سوداء .

وفي الحديث : «لا تحلّ الفتيا لمن لا يستفتي من اللّه‏ بصفاء سرّه وإخلاص عمله (١) وعلانيته وبرهان من ربّه في كلّ حال» (٢) .

وفي بعض خطاب اللّه‏ لبني إسرائيل : «لا تقولوا : العلم في السماء من ينزل به [ إلى الأرض (٣) ] ، ولا في تخوم الأرض من يصعد به ، ولا من وراء البحار من يعبر يأتي به ؟ العلم مجعول في قلوبكم تأدّبوا بين يديّ بآداب الروحانيّين ، وتخلّقوا إليّ بأخلاق الصدّيقين أظهر العلم من قلوبكم ، حتّى يغطّيكم ويغمركم» (٤) .

فعلى هذا يجب لا محالة على كلّ مريد لتميّز الحقّ عنده عن غيره التمسّك بآداب أهل الحقّ والتخلّق بأخلاقهم ، وهي عديدة نذكر هاهنا خلاصة ما هو العمدة منها :

الأوّل : أن يكون مقصوده الأصلي إصابة الحقّ وطلب ظهوره كيف اتّفق ، كمنشد ضالّة يكون شاكراً متى وجدها ، ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره ، فيرى (رفيقه عوناً) (٥) لا خصماً يشكره إذا عرّفه الخطأ

__________________

(١) في «ش» و«ن» : علمه .

(٢) مصباح الشريعة : ١٦ ، وفيه : (لا يصطفى) بدل (لا يستفتى) ، بحار الأنوار ٢ : ١٢٠ / ٣٤ .

(٣) الزيادة من المصدر ، يقتضيها السياق .

(٤) إحياء علوم الدين ١ : ٧١ بتفاوت يسير .

(٥) ما بين القوسين في «ن» : رفيقاً معيناً .

١٥٧

وأظهر له الحقّ ، كما لو أخذ طريقاً في طلب ضالّته فينبّهه غيره على ضالّته في طريق آخر ، والحقّ هو ضالّة المؤمن فينبغي أن يطلبه كذلك ، ويفرح بفهمه ولو بوجدانه عند غيره ، ولا يتألّم من ظهور خطأ ما اعتقدة حقّاً وصواباً ، ويترك المجادلة في تصويب رأيه عناداً فإنّ ذلك هو المراء الذي من علائم المبطلين ، وقرائن تعصّب المضلّين الناشيء من الاستكبار عن قبول الحقّ ، المذموم شرعاً وعقلاً .

قال اللّه‏ عزوجل : ( مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) (١) وفي آية اُخرى : ( وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) (٢) .

وفي مستدرك الحاكم وغيره : عن أبي أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما ضلّ قوم بعد هدىً كانوا عليه إلاّ اُوتوا الجدل» (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من ترك المراء وهو مبطل بَنى اللّه‏ له بيتاً في ربض الجنّة ، ومن ترك المراء وهو محقّ بنى له بيتاً في أعلى الجنّة» (٤) .

وقال عليّ عليه‌السلام : «من طلب الدين بالجدل تزندق» (٥) .

وقال عليه‌السلام : «الخصومة تمحق الدين ، وتحبط العمل ، وتورث الشكّ» (٦) .

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ : ٣٢ .

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٨ .

(٣) مسند أحمد ٦ : ٣٣٥ / ٢١٦٦٠ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٩ / ٤٨ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٧٨ / ٣٢٥٣.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ١٩ / ٥١ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٥٣ / ٤٨٠٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٣٥٨ / ١٩٩٣ ، فيهما بتفاوت ، إحياء علوم الدين ١ : ٤٧ ، ٢ : ١٧٩ .

(٥) الاعتقادات (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ج٥ ) : ٤٣ / ١١ .

(٦) التوحيد للصدوق : ٤٥٨ / ٢١ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام .

١٥٨

وقال الصادق عليه‌السلام : «لا يتخاصم إلاّ شاكّ [في دينه (١) ] ، أو من لا ورع له» (٢) . وفي رواية : «إلاّ من [قد (٣) ] ضاق بما في صدره» (٤) .

الثاني : أن يوقف نفسه بموقف يأمن فيه عن أن يزلق ـ بسبب ما في صميم قلبه من الميل والهوى ـ في مهوى الباطل والردى ولو غفلة من حيث لا يشعر ، وذلك بأن يجعل أوّلاً طرفي المسألة التي يريد تحقيقها متساويين عنده نفياً وإثباتاً ، ثمّ يتوجّه إلى ملاحظة الدليل ومتابعة المدلول ، كما مدح اللّه‏ صاحب هذه الحالة بقوله عزوجل : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٥) .

ولكن لا يخفى أنّ تحصيل هذه الحالة كما ينبغي في غاية الإشكال ونهاية الإعضال ، بحيث ربّما يزعم الإنسان الساعي في ذلك أنّه حصّلها وهـو بعد لم يحصل شيئاً منها ، فإنّه موقوف على اُمور عسرة الحصول جدّاً .

منها : خلوص النيّة في التحصيل ، بحيث لا يكون مقصوده في ذلك غير ما يوجب رضا اللّه‏ سبحانه واستحقاق الجنّة وإن استلزم ذلاًّ في الدنيا ومخالفة أهلها ، بل مخالفة عامّة الناس ، بل حتّى كثير من الخواص ، كما قال سبحانه : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٦) .

ومنها : ما هو من أسباب هذا الخلوص أيضاً ، أي : إزالة الميل الذي

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٢) أصل مثنى بن الوليد الحناط (ضمن الأصول الستة عشر) : ١٠٢ بتفاوت يسير .

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٤) التوحيد : ٤٦١ /٣٥ .

(٥) سورة الزمر ٣٩ : ١٨ .

(٦) سورة سبأ ٣٤ : ١٣ .

١٥٩

مضى ، وإزاحة ما يأتي من متابعة الهوى خوفاً من اللّه‏ ورجاءً للهدى ، بأن يجعل نصب عينيه في تمام مدّة نظره أنّه مهما انحرف يميناً أو شمالاً وقع في مهوى الخطأ ، واستحقّ وزراً ووبالاً ، كما قال تبارك وتعالى : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ *‏ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ) (١) ، وقال : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏ ) (٢) .

ومن قرائن صحّة تحقّق تلك الحالة : أن ينظر إلى كلام الخصم بنظر الاعتبار بنحو ما ينظر إلى كلام نفسه ، بل الأولى له أن يتفحّص عن عيوب كلامه ومحاسن كلام الخصم ، حتّى يحصل له بذلك كمال تعادل الطرفين ، ويتبيّن عليه أحسن القولين ؛ إذ كما في الحديث : «إنّ لكلّ حقٍّ حقيقةً ولكلّ صوابٍ نوراً» (٣) ومن الواضح أنّه يظهر حينئذٍ ما فيه شيء من ذلك ظهوراً .

ولهذا ضلّ المخالفون في طغيانهم يعمهون ، حيث إنّهم اعتادوا في بدو الحال على تصديق صحّة طريقتهم وبطلان طريقة الشيعة تقليداً ، ثمّ نشأوا على ذلك ، بحيث صار عندهم مسلّماً ، بحيث إنّ الأكثرين منهم لا يتوجّهون إلى ملاحظة كلام الشيعة ، ولا مطالعة كتبهم تفصيلاً ، بل إذا وقعت بأيديهم حرّقوها وأضاعوها تعصّباً ، حتّى أنّه لو اتّفق لهم النظر فيها نظروا بعين التكذيب ، وفي غاية الإجمال ونهاية الاستعجال ، بل نظر المغشيّ عليه من الموت .

__________________

(١) سورة النازعات ٧٩ : ٣٧ ـ ٣٩ .

(٢) سورة القصص ٢٨ : ٥٠ .

(٣) رواه النعماني في الغيبة : ١٤١ / ٢ عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، وعنه بحار الأنوار ٥١ : ١١٢ / ٨ .

١٦٠