ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وفي رواية اُخرى : «البرّ والفاجر ، ولا يعطي دينه إلاّ من يحبّ» (١) .

وفي اُخرى : «إلاّ صفوته من خلقه» (٢) .

وقد روي مثله عن جمع من الأئمّة الاثني عشر (٣) .

وفيه : أنّ رجلاً من أصحاب الصادق عليه‌السلام قال له : واللّه‏ ، لا يسعك القعود ، لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، فقال : «وكم عسى أن يكونوا ؟ » فقال : مائة ألف ، فقال عليه‌السلام : «مائة ألف ؟» قال : نعم ، ومائتي ألف ، بل نصف الدنيا ، فسكت الصادق عليه‌السلام ، وقال له : «هل يخفّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع ؟» (٤) قال الرجل ، فقلت : نعم ، وركبت معه فمضينا حتّى صرنا إلى أرض حمراء ، فنظر إلى غلام يرعى جداءً (٥) ، فقال : «واللّه‏ ، يا فلان ، لو كان لي شيعة وأنصار بعدد هذه الجداء لما وسعني القعود» ، فعطفت إلى الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر (٦) .

وبهذا المعنى ما ورد في الحديث : أنّ رجلاً قال للحسن بن عليّ المجتبى عليهما‌السلام : إنّي من شيعتكم ، فقال : «إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧٠ / ٣ ، (باب أنّ اللّه‏ إنّما يعطي الدين من يحبّه) ، المحاسن ١ : ٣٤١ / ٧٠٤ ، والتمحيص : ٥١ / ٩٥ .

(٢) الكافي ٢ : ١٧١ / ٣ ، (باب أنّ اللّه‏ إنّما يعطي الدين من يحبّه) ، المحاسن ١ : ٣٤٢ / ٧٠٧ و٧٠٨ .

(٣) انظر : مصادر الهامش ١ و٢ .

(٤) ينبع ـ بالفتح فالسكون وضمّ الموحّدة ـ قرية كبيرة ، بها حصن على سبع مراحل من المدينة ، نُقل أنّه لمّا قسّم رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الفيء أصاب عليّ عليه‌السلام أرضاً فاحتفر عيناً فخرج منها ماء ينبع في الماء كهيئة عنق البعير ، فسمّاها عين يَنْبُع .

انظر : مجمع البحرين ٤ : ٣٩٤ ـ نبع ـ .

(٥) الجدي : من أولاد المعز ، وهو ما بلغ ستّة أشهر أو سبعة ، والجمع جداء .

انظر : مجمع البحرين ١ : ٨١ ، الصحاح ٦ : ٢٢٩٩ ـ جدى ـ .

(٦) الكافي ٢ : ١٩٠ / ٤ (باب في قلّة عدد المؤمنين) ، بحار الأنوار ٤٧ : ٣٧٢ / ٩٣ .

٣٦١

مطيعاً ، فقد صدقت ، وإن كنت بخلاف ذلك ، فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، قل : أنا من مواليكم ومعادي أعدائكم ، وأنت في خير وإلى خير» (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام : أنّه قال ـ في حديث له لقوم من المقرّين بإمامته ، حيث أخبروه أنّهم من شيعة عليّ عليه‌السلام وشيعته ـ : «إنّما شيعة عليّ : الحسن والحسين عليهم‌السلام ، وسلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار ومحمّد بن أبي بكر ، والذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره وزواجره ، فأمّا أنتم فقولوا : نحن موالوه ومحبّوه ، والمعادون لأعدائه» (٢) ، الخبر .

وفي الحديث المشهور بين الفريقين من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء» (٣) ، وأنّ الصحابة قالوا : ومن الغرباء يارسول اللّه‏ ؟ فقال ـ كما في رواية ـ : «إنّهم ناس قليل صالحون بين ناس كثير ، من يبغضهم أكثر ممّن يحبّهم» (٤) .

وكذا بمعناه ما في رواية اُخرى من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّهم الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنّتي» (٥) ، و«الذين يحيون ما أماتوه من سنّتي» (٦) ؛ لظهور قلّة هؤلاء .

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ / ١٥٣ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٠٦ ، البرهان في تفسير القرآن للبحراني ٤ : ٦٠٢ / ٨٩٩٥ ، قطعة من الحديث .

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣١٣ قطعة من حديث ١٥٩ ، البرهان في تفسير القرآن للبحراني ٤ : ٦٠٤ ـ ٦٠٥ / ٨٩٩٥ قطعة من الحديث .

(٣) كمال الدين : ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ٤٤ و٤٥ ، مشكاة الأنوار ٢ : ٢٢٥ / ١٦٤٥ ، سنن الترمذي ٥ : ١٨ / ٢٦٢٩ ، المعجم الأوسط ٩ : ٧٦ / ٨٩٧٧ ، كنز العمّال ١ : ٢٣٨ / ١١٩٤ .

(٤) المعجم الأوسط ٩ : ٧٩ / ٨٩٨٦ ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٧٨ .

(٥) سنن الترمذي ٥ : ١٨ / ٢٦٣٠ ، المعجم الكبير ١٧ : ١٦ / ١١ ، كنز العمّال ١ : ٢٣٨ / ١١٩٤ .

(٦) انظر : العمدة لابن البطريق : ٤٣٥ / ٩١٥ .

٣٦٢

بل يستفاد منهما معنى ما في رواية ثالثة أيضاً من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «هم المستمسكون بما أنتم عليه اليوم» (١) ؛ لأنّ الصحابة ذلك اليوم كانوا على محض اقتفاء أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله ، والتزام أوامره ونواهيه ، وإنّما أحدثوا ما أحدثوا بعده ، ولا شكّ أنّ ذلك كان إقامة السنّة ، وأنّ الجاري بعده على ذلك المنوال في غاية القلّة ، فافهم .

وقد مرّ غير مرّة قول الإمام عليه‌السلام : «إنّ رواة الكتاب كثير ، ورعاته قليل ، وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب» (٢) ، الخبر .

ونعم ما قيل : «إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء ، فاعلم أنّه مخلّط ؛ لأنّه إن نطق بالحقّ ، أبغضوه» (٣) .

ولهذا أيضاً قال عليه‌السلام : «العالم حقّاً هو الذي تنطق عنه أعماله الصالحة» (٤) .

وبمعناه كلام ابن مسعود ، حيث قال : اُنزل القرآن ليُعمل به ، فاتّخذتم دراسته عملاً (٥) .

أقول : وصدق كلامه ظاهر على من تأمّل فيما ذكره مفسّروهم في تفاسيرهم ، فإنّها محشوّة من النكات اللفظيّة ، والقواعد الاصطلاحيّة وأمثالها ممّا هو في جانب عن الإيصال إلى كنه الأسباب الاُخروية ، وعلى من لاحظ

__________________

(١) كنز العمّال ١ : ٢٣٩ / ١١٨٩ ، قريب منه ، ولم نعثر على نصّه فيما توفر لدينا من المصادر .

(٢) الكافي ١ : ٣٩ / ٦ (باب النوادر) ، منية المريد : ٣٧٠ ، مستطرفات السرائر : ١٥٠ / ٦ بحار الأنوار ٢ : ٢٠٦ / ٩٨ ، بتفاوت يسير .

(٣) فيض القدير ٤ : ٢٧٤ .

(٤) مصباح الشريعة : ١٤ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٢ / ٢٥ .

(٥) إحياء علوم الدين ١ : ٦٤ .

٣٦٣

القرّاء عند قراءتهم ، حيث إنّ همّتهم مقصورة على محض الغناء فيه ، وتحسين الصوت ، وأداء القواعد المصطلحة عند القرّاء ، بحيث لا يتجاوز حناجرهم أصلاً ، فضلاً عن التدبّر في معناه ، والتأمّل فيما هو أصل مغزاه .

وقال عليّ عليه‌السلام في بعض كلامه : «إنّ هاهنا» وأشار إلى صدره «لعلماً جمّاً لو أصبت له حملةً ! بلى اُصيب لَقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدّنيا ، ومستظهراً بنعم اللّه‏ على عباده ، وبحججه على أوليائه» ـ وبسط الكلام عليه‌السلام إلى أن ذكر أهل الحقّ ـ ثمّ قال : «اُولئك واللّه‏ ، الأقلّون عدداً ، والأعظمون قدراً» (١) ، الخبر .

وقال عليه‌السلام أيضاً : «القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : عالم ربّاني ، ومتعلّم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق» (٢) ، الخبر .

وفي روايات العامّة قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الخير كثير وفاعله قليل» رواه الطبراني وغيره (٣) .

أقول : ولقد كفى في مزيد توضيح هذا المقام ما ثبت من إخبار رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بافتراق اُمّته على ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها الناجية (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٩٦ / ١٤٧ (قصار الحكم) ، بتفاوت يسير في بعض الألفاظ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٦ .

(٢) نهج البلاغة : ٤٩٥ ـ ٤٩٦ / ١٤٧ (قصار الحكم) ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٥ ، الخصال ١٨٦ / ٢٥٧ ، كمال الدين : ٢٩٠ / ٢ قطعة من الحديث ، الإرشاد ١ : ٢٢٧ ، تاريخ بغداد ٦ : ٣٧٩ ، وفيها بتفاوت يسير.

(٣) المعجم الأوسط ٦ : ٤٧ / ٥٦٠٨ ، كتاب ذكر أخبار إصفهان لأبي نعيم ١ : ٢٠٣ ، تاريخ بغداد ٨ : ١٧٧ ، جامع الأسانيد ١ : ١٠٧ ، مجمع الزوائد ١ : ١٢٥ .

(٤) وردت هذه الرواية بألفاظ مختلفة وأسانيد متعدّدة من العامّة والخاصّة .

٣٦٤

وظاهر أيضاً أنّ في الفرقة الناجية علماء وغير علماء ، وأنّ الثاني أكثر ، وأنّ العلماء فيهم العاملون العابدون وغيرهم ، ولا شكّ أنّ الأوّلين هم الأقلّون ، وهكذا العاملون فيهم الموقنون المخلصون وغيرهم ، والأخيرون أكثر ، وكذلك غير العلماء على أصناف ومراتب عديدة ، بحيث يشاهد أنّ أعلاها أقلّ ؛ ولهذا ورد في الحديث ـ ومعلوم أيضاً ـ أنّ الإيمان على مراتب بحسب الشدّة والضعف وتحقّق الشرائط (١) ، حتّى في الروايات أنّه على عشر درجات (٢) .

وبالجملة : من الواضحات البيّنة أنّ النفيس من كلّ شيء ـ حتّى في غير الإنسان أيضاً ـ أعزّ وجوداً وأقلّ عدداً من أدنى منه رتبةً ، وجميع ما ذكر كلّه شاهد صدق على أن لا اعتماد على الكثرة ، ولا اعتناء بشأن أكثر الناس ، ولا بما مضوا عليه واشتهر عندهم بغير مستندٍ آخَر ، ولهذا قيل : كم من مشهور لا أصل له ، بل ربّما أمكن في بعض الأشياء أن يجعل الاشتهار قرينة عدم الحقيقة ، فافهم .

ولنختم هذا الفصل بذكر خلاصة أحاديث واردة في أصناف الناس :

قال الصادق عليه‌السلام : «الناس على ستّ فِرَق ، يؤلون كلّهم إلى ثلاث فِرَق : الإيمان ، والكفر ، والضلال» ، ثمّ ذكر تلك الفِرَق بما حاصله أنّ :

الاُولى : أهل الوعد بالجنّة ، وهم المؤمنون ، أي : من آمن باللّه‏

__________________

انظر : الكافي ٨ : ٢٢٤ / ٢٨٣ ، الخصال ٢ : ٥٨٥ / ١١ ، كمال الدين : ٦٦٢ ، كفاية الأثر : ١٥٥ ، العمدة لابن البطريق ٧٢ ـ ٧٤ / ٨٩ ، الطرائف ٢ : ٧٤ ، سعد السعود : ٥٩٧ ، غوالي اللآلي ٤ : ٦٥ / ٢٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٦ / ٢٦٤١ ، كنز العمّال ١ : ٣٧٨ / ١٦٤٣ .

(١ و٢) الكافي ٢ : ٣٥ / ١ و٢ (باب درجات الإيمان) و٣٧ / ١ ـ ٤ ، (باب آخر منه) ، الخصال : ٤٤٧ و٤٤٨ / ٤٨ و٤٩ ، روضة الواعظين : ٢٨٠ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٣٤١ / ٥٢ .

٣٦٥

ورسوله وبجميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه وقلبه ، وأطاع اللّه‏ بجوارحه للّه‏ عزوجل ،

والثانية : أهل الوعيد بالنار ، وهم الكافرون ، أي : من كفر باللّه‏ أو برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بشيء ممّا جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا بقلبه أو بلسانه أيضاً ، أو خالف اللّه‏ في شيء من كبائر الفرائض استخفافاً .

وإنّ الباقين : أهل الضلال ، لا مؤمنون ولا كافرون ، وأمرهم إلى اللّه‏ عزوجل إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته ، وإن شاء أدخلهم النار بعدله ، وجعلهم عليه‌السلام أربع فِرَق :

الاُولى : المستضعفون الذين لا يهتدون إلى الإيمان سبيلاً ؛ لضعف عقولهم ، أو عدم استطاعتهم كالصبيان والمجانين والبُله ، ومن لم تصل الدعوة إليه .

والثانية : هم ضعفاء الدين الذين عدّهم اللّه‏ صريحاً من المرجئين لأمر اللّه‏ في الآية (١) ، أي : مؤخّر حكمهم صريحاً إلى مشيئته يوم القيامة ، وهم الذين تابوا من الكفر ودخلوا في الإسلام ، إلاّ أنّه لم يستقرّ في قلوبهم ولم يطمئنّوا إليه بَعْدُ ، قال عليه‌السلام : ومنهم «المؤلّفة قلوبهم» و«من يعبد اللّه‏ على حرف» قبل أن يستقرّ على الإيمان أو الكفر .

والثالثة : فسّاق المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخَر سيّئاً ، ثمّ اعترفوا بذنوبهم فعسى اللّه‏ أن يتوب عليهم .

والرابعة : أصحاب الأعراف ، قال عليه‌السلام : «وهُم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم لا يرجّح أحدهما على الآخَر ليدخلوا به الجنّة أو النّار ، فيكونون

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٦ ( وَءَاخَرُونَ مُرْجَونَ لأَمْرِ اللّه‏ِ ...) .

٣٦٦

في الأعراف حتّى يرجّح أحد الأمرين بمشيئة اللّه‏ سبحانه» (١) .

فهذا خلاصة ذكر الفِرَق الستّ .

أقول : ولعلّ ما في سورة الحمد أيضاً هذا هو المراد به ، بأن يكون قوله تعالى : ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) إشارة إلى الفرقة الاُولى ، و( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) إشارة إلى الثانية ، و( الضَّالِّينَ ) (٢) إشارة إلى الباقين .

ثمّ لا يخفى دلالة هذا أيضاً على قلّة المؤمن وكثرة غيره ، كما هو ما نحن فيه ، فتأمّل واللّه‏ الهادي .

__________________

(١) انظر : الكافي ٢ : ٢٨١ / ١ ـ ٣ (باب أصناف الناس) ، مرآة العقول ١١ : ١٠٤ ـ ١٠٦ ، الوافي ٤ : ٢١١ ـ ٢١٢ .

(٢) سورة الحمد ١ : ٧ .

٣٦٧
٣٦٨

الفصل الرابع

في بيان أمر اللّه‏ عزوجل أولياءه من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم ، حتّى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر على جفاء الجفاة ، وأذى العتاة (١) ، والتزام المداراة ، والتمسّك بالكظم والتقاة ، وكتم الحقّ والعلوم والأسرار عن غير أهلها من الجهلة الأشرار ، وفي ذكر ما ورد في مدح أهل هذه الحالات ، وكونهم على الحقّ ، وأنّهم الهداة .

اعلم أنّ كون هذه الصفات من أجلّة الكمالات لا يحتاج إلى بيان ، بل من أوضح الواضحات ، وقد تبيّن أيضاً ممّا سبق حتّى من بعض الأخبار التي مرّت في فاتحة هذا الكتاب ، فلنذكر هاهنا ما يدلّ على الأمر بها من الآيات والروايات :

قال اللّه‏ عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

وقال : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) (٣) .

__________________

(١) في «م» : العتاد .

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٥٣ .

(٣) سورة البقرة ٢ : ١٧٧ .

٣٦٩

وقال : ( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) (١) .

وقال سبحانه : ( ‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) (٢) الآية .

وقال : ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ) (٣) .

وقال: ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

وقال أيضاً : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٥) .

وقال : ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (٦) .

وقال : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ) (٧) .

وقال سبحانه : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ) (٨) الآية .

وقال : ( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (٩) .

وقال : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (١٠) .

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٢٠ .

(٢) سورة آل عمران ٣ : ٢٠٠ .

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٢٨ .

(٤) سورة النحل ١٦ : ٩٦ .

(٥) سورة الزمر ٣٩ : ١٠ .

(٦) سورة الشورى ٤٢ : ٤٣ .

(٧) سورة الأعراف ٧ : ١٣٧ .

(٨) سورة يونس ١٠ : ١٠٩ .

(٩) سورة هود ١١ : ٤٩ .

(١٠) سورة النحل ١٦ : ١٢٧ .

٣٧٠

وقال تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ) إلى قوله تعالى : ( وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (١) ، الآية .

وقال : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) (٢) ، الآية .

وقال : ( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (٣) .

وقال في حكاية قول يعقوب عليه‌السلام لبنيه : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (٤) .

وقال سبحانه : ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٥) .

وقال : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ) (٦) .

وقال عزوجل : ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٧) .

وقال تبارك وتعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٨) .

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٢٨ .

(٢) سورة الأحقاف ٤٦ : ٣٥ .

(٣) سورة المزّمّل ٧٣ : ١٠ .

(٤) سورة يوسف ١٢ : ١٨ ، ٨٣ .

(٥) سورة الأنعام ٦ : ١٠٦ .

(٦) سورة النساء ٤ : ٦٣ .

(٧) سورة يونس ١٠ : ١١ .

(٨) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٦ .

٣٧١

وقال تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

وقال : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) ، الآية ، وأمثالها كثيرة .

وقال سبحانه في وصف الأخيار : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٣) .

وقال تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٤) .

وقال : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٥) .

وقال عزوجل : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٦) ، الآية ، وأمثالها عديدة لا حاجة إلى الإطالة فيها .

ففي الأخبار التي رواها مخالفونا ، أو هي عندنا وعندهم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الصبر نصف الإيمان» (٧) ، حتّى سئل مرّةً : وما الإيمان ؟ فقال : «الصبر» (٨) .

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ١٢٥ .

(٢) سورة المؤمنون ٢٣ : ٩٦ .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٣٤ .

(٤) سورة القصص ٢٨ : ٨٣ .

(٥) سورة الحجرات ٤٩ : ١٣ .

(٦) سورة آل عمران ٣ : ٢٨ .

(٧) إرشاد القلوب ١ : ٢٥٢ ، (الباب التاسع والثلاثون) ، المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٦ ، مسكّن الفؤاد : ٤٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٣١٩ .

(٨) المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٧ ، مسكّن الفؤاد : ٤٧ ، مسند أحمد ٥ : ٥٢٢ / ١٨٩٤٢ ،

٣٧٢

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أقلّ ما اُوتيتم اليقين ، وعزيمة الصبر ، ومن اُعطي حظّه منهما لم يبال ما فاته من قيام وصيام ، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كلّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ، ولكنّي أخاف أن تفتح عليكم الدنيا من بعدي ، فينكر بعضكم بعضاً ، وينكركم أهل السماء عند ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه» ، ثمّ قرأ قوله تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) (١) ، الآية» (٢) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصبر كنز من كنوز الجنّة» (٣) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الصبر على ما تكره خير كثير» (٤) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً ، واللّه‏ يحبّ الصابرين» (٥) .

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن غير واحد من ذرّيّته الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم قالوا : «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر له» (٦) .

وقالوا : «من لا يعدّ الصبر لنوائب الدّهر يعجز» (٧) .

__________________

مجمع الزوائد ١ : ٥٤ ، و٥ : ٢٣٠ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٣٢٢ .

(١) سورة النحل ١٦ : ٩٦ .

(٢) مسكّن الفؤاد : ٤٧ ، المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦١.

(٣) مسكّن الفؤاد : ٤٧ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦١ .

(٤) مسكّن الفؤاد : ٤٨ ، المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٧ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦٢ .

(٥) مسكّن الفؤاد : ٤٨ ، المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٨ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦٢ .

(٦) نهج البلاغة : ٤٨٢ / ٨٢ (قصار الحكم ) ، الكافي ٢ : ٨٢ / ٤ و٥ (باب الصبر) ، الخصال : ٣١٥ / ٩٥ و٩٦ ، تحف العقول : ٢٠٢ ، مسكّن الفؤاد : ٤٨ ، المحجّة البيضاء ٧ : ١٠٨ ، مشكاة الأنوار ١ : ٤٥ / ٦١ ، إحياء علوم الدين ٤ : ٦٢ .

(٧) الكافي ٢ : ٧٦ / ٢٤ (باب الصبر) ، و٨ : ٨٦ / ٤٧ ، تحف العقول : ٤٤ .

٣٧٣

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلاّ بالقتل والتجبّر ، ولا الغنى إلاّ بالغصب والبُخل ، ولا المحبّة إلاّ باستخراج الدين واتّباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر على البَغضة وهو يقدر على المحبّة ، وصبر على الذّلّ وهو يقدر على العزّ ، أتاه اللّه‏ ثواب خمسين صدّيقاً ممّن يصدّق بي» (١) .

وروى الترمذي في صحيحه عن أنس ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم كالقابض على جمرة» (٢) .

وروى الغزالي ـ من أكابر علمائهم ـ عن بعض الصحابة أنّه قال : ما كنا نعدّ إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى ، وأنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قسـم قسمة ، فقال بعضهم : هـذه قسمة ما اُريد بها وجـه اللّه‏ ، فاُخبـر رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحمرّت وجنتاه ، ثمّ قال : «رحم اللّه‏ أخي موسى عليه‌السلام قد اُوذي بأكثر من هذا فصبر» (٣) .

وهذا الخبر الأخير ممّا رواه البخاري في صحيحه أيضاً ، وفيه : أنّ القائل كان رجلاً من الأنصار (٤) .

وروى هو وغيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» (٥) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧٤ / ١٢ (باب الصبر) ، مشكاة الأنوار ١: ٤٢ / ٥٤، بحار الأنوار ٧١ : ٧٥ / ٩ .

(٢) سنن الترمذي ٤ : ٥٢٦ / ٢٢٦٠ بتفاوت يسير .

(٣) إحياء علوم الدين ٤ : ٧١ .

(٤) صحيح البخاري ٨ : ٣١ .

(٥) إحياء علوم الدين ٤ : ٧٢ ، الدعوات للراوندي : ٤١ / ١٠١ ، مسند الشهاب ١ : ٦٢ / ٤٦ ، و٦٣ / ٤٧.

٣٧٤

وروى (١) عن أنس ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما تجرّع عبد قطّ جرعتين أحبّ إلى اللّه‏ من جرعة غيظ ردّها بحلم ، وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها» (٢) ، الخبر .

ورووا أيضاً : أنّ زكريّا عليه‌السلام لمّا هرب من كفّار بني اسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك ، فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتّى بلغ المنشار إلى رأس زكريا ، فأنّ أنّةً فأوحى اللّه‏ تعالى إليه : «يا زكريّا ، لئن صعدت منك أنّةٌ ثانية لأمحونّك من ديوان النبوّة» ، فعضّ زكريّا عليه‌السلام على الصبر حتّى قطع بشطرين (٣) .

وفي صحيـح البخاري ، وصحيحي الترمذي وابن ماجة ، ومسنـد ابن حنبل : عن ابن عمر ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لم يخالطهم ، ولا يصبر على أذاهم» (٤) .

وفي كتاب ابن سعد (٥) مرسلاً : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أصبر الناس على

__________________

(١) في «ن» و«س» : رووا .

(٢) إحياء علوم الدين ٤ : ١٣٢ .

(٣) إحياء علوم الدين ٤ : ١٣٣ ، وفيه : «على إصبعه» بدل «على الصبر» .

(٤) سنن الترمذي ٤ : ٦٦٢ / ٢٥٠٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣٨ / ٤٠٣٢ ، مسند أحمد ٢ : ١٣٤ / ٥٠٠٢ ، و٦ : ٥٠٢ / ٢٢٥٨٧ ، الأدب المفرد للبخاري: ١٤٠ / ٣٩٠ ، فيها بتفاوت يسير . ولم نعثر عليه في صحيح البخاري .

(٥) هو محمّد بن سعد بن منيع الزهري ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، كان كثير الحديث والرواية ، وصحب الواقدي المؤرّخ زماناً ، فكتب له ، وروى عنه ، وعرف بكاتب الواقدي ، وأ لّف كتبه من تصنيفات الواقدي ، له كتب ، منها : الطبقات الكبرى ، وأخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولد بعد سنة ١٦٠ هـ ، وقيل : ١٦٨ هـ ، ومات سنة ٢٣٠ هـ .

٣٧٥

أقذار (١) الناس (٢) .

وفي صحيحي البخاري ومسلم : عن أبي موسى ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ليس أحد أصبر ـ على أذىً يسمعه ـ من اللّه‏ ، إنّهم ليدّعون له ولداً ، ويجعلون له أنداداً ، وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم» (٣) .

وفي أخبار أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الصادق عليه‌السلام قال لبعض أصحابه : «عليك بالصبر في جميع الاُمور ؛ فإنّ اللّه‏ عزوجل بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بالصبر والرفق ، فقال : ( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ) (٤) ، الآية ، فصبر صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ، فضاق صدره ، فأنزل اللّه‏ عزوجل : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )» (٥) ، الآية ، ثمّ كذّبوه ورموه ، فحزن لذلك ، فأنزل اللّه‏ سبحانه : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )» الآية ، إلى قوله تعالى : «( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) (٦) » (٧) ، الخبر .

وقال عليه‌السلام : «إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ، وإن اُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً،

__________________

انظر : الفهرست لابن النديم : ١١١ ، وفيات الأعيان ٤ : ٣٥١ / ٦٤٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٦٦٤ / ٢٤٢ ، تهذيب الكمال ٢٥ : ٢٥٥ / ٥٢٣٧ .

(١) كذا في جميع النسخ ، وفي حواشيها : إيذاء .

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٣٧٨ ، وفيه : «أوزار» بدل «أقذار» ، كنز العمّال ٧ : ٣٥ / ١٧٨١٨ .

(٣) صحيح البخاري ٩ : ١٤١ ، صحيح مسلم ٤ : ٢١٦٠ / ٢٨٠٤ ، بتفاوت فيهما .

(٤) سورة المزّمّل ٧٣ : ١٠ .

(٥) سورة الحجر ١٥ : ٩٧ .

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٣٣ ـ ٣٤ .

(٧) الكافي ٢ : ٧١ / ٣ (باب الصبر) ، مشكاة الأنوار ١ : ٥٣ / ٨١ .

٣٧٦

كما كان يوسف الصدّيق الأمين عليه‌السلام لم يُضرر حريته أن استُعبد واُسر وقُهر ، ولم تضرّره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ اللّه‏ عليه ، فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان مالكاً» (١) ، الخبر .

وقال عليه‌السلام : «نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها ، فإنّ عظيم الأجر لَمِن عظيم البلاء» (٢) .

وفي رواية اُخرى : «ما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافئ بها صاحبها» (٣) .

وقال الكاظم عليه‌السلام : «اصبر على أعداء النعم ، فإنّك لن تكافئ من عصى اللّه‏ فيك بأفضل من أن تطيع اللّه‏ فيه» (٤) .

وقال الصادق عليه‌السلام : «كظم الغيظ عن العدوّ في دولاتهم تقيّة حزم لمن أخذ به ، وتحرّزٌ من التعرّض للبلاء في الدنيا ، فجاملوا النّاس يسمن (٥) ذلك لكم عندهم» (٦) ، الخبر .

وقال عليه‌السلام : «من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه‏ قلبه يوم القيامة رضاه» (٧) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧٣ / ٦ (باب الصبر) ، مشكاة الأنوار : ٤٦ / ٦٥ ، مسكّن الفؤاد : ٥٠ ـ ٥١ .

(٢) الكافي ٢ : ٨٩ / ٢ (باب كظم الغيظ) ، المؤمن : ٢٤ / ٣٦ ، التمحيص : ٣١ / ٦ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٨٩.

(٣) الكافي ٢ : ٩٠ / ١٢ (باب كظم الغيظ) ، الخصال ١ : ٢٣ / ٨١ .

(٤) الكافي ٢ : ٨٩ / ٣ و٩٠ / ٨ (باب كظم الغيظ) ، الفقيه ٤ : ٣٩٨ / ٥٨٥٢ ، روضة الواعظين : ٤٢٢ ، مشكاة الأنوار ١ : ٥١ / ٧٦ .

(٥) في «م» : يسموا ، وفي بعض نسخ الكافي : يُسمّى، كما جاء في هامش (٣) ص ٨٩ ح١ من الكافي .

(٦) الكافي ٢ : ٨٩ / ٤ (باب كظم الغيظ) ، المحاسن ١ : ٤٠٤ / ٩١٦ ، مشكاة الأنوار ١ : ٨٩ / ١٧٩ وفي المصدرين الأخيرين ورد باختصار .

(٧) الكافي ٢ : ٩٠ / ٦ (باب كظم الغيظ) ، بحار الأنوار ٧١ : ٤١١ / ٢٥ .

٣٧٧

وفي صحيح ابن ماجة : عن ابن عمر ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من جرعة أعظم أجراً عند اللّه‏ من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاءً لوجه اللّه‏» (١) .

وفي كتاب الحلية : عن عائشة ، قالت : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أذلّ نفسه في طاعة اللّه‏ فهو أعزّ ممّن تعزّز بمعصية اللّه‏» (٢) .

وقال الصادق عليه‌السلام : «جاء جبرئيل عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهفقال : يا محمّد ، ربّك يقرؤك السلام ويقول لك : دارِ خلقي» (٣) .

وقال الباقر عليه‌السلام : «في التوراة مكتوب فيما ناجى اللّه‏ تعالى به موسى ابن عمران عليه‌السلام أن قال له : يا موسى ، اُكتم مكتوم سرّي في سريرتك ، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّك وعدوّي من خلقي» (٤) ، الخبر .

وفي كتاب ابن أبي شيبة (٥) : عن الأعمش ، عن ابن مسعود ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «آفة العلم النسيان ، وإضاعته أن تحدّث به غير أهله» (٦) .

وقال الصادق عليه‌السلام : «قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش» .

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠١ / ٤١٨٩ .

(٢) حلية الأولياء ٧ : ٣١٨ ، وحكاه عنها السيوطي في جامع الأحاديث ٥ : ٤٩٤ / ٢٠١٨٤ .

(٣) الكافي ٢ : ٩٥ / ٢ ، (باب المداراة) ، بحار الأنوار ٧٥ : ٤٣٨ / ١٠٥ .

(٤) الكافي ٢ : ٩٦ / ٣ (باب المداراة) .

(٥) هو عبداللّه‏ بن محمّد بن القاضي أبي شيبة ، يكنّى أبا بكر ، وهو من أقران أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه في السن والمولد والحفظ ، روى عنه محمّد بن سعد الكاتب ، ومحمّد بن يحيى ، وأبو داود ، وجمع كثير ، له كتب منها : المسند ، والمصنّف ، والتفسير ، ولد سنة ١٥٩ هـ ، ومات سنة ٢٣٥ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٦٦ / ٥١٨٥ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ١٢٢ / ٤٤ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٣ / ١ .

(٦) المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٤٦ / ٦١٩٠ .

٣٧٨

وقال عليه‌السلام : خالطوا الأبرار سرّاً ، وخالطوا الفجّار جهاراً ، ولا تميلوا عليهم فيظلموكم ، فإنّه سيأتي عليكم زمان لا ينجو فيه من ذوي الدين إلاّ من ظنّوا أنّه أبله ، وصبّر نفسه على أن يقال له : أبلهٌ لا عقل له» (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» ، وقد روى أيضاً هذا الخبر بعينه الديلمي وغيره من علماء العامّة عن عائشة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى البيهقي عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رأس العقل المداراة» (٣) .

وفي كتاب ابن أبي الدنيا ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأس العقل بعد الإيمان باللّه‏ مداراة الناس» (٤) .

وفي رواية : «التودّد إلى الناس» (٥) .

وفي كتاب ابن حبّان ، وكتاب الطبراني عن جابر ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مداراة الناس صدقة» (٦) .

وفي الفردوس ، وكتاب المقاصد للسخاوي : عن أبي هريرة ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «داروا الناس بعقولكم» (٧) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٩٦ / ٥ (باب المداراة) ، بحار الأنوار ٧٥ : ٤٤٠ / ١٠٨ .

(٢) الكافي ٢ : ٩٦ / ٤ (باب المداراة) ، مشكاة الأنوار : ٢ : ٦٣ / ١٢١٦ ، فردوس الأخبار ١ : ٢١٢ / ٦٣٣ ، الجامع الصغير ١ : ٢٥٩ / ١٦٩٥ .

(٣) السنن الكبرى للبيهقي ١٠ : ١٠٩ ، شعب الإيمان ٦ : ٣٤٣ / ٨٤٤٦ .

(٤) قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا : ٢٦ ـ ٢٧ ، وأورده ابن أبي شيبة في المصنّف ٨ : ٣٦١ / ٥٤٨٠ .

(٥) الإخوان : ١٩٣ / ١٤٠ ، شعب الإيمان ٦ : ٣٤٤ / ٨٤٤٧ ، الجامع الصغير ٢ : ٣ / ٤٣٦٩ .

(٦) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ١ : ٣٤٧ / ٤٧١ ، المعجم الأوسط ١ : ٢٠٧ / ٤٦٦ ، وأورده البيهقي في شعب الإيمان ٦ : ٣٤٣ / ٨٤٤٥ .

(٧) فردوس الأخبار ١ : ٧٨ / ١١٤ ، المقاصد الحسنة : ١١٩ / ١٧٩ وفيهما عن جابر .

٣٧٩

وفي رواية أخرى «داروا سفهاءكم» (١) ، وفي اُخرى : «ذبّوا عن أعراضكم» (٢) .

وفي روايات أهل البيت عن الصادق عليهم‌السلام أنّه قال : «اُمِرَ الناس بخصلتين فضيّعوهما ، فصاروا منهما على غير شيء : الصبر والكتمان» (٣) .

وقال عليه‌السلام لبعض أصحابه : «إنّكم على دينٍ من كتمه أعزّه اللّه‏ ، ومن أذاعه أذلّه اللّه‏» (٤) .

وقال عليه‌السلام في حديث له : «رحم اللّه‏ عبداً اجترّ مودّة الناس إلى نفسه ، حدّثوهم بما يعرفون ، واستروا عنهم ما ينكرون» (٥) .

وقال عليه‌السلام : «إنّ التقيّة من ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، إنّ اللّه‏ يحبّ أن يعبد في السرّ كما يحبّ أن يعبد في العلانية» (٦) .

وسئل الرضا عليه‌السلام عن مسألة فأبى وأمسك ، ثمّ قال : «لو أعطيناكم كلّ ما تريدون كان شرّاً لكم ، واُخذ برقبة صاحب هذا الأمر» (٧) .

وقال الصادق عليه‌السلام : «إنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء إلاّ في النبيذ ، والمسح على الخُفّين» (٨) .

أقول : وكأنّ وجه هذا الاستثناء وجود المندوحة عنهما .

__________________

(١) المقاصد الحسنة : ٢٥٢ / ٤٧٩ .

(٢) المقاصد الحسنة : ٢٦٣ / ٥٠٢ ، فردوس الأخبار ٢ : ٣٦٤ / ٢٩٦٤ .

(٣) المحاسن ١: ٣٩٧ / ٨٨٩، الكافي ٢ : ١٧٦ / ٢ (باب الكتمان) ، مشكاة الأنوار ١ : ٥٣ / ٨٠.

(٤) المحاسن ١ : ٤٠٠ / ٨٩٩ ، الكافي ٢ : ١٧٦ / ٣ (باب الكتمان) .

(٥) الكافي ٢ : ١٧٦ / ٥ (باب الكتمان) ، الخصال ١ : ٢٥ / ٨٩ ، الغيبة للنعماني ٣٥ / ٤ ، روضة الواعظين : ٣٦٩ بتفاوت يسير .

(٦) الكافي ٢ : ١٧٧ / ٨ (باب الكتمان) .

(٧) قرب الإسناد : ٣٨٠ / ١٣٤٠ ، الكافي ٢ : ١٧٨ / ١٠ (باب الكتمان) .

(٨) المحاسن ١ : ٤٠٤ / ٩١٣ ، الكافي ٢ : ١٧٢ / ٢ (باب التقيّة) ، الخصال ١ : ٢٢ / ٧٩ .

٣٨٠