ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

على أمر بغير علم جدع أنف نفسه» (١) .

وفي الحديث القدسي : «كيف تخشع لي خليقة لا تعرف فضلي عليها؟ وكيف تعرف فضلي عليها وهي لا تنظر فيه؟ وكيف تنظر فيه وهي لا تؤمن به؟ وكيف تؤمن به وهي قد قنعت بالدنيا واتّخذتها مأوى ، وركنت إليها ركون الظالمين ؟ » (٢) .

وفي الحديث ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في حديث له : « . . . بئس العبد عبد يختلّ الدنيا بالدين ، وبئس العبد عبد يختلّ الدين بالشبهات ، وبئس العبد عبد له هوى يضلّه» ، الخبر ، رواه الترمذي في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وغيرهما عن أسماء بنت عميس (٣) وغيرها ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وفي وصايا رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام .

«يا عليّ ، شرّ الناس من باع آخرته بدنياه ، وشرّ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره .

يا عليّ ، أنهاك عن ثلاث خصال : الحسد ، والحرص ، والكِبر .

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٠ / ٢٩ (كتاب العقل والجهل) .

(٢) الكافي ٨ : ٤٦ / ٨ قطعة من الحديث .

(٣) أسماء بنت عميس بن معد بن الحارث ، اُخت ميمونة بنت الحارث زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واُخت اُمّ الفضل امرأة العبّاس ، وكانت أسماء من المهاجرات إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ، ثمّ هاجرت إلى المدينة ، فلمّا قُتل جعفر بن أبي طالب رضوان اللّه‏ تعالى عنه تزوّجها أبو بكر ، فولدت له محمّد بن أبي بكر ، وبعد موت أبي بكر تزوّجها عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فولدت له يحيى بن عليّ بن أبي طالب .

انظر : الاستيعاب ٤ : ١٧٨٤ / ٣٢٣٠ ، اُسد الغابة ٦ : ١٤ / ٦٧٠٦ .

(٤) سنن الترمذي ٤ : ٦٣٢ / ٢٤٤٨ ، المستدرك للحاكم ٤ : ٣١٦ ، علل الحديث لأبي حاتم الرازي ٢ : ١١٥ / ١٨٣٨ ، شعب الإيمان ٦ : ٢٨٧ / ٨١٨١ ، كنز العمّال ١٦ : ٩٧ / ٤٤٠٥٤ .

٣٠١

يا عليّ ، آفة العلم الحسد .

يا عليّ ، أربع خصال من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، وحبّ البقاء .

يا عليّ ، ثلاث مهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه .

يا عليّ ، للظالم ثلاث علامات : يقهر من دونه بالغلبة ، ومن فوقه بالمعصية ، ويظاهر الظلمة .

يا علي ، من تعلّم علماً ليماري به السفهاء ، أو يجادل به العلماء ، أو ليدعو الناس إلى نفسه ، فهو من أهل النار .

يا عليّ ، ما أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يعط من الدنيا إلاّ قوتاً .

يا عليّ ، لا فقر أشدّ من الجهل ، ولا مال أعود من العقل ، ولا وحشة أوحش من العجب ، ولا ورع كالكفّ عن محارم اللّه‏ ، لا عبادة مثل التفكّر .

يا عليّ ، العقل ما اكتسب به الجنان ، وطلب به رضا الرحمن» (١) .

وفي الحديث : «إنّ التي كانت في معاوية وأمثاله هي النكراء والشيطنة وليست بالعقل وهي شبيهة له» (٢) .

وفي الحديث : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم خُلقان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٥٢ ـ ٣٧٥ / ٥٧٦٢ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ . وانظر : تحف العقول : ٦ ـ ١٢ وفيه : بعض الوصايا .

(٢) المحاسن ١ : ٣١٠ / ٦١٣ ، الكافي ١ : ٨ / ٣ (كتاب العقل والجهل) ، معاني الأخبار : ٢٣٩ / ١ باب معنى العقل ، بتفاوت يسير فيها .

٣٠٢

الآخرة» (١) .

وفي بعض خطب عليّ عليه‌السلام : «إنّما بَدْءُ وقوع الفتن من أهواء تتّبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللّه‏ ، يتولّى فيها رجال رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يأخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث ، فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه» (٢) .

وقال في خطبة اُخرى : «فلا يلهينّكم الأمل ولا يطولنّ عليكم الأجل ، فإنّما أهلك من كان قبلكم امتداد أملهم ، وتغطية الآجال عنهم ، حتّى نزل بهم الموعود ، واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد ، حتّى تعرفوا الذي تركه ، ولن تعرفوا الضلالة ، حتّى تعرفوا الهدى ، ولن تعرفوا التقوى ، حتّى تعرفوا الذي تعدّى ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلّف ، ورأيتم الفرية على اللّه‏ وعلى رسوله والتحريف لكتابه ، ورأيتم كيف هدى اللّه‏ من هدى ، فلا يجهلنّكم الذين لا يعلمون ، إنّكم لن تنالوا ما تريدون إلاّ بترك ما تشتهون ، ولن تظفروا بما تأملون إلاّ بالصبر على ما تكرهون» (٣) .

وفي خطبة اُخرى : «إنّ من لم يجعله اللّه‏ من أهل صفة الحقّ فاُولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وإنّ لشياطين الإنس حيلاً ومكراً وخدائع ، ووسوسة بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردّوا أهل الحقّ عمّا

__________________

(١) الخصال ١ : ٥١ ـ ٥٢ / ٦٢ ـ ٦٤ ، الأمالي للمفيد : ٩٢ / ١ ، و٢٠٧ / ٤١ ، الأمالي للطوسي : ١١٧ / ١٨٣ ، و٢٣١ / ٤٠٩ ، نهج البلاغة : ٨٣ الخطبة ٤٢ ، بتفاوت في بعض الألفاظ .

(٢) نهج البلاغة : ٨٨ الخطبة ٥٠ ، الكافي ١ : ٤٣ / ١ ، (باب البدع والرأي) ، الاُصول الستّة عشر : ٢٥ أصل عاصم الحنّاط ، بتفاوت .

(٣) الكافي ٨ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ / ٥٨٦ .

٣٠٣

أكرمهم اللّه‏ به من النظر في دين اللّه‏» (١) ، الخبر .

وفي خطاب اللّه‏ عزوجل لموسى عليه‌السلام : «يا موسى ، اتّهم نفسك على نفسك ، ولا تأمن ولدك على دينك إلاّ أن يكون مثلك يحبّ الصالحين .

يا موسى ، لا تحسد من هو فوقك ، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .

يا موسى ، إنّ ابني آدم تواضعا في منزلة لينالا [بها (٢) ] من فضلي ورحمتي ، فقرّبا قرباناً ولا أقبل إلاّ من المتّقين ، فكان من شأنهما ما قد علمت ، فكيف تثق بالصاحب بعد الأخ والوزير؟» (٣) .

وفي وصايا رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرّ : «يا أبا ذرّ ، لو نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره .

يا أبا ذرّ ، إنّ شرّ الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه ، ومن طلب علماً يصرف وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة ، ومن ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة.

يا أبا ذرّ ، إنّ القلب القسيّ بعيد عن اللّه‏ ، ولكن لا يشعرون .

يا أبا ذرّ ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه‏ الأماني .

يا أبا ذرّ ، إنّ الدنيا ملعونة، ملعون معلون ما فيها إلاّ ما ابتغي به وجه اللّه‏، وما من شيء أحبّ إلى اللّه‏ تعالى من إيمان به ، وترك ما أمر بتركه .

يا أبا ذرّ ، إذا أراد اللّه‏ بعبد خيراً فقّهه في الدين ، وزهّده في الدنيا

__________________

(١) الكافي ٨ : ١١ / ١ ، قطعة من الحديث عن أبي عبد اللّه‏ عليه‌السلام ، بحار الأنوار ٧٨ : ٢٢١ .

(٢) أثبتناها من المصدر .

(٣) الكافي ٨ : ٤٢ ـ ٤٦ / ٨ متفرّقة في ضمن الحديث .

٣٠٤

وبصّره بعيوب نفسه ، وما زهد عبد في الدنيا إلاّ أثبت اللّه‏ الحكمة في قلبه ، وأنطق بها لسانه ، وبصّره عيوب الدنيا وداءها ودواءها ، وإذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا ، فاستمع منه فإنّه يلقى [ إليه (١) ] الحكمة» .

فقلت : من أزهد الناس؟

قال : «من لم ينس المقابر والبلى ، وترك فضل زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعدّ غداً من أيّامه ، وعدّ نفسه في الموتى .

يا أبا ذرّ ، حبّ المال والشرف أذهب لدين الرجل من ذئبين ضارّيين في زرب (٢) الغنم فأغارا فيها حتّى أصبحا فماذا أبقيا منها؟

يا أبا ذرّ ، الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان .

يا أبا ذرّ إنّي دعوت اللّه‏ جلّ ثناؤه أن يجعل رزق من أحبّني الكفاف ، وأن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد .

يا أبا ذرّ ، طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الآخرة ، الذين اتّخذوا أرض اللّه‏ بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، واتّخذوا كتاب اللّه‏ شعاراً ودعاءه دثاراً ، يقرضون الدنيا قرضاً .

يا أبا ذرّ ، حرث الآخرة العمل الصالح ، وحرث الدنيا المال والبنون .

يا أبا ذرّ ، إذا دخل النور القلب انفسحَ القلب واستوسع» .

قلت : فما علامة ذلك؟

قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت .

__________________

(١) أثبتناها من المصدر .

(٢) في «ن» ساقطة ، وفي «م» : سرب . والزرب والزريبة : حظيرة للغنم من خشب .

انظر : الصحاح ١ : ١٤٢ ـ زرب ـ .

٣٠٥

يا أبا ذرّ ، اتّق اللّه‏ ولا تُرِ (١) الناس أنّك تخشى اللّه‏ فيكرموك وقلبك فاجر .

يا أبا ذرّ ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتّى في النوم والأكل .

يا أبا ذرّ ، ليعظم جلال اللّه‏ في صدرك ، فلا تذكره كما يذكره الجاهل عند الكلب : اللّهمّ اخزه ، وعند الخنزير : اللّهمّ اخزه .

يا أبا ذرّ ، الحقّ ثقيل مرئ (٢) ، والباطل خفيف وبئ (٣) ، وربّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلاً .

يا أبا ذرّ ، لا تصيب حقيقة الإيمان حتّى ترى الناس كلّهم حمقى في دينهم عقلاء في دنياهم .

يا أبا ذرّ ، حاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وتجهّز للعرض الأكبر .

يا أبا ذرّ ، أتحبّ أن تدخل الجنّة؟ » قلت : نعم فداك أبي!

قال : «فاقصر من الأمل، واجعل الموت نصب عينيك، واستحي من اللّه‏ حقّ الحياء».

قلت : كلّنا نستحي من اللّه‏ .

قال : «ليس كذلك الحياء ، ولكنّ الحياء من اللّه‏ تعالى أن لا تنسى المقابر والبلى ، والجوف وما وعى ، والرأس وما حوى .

ومن أراد كرامة الآخرة فليدع زينة الدنيا ، فإذا كنت كذلك أصبت ولاية اللّه‏ .

يا أبا ذرّ ، ما من شابّ يدع للّه‏ الدنيا ولهوها ، وأهرم شبابه في طاعة

__________________

(١) وردت في نسخنا : «ترى» ، والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصحيح .

(٢) كذا في «م» و«س» و«ش» ، وساقطة من «ن» وفي المصادر : مرّ .

(٣) كذا في «م» و«س» و«ش» ، وساقطة من «ن» وفي المصادر : حلو .

٣٠٦

اللّه‏ إلاّ أعطاه اللّه‏ أجر اثنين وسبعين صدّيقاً .

يا أبا ذرّ ، الجليس الصالح خير من الوحدة ، والوحدة خير من جليس السوء ، وإملاء الخبر خير من السكوت ، والسكوت خيـر من إمـلاء الشـرّ ، إنّ اللّه‏ عند لسان كلّ قائل ، فليتّق اللّه‏ امرؤ وليعلم ما يقول .

يا أبا ذرّ ، كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما يسمع .

يا أبا ذرّ ، ما من شيء أحقّ بطول السجن من اللسان .

يا أبا ذرّ ، لا يزال العبد يزداد من اللّه‏ بعداً ما (سيء خلقه) (١) .

يا أبا ذرّ ، كن بالعمل بالتقوى أشدّ اهتماماً منك بالعمل ، فإنّه (لا يقبل عمل إلاّ بالتقوى) (٢) ، قال اللّه‏ تعالى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (٣) .

يا أبا ذرّ ، لا يكون الرجل من المتّقين ، حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه .

يا أبا ذرّ ، من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق اللّه‏ ، قال سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٤) .

يا أبا ذرّ إنّ أنجاكم من عذاب اللّه‏ أشدّكم له خوفاً .

يا أبا ذرّ ، إنّ المتّقين الذين يتّقون اللّه‏ من الشيء الذي لا يُتّقى منه خوفاً من الدخول في الشبهة .

يا أبا ذرّ ، من أطاع اللّه‏ فقد ذكره وإن قلّت صلاته وصيامه .

يا أبا ذرّ ، أصل الدين الورع ورأسه الطاعة ، وخير دينكم الورع ، إنّ

__________________

(١) في «م» و«س» و«ش» : مشى خلفه ، وما أثبتناه من المصادر .

(٢) كذا في «ش» وحاشية «م» و«س» ، وفي نسخة «س» و«م» : لا يقلّ عمل بالتقوى ، وهي ساقطة من «ن» .

(٣) سورة المائدة ٥ : ٢٧ .

(٤) سورة الحجرات ٤٩ : ١٣ .

٣٠٧

اللّه‏ لا يخدع عن جنّته ، ولا ينال ما عنده إلاّ بطاعته .

يا أبا ذرّ ، يقول اللّه‏ عزوجل : وعزّتي وجلالي ، لا يؤثر عبدي هواي على هواه إلاّ جعلت غناه في نفسه وهمومه في آخرته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وكففت عنه ضيقه (١) وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر .

يا أبا ذرّ ، إنّ اللّه‏ تعالى يقول : إنّي لست كلام الحكيم أتقبّل ولكن همّه وهواه ، فإن كان همّه وهواه فيما أحبّ وأرضى جعلت صمته حمداً لي ووقاراً وإن لم يتكلّم .

يا أبا ذرّ ، إنّ اللّه‏ عزوجل لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .

يا أبا ذرّ ، التقوى هاهنا التقوى هاهنا» ، وأشار إلى صدره .

«يا أبا ذرّ ، أوّل شيء يرفع من هذه الاُمّة الأمانة والخشوع حتّى لا يكاد يرى خاشعاً.

يا أبا ذرّ ، سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ، وأكل لحمه من معاصي اللّه‏، وحرمة ماله كحرمة لحمه» .

أقول : هذا صريح في كفر من قاتل عليّاً عليه‌السلام ، إذ لا كلام عند المسلمين في إسلامه ، بل كمال إيمانه ، فافهم .

«يا أبا ذرّ ، من مات وفي قلبه مثقال ذرّة من كبر لم يجد رائحة الجنّة ، إلاّ أن يتوب قبل ذلك» .

ثمّ قال : «إنّ الكبر أن تترك الحقّ وتتجاوزه إلى غيره ، وتنظر إلى الناس ، فلا ترى أحداً عرضه كعرضك ولادمه كدمك ، وأكثر من يدخل النار المتكبّرون ، طوبى لمن صلحت سريرته ، وحسنت علانيته ، وعزل عن

__________________

(١) كذا في «ش» و«م» و«س» وساقطة في «ن» وفي المصادر : «ضيعته» .

٣٠٨

الناس شرّه ، وعمل بعمله ، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله» .

وقال أبو ذرّ : قلت يا رسول اللّه‏ ، أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه‏ تعالى؟

قال : «الإيمان باللّه‏ ، ثمّ الجهاد في سبيله» .

قلت : أيّ المسلمين أفضل؟

قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده» .

قلت : وأيُّ الهجرة أفضل؟ قال : «من هجر السوء» (١) .

وقد قيل لعليّ عليه‌السلام : أيّ سلطان أغلب وأقوى؟ قال : «الهوى» .

قيل : فأيّ ذلّ أذلّ؟ قال : «الحرص على الدنيا» .

قيل : فأيّ فقر أشدّ؟ قال : «الكفر بعد الإيمان» .

قيل : فأيّ مصاحب شرّ؟ قال : «المزيّن لك معصية اللّه‏» .

قيل : فأيّ الناس أكيس ؟ قال : «من أبصر رشده من غيّه ، فمال إلى رشده» .

قيل : فأيّ الناس أحمق؟ قال : «المغترّ بالدنيا وهو يرى ما فيها من تقلّب أحوالها» .

قيل : فأيّ المصائب أشدّ؟ قال : المصيبة في الدين» (٢) .

وفي رواية : أنّ أبا ذرّ رضی‌الله‌عنه قال : قلت : يا رسول اللّه‏ ، أوصني ، قال : «اُوصيك بتقوى اللّه‏ ، فإنّه رأس أمرك كلّه» .

قلت : زدني ، قال : «عليك بالصمت ، إلاّ من خير ، فإنّه مطردة

__________________

(١) الأمالي للطوسي : ٥٢٥ ـ ٥٣٩ / ١١٦٢ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٥١ ـ ٦٦ ، مكارم الأخلاق ٢ : ٣٦٢ ـ ٣٨٢ / ٢٦٦١ ، أعلام الدين : ١٨٩ ـ ٢٠٤ بتفاوت في عدد الوصايا .

(٢) معاني الأخبار : ١٩٨ / ٤ ، قطعة من الحديث ، الأمالي للصدوق : ٤٧٨ / ٦٤٤ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨٢ / ٥٨٣٣ ، كتاب الغايات لأبي محمّد جعفر القمّي : ١٧٥ ـ ١٧٦ (ضمن جامع الأحاديث) ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٧٤ ، بتفاوت يسير .

٣٠٩

للشيطان عنك ، وعون لك على اُمور دينك» .

قلت : زدني ، قال : «قل الحقّ وإن كان مرّاً» .

قلت : زدني ، قال : «لا تخف في اللّه‏ لومة لائم» (١) .

وفي وصايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعبد اللّه‏ بن مسعود : «يا بن مسعود ، إنّ الدنيا دار غرور ، ودار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له ، إنّ أحمق الناس من طلب الدنيا .

يا بن مسعود ، من اشتاق إلى الجنّة سارع فيالخيرات ، ومن خاف النار ترك الشهوات ، ومن ترقّب الموت انتهى (٢) عن اللذّات ، ومن زهد في الدنيا قصر أمله ، وتركها لأهلها ، قال اللّه‏ تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) (٣) .

أقول : تأمّل في دلالة قوله تعالى : ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) على أنّ الصلاح والتعبّد بدون تحقيق الحقّ عبث ، فافهم .

«يا بن مسعود ، من تعلّم العلم يريد به الدنيا ، وآثر عليه حبّ الدنيا وزينتها استوجب سخط اللّه‏ عليه ، وكان في الدرك الأسفل من النار مع اليهود والنصارى الذين نبذوا كتاب اللّه‏ وراء ظهورهم .

يا بن مسعود ، من تعلّم العلم ولم يعمل بما فيه حشره اللّه‏ يوم القيامة أعمى ، ومن تعلّم العلم رياءً وسمعةً يريد به الدنيا نزع اللّه‏ عنه بركته ،

__________________

(١) الخصال : ٥٢٥ / ١٣ ، الأمالي للطوسي : ٥٤١ / ١١٦٢ ، قطعة من الحديث ، تنبيه الخواطر ٢ : ٦٨ ـ ٦٩ ، مكارم الأخلاق ٢ : ٣٨٤ .

(٢) في المصدر : أعرض .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ١٨ ـ ١٩ .

٣١٠

ووكله إلى نفسه ، ومن وكله اللّه‏ إلى نفسه فقد هلك ، قال اللّه‏ تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) (١) ، من لم يعرف الخير من الشرّ فهو بمنزلة البهيمة .

يا بن مسعود ، احذر سكر الخطيئة ، فإنّ للخطيئة سكراً كسكر الشراب ، بل هو أشدّ سكراً منه ، يقول اللّه‏ تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) (٢) .

يا بن مسعود ، الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلاّ ما كان للّه‏ ، وملعون من طلبها وأحبّها ونصب لها .

يا بن مسعود ، فلا تلهيّنك الدنيا وشهواتها ، فإنّ اللّه‏ يقول : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (٣) .

يا بن مسعود ، لا تقدّم الذنب وتؤخّر التوبة ، ولكن قدّم التوبة وأخّر الذنب ، قال اللّه‏ تعالى : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) (٤) .

وإيّاك أن تستنّ سنّة بدعة ، فإنّ العبد إذا استنّ سنّة لحقه وزر من عمل بها ، قال اللّه‏ تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) (٥) .

يا بن مسعود ، فلا تركن إلى الدنيا ولا تطمئنّ إليها فتفارقها عن قليل ، واذكر القرون الماضية ، والملوك الجبابرة الذين مضوا ، ولا تؤثرنّ الدنيا على الآخرة باللذّات والشهوات ، فإنّ اللّه‏ يقول : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ *‏ وَآثَرَ

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ١١٠ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٨ .

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١١٥ .

(٤) سورة القيامة ٧٥ : ٥ .

(٥) سورة يس ٣٦ : ١٢ .

٣١١

وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) (١) .

يا بن مسعود ، لا تتكلّم إلاّ بالعلم بشيءٍ سمعته ورأيته ، فإنّ اللّه‏ يقول : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) الآية ، وقال : ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (٣) .

يا بن مسعود ، إذا تكلّمت بلا إله إلاّ اللّه‏ ، ولم تعرف حقّها ، فإنّه مردود عليك ، ولا يزال قول : لا إله إلاّ اللّه‏ يردّ غضب اللّه‏ عزوجل عنهم حتّى إذا لم يبالوا ما ينقص من دينهم بعد إذ سلمت دنياهم ، يقول اللّه‏ تعالى : (كذبتم كذبتم ، لستم بها بصادقين ، فإنّه يقول) (٤) : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٥) » .

أقول : تأمّل في هذا حتّى تفهم أنّ محض قول : «لا إله إلاّ اللّه‏» لا يفيد بدون شروطه ، فلا يدخل في الأخبار كلّ من لهج به كما توهّمه العامّة (٦) ، على ما سيأتي في محلّه.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بن مسعود ، عليك بالسكينة والوقار ، وكن سهلاً ليّناً عفيفاً ، مسلماً تقيّاً نقيّاً ، بارّاً طاهراً مطهّراً ، صادقاً خالصاً ، سليماً صحيحاً ، لبيباً ، صالحاً ، شكوراً ، مؤمناً ، أميناً ورعاً ، عابداً ، زاهداً ، رحيماً ، عالماً فقيهاً» ، ثمّ ذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله الآيات الدالّة عليها .

ثمّ قال : «يا بن مسعود ، أنصف الناس من نفسك ، وانصح الاُمّة

__________________

(١) سورة النازعات ٧٩ : ٣٧ ـ ٣٩ .

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٣٦ .

(٣) سورة الزخرف ٤٣ : ١٩ .

(٤) ما بين القوسين لم يرد في المصدر .

(٥) سورة فاطر ٣٥ : ١٠ .

(٦) الاعتقاد للبيهقي : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، بتفاوت .

٣١٢

وارحمهم ، وإيّاك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميّين ، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصرّ على المعاصي والذنوب ، يقول اللّه‏ تعالى : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (١) ، ولا تكن ممّن يشدّد على الناس ويخفّف على نفسه ، ولا تكوننّ ممّن يهدي الناس الى الخير ويأمرهم به وهو غافل عنه ، يقول اللّه‏ عزوجل : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٢) .

يا بن مسعود ، إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل ، وإيّاك أن تعمل عملاً بغير تدبّر وعلم ، فإنّ اللّه‏ يقول : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) (٣) ، وعليك بالصدق ، وأنصف الناس من نفسك ، وأحسن وادع الناس إلى الإحسان ، ولا تمكر الناس ، وأوف الناس بما عاهدتهم» (٤) ، الخبر ، وهو طويل وكذا ما قبله أخذنا من كلّ واحد نبذاً ممّا يناسب المرام .

والأخبار المناسبة له المشهورة بين الفريقين ـ الشيعة والسنّة ـ كثيرة جدّاً فضلاً عن غيرها ، لكن لا حاجة هاهنا إلى الإكثار ؛ إذ لا منكر هاهنا حتّى يحتاج إلى الإثبات والإقرار ، ولكن أوردنا طرفاً منها تذكرةً لاُولى الأبصار ، وتبصرةً لمن أراد الاستبصار ، وموعظةً لقوم يعقلون ، وسيأتي أيضاً كثير من الموضّحات وما هو من هذا الباب في الفصول الآتية ، فلا تغفل ، واللّه‏ الموفّق والهادي .

* * *

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ : ١٩ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٤٤ .

(٣) سورة النحل ١٦ : ٩٢ .

(٤) مكارم الأخلاق ٢ : ٣٣٨ ـ ٣٦١ / ٢٦٦٠ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ .

٣١٣
٣١٤

الباب الثالث

في بيان الامتحان بإمهال الظالمين في الدنيا ، وابتلاء المؤمنين ، ورواج الباطل وكثرة أهله ، وقلّة أهل الحقّ .

اعلم أنّ اللّه‏ عزوجل حيث أراد أن يكون دار تنعّم أوليائه الجنّة ، ومحلّ راحتهم النشأة الاُخرى ، بعكس ما هو لأعدائه من تلاعبهم في الدنيا ، لأجل هوانها عنده سبحانه ، ولغير ذلك من المصالح العظيمة التي منها : إتمام الحجّة ، وإزالة العذر بالنهي عن ذلك ، والتوبيخ والتهديد ، جعل من جملة ما امتحن به عباده أيضاً إمهالَ أهل الدنيا والفراعنة والظالمين وأمثالهم وأتباعهم ، وشدّة رواج الباطل ورونق سوقه ؛ بحيث يشتبه بالحقّ على الجاهل في الوثوق به ؛ لغلبة أهله وكثرة أبناء الدنيا وشوكتهم ، وكذلك جعل من ذلك شدّة مصائب أولياء اللّه‏ ، ومتاعب أهل طاعته ، وضعف أهل الآخرة وابتلاءهم ، وكساد الحقّ وبواره ؛ بحيث يشتبه الحقّ على الجاهل بالباطل من ضعف أهله وقلّة أتباعه وسقوط اعتباره .

ولهذا ذمّ الفرقة الاُولى ونهى عن اتّباعهم والميل إليهم ، وبيّن شدّة عذابهم وعلائم بطلانهم ، ومدح الاُخرى ، وأمرهم بالصبر على البلوى ، وتحملّ الأذى ، والسلوك مع أبناء الدنيا ، والمداراة مع أهل الهوى ، وكتمان الحقّ عن الظالمين والأشرار ، وستر العلوم عنهم والأسرار .

٣١٥

وكذا نبيّن هاهنا شمول هذه العادة جميع الأزمنة ، حتّى على هذه الاُمّة ، ولو على سبيل الشدّة والضعف ، وتوضيح هذا أيضاً في ضمن خمسة فصول :

٣١٦

الفصل الأوّل

في بيان اقتضاء حكمة اللّه‏ ومصلحته أن يكون لأعدائه ومخالفيه التاركين للحقّ والدين إمهال واستدراج بالغلبة والشوكة والتنعّم في هذه الدنيا التي هي دار الراحة لهم والتمتّع لهم ، وبإقبالها إليهم ، وتوجّه أهلها وزخارفها عليهم ليزدادوا إثماً ، وتكون الحجّة عليهم تماماً ، فيستحقّوا بذلك الهلاك وشدّة العذاب .

وفي توضيح أنّ ذلك ليس من آثار الخير ، بل هو علامة الجهالة والضلالة ، والسخط من اللّه‏ عزوجل ، وأنّ اللّه‏ سبحانه نهى عن هذه الحالات ، وذمّ أهلها ، ولعنهم وفسقهم .

اعلم أنّ الآيات والروايات والتجربات صريحة في هذا الأمر ، بل إنّما ذلك مقتضى العدل وإنجاح مراد العبد ، ومراعاة التناسب ؛ ضرورة أنّ الإنسان إذا ترك الحقّ ولزم الباطل ورجّح الدنيا على الآخرة بعد ظهور البيّنة ووضوح ترتّب الضرر عليه فقد اختار ذلك ، وأراده متعمّداً ، بل طلبه وعزم عليه ولو بلسان الحال .

ولا شكّ أنّ مثل هذا باغض لربّه ومبغوض عنده ، كاذب إن ادّعى غيره ، فلمّا لم يرد اللّه‏ حرمان الخلق رأساً جعل لهؤلاء الدار التي هي مبغوضة عنده أيضاً وهي الدنيا ، وأعطاهم فيها ما أرادوه منها على حسب شهوتهم ورغبتهم وإن استوجب الضرر العظيم في عاقبتهم ؛ لتعمّدهم في

٣١٧

الرضا بذلك ـ كما تبيّن ممّا مرّ ـ حتّى أنّ الشيطان طلبه بلسان المقال ، حيث ( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) .

وحاصل المرام : أنّ اللّه‏ تعالى لمّا خلق الدنيا والآخرة ، وجعلهما متباينتين ؛ حيث جعل الاُولى فانية دنيئة مشتملة على بلايا ومتاعب ومشاقّ التكليفات وغيرها ؛ إذ لم يخلقها إلاّ لأجل أن يوصل بها إلى استحقاق نعيم الآخرة التي جعلها دار الالتذاذ والبقاء والراحة ؛ ولهذا أبغض الدنيا وزخارفها ، ومن اغترّ بها وأرادها ورجّجها على ما اختار اللّه‏ له من دار الآخرة ؛ إذ ذلك عين المضادّة مع اللّه‏ عزوجل ، المستلزمة لاستحقاق العذاب والنكال ، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ومن ثمّ اقتضى عدله وكرمه أن لا يحرم هؤلاء عمّا أرادوا فأعطاهم منها على وفق حكمته كما بيّنّا ، وجعل في العوض زيادة العذاب على حسب ذلك ، لكن مع تبيان ذلك لهم ليُتمّ الحجّة عليهم ، وفي مقابل ذلك خصّ أولياءه الذين قبلوا قوله ، واختاروا ما اختاره لهم من الآخرة بالبلايا فيها والمتاعب والمصائب ؛ ليستحقوا بذلك زيادة الأجر والثواب .

فافهم هذا وتأمّل جدّاً ، حتّى تعلم أنّ توجّه الدنيا إلى الإنسان علامة بغض الرحمن ، وعكسه بالعكس ، فتجعل هذا من قرائن تمييز الخبيث من الطيب ، مع عدم الغفلة عن كون الدنيا الموصلة إلى خير الآخرة من غير هذا الباب ، وأنّ مناط تمييز المهلكة والمنجية ملاحظة هذا الإيصال ، وتمام انكشاف ما نحن فيه في ضمن نقل الآيات والروايات ، فلنذكر نبذاً منها :

قال اللّه‏ عزوجل وتعالى : ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي

__________________

(١) سورة الحجر ١٥ : ٣٦ ، وسورة ص ٣٨ : ٧٩ .

٣١٨

هُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

وقال أيضاً : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ) (٢) .

وقال : ( نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) (٣) .

وقال : ( وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ) (٤) .

وقال سبحانه وتعالى : ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ *‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (٥) .

وقال : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) (٦) الآية .

وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ *‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (٧) .

وقال : ( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا ) (٨) الآية .

وقال تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ) (٩) .

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٧٨ .

(٢) سورة المؤمنون ٢٣ : ٥٥ ـ ٥٦ .

(٣) سورة لقمان ٣١ : ٢٤ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٢٦ .

(٥) سورة آل عمران ٣ : ١٩٦ ـ ١٩٧ .

(٦) سورة طه ٢٠ : ١٣١ .

(٧) سورة الشعراء ٢٦ : ٢٠٥ ـ ٢٠٧ .

(٨) سورة التوبة ٩ : ٥٥ .

(٩) سورة إبراهيم ١٤ : ٤٢ .

٣١٩

وقال : ( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (١) .

وقال عزوجل : ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) (٢) .

وقال عزوجل : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ) (٣) الآية .

وقال تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (٤) .

وقال عزوجل : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (٥) .

وقال تعالى: ( فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ) (٦) .

وقال تعالى : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) (٧) .

وقال تبارك وتعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (٨) .

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ : ٣٠ .

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٨ .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ١٨ .

(٤) سورة الشورى ٤٢ : ٢٠ .

(٥) سورة الأعراف ٧ : ١٨٢ ـ ١٨٣ .

(٦) سورة القلم ٦٨ : ٤٤ ـ ٤٥ .

(٧) سورة الأنعام ٦ : ٤٤ .

(٨) سورة الأنعام ٦ : ١٢٣ .

٣٢٠