تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، ومن المعلوم اتفاقهم على الجريان ، أجاب عن الإشكال في آخر مبحث الاستصحاب فقال ما هذا محصله : انه فرق بين كون مفاد الأصلين متفقين على مخالفة ما يعلم تفصيلا كاستصحاب نجاسة الإناءين أو طهارتهما مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فان الاستصحابين يتوافقان في نفى ما يعلم تفصيلا ، وبين ما لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون ان يتوافقا في مخالفة المعلوم تفصيلا وما منعنا عن جريانه في أطراف العلم الإجمالي هو الأول دون الثاني لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين الذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالإجمال ، واما لزوم التفكيك بين المتلازمين الواقعيين فلا مانع منه لأن التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر «انتهى».

وفيه أولا ان ما ذكره ليس فارقا بين البابين ، لأن جريان الأصل في هذا الإناء ليس مصادما للعلم الوجداني ، وكذا جريانه في تلك الإناء ليس مصادما له أيضا.

(نعم) جريانهما في كلتيهما مخالف للعلم الإجمالي فيعلم مخالفة أحدهما للواقع كما ان استصحاب طهارة البدن من الماء غير مناف للعلم واستصحاب الحدث كذلك لكن جريانهما مناف للعلم الإجمالي فيعلم بكذب أحدهما ، فما هو ملاك الجريان واللاجريان في البابين واحد ، ومجرد توافق الاستصحابين لا يوجب الفرق مع ان توافقهما ، أيضا ممنوع ، فان مفاد أحدهما نجاسة أحد الإناءين ، ومفاد الآخر نجاسة الإناء الآخر ، وانما توافقهما نوعي ومورد الموافقة ليس مجرى الأصل ، وما هو مجراه وهو النجاسة الشخصية لا يكون موافق المضمون مع صاحبه بحيث ينافى العلم التفصيلي.

وثانيا : ان لازم ما جعله مناط الجريان وعدمه ، هو جريان الأصل فيما لا يكون الأصلان متوافقي المضمون كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب التتن سابقا وعلم بانتقاض أحدهما ، وجريانه فيهما بناء على ما ذكره من الملاك لا غبار فيه ، إذ

٣٢١

لا يلزم منه سوى ما يلزم في استصحاب الحدث وطهارة البدن إذا توضأ بمائع مردد بين الماء والبول مع انه من البعيد ان يلتزم بجريان الأصل في هذا المثال هذا كله في المخالفة القطعية وأظن ان هذا المقدار كاف في تحقيق الحال

وجوب الموافقة القطعية وعدمه

والكلام فيها كالكلام في عديله يقع في الثبوت والإثبات اما الأول فقد تقدم ان العلم الجازم بوجود تكليف في البين خارج عن محط البحث وان خلط بعض محققي العصر بينه وبين العلم بالحجة و (ح) فلو وقف على قيام الحجة بالتكليف فلا إشكال في حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية بعد قيامها ، لوجوب تحصيل المؤمن عن العقاب وهو لا يحصل إلّا بالموافقة القطعية ، واما حكم العقل الدّقيق فهو في البابين واحد يعنى لا يرى الترخيص في واحد من الأطراف أو جميعها ، إذنا في المعصية ، لأن المفروض هو العلم بالحجة لا بالتكليف الواقعي ، واما في حكم العقلاء فيمكن إبداء الفرق بين البابين ، فان العقلاء لا يرون الاذن في بعض الأطراف إذنا في مخالفة الواقع وارتكاب الحرام بل إذنا في المشتبه بما هو مشتبه ، وهو غير مستنكر عند العقلاء حتى يوجب انصراف الأدلة أو صرفها ، فلو فرض دليل على بعض الأطراف فلا موجب لرفع اليد عنه في المقام بخلاف الاذن في الأطراف عامة فانه عندهم مستنكر قبيح يرونه إذنا في المعصية كما تقدم

 وبذلك تعرف ان القول بكون العلم الإجمالي علة تامة أو مقتضيا بالنسبة إلى حرمة المخالفة أو وجوب الموافقة انما يصح في هذا القسم (العلم بالحجة) وعليه فلا مانع من ان يقال ان العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية في نظر العقلاء بحيث يرى العقلاء الاذن في الأطراف ترخيصا في المعصية ، لكنه مقتضى لوجوب الموافقة أي يحكم بلزومها مع عدم ورود رخصة من المولى ولا يستنكر ورودها كما لا يستنكر ورودها في بعض موارد الاشتغال مع العلم التفصيلي ، كالشك بعد الفراغ ومضى الوقت.

٣٢٢

واما الكلام في الإثبات ، اما أدلة البراءة كحديث الرفع والسعة فالظاهر عدم شمولها للمقام لما وافاك من ان المراد من العلم في المقام ليس العلم الوجداني بل المراد هو الحجة والمفروض ان الحجة قائمة على الحرمة ، وقد تقدم انه لا يقال للرجل الّذي قامت الحجة عنده ، على التكليف انه ممن لا يعلم ، وان شئت قلت ان هنا حجة أخرى وراء الأمارة وهو حكم العقل بوجوب الاجتناب ومن هنا يعلم حال الاستصحاب فان المراد من اليقين الواقع في كبريات الاستصحاب هو الحجة ، فمعنى قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشك إلخ لا تنقض الحجة باللاحجة ، بل انقضه بحجة أخرى والمفروض حصول الغاية وهي حكم العقل بوجوب الاجتناب فلا مجرى له لتحقق الغاية ولو قيل ان الحجة في أطراف العلم قامت على الواقع في البين لا على الأطراف قلنا ان الأمارة قامت على الواقع في البين وهي حجة على كل من الأطراف لو صادفت الواقع ومعه يكون كل من الأطراف من الشبهة المصداقية لأدلة الأصول بل يمكن دعوى انصراف أدلتها لا سيما أدلة الاستصحاب إلى الشك الساذج لا المقرون بالعلم الإجمالي واما موثقة «مسعدة» فقد تقدم انها مشتملة على أمثلة ليست من صغرياتها فعلى ذلك لا يبقى للكبرى المذكورة فيها ظهور في كونها ضابطا فقهيا مطردا في الأبواب ، واما روايات الحل فقد عرفت ان غير صحيحة «عبد الله بن سنان» مخدوش من حيث السند ، بل لا يبعد ورودها في الشبهة الغير المحصورة كما يشهد به بعضها واما الصحيحة فظاهرها حل ما اختلط الحلال بالحرام جميعا ، ولو رفع اليد عنه لكون مفاده غير معمول به فلا يبقى لها مفاد بالنسبة إلى الترخيص في بعض الأطراف ، واما تقريب دلالتها على الترخيص في بعض الأطراف ببيان ان لها عموم افرادي وإطلاق أحوالي بالنسبة إلى حال ترك الآخر وفعله فيقتصر في التقييد على القدر المتيقن فيصير النتيجة هي الترخيص في أحدهما ، فغير صحيح جدا ، لأن هذا التقريب انما يجري (كما سيوافيك بيانه) في قوله عليه‌السلام كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام بعينه لا في المقام لأن مصاديق العموم الأفرادي في الصحيحة انما هو كل مختلط أي كل فرد فرد من افراد الاجتماع الّذي فيه الحلال والحرام ، واما أطراف المعلوم بالإجمال ،

٣٢٣

فليس في كل واحد منها الحلال والحرام ، فموضوع الحكم فيها هو كل مختلط ، فجعل الحل لها وإطلاقها الأحوالي يقتضى الحلية في كل مختلط ، ارتكب المختلط الآخر أولا ، ومقتضى التقييد هو الإجازة في المخالفة القطعية في بعض المصاديق حال ترك البعض وهو خلاف المقصود ، واما بالنسبة إلى اجزاء كل مختلط فلا حكم مستقلا حتى يؤخذ بإطلاقه بل حكم واحد مجعول لكل مجتمع فيه الحلال والحرام والاجزاء محكوم بهذا الحكم الوحداني ، فلا معنى للإطلاق المتقدم فيها.

ثم انه على القول بعدم انصراف أدلة الأصول عن العلم الإجمالي وقع الكلام في كيفية استفادة الترخيص عن أدلة العامة في بعض الأطراف ، وقد قيل في بيانها وجوه ربما اعتمد عليها المشايخ العظام وإليك بيانها وأجوبتها

تقريبات من المشايخ العظام

الأول ـ ما نقله شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) ان مقتضى عموم الأدلة ، الترخيص في كل من الأطراف غاية ما هنا وجوب التخصيص بحكم العقل بمقدار يلزم منه الاذن في المعصية وحيث لا ترجيح لإخراج واحد معين من عموم الأدلة نحكم بخروج البعض لا بعينه وبقاء الباقي كذلك حفظا لأصالة العموم فيما لم يدل دليل على التخصيص وأورد عليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه : ان البعض الغير المعين لا يكون موضوعا للعام من أول الأمر حتى يحفظ العموم بالنسبة إليه لأن موضوعه هو المعينات فالحكم بالترخيص في المبهم يحتاج إلى دليل آخر.

الثاني : ما نقله أيضا وأوضحه هو (قدس‌سره) وبما انه مذكور بطوله في كتابه الشريف فليرجع إليه من شاء ، وان أوضحناه في الدورة السابقة.

الثالث : ما أفاده بعض محشي الفرائد وأوضحه عدة من المشايخ منهم شيخنا العلامة وبعض أعاظم العصر (قدس الله أرواحهم) وملخصه ان نسبة أدلة الأصول إلى كل واحد من الأطراف وان كانت على حد سواء لكن لا يقتضى ذلك سقوطها عن جميع الأطراف توضيحه : ان الأدلة المرخصة كما يكون لها عموم افرادي بالنسبة إلى كل مشتبه كذلك يكون لهما إطلاق أحوالي بالنسبة إلى حالات المشتبه

٣٢٤

فكل مشتبه مأذون فيه أتى المكلف بالآخر أو تركه ، وانما يقع التزاحم بين إطلاقهما لا أصلهما فان الترخيص في كل واحد منهما في حال ترك الآخر مما لا مانع منه ، فالمخالفة العملية انما نشأت من إطلاق الحجية فلا بد من رفع اليد عن إطلاقهما لا أصلهما ، فتصير النتيجة الاذن في كل واحد مشروطا بترك الآخر ، وهذا مساوق للترخيص التخييري ، وهذا نظير باب التزاحم وحجية الأمارات على السببية و (فيه) ما قد عرفت ان ما يصح الاعتماد به من الأدلة انما هو صحيحة عبد الله بن سنان ، واما الباقي فقد عرفت فيه الضعف في السند أو في الدلالة ، واما الصحيحة فقد تقدم ان الموضوع فيها غير الموضوع في قوله عليه‌السلام كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فان الموضوع في الثاني انما هو كل فرد فرد أو كل جزء جزء فيقال في الحرام المختلط بالحلال بحلية كل جزء فلو صح ما ذكر من التقريب لصح تقييده بما ذكر من ترك الآخر ، واما الصحيحة فما هو الموضوع ليس الا كون الشيء فيه الحلال والحرام بالفعل وهو ليس إلا مجموع المختلط ، والضمير في قوله (منه) راجع إلى الشيء المقيد بان فيه الحلال والحرام و (بالجملة) فالموضوع في غير الصحيحة هو كل جزء جزء مستقلا ، واما فيها فليس كل جزء محكوما بالحلية بالاستقلال بل الموضوع هو نفس المجموع بما هو هو ، فلو صح الإطلاق فيها فلا بدّ ان يكون مصبه ما هو الموضوع بان يقال ان هذا المختلط محكوم بالحلية سواء كان المختلط الآخر محكوما بها أولا فلو قيد بحكم العقل يصير نتيجة التقييد هو حلية هذا المختلط عند ترك المختلط الآخر وهو خلاف المطلوب ، ولا يصح ان يقال : ان هذا الجزء محكوم بالحلية سواء كان الجزء الآخر محكوما أولا حتى يصير نتيجة التقييد بحكم العقل ما ادعى من جواز ارتكاب هذا الجزء عند ترك الآخر ، لأن الجزء ليس محكوما بحكم حتى يقع مصب الإطلاق والتقييد ولو صح جريان الصحيحة في الإناءين المشتبهين ، فالمحكوم بالحلية انما هو الكل ، لا كل واحد منهما ، حتى يؤخذ بإطلاقه الأحوالي ويقيد بمقدار ما دل عليه حكم العقل مضافا إلى ان في إطلاق الأدلة بنحو ما ذكر كلاما وإشكالا وإشكالا

٣٢٥

ثم ان بعض أعاظم العصر قد أجاب عنه بكلام طويل ونحن نذكر خلاصة مرماه فنقول قال قدس‌سره ، ان الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد امرين اما لاقتضاء الدليل الدال على الحكم ، التخيير في العمل ، واما اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وان كان الدليل يقتضى التعيينية فمن الأول ما إذا ورد عام كقوله : أكرم العلماء وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام وشك في ان خروجهما هل هو على وجه طلاق ، أو ان خروج كل واحد مشروط بحال الإكرام الآخر بحيث يلزم من خروج أحدهما دخول الآخر فيدور الأمر بين كون المخصص افراديا وأحواليا ، أو أحواليا فقط فلا بد من القول بالتخيير ، وانما نشأ ذلك من اجتماع دليل العام وإجمال المخصص ووجوب الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص وليس التخيير لأجل اقتضاء المجعول بل المجعول في كل من العام والخاصّ هو الحكم التعييني ، والتخيير نشأ من ناحية الدليل لا المدلول ، ومن الثاني ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما فان التخيير في باب التزاحم انما هو لأجل ان المجعول في باب التكاليف معنى يقتضى التخيير لاعتبار القدرة في امتثالها ، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك الآخر وحيث لا ترجيح في البين وكل تكليف يستدعى نفى الموانع عن متعلقه ، وحفظ القدرة عليه ، فالعقل يستقل (ح) بصرف القدرة في أحدهما تخييرا ، اما لأجل تقييد التكليف في كل منهما بحال عدم امتثال الآخر ، واما لأجل سقوط التكليفين واستكشاف العقل حكما تخييريا لوجود الملاك التام (واما الأصول) فلا شاهد على التخيير فيها إذا تعارضت ، لا من ناحية الدليل فان دليل اعتبار كل أصل انما يقتضى جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أولا ، ولا من ناحية المدلول فلان المجعول فيها ليس إلّا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، وحيث انه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جميعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وان كان ممكنا إلّا انه لا دليل عليه «انتهى كلامه»

٣٢٦

وفيه مواقع للنظر نذكر مهماتها الأول ما أفاده من ان التخيير في الصورة الأولى من ناحية الكاشف لا المنكشف ، قائلا بان المجعول في كل من العام والخاصّ هو الحكم التعييني ليس في محله ، إذ لو كان المجعول في المخصص امرا تعيينيا ، لم يبق مجال للشك ، بان المفروض ان زيدا وعمراً قد خرجا عن تحت العام بنحو التعيين فلا وجه للشك ولا مناص إلّا ان يقال ان الباعث للشك هو احتمال كون المجعول في المخصص امرا ينطبق على التخيير ، بان يتردد المجعول بين خروج كل فرد مستقلا ، أو خروج كل واحد مشروطا بعدم خروج الآخر (على مبناه في الواجب التخييري وبما ان العام حجة في افراد العام وأحواله ، فلازم ذلك ، الاكتفاء بما هو القدر المتيقن أعني خروج كل عند عدم خروج الآخر ، والحاصل ان الموجب للتخيير انما هو دوران الأمر في المخصص بين التعيين والتخيير أي خروج الفردين مطلقا أو خروج كل منهما مشروطا بدخول الآخر ، والثاني هو القدر المتيقن من التصرف في العام نعم لو علمنا بخروج زيد وتردد بين كونه زيد بن عمرو أو زيد بن بكر ، نحكم بالتخيير لا من جهة الكاشف ولا المنكشف بل من جهة حكم العقل به

 الثاني ان جعل التخيير بين المتزاحمين في الصورة الثانية من ناحية المجعول غير صحيح بل التخيير من ناحية الكاشف والدليل ، ضرورة ان المجعول في المتزاحمين هو التعيين لتعلق الإرادة بكل واحد كذلك غير ان عجز العبد عن القيام بكلتا الوظيفتين أوجب حكم العقل بالتخيير لملاحظة ان العام له إطلاق أحوالي ، وكون المكلف عاجزا عن القيام بكلا المتزاحمين يوجب الاقتصار على القدر المتيقن في التصرف فيه ، فالتخيير نشأ من إطلاق الدليل وعدم الدليل على التصرف فيه ، إلّا بمقدار يحكم العقل بامتناع العمل بالعامّ وهو الأخذ بالإطلاق الأحوالي في كلا الفردين فلا بد من التصرف فيه من تلك الجهة وما أفاده : من ان الأحكام متقيدة بالقدرة ، فان أريد منه تقييدها بالقدرة شرعا حتى يصير عامة الواجبات تكليفا مشروطا فهو كما ترى ، وان أريد ان التنجز انما هو في ظرف القدرة كما ان تبعاته من الثواب و

٣٢٧

العقاب في هذا الظرف فهو متين ، غير ان ذلك لا يوجب ان يكون المجعول في رتبة الجعل امرا تخييريا ضرورة ان المقنن ، لا نظر له إلى مقام الامتثال ، بل هو امر خارج عن حيطة الشارع المقنن ، بل هو من الأمور التي زمامها بيد العقل ، ولو فرض ورود خطاب من الشارع في مقام الامتثال فهو خطاب لا بما هو مشرع ، بل يتكلم من جانب العقلاء مع قطع النّظر عن كونه مشرعا ومقننا وبالجملة : لا فرق بين الصورة الأولى والثانية الا من ناحية المخصص فان المخصص في الأولى دليل لفظي مجمل دائر بين الأقل والأكثر ، وفي الثانية عقلي يحكم بخروج القدر المتيقن من العام (نعم) لو بنينا على ان التكليفين يسقطان معا ويستكشف العقل لأجل الملاك التام حكما تخييريا يمكن ان يقال : ان التخيير بينهما انما يكون لأجل المدلول لا الدليل على إشكال فيه لكنه على خلاف مسلكه.

الثالث : ان لنا ان نقول ان التخيير بين الأصلين المتعارضين من مقتضيات الدليل والكاشف ، ومن مقتضيات المنكشف والمدلول (اما الأول) : فبان يقال ان قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام إلخ يدل على حلية كل مشتبه ، وله عموم افرادي وإطلاق أحوالي ولكن الاذن في حلية كل واحد يوجب الاذن في المعصية والترخيص في مخالفة المولى ، وبما ان الموجب لذلك هو إطلاق دليل الأصلين لا عمومه فيقتصر في مقام العلاج إلى تقييده وهو حلية ذاك عند عدم حلية الآخر حتى لا يلزم خروج كل فرد على نحو الإطلاق ، فيكون مرجع الشك إلى الجهل بمقدار الخارج ، فالعموم حجة حتى يجيء الأمر البين على خلافه و (الحاصل) كما ان الموجب للتخيير في الصورة الأولى هو اجتماع دليل العام وإجمال دليل الخاصّ بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص ، كذلك اجتماع دليل الأصول مع لزوم التخصيص (حذرا من المخالفة العملية) ودورانه بين خروج الفردين مطلقا وفي جميع الأحوال أو خروج كل منهما في حال عدم ارتكاب الآخر ، موجب للتخيير في المقام ، بل ما نحن فيه أولى منه لأن المخصص هنا عقلي والعقل يحكم بان ما يوجب الامتناع هو إطلاق الدليل لا عمومه الأفرادي فليس المخصص (حكم العقل) مجملا دائرا بين الأقل والأكثر كما في

٣٢٨

المثال ، فيحكم العقل حكما باتا بان ملاك التصرف في أدلة الحلية ليس إلّا تقييد الإطلاق لا تخصيص الافراد

 واما الثاني فلان الحلية المستفادة من أدلة الأصول مقيدة بكون المكلف قادرا حسب التشريع أي عدم استلزامه المخالفة العملية والترخيص في المعصية وان شئت قلت : مقيدة عقلا بعدم استلزامها الاذن في المعصية القطعية (فحينئذ) يجري فيه ما ذكره (قدس‌سره) طابق النعل بالنعل من ان كل واحد من المتعارضين يقتضى صرف قدرة المكلف في متعلقه ، ونفى الموانع عن وجوده ، فلما لم يكن للعبد الا صرف قدرته في واحد منهما فيقع التعارض بينهما (فحينئذ) فاما ان نقول بسقوط التكليفين واستكشاف العقل تكليفا تخييريا أو نقول بتقييد إطلاق كل منهما بحال امتثال الآخر ، فيكون حال الأصول المتعارضة حال المتزاحمين حرفا بحرف.

هذا حال ما أفاده الاعلام وقد طوينا الكلام عن بعض الوجوه روما للاختصار وقد عرفت التحقيق في جريان الأصول في أطراف العلم كلا أو بعضا فراجع

 ثم انه يظهر من الشيخ الأنصاري وتبعه بعض آخر بان الترخيص في بعض الأطراف يرجع في الحقيقة إلى جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع وهذا بمكان من الغرابة لعدم ملاك البدلية في الطرف بوجه فلو كان الطرف مباحا فليس في تركه ملاك البدلية حتى يكون بدلا عنه وأسوأ منه لو كان الطرف مستحبا في الشبهة التحريمية أو مكروها في الشبهة الوجوبية وليس لترخيص الشارع سببية لحصول الملاك لا سيما بالنسبة إلى الطرف الآخر والتحقيق ان الترخيص على فرضه انما هو لمصلحة التسهيل أو مفسدة التضييق من غير تغيير في الواقعيات بوجه فهو راجع إلى الغمض عن التكليف الواقعي على بعض الفروض لأغراض أهم من حفظ الواقع في هذا الحال.

في تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

ثم ان التحقيق في منجزية العلم الإجمالي وساير ما يقع الكلام فيه عدم الفرق بين كون الأطراف حاصلا فعلا وبين التدريجيات في عمود الزمان كان التكليف مطلقا أو معلقا أو مشروطا اما في الأولين فواضح لعدم الفرق لدى العقل بين حرمة مخالفة المولى

٣٢٩

قطعا أو احتمالا في ارتكاب الأطراف المحققة فعلا أو في ارتكابها مع تحققها تدريجا فلو علم بحرمة شيء عليه اما في الحال أو في زمان مستقبل يحكم العقل بوجوب تركها في كلا الحالين فالتكليف الواقعي منجز عليه بل وكذا الأمر في الواجب المشروط فانه مع العلم بتحقق شرطه في محله كالواجب المطلق من هذه الحيثية فتدبر.

وينبغي التنبيه على أمور

الأول : فيما إذا اضطر إلى أحد الأطراف.

اعلم : انه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي كونه متعلقا بتكليف فعلى صالح للاحتجاج في أي طرف اتفق وجود المعلوم بالإجمال ولأجل ذلك لو دار امر المعلوم بالإجمال بين كونه فعليّا إذا كان في طرف وإنشائيّا في طرف آخر أو غير صالح للاحتجاج به ، لما يوجب تنجيزا أصلا : ولهذا يقع البحث في تنجزه إذا كان المكلف مضطرا إلى بعض الأطراف ولا بد من بيان اقسامه ثم توضيح أحكامها فنقول : قد يكون الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحدها وقبل تعلق العلم به ، وأخرى يكون بعد تعلقه وقبل العلم به ، وثالثة بعد تعلق التكليف والعلم به ، ورابعة يكون مقارنا لهما أو لأحدهما ، وخامسة بعد العلم بالخطاب وقبل تنجز التكليف ، كما في العلم بواجب مشروط قبل حصول شرطه ثم حصل الاضطرار إلى بعض الأطراف ، ثم تحقق الشرط ، وعلى التقادير الخمسة قد يكون الاضطرار إلى أحدها المعين وأخرى إلى غيره ، وعلى جميع التقادير قد يكون الاضطرار عقليا ، ونتكلم فيه مع قطع النّظر عن حديث الرفع وقد يكون عاديا مشمولا للحديث ونتكلم مع النّظر إليه والمفروض في جميع التقادير ما إذا كان الاضطرار بمقدار المعلوم أو الزائد منه وإلّا فلا تأثير له في سقوط العلم عن التأثير ، فلنذكر من تلك الأقسام ما هو الأهم حكما وألزم بيانا وتوضيحا فنقول :

منها انه لو كان الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا قبل تعلق التكليف أو بعده وقبل العلم به فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الآخر سواء كان الاضطرار

٣٣٠

عقليا أو عاديا ، اما على مسلك المشهور من ان الاعذار العقلية أو الشرعية يوجب سقوط الأحكام عن الفعلية فواضح ، لأن العلم بتكليف دائر امره بين كونه إنشائيا لو صادف مورد الاضطرار ، وفعليا لو كان في الطرف الآخر ، لا يوجب علما بالتكليف الفعلي على أي تقدير فلا معنى للتنجيز واما على المختار في باب الاعذار من بقاء الأحكام على فعلياتها (كان المكلف عاجزا أو قادرا مختارا كان أو مضطرا) من دون ان يكون الاضطرار موجبا لتحديد التكليف وتقييد فعليته غاية الأمر يكون المكلف معذورا في ترك الواجب أو ارتكاب الحرام (ولأجل ذلك قلنا بلزوم الاحتياط عند الشك في القدرة إلى ان يقف على عذر مسلم ـ فيمكن القول بلزوم الاجتناب عن الطرف الآخر لحصول العلم بالتكليف الفعلي بعد الاضطرار ، والمفروض عدم ارتفاعه بحدوث الاضطرار ، فلو كان الخمر في ذاك الطرف غير المضطر إليه ، لزم الاجتناب عنه قطعا ، فارتكاب عامة الأطراف مخالفة عملية بلا عذر للتكليف على فرض وجوده في ذاك الطرف ، فيجب الاجتناب عنه مقدمة وان شئت نزلت المقام بما لو علم العبد بالتكليف الفعلي وشك في قدرته ، وقد تقدم انه ليس معذورا في ذلك بل لا بد من العلم بالعذر وليس له الاكتفاء بالشك مع العلم بالتكليف الفعلي ، ومثله المقام فان العلم الإجمالي قد تعلق بالتكليف الفعلي ، والمكلف شاك في كونه مضطرا إلى الإتيان بمتعلق التكليف فيكون من قبيل الشك في القدرة فيجب له الاحتياط من غير فرق في ذلك بين العلم التفصيليّ والإجمالي.

ولكن الإنصاف وضوح الفرق بين المقامين ، فان التكليف هناك قطعي ، والشك في وجود العذر ، واما المقام فالتكليف وان كان محققا إلّا ان العذر مقطوع الوجود (توضيحه) : ان المكلف بعد ما وقف على التكليف الفعلي أي غير المقيد بالقدرة يجب له الاحتياط وترك المساهلة حتى يجيب امر المولى بامتثال قطعي ، أو عذر كذلك ، فلو أجاب امر المولى بالشك في القدرة فقد أجابه بما يشك كونه عذرا عند العقل والعقلاء و (هذا) بخلاف المقام فان العذر وهو الاضطرار حاصل في المقام قطعا

٣٣١

و (ما أسمعناك) من الاضطرار عذر في الطرف المضطر إليه ، دون الطرف الآخر وان مرجع ذلك إلى الشك في العذرية لأن التكليف لو كان في الطرف المضطر إليه فهو عذر قطعا ولو كان في الطرف الآخر فهو غير معذور قطعا ، فالشك في ان الحرام في أي الطرفين يلازم الشك في وجود العذر في ذلك الطرف (مدفوع) بما عرفت في صدر المسألة من ان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي ان يتعلق العلم بشيء لو تعلق به العلم التفصيلي لتنجز عليه التكليف ، فلو تعلق العلم الإجمالي على امر مردد بين الإنشائي والفعلي ، فلا يكون منجزا واما المقام فمتعلق العلم وان كان حكما فعليا ، إلّا ان مجرد كونه فعليا لا يثمر ، بل لا بد ان يتعلق بحكم فعلى صالح للاحتجاج مطلقا عند العقلاء وهذا القيد مفقود في المقام حيث انه لم يتعلق بما هو صالح له مطلقا بحيث لو ارتفع الإجمال لتنجز التكليف بل هو صالح للاحتجاج على وجه ، وغير صالح على وجه آخر ومرجعه إلى عدم العلم بالصالح مطلقا ومعه لا يوجب تنجيزا أصلا وان شئت قلت : فرق واضح بين الشك في القدرة أو الاضطرار مع العلم بالتكليف وبين العلم بالعجز أو الاضطرار مع الشك في انطباقه على مورد التكليف أو غيره فان العلم بالعجز والاضطرار يكون عذرا وجدانيا فلم يتعلق علم العبد بتكليف فعلى لا يكون معذورا فيه ، ولكن الشك في العجز لا يكون عذرا عند العقلاء مع فعلية التكليف وهذا هو الفارق بين البابين.

منها : إذا اضطر إلى المعين مقارنا لحصول التكليف أو العلم به فلا تأثير أيضا ، لأن العلم الإجمالي المقارن للعذر لا يمكن ان يصير حجة وان شئت قلت بعد عدم العلم بتكليف فعلى على مبنى القوم وعدم العلم بتكليف فعلى صالح للاحتجاج على ما حققنا لا وجه للتنجيز

منها انه لو حصل الاضطرار بعد العلم بالتكليف ، كما إذا اضطر إلى أحد الإناءين معينا بعد العلم بنجاسة أحدهما فلا إشكال في لزوم الاجتناب ، ولا يقاس بالصورة الأولى ، حيث ان التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج لم يكن موجودا فيها من أول ثم شك في حصوله واما المقام فقد تعلق العلم بتكليف صالح للاحتجاج قبل

٣٣٢

حدوث الاضطرار ، والاجتناب عن غير مورد الاضطرار انما هو من آثار ذلك العلم ، و (بالجملة) هذا العلم كان علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بالاجتناب من الطرفين فإذا حدث الاضطرار وارتفع حكم العقل في واحد من الطرفين لأجله بقي حكمه بوجوب الموافقة الاحتمالية فالحكم بلزوم الاجتناب عن الباقي انما هو من آثار ذلك العلم المتقدم فالاضطرار إلى واحد من الطرفين كإراقته أو مخالفته في ذلك الطرف بشر به وارتكابه ، كما لا يوجب هذان جواز ارتكاب الطرف الآخر فهكذا الاضطرار في هذه الصورة ، وان شئت قلت : ان الاضطرار لا يكون عذرا الا بمقداره والاشتغال اليقينيّ يقتضى البراءة اليقينية ، ومع عدم إمكانها يحكم العقل بلزوم الموافقة الاحتمالية ، واما ما أفاده المحقق الخراسانيّ من ان الاضطرار من قيود التكليف وحدوده فيرتفع عند الوصول إلى حده فيوافيك بيانه ونقده فانتظر

ومما ذكرنا يظهر حال الواجب المشروط لو تعلق العلم به قبل تحقق شرطه واضطر إليه قبل حصوله ، فانه ان قلنا بان الواجب المشروط قبل تحقق شرطه لم يكن حكما فعليا ، يكون حاله حال الاضطرار قبل العلم بالتكليف ، وان قلنا بأنه تكليف فعلى وان الشرط قيد للمادة أو ظرف لتعلق التكليف يكون حاله حال الاضطرار بعد العلم

منها : إذا اضطر إلى غير المعين فالتحقيق وجوب الاجتناب مطلقا عن الطرف الآخر لعدم الاضطرار إلى مخالفة التكليف الواقعي ، بل ما تعلق به الاضطرار غير ما تعلق به التكليف ، بخلاف ما إذا اضطر إلى مخالفة واحد من الأطراف معينا (توضيحه) ان متعلق التكليف عند الاضطرار إلى الواحد المعين يحتمل ان يكون عين ما تعلق به التكليف ومع هذا الاحتمال لا يبقى علم بالتكليف المنجز الصالح للاحتجاج بل الأمر يدور بين التكليف الصالح له ، وغير الصالح له ، ومرجع ذلك إلى الشك في التكليف واما المقام فالمفروض ان الاضطرار لم يتعلق بواحد معين حتى يكون مضطرا في ارتكابه ولا يمكن له العدول إلى غيره ، وان فرضنا انكشاف الواقع ، بل متعلق الاضطرار انما هو إحدى الإناءين بحيث لو كشف الواقع عليه يجب العدول إلى

٣٣٣

غير المحرّم ، لكون الآخر غير المحرم يندفع به الاضطرار بلا محذور و (عليه) فمتعلق الاضطرار في نفس الأمر غير ما تعلق به التكليف ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى المعين.

وبالجملة : ما هو متعلق التكليف غير ما اضطر إليه وان كان ربما ينطبق عليه إلّا انه من آثار الجهل لا الاضطرار بحيث لو ارتفع الجهل لما وقع في ارتكابه أصلا وهذا بخلاف الاضطرار إلى المعين إذ لو تبين كونه خمرا لما كان له مناص عن ارتكابه ، (وعليه) فلا بدّ من التفكيك أي تفكيك ما هو من لوازم الجهل ، وما هو من لوازم الاضطرار فشرب الخمر عند الاضطرار إلى الواحد المعين لو صادف المحرم من آثار الاضطرار إليه ، كما ان شربها عند الاضطرار إلى غير المعين من آثار الجهل ، لإمكان دفعه بالإناء الآخر

 و (بما ذكرنا) يندفع ما ربما يقال من انه لو اختار ما هو الخمر واقعا مع الجهل كشف ذلك كون متعلق الاضطرار في نفس الأمر هو متعلق الحرمة ، (وجه الاندفاع) ان ما ذكر راجع إلى مقام الامتثال واختيار ما هو الخمر واقعا لا يوجب تعلق الاضطرار به واقعا وقد عرفت ان متعلقه انما هو واقع أحدهما لا بعينه

 وبتقريب آخر (وقد مر توضيحه عند الاضطرار إلى الواحد المعين بعد تنجز التكليف) ان العلم علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ومع عدم إمكانها يحكم بوجوب الموافقة الاحتمالية ولذا لا يجوز شرب الإناء الأخرى عند إراقة أحدهما أو شربها عمدا ، حفظا لآثار العلم فلا يرفع اليد إلّا بمقدار الاضطرار ، والشك في فعلية التكليف بعد اختيار واحد من الأطراف لإمكان كون المأتي به مورد الاضطرار ، كالشك الحاصل بعد فقد أحدهما أو ارتكابه بلا اضطرار ، فالعلم الإجمالي بعد الاضطرار صالح للاحتجاج بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية كان الاضطرار سابقا أو مسبوقا.

مختار المحقق الخراسانيّ في الكتاب وهامشه

 ان المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله اختار سقوط العلم عن التأثير مطلقا معللا بان جواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا ينافى العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينهما فعلا ونفى (قدس‌سره) الفرق بين سبق الاضطرار على العلم ولحوقه

٣٣٤

معللا بان التكليف المعلوم بينهما يكون محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه من أول الأمر ، وبهذا فرق بين فقد بعض الأطراف بعد تعلق العلم والاضطرار إليه بعده حيث أوجب الاحتياط في الأول دون الثاني ، ثم انه رجع عما ذكره في هامش الكتاب وفصل بين الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه والاضطرار إلى المعين وأوجب الاحتياط في الثاني دون الأول معللا بان العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي المحدود في هذا الطرف أو المطلق في الطرف الآخر يكون منجزا ، واما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه فانه يمنع عن فعلية التكليف مطلقا «انتهى ملخصا».

وفيه مواقع للنظر : (منها) : منع كون الاضطرار العقلي من حدود التكاليف وقيوده ، فان الاضطرار العقلي بمعنى عجز المكلف عن القيام بوظائفه يوجب معذورية المكلف بترك المأمور به فلا يكون للمولى حجة عليه بل له الحجة عليه ، وهذا امر آخر غير محدودية التكليف وتقيده وان أراد الاضطرار العرفي الّذي إليه مآل حديث الرفع فهو وان كان من حدوده الشرعية إلّا أنّك قد عرفت ان ما هو متعلق التكليف عند الاضطرار ، إلى غير المعين غير ما هو متعلق الاضطرار ولا مصادمة بين حديث الرفع وأدلة التكاليف لعدم عروض الاضطرار إلى متعلق التكليف.

منها : ان التفريق بين فقد المكلف به وعروض الاضطرار فيما نحن فيه لا يرجع إلى محصل ، فان الكبريات الكلية انما تحتج بها عند وجود موضوعاتها ولا يصح ان يحتج بالكبرى على الصغرى ، و (عليه) فلو فقد بعض الأطراف قبل حدوث العلم الإجمالي.

ثم علم إجمالا بان الخمر اما هو المفقود واما هو الموجود ، فلا يؤثر العلم أصلا ، نظير الاضطرار إلى المعين قبل حدوث العلم ولو فقد بعض الأطراف بعد حدوث العلم ، يكون العلم حجة على الطرف الموجود ، لأجل احتمال انطباق التكليف المنجز سابقا عليه ، وهذا التفصيل يجيء بعينه عند الاضطرار إلى المعين. ومنها : ان ما اختاره من عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر عند الاضطرار إلى غير المعين قائلا بمنافاته مع التكليف في البين ،

٣٣٥

غير صحيح إذ لا مزاحمة بينهما كما عرفت ، وكون مختار المكلف منطبقا على المحرم الواقعي أحيانا ، لا يوجب كون التكاليف الواقعية متقيدا باختيار المكلف وعدمه و (عليه) فلا مانع من ان يرخص في أحدهما لا بعينه ، ويحرم الخمر الواقعي لتباين المتعلقين في مقام الإنشاء ورتبة التكاليف ، ألا ترى انه لو وقف المكلف في مقام دفع الاضطرار على الخمر الواقعي لوجب عليه دفع الاضطرار بغير مورد التكليف وهذا أوضح دليل على عدم المزاحمة في رتبة التكليف وكان الأليق عدوله إلى ما ذكرنا في هامش الكفاية كما لا يخفى.

التنبيه الثاني

قد استقر آراء جل المتأخرين من أهل التحقيق على عدم لزوم الاجتناب عن الأطراف إذا خرج بعضها عن محل الابتلاء في الجملة ، و (توضيحه) ان الأمر والنهي لداعي البعث والزجر ، ولأجل ذلك يتوقف صحة البعث والزجر على تحقق أمور : الأول كون المكلف قادرا على الامتثال فان خطاب غير القادر امر قبيح بل لا ينقدح الإرادة الجدية في لوح النّفس وهو من الوضوح بمكان.

الثاني : ان يكون مورد التكليف مورد الابتلاء نوعا ، بحيث لا يعد من المحالات النوعية ، حتى لا يكون البعث إليه ، والزجر عنه لغوا كجعل الحرمة للخمر الموجود في إحدى الكرات السماوية ، التي كان يعد من المحالات العادية ، ابتلاء المكلف بها والحاصل ان التكاليف انما تتوجه إلى المكلفين لأجل إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترك فما لا يمكن عادة تركها لا مجال لتعلق التكليف به فالنهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقاصي بلاد المغرب أو ترك وطء ، جارية سلطان الصين يكون مستهجنا فإذا كان هذا حال خطاب التفصيلي فالحال في الإجمالي منه واضح جدا

 الثالث : ان لا يكون الدواعي عنه مصروفة نوعا ، كالنهي عن عضّ رأس

٣٣٦

الشجرة وفوق المنارة كما مثل بهما سيد المحققين السيد محمد الفشاركي على ما حكاه عنه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، فانك لا تجد أحدا أحس امرا ، وعرف يمينه عن يساره يفعل هذا حسب العادة النوعية ، ولا يبعد شمول عنوان المبحث لهذا الشرط أيضا فان مرادهم من الخروج عن محل الابتلاء بمورد التكليف أعم مما لا يكون غير مقدورة عادة أو يرغب عنه الناس ويكون الدواعي مصروفة عنها ، والميزان في كل الموارد هو استهجان الخطاب عند العقلاء وان شئت قلت : ان الغرض من الأمر والنهي ليس إلا حصول ما اشتمل على المصلحة أو عدم حصول ما اشتمل على المفسدة ، ومع عدم التمكن العادي على الترك أو الفعل أو صرف الدواعي عن الارتكاب لا تكاد تفوت المصلحة أو تحصل المفسدة فلا موجب للتكليف بل لا يصح لاستهجانه.

واما ما أفاده بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) من التفصيل بين عدم القدرة العادية وعدم الإرادة عادة بتقريب ان القدرة من شرائط حسن الخطاب ولا بد من أخذها قيدا في التكليف واما إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب ، ولا يعقل أخذها قيدا فيه وجودا وعدما ، لأنه من الانقسامات اللاحقة للتكليف ، فلا يخلو من إشكال فان التفريق بين عدم القدرة العقلية أو العادية ووجود الداعي الطبيعي إلى العمل أو الانزجار الفطري عنه ، بعدم صحة الخطاب في الأولين ، والصحة في الآخرين في غاية الغرابة ، فان خطاب من يريد الفعل طبعا أو يترك الشيء مستهجن ، لعدم الملاك لإظهار الإرادة ، كخطاب من لا يقدر ، فكما لا يصح النهي عن فعل غير مقدور عادة كذلك يقبح النهي عن شيء لا ينقدح في الأذهان احتمال ارتكابه ، كالنهي عن كشف العورة بين الناس موجها ذلك الخطاب إلى صاحب المروة والنهي عن أكل القاذورات واما ما عن بعض الأعيان المحققين (قدس‌سره) من كفاية الإمكان الذاتي أو الإمكان الوقوعي في صحة الخطاب وهذا تمام الملاك لصحة الخطاب.

و (عليه) يصح الخطاب في موارد الابتلاء وعدمه ضعيف فان كفاية الإمكان الذاتي في هذا الباب غريب ، فان خطاب من لا ينبعث عن امر المولى خطابا حقيقيا مستهجن جدا ، فان الإرادة التشريعية لا تنقدح الا بعد حصول مباديها

٣٣٧

وقس عليه الخطاب القانوني ، فان مقنن الحكم لو وقف على ان ما يشرعه لا يكاد يعمل به أصلا ، ولا ينبعث منه أحد ، صار جعله وتقنينه مستهجنا جدا ، وان جاز الإمكان الذاتي أو الوقوعي

وأعجب منه ما نقله (قدس‌سره) عن بعض أجلة عصره من ان التكليف ليس زجرا ولا بعثا ، بل التزام من المولى بالنسبة إلى العبد فيعم عامة الموارد ، أي موارد الابتلاء وعدمه ، فان ما هو المستهجن انما هو البعث أو الزجر المتضمنين للخطاب دون الإلزام و (فيه) ان غاية ما أفيد لا يخرج التكليف عن دائرة الأحكام الوضعيّة أو أشبه شيء به ومع ذلك فهي من مقولة الجعل والاعتبار ، لا يصح إلّا إذا كان له أثر عقلائي ، ومع عدمه كما في الموارد التي لم يوجد فيها بعض الشروط المتقدمة كان الجعل والاعتبار والإلزام لغوا محضا مضافا إلى ان الإلزام بالفعل والترك كأنه عبارة أخرى عن البعث والزجر المنتزع منهما الوجوب والحرمة مع ان إنكار كون التكاليف عبارة عن البعث والزجر كأنه إنكار الضروري

الخطابات القانونية الشخصية

التحقيق في المقام ان يقال : انه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلية المتوجهة إلى عامة المكلفين ، والخطاب الشخصي إلى آحادهم فان الخطاب الشخصي إلى خصوص العاجز وغير المتمكن عادة أو عقلا مما لا يصح كما أوضحناه ولكن الخطاب الكلي إلى المكلفين المختلفين حسب الحالات والعوارض مما لا استهجان فيه ، و (بالجملة) استهجان الخطاب الخاصّ غير استهجان الخطاب الكلي فان ملاك الاستهجان في الأول ما إذا كان المخاطب غير متمكن والثاني فيما إذا كان العموم أو الغالب الّذي يكون غيره كالمعدوم غير متمكن عادة أو مصروفة عنه دواعيهم

 والحاصل : ان التكاليف الشرعية ليست إلّا كالقوانين العرفية المجعولة لحفظ الاجتماع وتنظيم الأمور ، فكما انه ليس فيها خطابات ودعايات ، بل هو بما هو خطاب واحد متعلق بعنوان عام ، حجة على عامة المكلفين فكذلك ما نجده في الشرع من الخطابات المتعلقة بالمؤمنين أو الناس ، فليس هنا إلا خطاب واحد قانوني يعم الجميع

٣٣٨

وان شئت قلت ان ما هو الموضوع في دائرة التشريع هو عنوان المؤمنين ، أو الناس فلو قال يا أيها الناس اجتنبوا عن الخمر ، أو يجب عليكم الفعل الكذائي فليس الموضوع الا الناس ، أعم من العاجز والقادر ، والجاهل والعالم ، ولأجل ذلك يكون الحكم فعليا في حق الجميع ، غير ان العجز والجهل عذر عقلي عن تنجز التكليف والملاك بصحة هذا الخطاب وعدم استهجانه هو صلوحه لبعث عدد معتد به من المكلفين فالاستهجان بالنسبة إلى الخطاب العام انما يلزم لو علم المتكلم لعدم تأثير ذلك الخطاب العام في كل المكلفين واما مع احتمال التأثير في عدد معتد به غير مضبوط تحت عنوان خاص فلا محيص عن الخطاب العمومي ولا استهجان فيه أصلا كما ان الأمر كذلك في القوانين العرفية العامة وبما ذكرنا يظهر الكلام في الخارج عن محل الابتلاء.

و (القول) بان خطاب العاجز والجاهل وغير المبتلى بمورد التكليف قبيح أو غير ممكن (صحيح) لو كان الخطاب شخصيا ، واما إذا كان بصورة التقنين ، فيكفى في خطاب الجميع ، كون عدد معتد به من المكلفين واجدا لما ذكرنا من الشرائط واما الفاقد لها فهو معذور عقلا مع فعلية التكليف كالعجز والجهل ، وبالجملة : ليس هنا إلّا إرادة واحدة تشريعية متعلقة بخطاب واحد وليس الموضوع إلّا أحد العناوين العامة ، من دون ان يقيد بقيد أصلا ، والخطاب بما هو خطاب وحداني متعلق لعنوان عام حجة على الجميع والملاك في صحة الخطاب ما عرفت ، والحكم فعلى مطلقا من دون ان يصير الحكم فعليا تارة وإنشائيا أخرى ، أو مريدا في حالة وغير مريد في حالة أخرى ، وما أوضحناه هو حال القوانين الدارجة في العالم والإسلام لم يتخذ مسلكا غيرها ، ولم يطرق بابا سوى ما طرقه العقلاء من الناس ، وسيوافيك مفاسد الخطاب الشخصي.

لا يقال : ما معنى الحكم المشترك فيه الناس ، وما معنى كون كل واحد منا مكلفا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وظاهر هذا تعدد الخطاب وكثرة التكليف ، فلا يعقل كثرة التكاليف مع وحدة الخطاب ، وان شئت قلت ان الخطابات الشرعية منحلة بعدد نفوس المكلفين ، ولا يكاد يخفى ان الخطاب المنحل المتوجه إلى غير

٣٣٩

المتمكن ، أو غير المبتلى مستهجن.

 لأنا نقول : ان أريد من الانحلال كون كل خطاب خطابات بعدد المكلفين حتى يكون كل مكلف مخصوصا بخطاب خاص به ، وتكليف مستقل متوجه إليه فهو ضروري البطلان ، فان قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) خطاب واحد لعموم المؤمنين ، فالخطاب واحد والمخاطب كثير ، كما ان الاخبار بان كل نار حارة. اخبار واحد والمخبر عنه كثير ، فلو قال أحد : كل نار بارد ، فلم يكذب الا كذبا واحدا لا أكاذيب متعددة حسب افراد النار ، فلو قال : لا تقربوا الزنا فهو خطاب واحد ، متوجه إلى كل مكلف ، ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة ، والمكلف تمام الموضوع لتوجه الخطاب إليه ، وهذا الخطاب الوحداني يكون حجة على كل مكلف من غير إنشاء تكاليف مستقلة أو توجه خطابات عديدة لست أقول ان المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلفين فانه ضروري الفساد : بل أقول ان الخطاب واحد والإنشاء واحد والمنشأ هو حرمة الزنا على كل مكلف من غير توجه خطاب خاص ، أو تكليف مستقل إلى كل واحد ، ولا استهجان في هذا الخطاب العمومي إذا كان المكلف في بعض الأحوال أو بالنسبة إلى بعض غير متمكن عقلا أو عادتا ، فالخمر حرام على كل أحد تمكن من شربها أولا وليس جعل الحرمة لغير المتمكن بالخصوص حتى يقال انه يستهجن الخطاب فليس للمولى إلا خطاب واحد لعنوان واحد ، وهو حجة على الناس كلهم ولا إشكال في عدم استهجان الخطاب العمومي ، فكما لا إشكال في ان التكاليف الشرعية ليست مقيدة بالقدرة والعلم ، كما سيوافيك بيانه فكذلك غير مقيدة بالدخول محل الابتلاء.

ثم انه يترتب على القول بكون الخطابات شخصية أي منحلة إلى خطابات يلاحظ فيها عدم الاستهجان مفاسد (منها) عدم صحة خطاب العصاة من المسلمين ، فان خطاب من لا ينبعث به قبيح أو غير ممكن ، فان الإرادة الجزمية لا تحصل في لوح النّفس الا بعد حصول مبادئ قبلها التي منها احتمال حصول المراد ، والمفروض القطع بعدم حصوله ، و (منها) عدم صحة تكليف الكفار بالأصول والفروع بالملاك الّذي قررناه

٣٤٠