تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

والتسليم ، فقال : ان الفعل القلبي ضرب من الوجود النوري والوجود في قبال المعقولات ، وهو من العلوم الفعلية دون الانفعالية والأفعال القلبية أمور يساعدها الوجدان ، فان الإنسان كثيرا ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب ، لكنه لا ينقاد له قلبا ، ولا يقرّ به باطنا لخباثة نفسه أو لجهة أخرى وان كان في مقام العمل يتحرك بحركته خوفا من سوطه وسطوته وهكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث انهم كانوا عالمين بحقيقته ، كما نطق به القرآن ومع ذلك لم يكونوا منقادين ، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم لزم ان يكونوا مؤمنين به ، أو جعل الإيمان الّذي هو أشرف كمالا مجرد الإقرار باللسان ، حتى يلزم كفرهم لأجل عدم الإقرار

وأنت خبير ، بأنه قدس‌سره لم يبرهن على ان الالتزام من العلوم الفعلية دون الانفعالية بل من القريب كونه من انفعالات النّفس ومن الكيفيات الحاصلة لها من المبادي الموجودة فيها أو حاصلة لها وما قال ان الكيفيات النفسانيّة محصورة غير وجيه لعدم قيام برهان على حصرها فالأشبه ان تكون نحو تلك الحالات من مقولة الكيف ومن الكيفيات النفسانيّة التي تنفعل بها النّفس فما ادعاه من انه ضرب من الوجود وهو لا يدخل تحت مقولة غير صحيح ، لأن الموجود في صقع الإمكان لا يمكن ان يكون موجودا مطلقا ، فيلزم وجوب وجوده ، وهو خلف ، بل يكون موجودا مقرونا بالحد والحدود ، فيتألف من وجود وماهية ، ويدخل (على وجه التسامح) تحت إحدى المقولات ، أضف إلى ذلك ما عرفت : ان الالتزام لا ينفك عن العلم بالشيء ، وانه يستتبع الالتزام في كمه وكيفه ، في تفصيله وإجماله ، على مقدار علمه ، ويوجد ذلك الالتزام في لوح النّفس غب حصول العلم.

وقد عرفت ان جحد الكفار لم يكن الا جحدا في الظاهر لعنادهم وعداوتهم وحب الرئاسة ، والعصبية الجاهلية ، وإلّا فكيف يمكن الإنكار الباطني مع العلم الوجداني بالخلاف ، فهل يمكن إنكار وجود اليوم مع العلم بوجوده ، ولا يلزم ما ذكر ان يكون الإيمان هو العلم فقط ، حتى يقال : ان الشيطان كان عالماً بجميع

١٢١

المعارف مع انه عد من الكفار ، كما لا يلزم من ذلك أيضا كون الانقياد والتسليم القلبي حاصلين في النّفس بالاختيار ، بل الإيمان عبارة عن مرتبة من العلم الملازم لخضوع القلب للنبوة. وقد فصلنا حقيقة العلم والإيمان في بعض مسفوراتنا وأوضحنا فيه : ان الإيمان ليس مطلق العلم الّذي يناله العقل ويعد حظا فريدا له.

وبما ان المقام لا يسع طرح تلك الأبحاث فليرجع من أراد التفصيل إلى محالّه : فظهر انه لا يلزم من عدم كون العلم عين الإيمان ، كون الالتزام ، والانقياد اختياريا متحققا بالإرادة.

هذا كله : في إمكان تعلق الوجوب على الالتزام وعدمه ، ثم انه لو فرضنا إمكان التعلق ، فالظاهر عدم وجوبه ، لعدم الدليل عليه في الفرعيات نقلا ولا عقلا ، وعدم اقتضاء التكليف الا الموافقة العملية ، وحكم الوجدان بعدم استحقاق العبد للعقوبتين ، على فرض مخالفة التكليف عملا والتزاما ، وعدم استحقاقه للعقوبة مع العمل بلا التزام ، واستحقاقه لمثوبة واحدة مع العمل والالتزام.

الرابع : انك قد عرفت ان الموافقة الالتزامية من الأمور القهرية التابعة للعلم بالشيء ، وليس من الأمور الجعلية الاختيارية ، و (عليه) فتتبع الموافقة الالتزامية في الخصوصيات للعلم بالاحكام ، فان تعلق العلم بالحكم تفصيلا ، يتعلق الالتزام تفصيلا وان تعلق به إجمالا ، يصير الالتزام كذلك ، ولو تعلق العلم بما يتردد بين المحذورين ، يكون الالتزام مثله

 فلو بنينا على جواز جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين ، يكون الالتزام على طبق الحكم الظاهري غير مناف للالتزام بالحكم الواقعي كما لا تنافي بين الحكم الواقعي المجعول على الذات ، والحكم الظاهري المجعول بعنوان المشكوك فيه ، فكما يمكن جعل الحكمين والعلم بهما ، يمكن الالتزام بهما فجريان الأصول لا مانع منه في الأطراف من ناحية لزوم الالتزام بالحكم الواقعي

١٢٢

كما ان جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي لمكان الطولية (١)

الأمر السادس : في العلم الإجمالي

يقع الكلام في مرحلتين : الأولى : في ثبوت التكليف ، بالعلم الإجمالي ، الثانية ، في جواز إسقاطه بالعمل على طبقه ، وبما ان هذا البحث طويل الذيل ، مترامي الأطراف ، نحيل بعض المباحث إلى مبحث البراءة والاشتغال فنقول :

اما الأولى : فاعلم انه قد يطلق العلم الإجمالي ويراد منه القطع الوجداني بالتكليف الّذي لا يحتمل فيه الخلاف ، ولا يحتمل رضا المولى بتركه ، وقد يطلق على الحجة الإجمالية ، كما إذا قامت الدليل الشرعي على حرمة الخمر على نحو الإطلاق ثم علمنا : ان هذا أو ذاك خمر ، فليس في هذه الصورة علم قطعي بالحرمة الشرعية التي لا يرضى الشارع بتركه ، بل العلم تعلق بإطلاق الدليل والحجة الشرعية ، والإجمال في مصداق ما هو موضوع للحجة الشرعية ، و (حينئذ) فالعلم بالحرمة غير العلم بالحجة فما هو المناسب للبحث عنه في المقام هو الأول كما ان المناسب لمباحث الاشتغال هو الثاني.

فنقول المشهور المتداول كون العلم علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين ، وربما يقال بكونه علة ، تامة بالنسبة إلى الثانية دون الأولى ونسب إلى بعضهم جواز المخالفة القطعية فضلا عن احتمالها ، ولا يهمنا سرد الأقوال بعد كون المسألة عقلية محضة غير ان هذه الأقوال يظهر حالها صحة وفسادا بعد ملاحظة ما هو مصب النزاع في هذا الباب.

قد عرفت ان البحث في المقام انما هو عن القطع الوجداني بالتكليف الفعلي

__________________

(١) ثم ان سيدنا الأستاذ دام ظله قد استقصى الكلام في الدورة السابقة في توضيح أحكام القطع ، فأوضح مقالة الأخباريين في المقام ، كما تكلم في حجية قطع القطاع غير انه (دام ظله) قد أسقط في هذه الدورة هاتيك المباحث ، ونحن قد اقتفينا اثره. أطال الله بقاءه

١٢٣

الّذي لا يحتمل الخلاف ويعلم بعدم رضا المولى بتركه لكن اشتبه متعلق التكليف بحسب المصداق أو غيره كما ان البحث في باب الاشتغال انما هو عن العلم بالحجة المحتمل صدقها ، وكذبها كإطلاق دليل حرمة الخمر الشامل لصورتي العلم بالتفصيل والإجمال.

وعلى ذلك فلا شك ان العلم والقطع الوجداني بالتكليف علة تامة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيين ، ولا يجوز الترخيص في بعض أطرافه فضلا عن جميعه ذا لترخيص كلا أو بعضا ينافى بالضرورة مع ذاك العلم الوجداني فان الترخيص في تمام الأطراف يوجب التناقض بين الإرادتين في نفس المولى ، كما ان الترخيص في بعضها يناقض ذاك العلم في صورة المصادفة ، وان شئت فحاسب في نفسك ، فهل يمكن تعلق الإرادة القطعية على ترك شرب الخمر ، الّذي يتردد بين الأطراف ، مع الترخيص في تمامها أو بعضها مع احتمال انطباق الواقع.

وبذلك يظهر انه لا مناص عن الاحتياط المحرز للواقع في تمام الأقسام من الشبهات ، محصورة كانت أو غير محصورة ، بدوية كانت أو غيرها ، فان العلم القطعي بالتكليف لا يجتمع أبدا مع الترخيص في الشبهات في أيّ قسم منها ، وسيوافيك في مقام البحث عن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، ان الترخيص في الشبهات لا ينفك عن رفع اليد عن التكاليف ، والتصرف في المعلوم والتكليف وصيرورته شأنيا وإلّا فمع الفعلية بالمعنى الّذي عرفته لا يجوز احتمال الترخيص فضلا عن الترخيص الفعلي.

والحاصل انه مع العلم القطعي بالتكليف ، لا يمكن العلم بالترخيص لاستلزامه العلم بالمتناقضين ، كما لا يجوز العلم به مع احتمال التكليف القطعي ، لأن الترخيص الفعلي مع احتمال التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين ويعد من اجتماعهما على فرض المصادقة.

وبهذا يعلم ان وجه الامتناع هو لزوم اجتماع النقيضين مع التصادف واحتماله مع الجهل بالواقع ، وانه لا فرق في عدم جواز الترخيص بين العلم القطعي بالتكليف

١٢٤

أو احتمال ذلك التكليف ، وانه ليس ذلك لأجل كون العلم علة تامة للتنجيز أو مقتضيا له ، فان وجه الامتناع مقدم رتبة على منجزية العلم ، فالامتناع حاصل ، سواء كان العلم منجزا أم لا كان علة تامة أم لا ، فوجه الامتناع هو لزوم التناقض أو احتماله وقد عرفت انه مشترك بين العلم الإجمالي والشبهة البدوية مع ان فيها لا يكون التكليف منجزا فملخص الكلام ان احتمال الترخيص مع احتمال التكليف الفعلي مستلزم لاحتمال اجتماع النقيضين فضلا عن احتماله مع العلم بالتكليف كذلك

 ومما ذكر يظهر حال الأقوال المذكورة في الباب ، فان كل ذلك ناش عن خلط ما هو مصب البحث مع ما هو مصبه في باب الاشتغال ، فما يقال من ان للشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية عند العلم بالتكليف التفصيلي كما في مجاري الأصول فكيف مع العلم الإجمالي صحيح لو أراد بها ما هو مصب البحث في باب الاشتغال ، فان الاكتفاء يكشف عن التصرف. في المعلوم ، وتقبل الناقص مقام الكامل أو ما أشبهه من التوسعة في مصداق الطبيعة ، واما لو تعلق العلم الوجداني بان الطهور شرط للصلاة فمع هذا العلم ، لا يعقل الترخيص والمضي

إشكال وجواب

اما الأول : فيمكن ان يقال : ان بين عنواني المحرم الواقعي والمشتبه عموم من وجه فهل يمكن ان يتعلق بهما حكمان فعليان كما في باب الاجتماع ، والتصادق في الخارج لا يوجب التضاد

 وبعبارة أوضح : انه قد مر الكلام في ان مصب الأحكام هو العناوين الطبيعية وان المصاديق الخارجية لا يعقل تعلق الإرادة بها ، فان الخارج ظرف السقوط لا الثبوت وعلى ذلك بنينا جواز تعلق الوجوب بالصلاة ، والحرمة بالغصب لانفكاكهما في لحاظ تعلق الأحكام ، وان اجتماعهما في الخارج أحيانا لا يستلزم الأمر والنهي بشيء واحد وعليه فيمكن ان يقال : ان الحرمة القطعية قد تعلقت بالخمر الواقعي ، والترخيص بالمشتبه بما هو مشتبه ، والتصادف في الخارج لا يستلزم جعل الترخيص

١٢٥

في محل النهي

 واما الثاني : ان الكلام في المقام انما هو في مقدار تنجيز القطع ثبوتا ، وانه إذا تعلق بشيء إجمالا ، فهل يجوز الترخيص في بعض الأطراف أو تمامها ، أو لا فتعلق الترخيص بعنوان آخر خارج عن محط البحث فان قلت الظاهر ان هذا ينافى ما مر : (من ان وجه الامتناع مقدم رتبة على منجزية العلم فالامتناع حاصل كان العلم منجزا أولا)

 قلت : لا تنافي ذلك ما مر لأن ما مر في وجه امتناع الترخيص فقلنا ان علة الامتناع مقدم رتبة والكلام هاهنا في مقدار تنجيز العلم لا وجه الامتناع فافهم هذا أولا وثانيا ان جعل الترخيص بعنوان مشتبه الحرام ناظر إلى ترخيص الحرام الواقعي على فرض التصادف ، وهو لا يجتمع مع الحرمة الفعلية وان قلنا بجواز الاجتماع ، لأن الحكمين في باب الاجتماع متعلقان بعنوانين غير ناظرين إلى الآخر واما فيما نحن فيه يكون الترخيص ناظرا إلى ترخيص الواقع بعنوان التوسعة ، وهو محال مع الحكم الفعلي ، فلا يرتبط بباب الاجتماع

 والحاصل : ان قول الشارع أقم الصلاة ليس ناظرا إلى قوله الآخر لا تغصب واجتماعهما صدفة في مورد ، لا يرتبط بمقام الجعل ، واما المقام ، فالمولى إذا علم بان بعض تكاليفه القطعية ربما يخفى على المكلف من حيث الإجمال ، فلو رخص في مقام الامتثال وقال رفع عن أمتي ما لا يعلمون يكون ناظرا إلى ما أوجبه على المكلف ، فمع الإرادة القطعية على الامتثال مطلقا ، لا يصح الترخيص منه قطعا فتدبر.

المقام الثاني

وهذا المقام راجع إلى سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي فنقول : هل يجزى الامتثال الإجمالي إذا أتى المأمور به بجميع شرائطه وقيوده ، مع التمكن من الامتثال التفصيلي أولا ، ومحل النزاع انما إذا كان الاختلاف بين الامتثالين من جهة الإجمال

١٢٦

والتفصيل لا غير فالمسألة عقلية محضة ، وبذلك يظهر النّظر ما عن بعض محققي العصر قدس‌سره حيث انه بنى جواز الاكتفاء وعدمه على اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به شرعا وعدم حصولهما إلّا بالعلم التفصيلي ، أو عدم اعتبارهما ، وان أصالة الإطلاق أو أصالة البراءة ، هل يرجع إليهما عند الشك في اعتبار هذه الأمور أولا

 وجه النّظر ان هذا خروج عن محط البحث ومصب النزاع ، فانه ممحض في المسألة العقلية البحتة ، وهي ان الامتثال الإجمالي هل هو كالامتثال التفصيلي مع اشتراكهما في الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه بشراشر شرائطه ، واجزائه ، أولا ، واما القول بان الامتثال الإجمالي مستلزم لعدم الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه ، فخروج عن البحث كما ان البحث عن لزوم قصد الوجه والتميز وعدمهما وابتناء المقام عليه ، كلها بحث فقهي لا يرتبط بالمقام لأنه لو احتمل ، دخالة ما ذكرنا لا يكون الموافقة علمية إجمالية ، بل احتمالية خارجة عن مصب البحث.

وان شئت قلت : ان البحث في ان العقل في مقام الامتثال هل يحكم بلزوم العلم التفصيلي عند الإتيان بالمأمور به حال الإتيان به ، وان الموافقة الإجمالية القطعية لا تفيد مع الإتيان بالمأمور به بجميع قيوده ـ أولا ـ ، فالقول باحتمال دخالة قيد شرعا في المأمور به وانه لا يحصل إلّا بالعلم التفصيلي ، أجنبي عن المقام.

إذا عرفت ذلك : ان القائلين بعدم الاكتفاء يرجع محصل مقالهم إلى امرين الأول : ان التكرار لعب بأمر المولى وان العقل يحكم بان اللاعب بامره لا يمكن ان يتقرب به ولو أتى بجميع ما امر به.

الثاني : ان الامتثال التفصيلي مقدم على الامتثال الإجمالي ومع التمكن منه لا تصل النوبة إليه ـ فنقول اما الأول ففيه انه ربما يترتب الغرض العقلائي على التكرار فلا نسلم ان الاحتياط لعب بأمر المولى وتلاعب به. بل يمكن القول بالصحّة إذا كان مطيعا في أصل الإتيان وان كان لاعبا في كيفية الامتثال ، فالصلاة على سطح المنارة أو على أمكنة غير معروفة تجزى عن الواجب وان كان لاعبا في ضمائمه.

١٢٧

واما الثاني فقد قرره بعض أعاظم العصر ، وملخص ما أفاده : ان حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون المحرك له ، نحو العمل هو تعلق الأمر به وهذا الاحتمال لا يتحقق في الامتثال الإجمالي ، فان الداعي في كل واحد من الطرفين هو احتمال الأمر ، فالانبعاث ، انما يكون عن احتمال البعث ، وهذا وان كان قسما من الإطاعة إلّا انهما متأخرة رتبة عن الامتثال التفصيلي فالإنصاف ان مدعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع التمكن عن التفصيلي في الشبهات الموضوعية والحكمية ، لا يكون مجازفا ومع الشك يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال.

ثم نقل الفاضل المقرر رحمه‌الله وجها آخر وهو ان اعتبار الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية ولو بنتيجة التقييد.

وفيه : منع انحصار الإطاعة في الانبعاث عن البعث ، بل يشمل للانبعاث عن احتمال الأمر أيضا ، بل الآتي بالمأمور به بداعي اهتمام الأمر أطوع ممن أتى به لأجل البعث القطعي فان الانبعاث عن احتمال الأمر ، كاشف عن قوة المبادي الباعثة إلى الإطاعة في نفس المطيع ، من الإقرار بعظمته ، والخضوع لديه.

على ان الباعث ليس هو الأمر الواقعي وإلّا لزم الإلجاء ، وعدم صدور العصيان من أحد ، بل الباعث هو تصور امر الآمر وما يترتب عليه من العواقب والآثار ، فينبعث عن تلك المقدمات رجاء للثواب ، أو خوفا من العقاب وهذا المعنى موجود عند الانبعاث عن الاحتمال ، و (الحاصل) ان الباعث هو المبادي الموجودة في نفس المطيع من الخوف والخضوع ، وهو موجود في كلا الامتثالين ، أعني عند القطع بالأمر أو احتماله.

على ان الباعث للإتيان بالأطراف انما هو العلم بالبعث المردد بين الأطراف فالانبعاث انما هو عن البعث في الموافقة الإجمالية أيضا والإجمال انما هو في المتعلق أضف إلى ذلك ان ما ادعاه من كون الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية على فرض إمكان اعتباره شرعا بنتيجة التقييد ، فهو مما لا دليل عليه ، والإجماع في المقام مما

١٢٨

لا اعتبار لمحصله فضلا عن منقوله ، لأن المسألة عقلية يمكن ان يكون المستند هو الحكم العقلي دون غيره

 فتلخص ان دعوى تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي ممنوع بعد كون الحاكم في باب الإطاعات هو العقل ، وهو لا يشك في ان الآتي بالمأمور به على ما هو عليه بقصد إطاعة امره ولو احتمالا محكوم عمله بالصحّة ، ولو لم يعلم عين الإتيان ان ما أتى به هو المأمور به ، لأن العلم طريق إلى حصول المطلوب لا انه دخيل فيه ، وعليه فدعوى دخالة العلم التفصيلي في حصول المطلوب دعوى بلا شاهد ، فلا تصل النوبة إلى الشك حتى نتمسك بالقواعد المقررة للشاك

هذا كله فيما إذا كان مستلزما للتكرار ، واما إذا لم يستلزم ، فقد قال رحمه‌الله بعدم وجوب إزالة الشبهة ، وان تمكن منها لإمكان قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به ، وان لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك إلّا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الاجزاء (انتهى)

 وأنت خبير انه لو قلنا بلزوم كون الانبعاث عن البعث في صدق الإطاعة ، لا بد من القول بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الاجزاء أيضا ، فان الاجزاء وان لم يكن متعلقة للأمر مستقلة ، لكن الانبعاث نحوها يكون بواسطة بعث المولى إلى الطبيعة ، فما لم يعلم ان السورة جزء من الواجب ، لا يمكن ان يصير الأمر المتعلق بالطبيعة ، باعثا إلى الجزء فالإتيان بالجزء المشكوك فيه ليس انبعاثا عن البعث القطعي ، وهذا لا ينافى ما ذكرناه في مقدمة الواجب من ان البعث إلى الاجزاء لا بد وان يكون بعين البعث نحو الطبيعة ، ولكن هذا البعث لا يتحقق إلّا مع العلم بالجزئية (وقد أسقط سيدنا الأستاذ في هذه الدورة كثيرا من المباحث التي بحث عنها في الدورة السابقة ونحن قد أسقطنا بعض المباحث روما للاختصار ، وسيأتي في مبحث الاشتغال فتربص حتى يأتيك البيان)

١٢٩

القول في الظن

ولا بد من الكلام في مقامين : الأول في إمكان التعبد بالظن والثاني في وقوع التعبد به ، وقد حكى عن ابن قبة امتناع التعبد وإنكار إمكانه ، إلّا ان ما استدل به ليس على نسق واحد فان قوله : التعبد بالخبر الواحد يستلزم اجتماع الحلال والحرام والمفسدة والمصلحة ، وان كان ظاهرا في نفى الإمكان ، إلّا ان قوله الآخر : لو جاز الاخبار عن النبي لجاز الاخبار عن الله يلوح منه نفى الوقوع مع قبول إمكانه ، وعليه لا يكفى في رده إثبات الإمكان حتى يثبت وقوعه

 ثم ان الاستحالة التي ادعيت انما هي الذاتي أو الوقوعي ، واما الإمكان فليس المراد منه الإمكان الذاتي قطعا فانه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ولا برهان عليه بل المراد الإمكان الاحتمالي الواقع في كلام الشيخ : رئيس الصناعة من : انه كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان. والإمكان الاحتمالي معناه تجويز وقوعه في مقابل ردعه وطرحه بلا برهان ، وان شئت قلت : عدم الأخذ بأحد طرفي القضية والجزم بإمكانه أو امتناعه كما هو ديدن غير أصحاب البرهان. وهذا من الأحكام العقلية يحكم به العقل السليم ، ولو جرى عليه العقلاء في اجتماعهم ، فلأجل حكم عقولهم الصحيحة ، وليس بناء منهم على الإمكان لمصلحة من المصالح الاجتماعية كما هو الحال في سائر أصولهم العقلائية

ثم ان ما هو المحتاج إليه في هذا المقام هو الإمكان الاحتمالي فلو دل دليل على حجية الظنون وجواز العمل بآحاد الاخبار ، لا يجوز رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلة ما لم يدل دليل قطعي علي امتناعه ، نعم لو دل دليل قطعي على امتناعه يؤول ما دل على حجيتها بظواهره : فاللازم رد ما استدل به القائل على الامتناع ، حتى ينتج الإمكان الاحتمالي فيؤخذ بظواهر أدلة الحجية

 وبذلك يظهر ان تفسير الإمكان بالذاتي والوقوعي في غير محله إذ مع انه لا طريق إليه ، غير محتاج إليه ، نعم الاستحالة المدعاة هي الذاتي والوقوعي على بعض

١٣٠

تقاديرها ، فالأولى ان يقال في عنوان البحث هكذا : القول في عدم وجدان الدليل على امتناع التعبد بالأمارات واما ما أفاد بعض أعاظم العصر : من ان الإمكان هو الإمكان التشريعي لا التكويني فان التوالي المتوهمة هي المفاسد التشريعية لا التكوينية ، فلا يخلو عن إشكال فان الإمكان التشريعي قسم من الوقوعي ، وليس قسيما له ، ولو صح تقسيمه حسب المورد لصح تقسيمه إلى انه قد يكون فلكيا وعنصريا ، ملكيا ، ملكوتيا ، وهكذا. أضف إلى ذلك ان المحذورات المتوهمة ، مثل اجتماع الحب والبغض والمصلحة والمفسدة والكراهة والإرادة في مورد واحد. محذورات تكوينية لا غير

المحذورات المتوهمة في التعبد بالظن

لما كان المنقول عن ابن قبة مما بحث عنه الأصحاب كثيرا : فنرى المقام غنيا عن ذكر عبارته وجوابه فنبحث في المقام مثل ما بحث عنه الأعاظم من المتأخرين ويتضح في ضمنه خلل ما استدل به ابن قبة. وان كان كلامه أساسا لبعض ما ذكر.

فنقول : ان المحذورات المتوهمة اما راجعة إلى ملاكات الأحكام كاجتماع المصلحة والمفسدة ، الملزمتين بلا كسر وانكسار واما إلى مبادئ الخطابات كاجتماع الكراهة والإرادة ، والحب والبغض ، أو إلى نفس الخطابات كاجتماع الضدين والنقيضين والمثلين ، واما إلى لازم الخطابات كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فهذه أقسام أربعة من المحذورات ، وعلى ذلك فحصر ملاك الامتناع في الملاكي والخطابي لا وجه له ، كما ان عد الأخير من المحذورات الملاكية ، لا يخلو عن خلل فنقول :

المحذور الأول تفويت المصلحة والمفسدة الّذي هو رابع المحاذير ، فلان المفروض ان الظن ليس دائم المطابقة ، فالامر بالعمل على طبقه تفويت للمصالح من الشارع على المكلف وإلقاء للمفاسد ، إذ لو لا امره لكان عليه السؤال وتحصيل العلم عند الانفتاح ، والعمل بالاحتياط عند انسداده.

وبذلك يظهر ان هذا المحذور لا يختص بصورة الانفتاح كما ادعاه بعض أعاظم

١٣١

العصر (قدس‌سره) قائلا بان العمل على طبق الأمارة لو صادف خير جاء من قبلها ، بل يجري في صورة الانسداد أيضا ، إذ لو لا امره ، وترخيصه ترك الاحتياط ، كان عليه العمل بما هو مبرئ للذمة قطعا ، وما استدل به مسلم لو كان الأمر دائرا بين العمل به وبين ترك العمل به وبغيره مطلقا ، لكنه دائر بين العمل به وبين العمل بالاحتياط أو التجزي فيه ، فلا يختص الإشكال بصورة الانفتاح بل يعم.

وقد يذب عن الإشكال بان الأمارات غير العلمية ، ربما يمكن ان تكون أكثر إصابة عن العلم والاعتقاد الجازم ، أو مساوية لها فالشارع الواقف على السرائر لأجل وقوفه على هذه الجهة امر بالعمل على طبق الأمارات ، وترك تحصيل العلوم المساوية للأمارات من حيث الصدق أو أدون ، فلا يكون إلقاء في المفسدة ، أو تفويتا للمصلحة كان باب العلم مفتوحا أو منسدا الظاهر عدم صحة الجواب ، فانه ان أراد من الانفتاح حال حضور الإمام مع إمكان نيل حضوره والسؤال عنه ، فلا إشكال ان المسموع عنه عليه‌السلام أقل خطاء من هذه الروايات المنقولة بوسائط ، فان احتمال مخالفة الواقع فيما سمعه عن الإمام ليس إلّا لأجل التقية أو امر أندر منه. وهذا بخلاف الروايات المعنعنة المنقولة عن رجال يختلفون في الحفظ والوثاقة ، وحسن التعبير ، وجودة الفهم.

وان أراد منه ، حضوره عليه‌السلام مع تعسر السؤال عنه لبعد بلد المكلف ، أو كونه محبوسا ، أو محصورا من ناحية الأشرار ، ففيه ان تحصيل العلم التفصيلي غير ممكن عادة ، حتى يقال بان الأمارات أكثر مطابقة منه ، وما هو الممكن هو العلم بالموافقة الإجمالية ولكنه دائم المطابق للواقع ، إذ لو أتى المكلف بمؤدى الأمارة وسائر المحتملات ، فلا يعقل أصوبية مؤدى الأمارة عن العلم ، ولو صدق ذلك لكان الاحتياط في موارد تحقق الأمارة خلاف الاحتياط مع الضرورة بخلافه ويظهر منه حال الانسداد.

فان قلت ان امر الشارع بالتعبد باخبار الآحاد علة لانتشار الأحاديث في الأقطار

١٣٢

والأمصار ، فلو لم يقع من الشارع إيجاب التعبد بها لم يتحقق الدواعي إلى نقلها أصلا ولو ترك نقلها ، صارت الأحكام منسية غير معلومة لا إجمالا ولا تفصيلا ، ومعه لا يتمكن الإنسان من الإطاعة الإجمالية والاحتياط في العمل لأن طريقه صار مغفولا عنه لعدم انقداح الاحتمال في الأذهان إلّا ببركة ما وصل إلينا منهم عليهم‌السلام.

قلت مع ان الدواعي إلى نقل الاخبار كثيرة ، ان الشارع يمكن ان يتوصل إلى غرضه (الاحتياط عند عدم العلم) بإيجاب نشر الروايات ونقلها وبثها ، حتى يحصل بذلك موضوع للعمل بالاحتياط.

ويمكن ان يذب عن الإشكال : بان في إيجاب تحصيل العلم التفصيلي في زمان الحضور وفي إيجاب الاحتياط في زمن الغيبة أو الحضور مع عدم إمكان الوصول إليه عليه‌السلام مفسدة غالبة توضيحه : اما في زمان الانفتاح ، فلان السؤال عن الأئمة عليهم‌السلام وان كان امرا ممكنا غير معسور ، إلّا ان إلزام الناس في ذلك الزمان على العمل بالعلم ، كان يوجب ازدحام الشيعة على بابهم ، وتجمعهم حول دارهم وكان التجمع حول الإمام أبغض شيء عند الخلفاء ، وكان موجبا للقتل والهدم وغيرهما فلو فرض وجوب العلم التفصيلي في زمن الصادقين عليهما‌السلام كان ذلك موجبا التجمع الناس حول دارهم وديارهم بين سائل وكاتب ، وقارئ ومستفسر ، وكان نتيجة ذلك تسلط الخلفاء على الشيعة وردعهم ، وقطع أصولهم عن أديم الأرض ، وعدم وصول شيء من الأحكام الشرعية موجودة بأيدينا. فدار الأمر بين العمل بالأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام بطريق الثقات الموصلة إلى الواقع غالباً وان خالفت أحيانا ، وبين إيجاب العلم ، حتى يصل بعض الشيعة إلى الواقع ويحرم آلاف من الناس عن الأحكام والفروع العملية ، لما عرفت ان الإلزام على تحصيل العلم كان ذلك مستلزما للتجمع على باب الأئمة ، وكان نتيجة ذلك صدور الحكم من الخلفاء بأخذهم وشدهم وضربهم وقتلهم واضطهادهم تحت كل حجر ومدر.

واما الاحتياط في هذه الأزمان ، أو زمن الحضور لمن لم يمكن له الوصول إليهم عليهم‌السلام ففساده أظهر من ان يخفى ، فانه مستلزم للحرج الشديد ، واختلاف النظام ، و

١٣٣

رغبة الناس عن الدين الحنيف ، بل موجب للخروج من الدين ، فان الحكيم الشارع لا بد له ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم في تحمل الأحكام والعمل بها ، ومثله التبعيض في الاحتياط فانه لو لم يوجب حرجا شديدا ، لكنه موجب رغبة جمهرة الناس عن الدين.

وبالجملة : البناء على الاحتياط المطلق ، أو بمقدار ميسور ، في جميع التكاليف من العبادات والمعاملات والمناكحات ، وغيرها يستلزم الحرج الشديد في بعض الأحوال ، ورغبة الناس عن الدين ، وقلة العاملين من العباد للأحكام في بعض آخر فلأجل هذا كله ، أمضى عمل العقلاء وبنائهم في العمل بالظنون واخبار الآحاد بمقدار يؤسس لهم نظاما صحيحا ، وهذا وان استلزم فسادا وتفويتا غير انه في مقابل إعراض الناس عنه ، وخروجهم منه وقلة المتدينين به ، لا يعد الا شيئا طفيفا يستهان به ثم ان الشيخ الأعظم (قدس‌سره) التزم بقبح التعبد بالظنون في حال الانفتاح واما حال الانسداد فقد ذهب إلى ان التفويت متدارك بالمصلحة السلوكية ، وأوضحه بعض أعاظم العصر بما حاصله : ان قيام الأمارة يمكن ان يكون سببا لحدوث مصلحة بل المصلحة في تطرق الطريق ، وسلوك الأمارة ، وتطبيق العمل على مؤداها والبناء على انه هو الواقع ، بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات من المكلف. انتهى

 أقول وفيه مواقع للنظر منها ان حجية الأمارة في الشرع ليس إلّا إمضاء ما كان في يد العقلاء في معاشهم ومعادهم ، من غير ان يزيد عليه شيئا أو ينقص منه شيئا ومن المعلوم ان اعتبار الأمارات لأجل كونها طريقا للواقع فقط من دون ان يترتب على العمل بها مصلحة وراء إيصالها إلى الواقع ، فليس قيام الأمارة عند العقلاء محدثا للمصلحة لا في المؤدى ولا في العمل بها وسلوكها. وعليه فالمصلحة السلوكية لا أساس لها.

١٣٤

ومنها : انه لا يتصور لسلوك الأمارة وتطرق الطريق معنى وراء العمل على طبق مؤداها فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة ، فليس سلوكها الا العمل على مؤداها والإتيان به : فلا يتصور للسلوك وتطرق الطريق مصلحة وراء المصلحة الموجودة في الإتيان بالمؤدى وان شئت قلت : الإتيان بالمؤدى ، مع المؤدى المحقق في الخارج غير متغايرين الا في عالم الاعتبار ، كتغاير الإيجاد والوجود ، فهذه المفاهيم المصدرية النسبية لا يعقل ان تصير متصفة بالمصلحة والمفسدة ، بل المفسدة والمصلحة قائمة بنفس الخمر والصلاة.

وبعبارة أوضح : كون شرب الخمر وإتيان الصلاة متعلقا للحرمة والوجوب وموصوفاً بالمصلحة والمفسدة. لا ينافى كون تطرق الطريق محلا للحكم وموضوعا له ، فان تطرق الطريق عين ترك شرب الخمر وعين الإتيان بالصلاة

 ومنها : ان ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده ، ان المصلحة قائمة بالتطرق والسلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة ، وعليه فلو أخبر العادل عن الأمور العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضا لأنه ذا مصلحة سلوكية وهو كما ترى.

ومنها : ان لازم تدارك المصلحة الواقعية ، بالمصلحة السلوكية هو الاجزاء وعدم لزوم الإعادة ، والقضاء ، إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرق ولو تدارك سقط الأمر ، والمفروض ان المصلحة القائمة بتطرق الطريق ليست مقيدة بعدم كشف الخلاف ، فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم وبعض أعاظم العصر ليس في محله ثم ان البحث عن الاجزاء قد فرغنا عنه في الأوامر فراجع وسيوافيك لباب القول فيه في مبحث الاجتهاد والتقليد.

المحذور الثاني : «محذور اجتماع الضدين والنقيضين والمثلين»

 اما هذا المحذور الّذي كان ثالث المحاذير : فهو مبنى على ما هو المسلم عندهم : من ان الأحكام الخمسة متضادة بأسرها يمتنع اجتماعها في موضوع واحد ، والمراد من الأحكام (على ما صرحوا به في بحث اجتماع الأمر والنهي وفي باب الجمع بين

١٣٥

الحكم الواقعي والظاهري) هو الأحكام البعثية والزجرية وغيرهما. فلو فرضنا كون صلاة الجمعة محرمة في نفس الأمر وقامت الأمارة على وجوبها ، تصير صلاة الجمعة مهبطا لحكمين متضادين

 ولا يخفى عليك : ان ما اشتهر بينهم من ان الأحكام متضادة بأسرها ، ليس له أساس صحيح ، وقد استوفينا بعض الكلام في ذلك عند البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي ولكن نعيده هنا حذرا عن الإحالة

 فنقول : انهم عرفوا الضدين بأنهما الأمران الوجوديان غير المتضايفين ، المتعاقبان على موضوع واحد ، لا يتصور اجتماعهما فيه بينهما غاية الخلاف ، و (عليه) فما لا وجود له لا ضدية بينه وبين شيء آخر ، كما لا ضدية بين أشياء لا وجود لهما كالاعتباريات التي ليس لها وجود الا في وعاء الاعتبار.

وعلى هذا التعريف لا ضدية أيضا بين أشياء لا حلول لها في موضوع ولا قيام لهما به قيام حلول وعروض

 إذا عرفت هذا : فاعلم : ان الإنشائيات كلها من الأمور الاعتبارية لا تحقق لها الا في وعاء الاعتبار ، فان دلالة الألفاظ المنشأ بها على معانيها انما هي بالمواضعة والوضع الاعتباريين. فلا يعقل ان يوجد بها معنى حقيقي تكويني أصيل ، فهيئة الأمر والنهي وضعت للبعث والزجر الاعتباريين في مقابل البعث والزجر التكوينيين ، فقول القائل : صلّ ، مستعمل في إيجاد البعث والحث والتحريك الاعتباري ، فالعلة اعتباري والمعلول مثله ، وما ربما يقال من ان الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر يراد به ان نفس الإنشاء يكون منشئا للمعنى في وعاء الاعتبار ، بحيث يكون الألفاظ التي بها يقع الإنشاء كهيئتي الأمر والنهي ، مصاديق ذاتية للفظ ، وعرضية للمعنى المنشأ لا انهما علل المعاني المنشأة فان العلية والمعلولية الحقيقيّتين لا يعقل بينهما

 وان شئت قلت : ان التكلم بصيغة الأمر ، بما هو تكلم وصوت معتمد علي مقطع الفم امر تكويني من مراتب التكوين ، واما جعل هذا التكلم دليلا علي

١٣٦

على إرادة البعث والتحريك ، بلا آلة تكوينية ، فانما هو بالجعل والمواضعة التي هي الموجب الوحيد لانفهام الأمر المنشأ (البعث) فإذا كان المبدأ امرا اعتباريا فالآخر مثله

وعلى هذا الأساس ، فالأحكام التكليفية ، كلها من الأمور الاعتبارية لا وجود حقيقي لها الا في وعاء الاعتبار ، ومن ذلك يعلم ان الإضافات المتصورة عند الأمر بالشيء ليست إلّا إضافات اعتبارية فان للأمر إضافة إلى الآمر إضافة صدور ، وإضافة إلى المأمور إضافة انبعاث ، وإضافة إلى المتعلق إضافة تعليقية ، أولية ، وإلى الموضوع إضافة تعليقية ثانوية ، وهكذا ، فهذه الإضافات ليست من مراتب التكوين ، وانما هي أمور اعتبارية يستتبع بعضها بعضا. وبذلك يظهر ان الأحكام التكليفية ليست أعراضا بالنسبة إلى متعلقاتها فليس قيام المعاني الاعتبارية (الأحكام) بمتعلقاتها أو موضوعاتها ، قيام حلول وعروض فيهما ، بل كل ذلك تشبيهات وتنزيلات ، للمعقولات على المحسوسات ، فان الأمور الاعتبارية أنزل من ذلك كله.

إذا عرفت ذلك تقف على بطلان القول بان الأحكام الخمسة أمور متضادة كما اشتهر عنهم في باب الترتب واجتماع الأمر والنهي ، والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها والظن انك بعد الوقوف على ما ذكرنا تقف على ان بطلان الضدية فيها ليس لأجل انتفاء شرط الضدية أو قيدها فيها ، بل البطلان لأجل ان التضاد والتماثل والتخالف من مراتب الحقيقة ، أي الماهية الموجودة ، في المادة الخارجية فالأحكام لا حظ لها من الوجود الخارجي ، حتى يتحمل أحكامه ، وقس عليه سائر القيود ، فانها أيضا منتفية ، كما ذكرنا.

واما امتناع الأمر والنهي بشيء واحد بجهة واحدة من شخص واحد ، فليس لأجل تضاد الأحكام بل لأجل مبادئهما كالمصالح والمفاسد ، والإرادة والكراهة وهما لا تجتمعان ، على ان الأمر بالشيء جدا. والنهي عنه كذلك من آمر عالم ممتنع لأنه يرجع إلى التكليف بالمحال ، ومرجعه إلى التكليف المحال كما مر وجهه في مبحث

١٣٧

الاجتماع والامتناع.

وليعذرني إخواني من الإطالة وهو أولى من الإحالة

المحذور الثالث «محذور اجتماع الإرادة الوجوبية والتحريمية»

 حاصل الإشكال ان الإرادة القطعية قد تعلقت بالعمل على الأحكام الواقعية والمفروض ان الأمارات قد تؤدى إلى خلاف الواقع ، فإيجاب التعبد بها والترخيص بالعمل بها مع فعلية الإرادة المتعلقة بالاحكام الواقعية مما لا يجتمعان

 وهذا الإشكال سيال في الأحكام الظاهرية كلها ، أمارة كانت أو أصلا ، فان إرادة العمل على طبق العمارة والاستصحاب ، أو قاعدة الفراغ ، وأصالة الإباحة وهكذا ، مما لا يجتمع مع الإرادة الحتمية بالنسبة إلى الأحكام الواقعية ، بعد ما علم ان الأصول والأمارات قد تؤديان إلى خلاف الواقع

 اما الجواب فنقول : اعلم ان للحكم الشرعي مرتبتين ليس غير «الأولى» مرتبة الإنشاء وجعل الحكم ، على موضوعه كالاحكام الكلية القانونية قبل ملاحظة مخصصاتها ومقيداتها نحو قوله تعالى. أوفوا بالعقود ، أو أحل الله البيع ، وكالاحكام الشرعية التي نزل به الروح الأمين على قلب نبيه ، ولكن لم يأن وقت إجرائها لمصالح اقتضته السياسة الإسلامية ، وترك إجرائها إلى ظهور الدولة الحقة عجل الله تعالى فرجه الثانية مرتبة الفعلية وهي تقابل الأولي من كلتا الجهتين ، فالأحكام الفعلية ، عبارة عن الأحكام الباقية تحت العموم والمطلق بعد ورود التخصيصات والتقييدات حسب الإرادة الجدية ، أو ما ، آن وقت إجرائها ، فالذي قام الإجماع على انه بين العالم والجاهل سواسية ، انما هو الأحكام الإنشائية المجعولة على موضوعاتها سواء قامت عليه الأمارة أم لا ، وقف به المكلف أم لا وهكذا وهي لا يتغير عما هي عليه ، واما الفعلية ، فيختلف فيها الأحوال كما سيوضح

 واما توضيح الجواب وحسم الإشكال فهو ما مر منا ، : ان مفاسد إيجاب الاحتياط كلا أو تبعيضا صارت موجبة لرفع اليد في مقام الفعلية عن الأحكام الواقعية في حق من قامت الأمارة أو الأصول على خلافها ، وليس هذا امرا غريبا منه ، بل

١٣٨

هذا نظام كل مقنن إذ في التحفظ التام على الواقعيات من الأحكام مفسدة عظيمة لا تجبر بشيء أيسرها خروج الناس من الدين ، ورغبتهم عنه ، وتبدد نظام معاشهم ومعادهم فلأجل هذا كله ، رفع اليد عن إجراء الأحكام في الموارد التي قام الأمارة أو الأصل على خلافها ، وليس هذا من قبيل قصور مقتضيات الأحكام وملاكاتها في موارد قيام الأمارات والأصول على خلافها ، حتى يتقيد الأحكام الواقعية بعدم القيام بل من قبيل رفع اليد لجهة اللابدية ومزاحمة الفاسد والأفسد في مقام الأجراء

 فالأحكام الواقعية تنشأ على موضوعاتها من غير تقييد وتوهم لغوية تلك الأحكام الإنشائية ، إذا فرض قيام الأمارة أو الأصل على خلافها من أول زمن تشريعها مندفعة بأنه لا محالة ينكشف الخطاء ولو عند ظهور الدولة الحقة ولو كانت عاطلة غير منشأة من رأس ، صارت مهملة إلى الأبد حتى بعد قيام القائم عليه‌السلام لانسداد الوحي وتشريع الأحكام بعد ما رفع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الرفيق الأعلى ، وبذلك يندفع الإشكال كله.

فان قلت : انه ليس في الواقع أحكام إنشائية ، بل الموجود في نفس الأمر ، هو إنشاء الأحكام أي تشريعها على موضوعاتها المقدر وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايا الحقيقية ، وفعلية الحكم عبارة عن تحقق موضوعه بجميع ما اعتبر فيه ، ولا يعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك فالأحكام الواقعية اما مقيدة بعدم قيام الأمارة على الخلاف أولا ، فعلى الأول يلزم التصويب ، وعلى الثاني يلزم اجتماع الضدين.

قلت : يكفى في صحة ما ذكرنا ملاحظة القوانين العالمية أو المختصة بجيل دون جيل وطائفة دون آخر ، فان الأحكام ينشأ على وجه الإنشاء على موضوعاتها العارية من كل قيد وشرط ، ثم إذا آن وقت إجرائه ، يذكر في لوح آخر قيوده ومخصصاته ، فالمنشأ على الموضوعات قبل ورود التخصيص والتقييد هو الحكم الإنشائي ، والحكم الفعلي اللازم الأجراء ، ما يبقى تحت العموم والمطلق ، بعد ورودهما عليه. هذا أولا

١٣٩

وثانيا انه لو صح ما ذكر ، من ان الأحكام مجعولة على موضوعاتها من أول الأمر ، بجميع قيوده ، لما جاز التمسك بالإطلاق والعموم ، فان مبنى التمسك ، هو ان الحكم مجعولة على الماهية المجردة وان الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدية الا ما قام الدليل على خلافه ، فلو كان اللازم إنشاء الحكم على موضوعه بعامة قيوده ، لما صار للتمسك بأصالة الإطلاق معنى فان الإطلاق متقوم بان الواقع تحت دائرة الحكم هو تمام الموضوع للحكم ، ومثله أصالة العموم ، فانها متقومة بظهور الكلام في كون الحكم على العموم ، وان التخصيص كالتقييد امر خارجي لا يتصرف في اللفظ بل يكشف عن ضيق الإرادة الجدية

 والحاصل ، ان ملاحظة تقنين القوانين العرفية كافية في إثبات ما قلناه ، فان الدائر بينهم هو وضع الأحكام أولا بنحو العموم والإطلاق ، ثم بيان مخصصاتها ومقيداتها منفصلا عنها ، من دون أخذ ما هو الملاك بحسب الإرادة الجدية في موضوع الأحكام من أول الأمر ، وأنت إذا تدبرت تعرف ان هذا الجواب سيال في موارد الأمارات والأصول إذا كانت مخالفة للواقع

المحذور الرابع : «محذور التدافع بين ملاكات الأحكام»

 وهذا المحذور أعني ما يرجع إلى التدافع بين ملاكات الأحكام كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار ، أول المحاذير : فقد ظهر الجواب عنه مما تقدم ومحصله أرجحية ملاكات تجويز العمل على طبق الأمارات والأصول من العمل بالاحتياط للتحفظ على الواقع. وقد ظهر مما تقدم عدم اجتماع الملاكين في موضوع واحد على ما سبق من لزوم المفاسد الخارجية أو السياسية لو ألزم العمل بالاحتياط

جولة فيما ذكر من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

ثم ان الاعلام قد مالوا يمينا ويسارا في هذا الباب ، فكل اختار مهربا للجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فلا بأس بالإشارة إلى بعضها فنقول :

قد ذكر بعض أعاظم العصر جوابا لتخلف الطرق والأمارات ، وجوابا آخر ،

١٤٠