تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

التعليلية يتمسك بالعامّ (فغير صحيح) لما تقرر في محله من ان الحيثيات التعليلية جهات تقييدية في الأحكام العقلية بحيث تصير تلك الجهات موضوعا لها (وعليه) فالخارج انما هو العنوان مع حكمه عن تحته لا نفس الافراد لأن الفرض ان المخصص لبي عقلي ، ولو سلمنا ان الخارج هو نفس الافراد وذواتها دون عنوانها ، يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية للمخصص والنزاع هنا فيها

 وأوضح حالا مما ذكراه ما عن بعض أعاظم العصر من الفرق بين ما إذا كان المخصص صالحا لأن يؤخذ قيداً للموضوع ولم يكن إحراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الأمر كقيام الإجماع على اعتبار العدالة في المجتهد ، وبين ما إذ لم يكن كذلك كما في قوله عليه‌السلام اللهم العن بنى أمية قاطبة ، حيث يعلم ان الحكم لا يعم من كان مؤمنا منهم ، ولكن إحراز ان لا مؤمن في بنى أمية من وظيفة المتكلم حيث لا يصح له إلقاء مثل هذا العموم الا بعد إحرازه ، ولو فرض انا علمنا من الخارج ان خالد بن سعيد كان مؤمنا كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم ، فلو شككنا في إيمان أحد فاللازم جواز لعنه استكشافا من العموم وان المتكلم أحرز ذلك حيث انه وظيفته (انتهى) و (فيه) ان خروج ابن خالد ان كان لخصوصية قائمة بشخصه ، لا لأجل انطباق عنوان عليه ، فالشك في غيره يرجع إلى الشك في تخصيص زائد فيخرج عن محل البحث لأن البحث في الشبهة المصداقية للمخصص ، وان كان لأجل انطباق عنوان المؤمن عليه ، فالكلام فيه هو الكلام في غيره من سقوط أصالة الجد في المؤمن ، لأجل تردد الفرد بين كونه مصداقا جديا للعام أو لغيره.

تنبيهات

(الأول) لو قال المولى أكرم كل عالم ، ثم قال منفصلا عنه لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً لأنهم فساق ، فهل يجوز التمسك هنا بالعامّ في الفرد المشكوك أولا ، الظاهر بل التحقيق هو الثاني لأن تعليله بكونهم فساقا يعطى ان المخرج هو العنوان دون الأشخاص مستقلة ويأتي فيه ما قدمناه وما ربما يقال من جواز التمسك بالعامّ

٢١

فيه لأنه من قبيل التخصيص الزائد لا الشبهة المصداقية غير تام كما مر وجهه.

الثاني : إذا تعلق الحكم علي عنوانين بينهما عموم من وجه فتارة يكون أحدهما حاكما على الآخر فلا شبهة في كونه من قبيل المخصص فلا يجوز التمسك بالعامّ المحكوم في الشبهة المصداقية في دليل الحاكم لعين ما مر ، مع عدم الحكومة ، فان قلنا بان العامين من وجه يشملهما أدلة التعارض وقواعد الترجيح وقدمنا أحدهما مع الترجيح أو قلنا انهما من قبيل المتزاحمين وقلنا ان المولى ناظر إلى مقام التزاحم وكان حكمه إنشائياً بالنسبة إلى المرجوح يكون حاله أيضاً حال المخصص في عدم جواز التمسك مع الشبهة المصداقية في الراجح واما ان قلنا بان الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما والتزاحم الخارجي وعدم قدرة العبد على إطاعتهما لا يوجب شأنية الحكم في المرجوح بل العقل يحكم بكونه معذوراً في امتثال كليهما من غير تغيير في ناحية الحكم فالظاهر جواز التمسك في مورد الشك في انطباق الدليل المزاحم الّذي هو أقوى ملاكا لأن الحكم الفعلي على موضوعه حجة على المكلف ما لم يحرز العذر القاطع ولا يجوز عقلا رفع اليد عن الحكم الفعلي بلا حجة نظير الشك في القدرة حيث لا يجوز التقاعد عن التكليف الفعلي مع احتمال العجز.

الثالث : بعد البناء على عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية يقع الكلام في انه هل يمكن إحراز المصداق بالأصل وإجراء حكم العام عليه مطلقا أولا مطلقا أو تفصيل بين المقامات أقوال.

حجة النافي ، ان شأن المخصص هو إخراج الفرد الخاصّ مع بقاء العام على تمامية موضوعه بالنسبة إلى الباقي من دون انقلاب الموضوع عما هو عليه ، إذ إخراج الفرد نظير موته (فحينئذ) لا يبقى مجال لجريان الأصل ، إذ الأصل السلبي ليس شأنه الا نفى حكم الخاصّ عنه لا إثبات حكم العام له ، ونفى أحد الحكمين لا يثبت الآخر (نعم) في مثل الشك في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى انه من الشبهة المصداقية الناشئة عن الجهل بالمفاد لغة ، الّذي كان امر رفعه بيد المولى ، وفي مثله لا بأس بالتمسك بالعامّ من غير احتياج إلى الأصل (انتهى) وفيه انه ان أراد من قوله ان

٢٢

التخصيص لا يعطى عنوانا زائداً على الموجود في نفس العام عدم حدوث انقلاب في موضوع العام بحسب الظهور ، فهو حق لا غبار عليه إذ هذا هو الفرق بين التخصيص بالمنفصل وبين المتصل منها والتقييد ، فان شأن الأخيرين إعطاء قيد زائد على الموجود في الدليل الأول ، و (لكن) ذلك لا يمنع عن جريان الأصل ، وان أراد أن الموضوع باق على سعته بحسب الواقع والإرادة الجدية أيضا ، فهو ممنوع جدا إذ التخصيص يكشف عن ان الحكم الجدي تعلق بالعالم غير الفاسق أو العادل ، وقياس المقام بموت الفرد ، غريب لعدم كون الدليل ناظرا إلى حالات الافراد الخارجية ، واخترام المنية لبعض الافراد لا يوجب تقييدا أو تخصيصا في الأدلة بخلاف إخراج بعض الافراد ، و (أغرب منه) ما ذكره في ذيل كلامه من جواز التمسك في الشبهة المصداقية لمخالفة الكتاب مستدلا بان رفعها بيد المولى ، إذ لو كان الشك راجعا إلى الشبهة المصداقية فليس رفعها بيد المولى لأن الشبهة عرضت من الأمور الخارجية (أضف) إليه ان المثالين من باب المخصص المتصل لاتصال المخصص في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤمنون عند شروطهم صلى‌الله‌عليه‌وآله الا ما حرم حلالا أو أحل حراما ، ولا يجوز التمسك فيه بالعامّ بلا إشكال حجة القائل بجريانه مطلقا ان القرشية والنبطية من أوصاف الشيء في الوجود الخارجي لأنها التولد من ماء من هو منتسب إليهم ، فلك ان تشير إلى ماهية المرأة وتقول ان هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها فيستصحب عدمها ويترتب عليه حكم العام لأن الخارج من العام : المرأة التي من قريش ، والتي لم تكن منه بقيت تحته فيحرز موضوع حكم العام بالأصل (انتهى) ، وعن بعض آخر في تقريبه أيضاً ، ان العام شامل لجميع العناوين وما خرج منه هو عنوان الخاصّ وبقي سائرها تحته ، فمع استصحاب عدم انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقح موضوع العام انتهى.

وربما يقال في تقريبه أيضا ما (هذا ملخصه) ان أخذ عرض في موضوع الحكم بنحو النعتية ومفاد كان الناقصة ، لا يقتضى أخذ عدمه نعتا في موضوع عدم ذلك الحكم ، ضرورة ان ارتفاع الموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة انما

٢٣

يكون بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصلة لا على نحو ليس الناقص ، فمفاد قضية (المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية) هو ان المرأة التي لا تكون متصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين ، لا المرأة المتصفة بان لا تكون من قريش والفرق بينهما ان القضية الأولى سالبة محصلة والثانية مفاد ليس الناقص ، فلا مانع من جريان الأصل لإحراز موضوع العام ـ هذا

 ولكن التعرض لكل ما قيل في المقام أو جلّه يوجب السأمة والملال والأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو المختار على وجه يظهر الخلل في كثير من التقريبات التي أفادها الاعلام الكبار ، وسيوافيك تفصيل القول في مباحث البراءة والاشتغال بإذنه وتوفيقه سبحانه. فنقول تمحيص الحق يتوقف على بيان مقدمات نافعة في استنتاجه.

الأولى : تقدم القول في ان القوم قد أرسلوا اشتمال القضايا على النسبة في الموجبات والسوالب بأقسامها ، إرسال المسلمات وبنوا عليه ما بنوا ، ولكن التحقيق ، كما مر خلافه إذا الحملية كما سلف على قسمين حملية حقيقية غير مؤولة وهي ما يحمل فيها المحمول على موضوعه بلا أداة تتوسط بينهما نحو : (الإنسان حيوان ناطق) وقولك : (زيد قائم) وحملية مؤولة وهي على خلاف الأولى تتوسط بينهما الأداة نحو (زيد في الدار) ، والقسم الأول لا يشتمل على النسبة مطلقا لا على الكلامية ولا على الخارجية ولا فرق بين ان يكون الحمل أوليا أو شايعا صناعيا أو يكون الحمل على المصداق بالذات أو بالعرض كما لا فرق بين الموجبات والسوالب ، غير انّ الهيئة تدل في الموجبة على الهوهويّة التصديقية وفي السالبة على سلب الهوهويّة كذلك وقد تقدم براهين ذلك كله (عند البحث عن الهيئات) واما القسم الثاني فلا محالة يشتمل على النسبة ، خارجية وكلامية وذهنية ، (لكن) في الموجبات تدل على تحقق النسبة خارجا نحو قولك زيد على السطح ، أو زيد في الدار ، فانهما من الحمليات المؤولة كما ان السوالب منها باعتبار تخلل أداة النسبة وورود حرف السلب عليها تدل على سلب النسبة وتحكى عن عدم تحققها واقعا

 فظهر ان الكون الرابط أو النسبة يختص من بين القضايا بموجبات هذا القسم

٢٤

أعني الحملية المؤولة ، واما السوالب من هذا القسم ، والقسم الأول بكلا نوعيه فلا تشتمل عليها لما تقدم في محله من امتناع تحقق النسبة بين الشيء ونفسه والشيء وذاتياته كما في الأوليات والشيء وما يتحد معه كما في الصناعيات واما السوالب فهي لسلب النسبة أو نفى الهوهوية بناء على التحقيق فلا محالة تكون خالية عنها كما لا يخفى.

الثانية : وفيها نتعرض لأمرين (الأول) بيان ما هو مناط احتمال الصدق والكذب ، وما يوجب كون الكلام محتملا لهما : فنقول ان المناط في ذلك هو الحكاية التصديقية لا التصورية ، سواء تعلقت بالهوهوية إثباتا ونفيا أم بالكون الرابط كذلك ، توضيحه : ان الحكاية التصديقية التي تفيد فائدة تامة (تارة) تتعلق ـ بالهوهوية وان هذا ذاك تصديقا ، أو سلب الهوهوية ونفى ان هذا ذاك بنحو التصديق و (أخرى) تتعلق بالكون الرابط بنحو الإثبات نحو زيد له البياض ، أو زيد في الدار أو بنحو النفي نحو ليس زيد في الدار ، فالمناط في احتمال الصدق والكذب هذه الحكاية واما إذا خلى الكلام عن تلك الحكاية التصديقية ، فينتفى مناط الاحتمال سواء دل على الاتحاد التصوري نحو زيد العالم أو على النسبة التصورية كما في الإضافات

الثاني من الأمرين بيان مناط صدق القضايا وكذبها فنقول ليس مناطه ما دارج بينهم من تطابق النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية ضرورة عدم إمكان اشتمال الحمليات غير المؤولة على النسبة مطلقا وكذا السوالب من المؤولة مع وجود الصدق والكذب فيهما ، بل مناطه هو مطابقة الحكاية لنفس الأمر وعدمها ، فلا بد أن يلاحظ الواقع بمراتبه وعرضه العريض ، فان طابق المحكي فهو صادق وإلّا فهو كاذب فقولنا الله تعالى موجود صادق ، وقولنا : الله تعالى له الوجود كاذب ، فان الأول يحكى حكاية تصديقية عن الهوهوية بينهما ، والمحكي أيضا كذلك ، والثاني يحكى تصديقا عن عروض الوجود ، ونفس الأمر على خلافه ، و (اما السوالب) فبما انها ليس للأعدام مصداق واقعي فمناط الصدق والكذب مطابقة الحكاية التصديقية لنفس الأمر بمعنى لزوم كون الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب الكون

٢٥

الرابط ، مطابقا للواقع ، لا بمعنى ان لمحكيها نحو واقعية بحسب نفس الأمر ضرورة عدم واقعيته للأعدام بل بمعنى خلو صحيفة الوجود عن الهوهوية والنسبة وعدم وجود لواحد منهما في مراتب نفس الأمر ، فعدم مصداق واقعي للهوهوية والنسبة مناط لصدقها ، واشتمال الوجود على واحد منها مناط كذب ما يدل على نفيه ، فلو قلت : ليس شريك الباري بموجود لكان صادقا لخلو صحيفة الوجود عنه والمفروض ان الحكاية عن خلوه عنه فالحكاية مطابقة لنفس الأمر ولو قلت شريك الباري غير موجود ، أولا موجود بنحو الإيجاب العدولي لصار كاذبا ، لأن الموجبة محصلة كانت أو معدولة تحتاج في صدقها إلى وجود موضوع في ظرف الاخبار وهو هنا مفقود ، إلّا ان يؤول بالسالبة المحصلة كما انه لا محيص عن التأويل في قولنا شريك الباري معدوم أو ممتنع ، واما مناط الصدق والكذب في لوازم الماهية فليس معناه ان لكل من اللازم والملزوم محصلا مع قطع النّظر عن الوجود ، بل معناه ان الإنسان عند تصور الأربعة يجد معه في تلك المرتبة زوجيتها مع الغفلة عن وجود الأربعة في الذهن ويرى بينهما التلازم مع الغفلة عن التحصل الذهني ، فيستكشف من ذلك ان الوجود الذهني دخيل في ظهور الملازمة لا في لزومها حتى يكون من قبيل لازم الوجودين.

المقدمة الثالثة وهي من أهم المقدمات : ان القضية تنقسم إلى الموجبة والسالبة وكل واحدة منهما إلى البسيطة والمركبة ، والكل إلى المحصلة والمعدولة و (ح) فبما ان ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، فلا محيص في الموجبة من وجود موضوع في ظرف ثبوت الحكم حتى يصح الحكم ويحكم بالصدق ، وما ذكرنا من القاعدة الفرعية حكم بتي لا يقبل التخصيص ، فلا فرق بين ان يكون الثابت أمراً وجوديا كما في الموجبة المحصلة ، أو أمراً غير وجودي كما في الموجبة المعدولة نحو (زيد لا قائم) والموجبة السالبة المحمول وهو ما يجعل فيه السالبة المحصلة نعتا للموضوع نحو زيد هو الّذي ليس بقائم (وجه عدم الفرق) هو انه كما اعتبر الاتحاد والهوهوية بين زيد وقائم في الموجبة المحصلة ، كذلك اعتبرت الهوهوية بين زيد وعنوان اللاقيام إذ لا بد من نحو تحقق المتحدين في طرف الاتحاد

٢٦

ولهذا قلنا في محله ان القضية المعدولة لا تعتبر إلّا إذا كانت الاعدام فيها من قبيل إعدام الملكات حتى يكون لملكاتها نحو تحقق ، فيقال زيد لا بصر أو أعمى ، ولا يقال الجدار لا بصير أو أعمى لتحقق ما به الاتحاد في الأول دون الثاني ، وقس عليه الموجبة السالبة المحمول ، إذ هي ترجع إلى نحو اتحاد أو توصيف وله نحو ثبوت ، فلا بدّ من نحو وجود حتى يصح ذلك ، فظهر ان الموجبات تفتقر في صدقها إلى وجود الموضوع في جميع اقسامها ، وهو واضح

المقدمة الرابعة : ان موضوع الحكم في الجملة الخبرية والإنشائية ، لا بد ان يكون مفرداً أو في حكم المفرد ، حتى ان الشرطية التي تتألف من قضيتين تخرجان بذلك عن التمامية وتصيران كالجمل الناقصة ، والسر في ذلك ان الحكاية عن موضوع الحكم فقط أو محموله كذلك ، لا بد ان تكون حكاية تصورية ، كما ان الحكاية عن اتحادهما أو حصول أحدهما في الآخر لا بد ان تكون حكاية تصديقية ، وهي الملاك لكون الجملة قضية تامة ، والحكاية التصورية متقدمة على التصديقية أعني جعل الحكم على الموضوع ، و (عليه) لا محيص عن كون الموضوع أمرا مفردا أو مؤولا به ، إذ لا تجتمع الحكاية التصورية مع التصديقية ، ولا يجتمع النقص والتمام في جملة واحدة وفي حال واحد ولو بتكرر الاعتبار ، فلو قلت : (زيد قائم غير عمرو قاعد) لا تكون الحكاية التصديقية فيه الا عن مغايرة جملتين لا عن قيام زيد وقعود عمرو ، فلو قال المتكلم (ليس زيد بقائم غير ليس عمرو بقاعد) فكل من الموضوع والمحمول جملة ناقصة بالفعل ، وإذا انحلت القضية خرج كل واحدة منهما من النقص وصار قضية تامة موجبة محصلة أو سالبة محصلة كما في المثالين وربما صار سالبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول مثل (المرأة غير القرشية ، حكمها كذا) أو (المرأة التي ليست بقرشية حكمها كذا)

الخامسة : انه قد مر سابقا ان التخصيص سواء كان متصلا أم منفصلا يكشف عن تضيق ما هو موضوع للعام بحسب الإرادة الجدية ، ولا يمكن تعلق الحكم الجدي على جميع الافراد مع انه خصصه بالإرادة الجدية على افراد مقيدة بالعدالة ، وليس ذلك

٢٧

الامتناع لأجل تضاد الحكمين حتى يقال ان الغائلة ترتفع بتكثر العنوان ، بل لأجل ان الإرادة الجدية إذا تعلقت بحرمة إكرام كل واحد من الفساق منهم ، يمتنع تعلق إرادة أخرى على إكرام كل واحد من العلماء جداً بلا تخصيص ، مع العلم بان بعض العلماء فاسق ، ويؤول ذلك الامتناع ، إلى امتناع نفس التكليف.

وان شئت قلت : ان المولى الملتفت بموضوع حكمه لا تتعلق إرادته الجدية على الحكم به الا بعد تحقق المقتضى وعدم المانع ، فإذا رأى ان في إكرام عدول العلماء مصلحة بلا مفسدة وفي إكرام فساق العلماء مفسدة ملزمة أو ليست فيه مصلحة ، فلا محالة تتضيق إرادته وتتعلق بإكرام عدولهم أو ما عدى فساقهم ، ولا يقاس المقام بباب التزاحم إذ المولى لم يحرز في الافراد المخصصة مصلحة بل ربما أحرز مفسدة في إكرامهم ، فلا يعقل (ح) فعلية الحكم في حقهم بخلاف باب المتزاحمين و (ح) يسقط ما ربما يقال من ان المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه ، و (كيف كان) ان موضوع العام بحسب الإرادة الجدية بعد التخصيص يتصور على وجوه ثلاثة ، (الأول ان يكون علي نحو العدم النعتيّ على حذو لفظ العدول (كالعلماء غير الفساق) وكالمرأة غير القرشية و (الثاني) ان يكون العدم النعتيّ على حذو السالبة المحمول «كالعلماء الذين لا يكونون فساقا أكرمهم» والمرأة التي لا تكون قرشية ـ ترى الدم إلى خمسين ، و (الثالث) ان يكون موضوع العام على حذو السالبة المحصلة التي تصدق مع عدم موضوعها ، كما إذا قلت : «إذا لم يكن العالم فاسقا فأكرمه» ، فالموضوع أعني السالبة المحصلة مع قطع النّظر عن حكمه الإيجابي أي (أكرم) يصدق فيما إذا لم يكن للعالم وجود أصلا ، كما إذا قلت : إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين ، فيصدق موضوعه مع قطع النّظر عن حكمه أعني ترى ، فيما إذا لم تكن المرأة موجودة رأساً ، هذه هي الوجوه المتصورة. ولكن لا سبيل إلى الثالث إذ جعل الحكم الإيجابي على المعدوم بما هو معدوم غير معقول ، والحكاية بالإيجاب عن موضوع معدوم ، حكاية عن أمر محال ، فالسالبة المحصلة بما انها تصدق بانتفاء الموضوع أيضا يمتنع ان يقع موضوعا لحكم إيجابي ، إذ قولنا : إذا لم

٢٨

تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين ، لو كان بنحو السلب التحصيلي الصادق مع سلب موضوعه ، يرجع مغزاه إلى ان المرأة التي لم توجد أيضا ترى الدم ، فلا محيص عن فرض وجود الموضوع فيكون الحكم متعلقا بالمرأة الموجودة إذا لم تكن من قريش ، فالاعتبارات التي يمكن أخذها قيداً لموضوع العام المخصص أخذ هذه الأمور (العدم النعتيّ العدولي) و (السالبة المحمول) و (السالبة المحصلة) بشرط أمرين : اعتبار وجود الموضوع وإلّا يلزم جعل الحكم على المعدوم ـ وعدم إرجاعه إلى التقييد والنعت وإلّا يرجع إلى السالبة المحمول.

إذا عرفت ما مهدناه : فاعلم : انه إذا كان الفرد الموجود متصفا بعنوان العام وغير متصف بعنوان الخاصّ سابقا بحيث كان عالما غير فاسق فشك بعد برهة عن الزمن في انقلاب أحد القيدين إلى ضده ، فلا إشكال في انه يجري الأصل ويحرز به عنوان العام بما هو حجة أعني (العالم العادل) أو (العالم غير الفاسق) وهذا فيما إذا كان العلم بعدالته مقارنا للعلم بأنه عالم ، بان نعلم انه كان قبل سنة عالما وعادلا و (اما) لو علمنا ان زيداً كان غير فاسق وشككنا في بقاء عدمه النعتيّ ولكن لم يكن علمه في حال عدم فسقه متيقنا حتى يكون المعلوم عندنا كونه (العالم غير الفاسق) ، بل علم انه عالم في الحال ، فلا يمكن (ح) إحراز موضوع العام بالأصل والوجدان الا على القول بحجية الأصول المثبتة ، لأن استصحاب عدم كون زيد فاسقا ، أو كونه غير فاسق ، مع العلم بأنه عالم في الحال ، يلزمه عقلا ان زيداً العالم غير فاسق على نحو النعت والتقييد ، (وبعبارة أخرى) ان موضوعه هو العالم المتصف بعدم كونه فاسقا ، فجزؤه عدم نعتي للعالم بما هو عالم وهو غير مسبوق باليقين ، وما هو مسبوق به هو زيد المتصف بعدم الفسق لا العالم وهو ليس جزئه ، واستصحاب العدم النعتيّ لعنوان ، لا يثبت العدم النعتيّ لعنوان متحد معه ، إلّا بحكم العقل وهو أصل مثبت ، وتعلق العلم بان زيدا العالم في الحال لم يكن فاسقا بنحو السلب التحصيلي لا يفيد ،

٢٩

لعدم كونه بهذا الاعتبار موضوعا للحكم و (من هذا) ظهر عدم إمكان إحراز جزئيّ الموضوع بالأصل إذا شك في علمه وعدالته مع العلم باتصافه بهما سابقا في الجملة لو لم يعلم اتصافه بهما في زمان واحد ، حتى يكون العالم غير الفاسق ، مسبوقا باليقين فالمناط في صحة الإحراز هو مسبوقية العدم النعتيّ لعنوان العالم ، لا العدم النعتيّ مطلقا فتدبر.

هذا : كله في الأوصاف العرضية ، المفارقة وقد عرفت مناط جريانه ، واما إذا كان الاتصاف واللااتصاف من العناوين التي تلزم وجود المعنون ، كالقابلية واللاقابلية ـ للذبح في الحيوان ، والقرشية واللاقرشية في المرأة ، والمخالفة وعدمها للكتاب في الشرط ، فهل يجري فيه الأصل لإحراز مصداق العام أولا ، الحق امتناع جريانه على جميع الوجوه المتصورة بيان ذلك.

اما إذا كان الوصف من قبيل العدم النعتيّ بنحو العدول أو بنحو الموجبة السالبة المحمول ، فواضح لأن كلا منهما يعد من أوصاف الموضوع وقيوده بحيث تتصف الموضوع بهذه الصفة ، والاتصاف والصفة فرع كون الموضوع موجودا في الخارج لما مر من القاعدة الفرعية ، حتى تتقيد بأمر وجودي و (عليه) فلو قلنا ان الموضوع بعد التخصيص ، عبارة عن المرأة غير القرشية والشرط غير المخالف على نحو الإيجاب العدولي ، أو عبارة عن المرأة التي ليست بالقرشية ، والشرط الّذي ليس مخالفاً للكتاب بنحو السالبة المحمول ، فلا محيص عن فرض وجود للموضوع حتى يصح في حقه هذه الأوصاف و (لكنه) مع هذا الفرض غير مسبوق باليقين ، إذ الفرد المشكوك كونها قرشية أو لا ، أو مخالفا للكتاب أو لا ، لم تتعلق به اليقين في زمان بأنه متصف بغير القرشية ، أو بأنها ليست بقرشية ، كي يجر إلى حالة الشك ، لأن هذه الأوصاف ملازمة لوجود الفرد من بدء نشوه ، لا ينفك عنه أصلا فهي اما تولدت قرشية أو غير قرشية

 والحاصل : انك لو تأملت في أمرين يسهل لك التصديق للحق أحدهما ان

٣٠

الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ، مع كونهما جملة ناقصة لأجل أخذهما قيداً للموضوع ، يحتاج إلى الموضوع فانه في كل منهما يكون الموضوع متصفا بوصف ، فكما ان المرأة غير القرشية ، تتصف بهذه الصفة ، كذلك المرأة التي لم تتصف بالقرشية ، أو لم تكن قرشية ، موصوفة بوصف انها لم تتصف بذلك أو لم تكن كذلك والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه ، إذ المرأة قبل وجودها كما لا تتصف بأنها غير قرشية لأن الاتصاف بشيء فرع وجود الموصوف ، كذلك لا تتصف بأنها ـ هي التي لا تتصف بها ـ لعين ما ذكر ، وتوهم ان الثاني من قبيل السلب التحصيلي ناش من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصلة ، والقيد في العام بعد التخصيص يتردد بين التقييد بنحو الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي لأنه لا يوجب تقييداً في الموضوع والمفروض ورود تقييد على العام بحسب الجد.

ثانيهما عدم حالة سابقة لهذا الموضوع المقيد بأحد القيدين لأنّ هذه المرأة المشكوك فيها لم يتعلق بها العلم بكونها غير قرشية في زمان بدء وجودها حتى نشك في بقائه بل من أول وجودها مجهولة الحال عندنا ، و (اما) إذا كان القيد من قبيل السلب التحصيلي الّذي لا يوجب تقييداً في الموضوع فهو وان كان لا يحتاج في صدقه إلى وجود الموضوع لعدم التقييد والاتصاف حتى يحتاج إلى المقيد والموصوف إلّا انه يمتنع ان يقع موضوعا لحكم إيجابي أعني حكم العام وهو قوله (ترى) لأن السلب التحصيلي يصدق بلا وجود موضوعه ، فلا يعقل جعله موضوعا لحكم إثباتي ، ولا معنى لتعلق الحكم الإيجابي على العالم مسلوبا عنه الفسق بالسلب التحصيلي الّذي يصدق بلا وجود للعالم ، فلا بدّ من أخذ الموضوع مفروض الوجود ، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقا ، موضوعا ، ويرد عليه ما ورد على القسمين الأولين من انتفاء حالة سابقة.

أضف إلى ذلك. ان القول بان هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها قول كاذب ، إذ لا ماهية قبل الوجود ، والمعدوم المطلق لا يمكن الإشارة إليه لا حسا

٣١

عقلا ، فلا تكون هذه المرأة قبل وجودها هذه المرأة ، بل تلك الإشارة من مخترعات الخيال وأكاذيبها ، فلا تتحد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها وصحة الاستصحاب منوطة بوحدتهما ، و (هذا) الشرط مفقودة في المقام لأن المرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضية المتيقنة الحاكية عن ظرف العدم ، لما عرفت ان القضايا السالبة لا تحكى عن النسبة والوجود الرابط ، ولا عن الهوهوية بوجه ، فلا تكون للنسبة السلبية واقعية حتى تكون القضية حاكية عنها ، فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلا ، بمعنى مسلوبية كل واحد من اجزاء القضية أعني هذه المرأة وقريش والانتساب ، لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة إلى قريش ، وإلّا يلزم كون الاعدام متمايزة حال عدمها وان شئت قلت : فالقضية المتيقنة غير المشكوك فيها بل لو سلم وحدتهما يكون الأصل مثبتاً وبالجملة فالقضيتان مختلفتان فما هو المتيقن قولنا : لم تكن هذه المرأة قرشية ولو باعتبار عدم وجودها والمشكوك قولنا : هذه المرأة كانت متصفة بأنها لم تكن قرشية وكم فرق بينهما : وان شئت قلت ان المتيقن هو عدم كون هذه المرأة قرشية باعتبار سلب الموضوع أو الأعم منه ومن سلب المحمول ، واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخص مثبت لأن انطباق العام على الخاصّ في ظرف الوجود عقلي ، وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار (فظهر) ان السالبة المتقيدة بالوجود ، أخص من السالبة المحصلة المطلقة واستصحاب السلب المطلق العام الّذي يلائم مع عدم الوجود لا يثبت الخاصّ المقيد بالوجود ويعد من لوازمه.

وأنت إذا أمعنت النّظر في أحكام القضايا الثلاث من المعدولة والسالبة المحمول والسالبة المحصلة ، وفي ان الأولين باعتبار وقوعهما وصفين لموضوع العام ، لا بد فيهما من وجود الموضوع لقاعدة ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وان الثالث باعتبار صدقه بلا وجود موضوعه ، لا يمكن أخذه موضوعا لحكم إيجابي وهو حكم العام ، يسهل لك التصديق بعدم جريان استصحاب الاعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقا لعدم الحالة السابقة لهذا الأصل تارة وكونه مثبتاً أخرى وبما ذكرنا يظهر الإشكال فيما أفاده بعض الأجلة في تعاليقه على تقريراته فراجع

٣٢

الرابع : لا يجوز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شك في صحة الوضوء بمائع مضاف فضلا عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحته مطلقاً ، لأن إطلاقات أدلة النذر أو عموماتها مقيدة بأنه لا نذر الا في طاعة الله ، أو لا نذر في معصية الله (فحينئذ) يصير متعلق الإرادة الجدية مقيدة بعنوان الطاعة أو بكون النذر في غير المعصية ، فالتمسك بأدلة النذر مع الشك في ان التوضي بمائع مضاف هل هو طاعة أو غيرها ، تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وأغرب منه كشف حال الموضوع أي إطلاق الماء به ، والعجب من المحقق الخراسانيّ ، حيث أيد تلك الدعوى بما ورد من صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر ، وأضاف إليه شيخنا العلامة قدس‌سره نذر النافلة قبل الفريضة و (لكنك خبير) بان الأمثلة غير مربوطة بالدعوى لأن المدعى هو التمسك بالعامّ المخصص للكشف حال الفرد وهي ليست من هذا القبيل فان الإحرام قبل الميقات حرام وبعد النذر يصير واجبا لدلالة الأدلة وكذا الصوم في السفر ، وصيرورة الشيء بالنذر واجبا بدليل خاص غير التمسك بالعامّ للكشف حال الفرد.

الخامس : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص فهل يمكن التمسك بأصالة العموم لكشف حال الفرد ، وان حرمة إكرامه لأجل كونه غير عالم ، لا لخروجه عن حكم العلماء مع كونه داخلا فيهم موضوعا (ربما يقال) بجواز التمسك وهو ظاهر كلام الشيخ الأعظم أيضا في باب الاستنجاء لإثبات طهارة مائه ، متمسكا بأصالة عموم كل نجس منجس والمفروض ان ماء الاستنجاء ليس بمنجس ، فهو ليس بنجس ، وإلّا لزم التخصيص وربما يتمسك به لإثبات ان ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح بطريق عكس النقيض بدعوى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وان ما لا تنهى عن الفحشاء ليست بصلاة لأصالة عموم الدليل. و (لكن الحق) عدم صحته لأن المتيقن من حجية تلك الأصول وجريانها انما هو إذا جعلت عبرة لتشخيص المراد مع الشك فيه لا في مثل المقام ، فلو علمنا مراد المتكلم وعلمنا ان زيدا عنده محرم الإكرام وشككنا في ان خروجه من العام أهو بنحو التخصص أو التخصيص

٣٣

فلا أصل عند العقلاء لإثباته ، وهذا نظير أصالة الحقيقة الجارية لكشف المراد لا لكشف الوضع بعد العلم بالمراد والسر فيه ان هذه الأصول للاحتجاج بين العبيد والموالي لا لكشف حال الوضع والاستعمال مطلقا

واما ما قرره بعض أهل التحقيق مؤيداً مقالة أستاذه المحقق الخراسانيّ من ان أصالة العموم وان كانت حجة لكنها غير قابلة لإثبات اللوازم ومثبتات هذا الأصل كسائر الأصول المثبتة في عدم الحجية مع كونه أمارة في نفسه فلا مجال للتمسك بعكس نقيض القضية الّذي يعد من لوازم الموجبة الكلية عقلا ، لأن ذلك اللازم انما يترتب في فرض حجية أصالة العموم لإثبات لازم المدلول ، و (وجه التفكيك) بين اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفيا وإثباتا وانما نظره إلى إثبات الكبرى ، كما هو المبنى في عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية وما نحن فيه أيضا مبنى على هذه الجهة (انتهى) بأدنى تصرف وتوضيح

 قلت : ان عكس النقيض لازم لكون الكبرى حكما كليا ولا يلزم ان يكون العام ناظراً إلى تعيين الصغرى في لزومه له ، فلو سلم أن أصالة العموم جارية وأنها كالأمارات بالنسبة إلى لوازمها فلا مجال لإنكار حجيتها بالنسبة إلى لازمها الّذي لا ينفك عنها ، فلا يصح ان يقال ان العقلاء يحكمون بان كل فرد محكوم بحكم العام واقعا ومعه يحتمل عندهم ان يكون فرد منه غير محكوم بحكمه إلّا ان يلتزم بأنها أصل تعبدي لا أمارة وهو خلاف مفروضة

السادس : لو دل الدليل على إكرام العلماء ، ودل دليل منفصل على عدم وجوب إكرام زيد لكنه تردد بين زيد العالم والجاهل ، فالظاهر جواز التمسك بأصالة العموم هنا ، للفرق الواضح بين هذا المقام والمقام السابق لأن الغرض من جريانها هناك لأجل تشخيص كيفية الإرادة دون تعيين المراد ، و (هاهنا) الأمر على العكس إذ هو لأجل تشخيص المراد وكشف ان الإرادة الاستعمالية هل هي في زيد العالم مطابقة للجد أو لا ، و (بتقريب آخر) ان المجمل المردد ليس بحجة بالنسبة إلى العالم ولكن العام حجة بلا دافع (فحينئذ) لو كان الخاصّ حكما إلزاميا كحرمة الإكرام يمكن

٣٤

حل إجماله بأصالة العموم ، لأنها حاكمة على ان زيداً العالم يجب إكرامه ولازمه عدم حرمة إكرامه ، ولازم ذلك اللازم حرمة إكرام زيد الجاهل بناء على حجية مثبتات الأصول اللفظية فينحل بذلك حكما الحجة الإجمالية التي لو لا العام يجب بحكم العقل متابعتها ، وعدم جواز إكرام واحد منهما ، واما الشيخ فقد سوّى بين القسمين قائلا بان ديدن العلماء التمسك بالعامّ في المباحث الفقهية في مثله

التمسك بالعامّ قبل الفحص

لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص ولنقدم أمام المقصود أمرا

الأول : جعل المحقق الخراسانيّ محل النزاع ما إذا فرضنا حجية الظواهر للمشافه وغيره من باب الظن النوعيّ لا الظن الشخصي وفرضنا عدم العلم الإجمالي بالتخصيص ، والسر هو انه لو كان المناط في حجية الظواهر هو الظن الشخصي لما كان للفحص وعدمه دخل بل كانت الحجية دائرة مداره سواء حصل قبله أم بعده ، وهكذا لو كان هناك علم بورود التخصيص إجمالا ، لما كان لإنكار الفحص مجال بعد القول بتنجيزه إلى ان ينحل ، (هذا) ولكن ظاهرهم أعمية البحث عن ذلك ويشهد بذلك تمسكهم في إثبات وجوب الفحص بالعلم الإجمالي فالأولى البحث على فرض العلم وعدمه

الثاني الظاهر ان البحث معقود لإثبات لزوم الفحص عن المخصص المنفصل دون المتصل لأن احتمال عدم وصول المتصل لأجل إسقاط الراوي عمدا أو خطاء أو نسيانا ، غير معتنى به عند العقلاء لأن المفروض ان الراوي ثقة غير خائن في روايته ، فاحتمال العمد خلاف الفرض ، وأصالة عدم خطائه ونسيانه ترد الأخيرين ، فيتمحض البحث للمنفصل ، وسيوافيك ان مناط الفحص ليس في المتصل

الثالث يظهر من المحقق الخراسانيّ الفرق بين المقام والأصول العملية وان الفحص هاهنا عما يزاحم الحجية بخلافه هناك فانه بدونه لا حجة ويصير البحث عن متمماتها (قلت) يظهر مما سيمر عليك ان البابين يرتضعان من ثدي واحد ، و

٣٥

البحث في كل واحد من متممات الحجية لا عن مزاحماتها : فانتظر.

الرابع : كما لا يجوز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن المخصص ، كذلك لا يجوز التمسك بالمطلق قبل الفحص عن المقيد ، وبالظاهر قبل الفحص عن معارضه وبالأصول العقلية قبل الفحص عن الأدلة الاجتهادية وملاك لزوم الفحص في الجميع واحد كما سيتضح لك

إذا عرفت هذه الأمور : فنقول : الحق في إثبات لزوم الفحص ما سلكه المحقق الخراسانيّ من ان معرضية العام للتخصيص يوجب سقوط الاحتجاج به عندهم ، ولا أقل من الشك في ذلك وهو كاف في الثبوت (انتهى)

 وتوضيحه : انك إذا تدبرت في المحاورات العقلائية والخطابات الدائرة بينهم. تجد ان ديدنهم في المحاورات الشخصية بين الموالي والعبيد وغيرهم من آحاد الناس ، تختلف مع وضع القوانين وتشريع الشرائع من عند أنفسهم ، فتجدهم يعملون بالعمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات بلا ترقب منهم لمخصصها ومقيدها ولا انتظار لمخالفها بل يأخذون بالظاهر عاما كان أو مطلقا أو غيره ، و (السر) في ذلك هو جريان العادة في تلك الخطابات بذكر مخصصها بعد عمومها ومقيدها عقيب مطلقها بلا تفكيك منهم بينهما ، بحيث لو لم يجدوها في متصل كلامه لا لاحتجوا بظواهرها وعمومها ومطلقها ، و (لكن) تجد ديدنهم في وضع القوانين مدنيا كانت أو عالميا على خلاف ذلك فتراهم واقفين امام كل عام ومطلق باذلين جهدهم في التفتيش عما يصرفهما عن ظاهرهما و (السرّ) هنا هو قضاء العادة خلاف ما كان يجري في المحاورات الشخصية بل ديدنهم جرى في وضع القوانين على التفكيك بين العام ومخصصه والمطلق ومقيدة ، فتراهم يذكرون العمومات والمطلقات في فصل ومادة ، ومخصصاتها ومقيداتها وحدودها ، تدريجا ونجوما ، في فصول أخر ، وربما يذكر الخصوص في كتاب وعمومه في كتاب آخر ، وقد يتقدم الخاصّ على العام إلى غير ذلك من رسومهم وعاداتهم ، التي يقف عليها المتضلع في الحقوق

 هذا ديدن العقلاء ، واما الشارع الصادع بالحق ، فلم يسلك غير ما سلكه

٣٦

العقلاء في وضع قوانينهم ، فترى ان قوانينه الكلية مذكورة في الكتاب والسنة منفصلة عن مخصصاتها ومقيداتها ، وتكون تلك الأحكام المدونة فيهما في معرض التخصيص والتقييد كما هو الحال في القوانين السياسية والمدنية عند العقلاء و (ما هذا حاله) لا يمكن التمسك فيها بالأصول بمجرد العثور على عمومات أو مطلقات من غير فحص ، لما تقدم من ان مجرد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة وعدم القرينة لا يفيد شيئا ، حتى يحرز ان الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدية ، بحيث لو لا هذا الإحراز لاختل نظام الحجية وكون العام في معرض التدافع والتعارض ، يمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجد ، وقد عرفت ان رحى الحجة بعد تمام بعض مباديها ، تدور مداره ، ولا يصير الشيء حجة ولا يطلق عليه الحجة الا بعد جريان هذا الأصل العقلائي ، (والحاصل) ان مجرى هذا الأصل (أصالة التطابق بين الإرادتين) انما هو بعد الفحص لعلمهم بعادة مواليهم من تفرق البيان وتشتته ، ولا فرق في ذلك بين القوانين الإسلامية الغراء وسائر القوانين العقلائية

 وبما ذكرنا يتضح لك ان مناط الفحص هو المعرضية لا العلم الإجمالي بل مع عدمه أيضا لو فرض انحلاله كان الفحص واجبا لعدم تمامية الحجية العقلائية (كما اتضح) عدم الفرق بين المقام والأصول العملية ، وان البحث فيهما عن متمم الحجة لا عن مزاحمها ، لأنه كما لا يجري قاعدة العقاب بلا بيان قبل الفحص ، بل لا يتحقق كونه بلا بيان قبله ، لأن التبليغ قد تم من قبل الشارع وعلماء الأمة قد جمعوها في جوامعهم ، فلا عذر في تركه ، (فكذلك) الاحتجاج بالعمومات والمطلقات ، لأنه قبل الفحص لا يمكن الاعتماد على أصالة التطابق التي به تتم الحجة ، (فظهر) ان العمل بها لا يجوز إلّا بعد الفحص حتى يجعل ذلك مقدمة لإجراء الأصل (أصالة التطابق) لتمامية الحجة (فان قلت) ما ذكرت هنا من انه لو لا الفحص لما تم الحجة ، ينافى لما هو المختار عندك في باب التعادل والترجيح ، من ان المطلقات حجة فعلية غير معلقة على المقيدات الواقعية بل هي بعد وصولها من قبيل المزاحم وينقضي بها أمد الحجية ، (قلت) ان البحث هنا حيثي فان الكلام هاهنا في لزوم الفحص ، وقد عرفت عدم حجية عام ولا مطلق الا بعده ،

٣٧

والكلام هناك بعد الفحص ، والمختار هناك ان الفقيه إذا تفحص قدر ما كان يلزمه ، يصير كل واحد من العام والمطلق حجة فعلية في حقه ، ولو عثر على مقيد أو مخصص بعده ، لا يكون المطلق معلقا بعدم البيان الواقعي بحيث يكون العثور عليه كاشفا عن عدم حجيته ، بل ينتهى به أمد الحجية ، وقس عليه العام ، (كل ذلك على ما سلكناه تبعا للمحقق الخراسانيّ من كون المستند لوجوب الفحص هو المعرضية) واما على القول بان المستند هو العلم الإجمالي ، فربما يقال في تقريره بأنا نعلم إجمالا ان هنا مخصصات ومقيدات يلزم العمل بها ، فلا محيص عن الفحص عنها ، (هذا) واستشكل عليه بأمرين.

(الأول) ان هذا العلم الإجمالي لا ينحل وان بلغ الفحص غايته ، لأن المخصصات المعلوم وجودها ليست منحصرة فيما بأيدينا من الكتب ، بل هي أكثر من ذلك لأن الجوامع الأولية مفقودة ، والأصول المدونة في عهد الصادقين كانت تحتوي اخبارا وأحكاما على خلاف العمومات ، ولازم ذلك ان لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من الكتب ، و (أجيب عنه) بان العلم الإجمالي لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب ، (ويؤيده) ، ان ذلك مجرد احتمال فانه لا علم وجداني لنا بوجود أصول ضائعة غير واصلة فضلا عن اشتمالها على مخصصات يوجب العمل عليها على فرض العثور ، بل يحتمل ان يكون المفقود على فرض قبوله غير الأحكام ولو سلمنا كونه أحكاما فمن أين حصل العلم بأنها غير ما بأيدينا ولو سلم فمن أين حصل العلم لنا بوجوب العمل بها لو عثرنا بها ، ولعل إسنادها كانت ضعيفة غير صحيحة.

الثاني ان العلم الإجمالي بورود مخصصات فيما بأيدينا من الكتب ، وان اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية قبل الفحص ، إلّا انه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن منها ، يوجب انحلاله ، ومقتضاه جريانها في سائر الموارد بلا فحص مع انهم يوجبون الفحص عند كل شبهة ، (وأجاب) عنه بعض أهل التحقيق بان المقدار المتيقن بعد ما كان مرددا بين محتملات منتشرات في أبواب الفقه ، يصير جميع ما شك فيه في تمام الأبواب طرف هذا العلم فيمنع عن الأخذ به قبل فحصه ، ولا يفيد

٣٨

الظفر بمقدار المعلوم ، إذ هذه العلوم نظير العلوم الجديدة الحاصلة بعد العلم الإجمالي ولا يكون سببا لانحلالها ، انتهى.

قلت : مجرد كون أطراف العلم منتشرة لا يفيد شيئا وقياسه بالعلم الجديد قياس مع الفارق ، وذلك لأن قوله ان المقدار المتيقن كان مرددا بين محتملات منتشرات إلخ ، يشعر بان هنا علمين ، علما بأصل وجود المخصصات بمقدار محدود ، وعلما بانتشارها بين الأبواب ، (فحينئذ) فالعثور بالمقدار المتيقن ان كان بعد الفحص في جميع الأبواب ، فلا محيص عن الانحلال ولو حكما ، لاحتمال انطباق ما هو المعلوم إجمالا على المعلوم تفصيلا من الأول ، وبعد هذا الاحتمال ، لا علم لنا أصلا ، وان كان العثور عليه لأجل الفحص في بعض الأبواب دون بعض ، فلا محالة يحصل القطع بان أحد العلمين خطاء ، (اما) علمه بانحصار المخصص في المقدار المحدود المتيقن فيتجدد له علم آخر بان المخصص أزيد مما أحصاه أولا ، (ولكنه) خلاف الفرض ، لأن الفرض انه لا علم له إلّا بالمقدار المحدود الّذي عدده أو لا مطلقا ، قبل الفحص وبعده ، و (اما علمه) بان المخصصات منتشرة في جميع الأبواب فلا محيص عن الانحلال

 هذا : وقد أجاب عنه بعض الأعاظم في كلام وما يلي (ملخصه) ان المعلوم بالإجمال (تارة) يكون مرسلا غير معلم بعلامة ، (وأخرى) معلما بعلامة وانحلال العلم الإجمالي بالعثور بالمقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول لأن منشأ العلم فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة ، كما إذا علم بأنه مديون لزيد وتردد الدين بين ان يكون خمسة دنانير أو عشرة ، واما القسم الثاني فلا ينحل به بل حاله حال دوران الأمر بين المتباينين ولا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل ، والشك في الأكثر من أول الأمر بل يتعلق العلم بجميع الأطراف بحيث لو كان الأكثر واجبا لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه وليس الأكثر مشكوكا فيه من أول الأمر وذلك كما إذا علمت بأنك مديون لزيد بما في الدفتر ، وتردد الدين بين خمسة وعشرة ، فلو كان دين زيد عشرة فقد تعلق العلم به أيضا والمقام من هذا القبيل لأن العلم تعلق بأنّ في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات ، فكل

٣٩

مخصص على فرض وجوده فيما بأيدينا من الكتب ، قد اصابه العلم ومثل هذا لا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن (انتهى كلامه)

 ولا يخفى عليك انه غير تام : لأن العلم بالإجمال (تارة) يكون نفسه دائرا بين الأقل والأكثر كما مثله (قدس‌سره ـ) وحقيقته ما عرفت من انه مركب من قضية علمية وقضية شكية فالإجمال بدوي يرتفع بأدنى التفات وأخرى هذا الفرض لكن تعلق العلم الإجمالي بعنوان غير ذي أثر كما إذا علم بان الدنانير الموجودة في كيس زيد قد تلفت وهي مرددة بين الخمسة والعشرة ، فان تعلقه مع هذا العنوان لا يوجب تنجز الأكثر ، بل لا بد من لحاظ ما هو منشأ أثر ، ومع هذا الحال لو دار امره بين الأقل والأكثر ينحل علمه بلا ريب ، وإلّا فلا يمكن إثبات الانحلال في مورد من الموارد إذ ما من معلوم إجمالي الا وقد يقترن بعدة عنوانات ولوازم فلما تنفك عنه مثل ما في الكيس ، ما في الدار ، ما أقرضني إلى غير ذلك ، وما ادعاه (قده) من ان العلم إذا تعلق بما في الدفتر يوجب إصابة العلم بالأكثر ، (لم يعلم) له وجه ، لأن تعلق علمه بما في الدفتر ، نظير تعلق علمه بان ما في الكيس صار مضمونا عليه ، قل أو كثر ، فكما ان مجرد ذلك لا يوجب إصابة العلم بالأكثر ، بل لا يزيد عن الدوران بين الأقل والأكثر بالضرورة ، فهكذا علمه بأنه مديون بما في الدفتر المردد بين الأقل والأكثر و (عليه) لا يعقل صيرورة الأكثر منجزا به ولا متعلقا للعلم.

وكيف كان فالمقام نظير ما مثله من كونه مديونا بما في الدفتر ، لأن الكون في الكتب كالكون في الدفتر ، لا يترتب عليه أثر ، إذ ليس هذا الكون موضوعا للحكم ولا جزء موضوع وما هو موضوع له للأثر نفس المخصصات ، والكتب ظرفها بلا دخالة في التأثير.

بل يمكن ان يقال ان العنوان المتعلق للعلم لو كان ذا أثر مثل عنوان الموطوء و (لكن) كان منحلا إلى التكاليف الدائرة بين الأقل والأكثر ، فهو أيضا لا يوجب تنجيز غير ما هو المتيقن (أي) الأقل نعم لو كان العنوان بسيطا وكان الأقل والأكثر من محصلاته وجب الاحتياط لكنه أجنبي عما نحن فيه.

٤٠