تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

بغير علم لأن المراد من القول بغير علم هو القول بغير حجة ضرورة ان الإفتاء بمقتضى الأمارات والأصول والانتساب إلى الشارع مقتضاهما غير محرم وغير داخل في القول بغير علم فعليه لا يكون الانتساب مع استصحاب العدم انتسابا بغير حجة بل انتساب مع الحجة على العدم وهو كذب وافتراء وبدعة وتكون حرمته لأجل انطباق تلك العناوين عليه لا عنوان القول بغير علم وتوهم مثبتية الأصل في غير محله كما لا يخفى على المتأمل

ثم انه يرد على ما أفاده بعض أعاظم العصر أمور : الأول : ان قوله : جريان الاستصحاب ، تحصيل للحاصل بل أسوأ منه ـ لا يخلو من خلط لما عرفت : ان التشريع غير التقول بغير علم ، وما يحصل حكمه أعني الحرمة بمجرد الشك ، انما هو الثاني ، واما الأول فهو يحتاج إلى عناية أخرى كما تقدم

 الثاني : ان ما ادعاه : من امتناع كون الشك موضوعا للأثر في عرض الواقع لم يقم عليه برهان إذا فرضنا وجود جعلين مستقلين.

الثالث : ان ما أفاده : من ان الشك في الرتبة السابقة على الاستصحاب يترتب عليه الأثر فلا يبقى مجال لجريانه غير وجيه ، فان الشك في الواقع في رتبة واحدة موضوع للقاعدة والاستصحاب ، فكيف يمكن ان يتقدم على موضوع الاستصحاب بعد ما كان الأثر مترتبا على الواقع كما هو المفروض لا على العلم بعدم الواقع حتى يقال تحقق هذا العنوان تعبدا في الرتبة المتأخرة عن الاستصحاب فتأمل وتقدمه على الحكم الاستصحابي ليس إلّا كتقدمه على الحكم الثابت بالقاعدة ، ضرورة تقدم كل موضوع على حكمه

 فان قلت لعل نظره (كما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم أيضا) ان صرف الشك يترتب عليه الأثر في القاعدة ، واما الاستصحاب فهو يحتاج إلى عناية أخرى من لحاظ الحالة السابقة وجرّ الثابت سابقا إلى الزمان اللاحق.

قلت : ترتب الأثر على الشك عبارة أخرى عن جعل الحكم عليه كما ان العناية في الاستصحاب كذلك فالشك فيهما موضوع للحكم في عرض واحد وحكمهما

١٦١

متأخر عنه تأخر الحكم عن موضوعه

الرابع : ان ما أفاده : من الفرق بين قاعدة الحلية والطهارة ، واستصحابهما من جواز الصلاة في المحكوم بالطهارة والحلية بالاستصحاب ، دون المحكوم بهما بمعونة القاعدتين ، قد فرغنا عن ضعف هذا التفصيل في محله وأوضحنا حكومة القاعدتين على أدلة الشرائط والاجزاء ، وحكمنا بصحة الصلاة فراجع

الخامس : ان ما أفاده : من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة الاشتغال ، ضعيف إذا ادعى الكلية ، وان ادعى في بعض الموارد كما إذا اختل أركان الاستصحاب فلا يفيد بحاله ، ولعل ما ذكره من المثال من هذا القبيل ، كما ان ما ذكره من عدم جريان القاعدة عند الشك في المأمور به غير صحيح فتدبر

في حجية الظواهر

اعلم انه قد خرج عن الأصل المذكور أمور :

الأول : الظواهر : وكان الأولى تأخير البحث عنها عن سائر المقامات لأن حجية الظاهر فرع كونه صادراً الا انا نقتفي أثر الشيخ الأعظم (قدس‌سره) فنقول :

ان استفادة الحكم الشرعي من الأدلة يتوقف على طي مراحل

منها إثبات صدوره والمتكفل له كبرويا هو البحث عن حجية الخبر الواحد وصغرويا هو علم الرّجال وملاحظة أسانيد الروايات ومنها إثبات أصل الظهور بالتبادر وعدم صحة السلب ، وقول اللغوي ومهرة الفن بعد إثبات حجية قولهم. ومنها إثبات جهة الصدور وان التكلم لأجل افهام ما هو الحكم الواقعي لا لملاك آخر من التقية وغيرها ويقال أصالة التطابق بين الإرادتين

 منها إثبات حجية الظهورات كتابا وسنة وهذا هو الّذي انعقد له البحث وما ذكرناه جار في عامة التخاطبات العرفية ، فان حجية قول الرّجل في أقاريره ووصاياه وإخباراته يتوقف على طي تلك المراحل عامة من غير فرق بين الكتاب

١٦٢

والسنة وغيرهما ولا ريب لمن له أدنى إلمام بالمحاورات العرفية ، في ان ظواهر الكلام متبعة في تعيين المراد ، وعليه يدور رحى التكلم والخطابات من دون أيّ غمض منهم أصلا وانهم يفهمون من قول القائل : زيد قائم بالدلالة العقلية على ان فاعله مريد له ، وان صدوره لغرض الإفادة ، وان قائله أراد إفادة مضمون الجملة إخباريا أو إنشائيا لا لغرض أخرى ، وبما ان مفردات كلامه موضوعة يحكمون ان المتكلم أراد المعاني الموضوعة لها ، وبما ان له هيئة تركيبية وله ظاهر ومتفاهم عرفي يحملون كلامه على انه مستعمل فيما هو ظاهر فيه ، وان الظاهر من تلك الهيئة التركيبية مراد استعمالا ثم يتبعون ذلك ان المراد استعمالا ، مراد جدي ، وان الإرادة الاستعمالية مطابقة بالإرادة الجدية كل ذلك أصول وبناء منهم في محاوراتهم العرفية ، ولا يصغون إلى قول من أراد الخروج عن هذه القواعد وهذا واضح.

وانما الكلام في ان حجية الظواهر هل هو لأجل أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور ، أو ان لكل مورد من الشك أصل يخص به التحقيق هو الأخير وان بنينا في الدورة السابقة على ان المعتبر عندهم أصل واحد وهو أصالة الظهور ولكن بعد التدبر ظهر لنا ان الحق هو الأخير.

وخلاصته ان الكلام الصادر من المتكلم إذا شك في حجيته فإن كان منشأ الشك احتمال عدم كونه بصدد التفهيم وان التخاطب لأجل أغراض أخر من الممارسة والتمرين ، فقد عرفت ان الأصل العقلائي على خلافه ، وان كان مبدأ الشك ، احتمال استعمال اللفظ في غير ما وضع له غلطا من غير مصحح ، فالأصل العقلائي على خلافه وان كان الشك لأجل احتمال استعمال المتكلم كلامه في المعنى المجازي على الوجه الصحيح ، فان قلنا ان المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ابتداء كما هو المشهور فأصالة الحقيقة هو المتبع ، وإن قلنا على ما هو التحقيق بان المجاز استعمال اللفظ في ما وضع له للتجاوز إلى المعنى الجدي كما مر تحقيقه ، فالمتبع هو تطابق الإرادة الاستعمالية

١٦٣

مع الإرادة الجدية. وان كان الشك لأجل احتمال ان المتكلم يخرج بعض الموارد الّذي ليس مرادا جديا ببيان آخر كالتخصيص والتقييد بالمنفصل ، فمرجعه إلى مخالفة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية على ما هو الحق من ان العام بعد التخصيص حقيقة أيضا ، فقد عرفت ان أصالة التطابق بين الإرادتين محكمة أيضا واما المنقول بالواسطة فان المبدأ للشك لو كان احتمال التعمد بحذف القرينة فعدالة الراوي ووثاقته دافعة لذلك ، وان كان لأجل احتمال السهو والنسيان والاشتباه والخطاء فكل ذلك منفية بالأصول العقلائية فما هو الحجة هو الظهور لكن مبنى الحجية الأصول الأخر كما تقدم ذكرها واما أصالة الظهور فليست أصلا معولا بل إضافة الأصل إلى الظهور لا يرجع إلى محصل إلّا ان يراد بعض ما تقدم

حول مقالة المحقق القمي

وقد فصل في حجية الظواهر ، ذلك المحقق العظيم حيث ذهب إلى حجية الظواهر بالنسبة إلى من قصد افهامه ، دون من لم يقصد وهو ضعيف صغرى وكبرى اما الأول فلان الاخبار الواصلة إلينا عن النبي والأئمة المعصومين عليهم‌السلام ليس إلّا كالكتب المؤلفة التي قال قده بحجية ظواهرها بالنسبة إلى الجميع ، وذلك لأن الخطاب وان كان متوجها إلى مخاطب خاص كزرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما ، إلّا ان الأحكام لما كانت مشتركة ، وشأن الأئمة ليس إلا بث الأحكام بين الناس ، فلا جرم يجري الخطاب الخاصّ مجرى الخطاب العام في ان الغرض نفس مفاد الكلام من غير دخالة افهام متكلم خاص

واما الكبرى فلبناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقا ما لم يحرز ان بناء التكلم على الرمز وحذف القرائن اللازمة لوضوحه عند المخاطب ، فلو أراد المفصل هذا القسم فلما قاله وجه وجيه وان أراد غير ذلك فمدفوع بالبناء منهم على خلافه. هذا وان من المرسوم الدائر في بعض الأحيان ، مراقبة الرسائل الدائرة بين الأصدقاء والإخوان من جانب الحكومة ولا شك ان الرسائل الدائرة لم يقصد كاتبها الا افهام من

١٦٤

أرسله إليه ، إلّا ان الحكومة والرقابة العسكرية إذا وجدوا فيها ما يستشم منه الخيانة أو التجمع للفتنة صاروا إلى إحضار الكاتب وزجره وحبسه.

مقالة الأخباريين في ظواهر الكتاب

وهم استدلوا على عدم حجية ظواهرها بوجوه منها ادعاء وقوع التحريف في الكتاب حسب اخبار كثيرة ، وهو يوجب عروض الإجمال المانع من التمسك به. وهو بمعرض من السقوط صغرى وكبرى اما الصغرى : فان الواقف على عناية المسلمين على جمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة يقف علي بطلان تلك المزعمة وانه لا ينبغي ان يركن إليه ذو مسكة ، وما وردت فيه من الاخبار ، بين ضعيف لا يستدل به ، إلى مجعول يلوح منها أمارات الجعل ، إلى غريب يقضى منه العجب. إلى صحيح يدل على ان مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل ولو لا خوف الخروج عن طور الكتاب لأرخينا عنان البيان إلى بيان تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة تلك القرون (١) وأوضحنا عليك ان الكتاب هو عين ما بين الدفتين ، والاختلاف الناشئة بين القراء ليس إلّا امرا حديثا لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين واما الكبرى فالتحريف على فرض وقوعه انما وقعت في غير الأحكام مما هو مخالف لأغراضهم الفاسدة من التنصيص على الخلافة والإمامة ، وهذا لا يضر بالتمسك في الأحكام

 منها العلم الإجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات والمطلقات ، وهو يمنع عن الاستدلال بالظهور ، ومنها الاخبار الناهية عن العمل بالكتاب ، إلى غير ذلك مما أجاب عنه الأساطين ولا حاجة إلى الإطالة

__________________

(١) غير ان فيما ألفه فقيد العلم والأدب ، فقيد التفسير والفلسفة العلامة الحجة : الشيخ أبو عبد الله الزنجاني (رحمه‌الله) غنى وكفاية وقد اسما كتابه ب (تاريخ القرآن) وطبع في القاهرة وعليها مقدمة بقلم الأستاذ : أحمد أمين

١٦٥

البحث عما يتعين به الظاهر

ونكتفي في المقام بالبحث عن حجية قول اللغوي إذا كثر ما يبحث عنه في مباحث الألفاظ يرجع إلى تشخيص الظاهر. وقد استدل عليه تارة ببناء العقلاء على الرجوع إلى مهرة الفن من أهل الصناعات لكونهم أهل الخبرة في هذا الأمر ، وأخرى بالإجماع والانسداد ، والمهم هو الأول ، وهو مدفوع بان اللغوي مرجع في موارد الاستعمال لا في تشخيص الحقائق عن المجاز ، أضف إلى ذلك ان مجرد بناء العقلاء على الرجوع في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتى يستكشف من سكوته رضاه ، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحة ولم يرد منهم عليهم‌السلام ما يدل على رجوع الجاهل بالعالم حتى نتمسك بإطلاقه أو عمومه في موارد الشك والحاصل ان موارد التمسك ببناء العقلاء انما هو فيما إذا أحرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم‌السلام ، ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمة بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب.

فان قلت رجوع الصحابة في معاني مفردات القرآن إلى حملة العلم كابن عباس ونظرائه مما لا سترة فيه ، وكون الرّجل عربيا فصيحا لا يوجب إحاطته بعامة لغاته كما في غير العربي من الألسنة : ولا شك انه كان أمة كبيرة من الأصحاب مراجع فيما يتعلق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما على ان اللغة قد دونت في زمن المعصومين ، فان أول من دونه هو خليل بن أحمد الفراهي الّذي عده الشيخ من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وبعده ابن دريد صاحب الجمهرة الّذي هو من أصحاب الجواد عليه‌السلام والف ابن السكيت إصلاح المنطق الّذي قتله المتوكل لتشيعه وهذا يكشف عن كون التدوين والرجوع إلى معاجم اللغة كان امرا دائرا.

قلت لم يثبت رجوعهم إلى مثل ابن عباس وغيره في لغة القرآن ومفرداته بل الظاهر رجوعهم إلى مثله في تفسير القرآن المدخر عنده من أصحاب الوحي وصرف تدوين اللغة في عصر الأئمة عليهم‌السلام لا يدل على أخذ الناس اللغة بصرف التقليد كالرجوع إلى

١٦٦

الطبيب والفقيه نعم الرجوع إلى كتب اللغة ربما يوجب تشخيص المعنى بمناسبة ساير الجمل كما في رجوعنا إليها فصرف تدوين اللغة والرجوع إليها في تلك الأعصار لا يفيد شيئا

الإجماع المنقول

وتحقيق الحال يتوقف على رسم أمور :

الأول : ان الإجماع عند العامة دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنة لما نقلوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تجتمع أمتي على الضلالة أو على الخطاء ولذلك اشترطوا اتفاق الكل وعرفه الغزالي : بأنه اتفاق أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على امر من الأمور الدينية ، ولكن لم يكن المرمي من الإجماع وحجيته ، وما اختلقوا له من المستند ، إلّا إثبات خلافة الخلفاء ، ولما رأوا ان ما عرف به الغزالي لا ينطبق على مورد الخلافة ضرورة عدم اجتماع الأمة جميعا عليها لمخالفة كثير من الأصحاب وجمهرة بنى هاشم ، عدل الرازي والحاجبي إلى تعريفه بوجه آخر ، فعن الأول بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على امر من الأمور ، وعن الثاني انه إجماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على ما مر مع عدم تتميم مقصدهم بأي تعريف عرف لمخالفة جمع من أهل الحل والعقد والمجتهدين معها واما عند الخاصة فليس حجة بنفسه اتفاقا بل لأجل انه يستكشف منه قول المعصوم أو رضاه سواء استكشف من الكل أو اتفاق جماعة ، ولعل تسمية ما هو الدليل الحقيقي (السنة) بالإجماع لإفادة ان لهم نصيبا ، منها وليكون الاستدلال على أساس مسلم بين الطرفين ، ولعله على ذلك يحمل الإجماعات الكثيرة الدائرة بين القدماء كالشيخ وابن زهرة وأضرابهم كما يظهر من مقدمات الغنية ، وإلّا فقد عرفت ان الإجماع عندنا وعندهم مختلف غاية وملاكا

الثاني : ان البحث في المقام انما هو عن شمول أدلة حجية الخبر الواحد للإجماع المنقول به وعدم شموله وكان الأولى إرجاء البحث إلى الفراغ عن حجيته وكيف كان فنقول انه سيوافيك ان الدليل الوحيد على حجية الخبر الواحد ، ليس الأبناء

١٦٧

العقلاء وما ورد من الآيات والاخبار كلها إرشاد إلى ذلك البناء

 وعليه فنقول : لا شك في حجية الخبر الواحد في الاخبار عن المحسوسات المتعارفة أو غير المحسوس إذا عده العرف لقربه إلى الحس ، محسوسا ، واما إذا كان المخبر به محسوسا ، غريبا غير عادي أو مستنبطا بالحدس عن مقدمات كثيرة فللتوقف مجال ، لعدم إحراز وجود البناء في هذه المقامات فلو ادعى تشرفه أو سماع كلامه بين المجمعين ، فلا يعبأ به ، وان شئت قلت : حجية الاخبار الآحاد مبنية على امرين ، عدم التعمد في الكذب ، وعدم خطائه فيما ينقله ، والأول مدفوع بعدالته ووثاقته سواء كان الاخبار عن حس أو حدس ، واما الثاني فاصلة عدم الخطاء أصل عقلائي ، ومورده ، ما إذا كان المخبر به امرا حسيا أو قريبا منه ، واما إذا كان عن حدس أو حس لكن المخبر به كان امرا غريبا عاديا ، فلا يدفع احتمال الخطاب لأصل بل يمكن ان يقال ان أدلة حجية خبر الثقة غير واف لإثبات مثل الاخبار بالغرائب إلّا إذا انضم إلى دعواه قرائن وشواهد

الثالث : ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة بالنسبة إلى الكاشف إذا كان ذا أثر شرعي واما بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجة لأنه ليس اخبارا عن امر محسوس ، فلا يشمله ما هو الحجة في ذلك الباب ، وقياس المقام بالأخبار عن الشجاعة والعدالة غير مفيد ، لأن مبادئهما محسوسة ، فانهما من المعقولات القريبة إلى الحس ، ولأجل ذلك يقبل الشهادة عليهما ، واما قول الإمام فهو مستنبط بمقدمات وظنون متراكمة كما لا يخفى

 الرابع : ان القوم ذكروا لاستكشاف قول الإمام عليه‌السلام طرقا أوجهها دعوى الملازمة العادية بين اتفاق المرءوسين على شيء ورضا الرئيس به ، وهذا امر قريب جداً ، ولأجل ذلك لو قدم غريب بلادنا وشاهد إجراء قانون العسكرية في كل دورة وكورة يحدس قطعا ان هذا قانون قد صوب في مجلس النواب ، واستقر عليه رأى من بيده رتق الأمور وفتقه

 واما ما أفاده بعض أعاظم العصر : من ان اتفاقهم على امر ان كان نشأ عن

١٦٨

تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين إجماع المرءوسين ورضاء الرئيس مجال ، واما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطؤ منهم فهو مما لا يلازم عادة رضاء الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة ، فضعيف جدا ، لأن إنكار الملازمة في صورة التواطؤ أولى واقرب من الإجماع بلا تواطؤ ، فان الاتفاق مع عدم الرابط بينهما يكشف عن وجود ملاك له من نصّ أو غيره ، واما الاتفاق مع التواطؤ فيحتمل ان يكون معلل بأمر غير ما هو الواقع. فلو ادعى القائل بحجية الإجماع المنقول انه كاشف عن الدليل المعتبر الّذي لم تعثر عليه أو عن رضاه فلا يعد امرا غريبا

 هذا ولكنه موهون من جهة أخرى فان من البعيد جدا ان يقف الكليني أو الصدوق أو الشيخ ومن بعده على رواية متقنة دالة على المقصود ، ومع ذلك تركوا نقلها والأولى ان يقال ان الشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب يكشف عن كون الحكم مشهورا في زمن الأئمة ، بحيث صار الحكم في الاشتهار بمنزلة أوجبت عدم الاحتياج إلى السؤال عنهم عليهم‌السلام كما نشاهده في بعض المسائل الفقهية وبالجملة ان اشتهار حكم بين الأصحاب يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة ومعروفيته من لدن عصر الأئمة عليهم‌السلام

الشهرة الفتوائية

لا إشكال في عدم حجية الشهرة الفتوائية في التفريعات الفقهية الدائرة بين المتأخرين من زمن شيخ الطائفة إلى زماننا هذا وما استدلوا به على حجيتها من التمسك بفحوى أدلة حجية الخبر الواحد أو تنقيح المناط ، أو تعليل آية النبأ أو دلالة المقبولة أو تعليلها ، لا يخلو من ضعف غني عن البيان ، وانما الكلام في الشهرة المتقدمة على الشيخ أعني الشهرة الدائرة بين قدماء أصحابنا الذين كان ديدنهم التحفظ على الأصول والإفتاء بمتون الرواية ، إلى ان ينتهى الأمر إلى أصحاب الفتوى والاجتهاد ، فالظاهر وجود مناط الإجماع فيه وكونه موجبا للحدس القطعي على وجود نصّ معتبر دائر بينهم أو معروفية الحكم من لدن عصر الأئمة كما أشرنا إليه

١٦٩

واما ما اشتهر من الشيخ عن مقدمة المبسوط من ان ديدن الأصحاب قد كان جاريا على الجمود على النصوص من دون أدنى خروج من ظواهرها تكريما لأئمتهم وتعظيما لهم صلوات الله عليهم غير ان الشيخ قد نقض تلك الطريقة ببعض تأليفه وأورد المسائل بعبارات غير دارجة عند أصحاب النصوص ، وفرّع على الأصول كثيرا من التفريعات غير المذكورة في الروايات وجاء الأصحاب بعد الشيخ حذوا حذوه ، إلى يومنا هذا

فغير ظاهر فانا بعد الفحص لم نجد الكتب المؤلفة في عصره أو في عصر قبله على ما وصفه فراجع ما بقي بأيدينا من تآليف المفيد والمرتضى وسلار وابن حمزة وأضرابهم ، ممن نقل العلامة في المختلف عبائرهم كابن جنيد وابن أبي عقيل وابن شاذان لكن الطبقة السابقة على أصحاب الفتوى كان دأبهم على ما وصفه من الجمود على ذكر الروايات المطابقة لفتواهم أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح والتقييد والتخصيص ، ومن أظهر مصاديقه فقه الرضا ، وقريب منه بعض كتب الصدوق وأبيه (قدس الله أسرارهم).

وعلى ذلك فلو قلنا ان في مثل تلك الشهرة مناط الإجماع بل الإجماع ليس إلا ذاك فليس ببعيد ويمكن ان يستدل على حجيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه (وجه الاستدلال) ان الاشتهار بين الأصحاب في تلك الأزمنة بحيث يكون الطرف المقابل شاذا معرضا عنه بينهم ولا يكون مضرا بإجماعهم عرفا بحيث يقال ان القول الشاذ مخالف لإجماع أصحابنا ، لا شبهة في كشفه عن رأي المعصوم وحجيته وهذا هو الإجماع المعتبر الّذي يقال في حقه ان المجمع عليه لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر انه لا دليل على حجية مجرد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس منها قول الإمام عليه‌السلام كما هو المناط في الإجماع المحصل والمنقول.

ثم ان بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) قد ضعف هذا الاستدلال وقال : ان الاستدلال

١٧٠

بهذا التعليل ضعيف لأنه ليس العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها ، فان المراد من قوله عليه‌السلام فان المجمع عليه لا ريب فيه ، ان كان هو الإجماع المصطلح ، فلا يعم الشهرة الفتوائية ، وان كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله مما لا ريب فيه عليه بقول مطلق ، بل لا بد ان يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلية لأنه يعتبر في الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها كما في قوله : الخمر حرام لأنه مسكر فانه يصح ان يقال : لا تشرب المسكر بلا ضم الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك لأنه لا يصح ان يقال : يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله وإلّا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره ، وبأقوى الشهرتين وبالظن المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن ان يكون من الكبرى الكلية التي يصح التعدي عن موردها (انتهى) وفيه : ان الكبرى ليست مجرد كون الشيء مسلوبا عنه الريب بالإضافة إلى غيره حتى يتوهم سعة نطاق الكبرى ، بل الكبرى كون الشيء مما لا ريب فيه بقول مطلق عرفا بحيث يعد طرف الآخر شاذا نادرا لا يعبأ به عند العقلاء ، وهذا غير موجود في الموارد الّذي عده (قدس‌سره) فان ما ذكره من الموارد ليس مما لا ريب فيه عند العرف بحيث صار الطرف المقابل امرا غريبا غير معتنى به بل الظاهر ان عدم الريب ليس من المعاني الإضافية حتى يقال لا ريب فيه بالنسبة إلى مقابله بل من المعاني النفسيّة التي لا يصدق إلّا مع فقد الريب بقول مطلق عن شيء فقوله لا ريب فيه كبرى كلية وكل ما كان كذلك عرفا يجب الأخذ به ولا يرد عليه ما جعله نقضا لذلك

 فتلخص مما ذكر حجية الشهرة الفتوائية الدائرة بين القدماء إذا كان موجبا للحدس بثبوت الحكم دون غيره من الشهرة في التفريعات الاجتهادية ، (وسيوافيك بعض الكلام في مبحث التعادل والترجيح وان الشهرة الفتوائية على مضمون إحدى الروايتين يوجب سقوط الأخرى عن الحجية)

١٧١

في حجية الخبر الواحد

وقد وقعت معركة للآراء ولا محيص للفقيه عن الخوض فيها لأنه يدور عليها رحى الاستنباط في هذه الأعصار فاستدل المنكرون بوجوه ، من الآيات قوله تعالى : ان الظن لا يغنى من الحق شيئا. ولكن المتدبر في سياق الآيات يقف على انها راجعة إلى الأصول الاعتقادية ومنها قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا وذيل الآية يوجب تعميمها للفروع لو لم نقل باختصاصها بها. ولكن صحة الاستدلال بها مستلزمة لعدم جواز الاستدلال بها ، وذلك لأنه يدل على نحو القضية الحقيقية على الزجر عن كل اتباع بغير علم يوجد في الخارج ، مع ان الأخذ بظاهر الآية أيضا اتباع لغير علم ومصداق له ، لأن دلالتها على الردع عن غير العلم ظنية لا قطعية ، فيلزم من الأخذ بمدلولها عدم جواز اتباعها لكون دلالتها بالفرض ظنية ، والآية شاملة لنفسها لكونها قضية حقيقية.

وربما يقال : ان الآية غير شاملة لنفسها لأجل المحذور الّذي ذكر ، وبعبارة أخرى ان الآية مخصصة عقلا للزوم المحال لو لا التخصيص : أقول ان الاستحالة مندفعة بأحد امرين الأول ما ذكره القائل من عمومها لكل غير علم الا نفسه ، والثاني بتخصيصه بما قام الدليل على حجيته ولا ترجيح بل الترجيح للثاني ، لأن الآية وردت للزجر عن اتباع غير العلم ، ولا يتم الزجر إلّا إذا كان ظاهرها حجة عند المخاطبين حتى يحصل لهم التزجر عند الزجر ، ولا وجه لخروج ظاهر الآية عن هذا العموم الا كون الظواهر حجة عند العقلاء كسائر الظنون الخاصة ، و (ح) فخروج ظاهر الآية أو مطلق الظواهر دون سائر الظنون تحكم محض لوجود البناء من العقلاء في الموردين هذا مع ان هذه الآية قابلة للتخصيص وما لا تقبل له راجعة إلى الأصول الاعتقادية.

ثم ان بعض أعاظم العصر «قدس‌سره» قد أجاب عن هذا الإشكال بما هذا حاصله

١٧٢

ان نسبة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد إلى الآيات نسبة الحكومة لا التخصيص ، لكي يقال انها آبية عنه ، فان تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع لكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد ، واما السيرة فيمكن ان يقال : ان نسبتها إليها هي الورود بل التخصص ، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن ، لعدم التفاتهم إلى احتمال المخالفة للواقع فالعمل به خارج بالتخصص عن العمل بالظن ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به ، لأن تكون رادعة عنها ، فانه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات يلزم منه الدور المحال لأن الردع عن السيرة بها يتوقف على ان لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم التخصص يتوقف على الرادعية. وان منعت عن ذلك فلا أقل من كون السيرة حاكمة على الآيات والمحكوم لا يصلح ان يكون رادعاً للحاكم انتهى

 وفيه : ان ما هو آب من التخصيص انما هي الآيات الناهية عن اتباع الظن ، واما قوله سبحانه : ولا تقف ما ليس لك به علم فقد عرفت انه ، عام للأصول والفروع وقابل للتخصيص واما حكومة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، على الآيات فلا أصل لها ، لأن الحكومة تتقوم باللفظ وليس لسان تلك الأدلة من آياتها واخبارها لسان الحكومة كما لا يخفى ، واما قوله عليه‌السلام العمري ثقة فما ادى إليك عني ، فعني يؤدى ، وما قال لك عني ، فعني يقول فاسمع له وأطعه فانه الثقة المأمون فلا يصلح لإثبات ما رامه (قدس‌سره) ، فان مفاده هو وجوب اتباع قوله لوثاقته واما تنزيل ما يقوله منزلة العلم ، حتى يكون حاكماً على ما دل على الزجر عن اتباع غير العلم فلا يستفاد منه

 واما السيرة فالقول بان نسبتها ، نسبة الورود أو الحكومة ، فلا يخلو عن ضعف لأن ذلك فرع كون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملا بالعلم وهو ممنوع جدا لعدم حصول العلم من اخبار الآحاد ، حتى لو فرضنا غفلتهم عن احتمال الخلاف : فلا يصح أيضا ، لأن الورود والتخصص يدور مدار الخروج الواقعي لا على الخروج عند المخاطب فان الورود

١٧٣

ليس إلّا خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر حقيقة بعناية التشريع كما ان التخصص هو الخروج حقيقة وتكوينا ، ومع ذلك كله فهما يدور على الخروج الواقعي لا عند المخاطب.

والعجب عما أفاده أخيرا من حديث حكومة السيرة فان السيرة عمل خارجي والحكومة من أوصاف دلالة الدليل اللفظي ، فكيف يصح حكومة العمل الخارجي على دليل آخر ، مع انها قائمة بين لساني الدليلين اللفظيين ، نعم يمكن ان يقال بعدم صلاحية تلك الروايات للردع عن السيرة الدائرة بين العقلاء لعدم انتقالهم من التدبر في هذه الآيات إلى كون الخبر الواحد مصداقا له ، وان كان مصداقا واقعيا له.

نعم يمكن تقريب ورود السيرة على الآيات بوجهين :

الأول : ان المراد من قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم ، أي لا تقف ما ليس لك به حجة ، إذ لو أريد منه العلم الوجداني وأريد منه الزجر عن التمسك بغير العلم الوجداني لزم تعطيل أكثر الأحكام ، أو ورود التخصيص الأكثر المستهجن ، وهذا نظير حرمة القول بغير علم أو الإفتاء بغير علم ، وعليه كل ما يدل على حجية الخبر الواحد يكون واردا عليه.

الثاني ان نفس الطريق وان كان ظنيّا إلّا ان ما يدل على حجيته امر قطعي لأن ما يدل من ظواهر الآيات على حجية الخبر الواحد حجة قطعية عند الخصم كسائر الظواهر فينسلك اتباع الخبر الواحد في عداد اتباع العلم ، فيتم ميزان الورود فتدبر.

واما مشكل الدور في رادعية الآيات عن السيرة ففيه مضافا إلى انه ليس دورا اصطلاحيا فان الدور المصطلح ما يقتضى تقدم الموقوف على الموقوف عليه ضرورة عدم تقدم الرادعية على عدم المخصصية ، ان حجية السيرة يتوقف على عدم الرادعية وعدم الرادعية يتوقف على عدم مخصص وأصل ، وهو (أي العدم) حاصل ، إذ لا مخصص في البين.

١٧٤

وبالجملة فان الآيات بعمومها تدل على الزجر عن اتباع كل ظن وما ليس بعلم ، ورادعية هذه الآيات تتوقف على عدم مخصص من الشارع والمفروض انه لم يصل إلينا مخصص ، واما السيرة بما هي هي فلا تصلح ان يكون مخصصة ، إذ لا حجية للسيرة بلا إمضاء من الشارع ، فالرادع رادع فعلا ، والسيرة حجة لو ثبت الإمضاء ، وهو غير ثابت لا سيما مع ورود تلك النواهي.

فان قلت : ان العمل بالخبر الواحد كان سيرة جارية قبل نزول تلك الآيات وسكوت الشارع عنه إمضاء لها ، واما بعد نزول الآيات ، فالمقام من صغريات الخاصّ المتقدم (السيرة) والعام المتأخر ، فيدور الأمر بين تخصيصها بالسيرة المتقدمة ، أو ردعها إياها ، وان شئت قلت : الأمر يدور بين التخصيص والنسخ ، ومع عدم الترجيح يستصحب حجية السيرة.

قلت : ان التمسك بالاستصحاب من الغرائب ، إذ لم يثبت حجيته إلّا باخبار الآحاد أضف إلى ذلك : ان السكوت في أوائل البعثة لا يكشف عن رضاه ، فان أوائل البعثة والهجرة لم يكن المفزع والمرجع في أخذ الأحكام الا نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يكن أكثر الأحكام منقولة بآحاد الرّواة ، حتى تقع مورد الرضاء والردع واما العمل بها في الأمور العادية والعرفية ، فلا يجب للشارع تحديد العمل والتصرف فيها بل من الممكن ان الآيات نزلت في أوائل الأمر للردع عن العمل بها في العاديات لئلا يسرى إلى الشرعيات.

استدلال النافين بالسنة

فهي مع كثرتها تنقسم إلى أقسام (منها) ما يدل على عدم جواز العمل بالخبر إلّا إذا وجد شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من قوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدق مضمون الخبر وهذا أيضا مضمون ما دل على عدم جواز الأخذ إلّا بما وافق كتاب الله ، وغير خفي على الخبير انه إذا وجد شاهد أو شاهدان من الكتاب والسنة على حكم مطابق لمضمون الخبر فلا حاجة عندئذ على الخبر الوارد في المقام.

١٧٥

فلا مناص (ح) عن حملها على مورد التعارض ، والترجيح بموافقة الكتاب والسنة ، فتقع تلك الطائفة في عداد الاخبار العلاجية ، ويكون من أدلة حجية الخبر الواحد في نفسه عند عدم المعارض ، و (منها) ما يدل على طرح الخبر المخالف للكتاب ، والتدبر في هذه الطائفة يعطى كونها آبية عن التخصيص ، (وعليه) فلو قلنا بعمومها وشمولها لعامة أقسام المخالفة من الخصوص المطلق ومن وجه والتباين الكلي ، يلزم خلاف الضرورة ، فان الاخبار المقيدة أو المخصصة للكتاب قد صدرت من النبي والخلفاء من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا شك ، فلا بدّ من حملها على المخالف بالتباين الكلي ، و (توهم) ان الكذب على رسول الله والخلفاء من بعده على وجه التباين الكلي لا يصدر من خصمائهم ، لظهور بطلان مزعمته ، مدفوع بان الفرية إذا كان على وجه الدس في كتب أصحابنا يحصل لهم في هذا الجعل والبهتان كل مقاصدهم ، من تضعيف كتب أصحابنا ، بإدخال المخالف لقول الله ورسوله فيها حتى يشوهوا سمعة أئمة الدين بين المسلمين ، وغيرهما من المقاصد الفاسدة التي لا تحصل إلّا بجعل أكاذيب واضحة البطلان

 (ومنها) ما دل على طرح غير الموافق وهو يرجع إلى المخالف عرفا ثم ان الاستدلال بهذه الروايات فرع كونها متواترة الوصول إلينا في تمام الطبقات ، فثبوت التواتر في بعض الطبقات لا يفيد ، ولكن التواتر على هذا الوصف غير ثابتة فان عامة الروايات منقولة عن عدة كتب لم نقطع بعدم وقوع النسيان والاشتباه فيها ، ثم لو سلم كونها متواترة الوصول من قرون الصادقين إلى عصر أصحاب الكتب فلا محالة يصير التواتر إجماليا ، و (عليه) لا بد من الأخذ بالقدر المتيقن وهو الأخص من الجميع ، والمتيقن من المخالفة ليس إلّا التباين الكلي أو العموم من وجه (على تأمل) واما المخالفة على النحو العموم المطلق فليست مخالفة في محيط التقنين ، على ما عرفت من صدور الاخبار المخصصة والمقيدة عنهم صلوات الله عليهم بالضرورة فكيف يحمل عليها هذه الروايات (١)

__________________

(١) لا يخفى انه لو أردنا استقصاء مفاد الروايات لطال بنا الكلام ، ونحن نذكر فذلكة الروايات التي أوردها صاحب الوسائل في الباب ٩ من أبواب القضاء ، وما ذكره (قدس‌سره) تحت هذه الأرقام أو ١٩ و ٢٠ و ٢٤ و ٤٣ راجع إلى علاج الخبرين المتعارضين كما ان الرواية ١١ و ٣٨ و ١٩ يرجع حاصله إلى رد الخبر المخالف الّذي عرفت حالته ، كما ان الخبر ١٥ و ٥٠ يرجع إلى رد ما لا يوافقه وهو أعم من المخالفة ، ويمكن رد هذا العنوان إليه أيضا ، فلا يبقى في الباب ما يفيد القطع لعدم حجية الخبر الواحد بنفسه فراجع (منه عفي عنه)

١٧٦

أدلة القائلين بالحجية

استدل المثبتون بوجوه من الآيات والاخبار والإجماع وغيرهما ، اما الآيات فمنها ، قوله تعالى : في سورة الحجرات يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، والعمدة في الاستدلال به هو مفهوم الشرط ، ودفع كون الشرط محققاً للموضوع ، وقد قيل في تقريبه وجوه

 منها ما عن المحقق الخراسانيّ : (ان تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الّذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضى انتفائه عند انتفائه ، وعلى ذلك لا يكون الشرط مسوقا لتحقق الموضوع ولا يخفى انه مخالف لظاهر الآية ومنها ما عن بعض محققي العصر من ان الظاهر ان الشرط هو المجيء مع متعلقه أي مجيء الفاسق ، فيكون الموضوع نفس النبأ ولمفهومه مصداقان ، عدم مجيء الفاسق ، ومجيء العادل فلا يكون الشرط محققا للموضوع. واما إذا جعل الشرط نفس المجيء ، يكون الموضوع نبأ الفاسق ، فيصير الشرط محققا للموضوع. وفيه ان الظاهر بقاء الإشكال على حاله ، فان مفهوم قولك : ان جاءك الفاسق بنبإ ، انه إذا لم يجئك الفاسق بنبإ واما مجيء العادل مكانه ، فليس مذكورا في المنطوق حتى يعلم حكمه من المفهوم أضف إليه ان تعدد المصداق للمفهوم لا يتوقف على ما ذكره من كون الشرط هو مجيء الفاسق ، بل يتم لو كان الشرط هو المجيء ، والموضوع هو نبأ الفاسق ، فلانتفائه في الخارج مصداقان ، عدم مجيء النبأ أصلا ، ومجيء العادل بالنبإ. ومع ذلك كله ، فالمرجع هو العرف وهو لا يساعده

 ويمكن تقريب المقام بوجه آخر وهو انه لا فرق في شمول العام لافراده بين كونها الافراد الذاتيّة أو العرضية إذا كانت القضية شاملة لها على وجه الحقيقية فكما ان الأبيض صادق علي نفس البياض لو فرض قيامه بذاته ، كذلك صادق على الجسم المعروض له مع ان صدق عليه تبعي لدى العقل الدّقيق لكنه حقيقية لدى العرف و (عليه) فلعدم مجيء الفاسق بالخبر فردان ، عدم المجيء بالنبإ أصلا ، لا من الفاسق ولا من العادل ، ومجيء العادل بالخبر والأول فرد ذاتي له ، والآخر عرضي ، فيشمل العام لهما فمفهوم الآية ان لم يجئ الفاسق بالخبر لا يجب التبين سواء جاء به العادل

١٧٧

وهو الفرد العرضي أو لم يجئ أصلا وهو الفرد الذاتي والعام يشملهما معا

 أضف إلى ذلك ان القضايا السالبة ظاهرة في سلب شيء عن شيء مع وجود الموضوع ، لا في السلب باعتبار عدم الموضوع ولو حمل المفهوم على المصداق الذاتي وهو عدم الإتيان بالخبر أصلا ، تصير السالبة صادقة باعتبار عدم الموضوع ، ولو حمل على إتيان العادل بالخبر تصير من السوالب المنتفي محمولها مع وجود الموضوع وهو أولى ، و (فيه) ان الأمر في المثال والممثل متعاكس ، وهو ان البياض مصداق للأبيض عند العقل دون العرف ، ولكن عدم إتيان الفاسق بالنبإ مصداق ذاتي للمفهوم عند العقل والعرف ، واما مجيء العادل بالخبر فليس من مصاديق ذلك المفهوم عندهم ، وان فرض ان أحد الضدين ينطبق عليه عدم الضد الآخر ، ويكون مصدوقا عليه (لا مصداقا) حسب ما اصطلحه بعض الأكابر لكنه امر خارج عن المتفاهم العرفي الّذي هو المرجع في الباب.

واما ما ذكر من ظهور القضايا السالبة في سلب المحمول فانه يصح لو كانت القضية ، لفظية لا مفهوما من قضية منطوقة ، بالدلالة العقلية ، على انه لو فرض صب هذا المفهوم في قالب اللفظ ، لما فهم منه أيضا الا كون الشرط محققا للموضوع وانتفاء التبين باعتبار انتفاء موضوعه.

ثم انه لو فرض المفهوم للآية فلا دلالة فيه على حجية قول العادل وكونه تمام الموضوع للحجية ، لأن جزاء الشرط ليس هو التبين ، فان التبين انما هو بمعنى طلب بيان الحال ، وهو غير مترتب على مجيء الفاسق بنبإ لا عقلا ولا عرفا ، والجزاء لا بد ان يكون مترتبا على الشرط ، ترتب المعلول على العلة أو نحوه ، فلا بد من تقدير الجزاء بان يقال : ان جاءكم فاسق بنبإ فأعرضوا عنه أولا تقبلوه وأشباههما ، وانما حذف لقيامه مقامه و (ح) يصير المفهوم على الفرض ان جاءكم عادل بنبإ فلا تعرضوا عنه ، واعتنوا به وهو أعم من كونه تمام الموضوع أو بعضه ولعل للعمل به شرائط أخر إليه كضم آخر إليه أو حصول الظن بالواقع ونحوهما

 ثم ان بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) قد أفاد في تقريب الآية ما هذا حاصله : يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ ، والشرط هو مجيء الفاسق به ،

١٧٨

من مورد النزول ، فان مورده اخبار الوليد بارتداد بنى المصطلق ، فقد اجتمع في اخباره عنوانان كونه خبرا واحدا ، وكون المخبر فاسقا ، والآية وردت لإفادة كبرى كلية ليتميز الاخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها. وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا فيكون هو الشرط لا كون الخبر واحدا. ولو كان الشرط ذلك لعلق عليه لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد ، وجعل الشرط خبر الفاسق ، كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق ، ولا يتوهم ان ذلك يرجع إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الإيماء ، فان ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط ، وبالجملة لا إشكال في ان الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ، ولا بد ان يكون مورد النزول من صغرياتها. وإلّا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية ، فيكون مفاد الآية بعد ضم المورد إليها : ان الخبر الواحد ان كان الجائي به فاسقا فتبينوا. فتصير ذات مفهوم (انتهى).

وفيه مواقع من النّظر (منها) : ان كون مورد النزول هو اخبار وليد الفاسق لا يصحح كون الموضوع هو النبأ وان الشرط هو مجيء الفاسق وانه غير مسوق لتحقق الموضوع إذ غاية ما يمكن ان يقال انه مسوق لإعطاء القاعدة الكلية في مورد الفاسق ، واما بيان الضابطة لمطلق الخبر ، وظهورها في إفادة الكبرى الكلية ليتميز الاخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها فلا يستفاد منها.

و (منها) ان ما أفاده من انه اجتمع في أخباره عنوانان : كونه خبر الواحد ، وكون المخبر فاسقا بيان لمفهوم الوصف دون الشرط الّذي هو بصدد بيانه ، ضرورة انه لم يعلق وجوب التبين في الآية على كون المخبر فاسقا حتى يصح ما ادعاه من كون الموضوع هو النبأ والشرط كون المخبر فاسقا بل علق على مجيء الفاسق بالخبر ومن المعلوم ان الشرط (ح) محقق للموضوع ولا مفهوم له ، واما التمسك بمفهوم الوصف فمع انه خارج عن محل الكلام ، غير صحيح لبناء المفهوم على استفادة الانحصار من القيود وهي في جانب الوصف بعيد ، على انه يمكن ان يكون ذكر الوصف (الفاسق) قد سيق

١٧٩

لغرض آخر غير المفهوم وهو التنبيه على فسق الوليد ، فكون مورد النزول أخبار لوليد مانع عن دلالة الآية على المفهوم لا موجب له كما أفاد واما ما أفاده من تأييد كون الآية بمنزلة الكلية : من ان المورد من صغرياتها وإلّا يلزم إخراج المورد فلا يخلو عن خلط ، فان كون المورد من صغرياتها ، لا يستلزم كونها بصدد إعطاء الضابطة في مطلق الخبر ، بل يصح لو كانت بصدد إعطاء القاعدة لخبر الفاسق ويصير المورد من مواردها من غير إخراج المورد ، ولا ثبوت مفهوم.

جولة في الإشكالات المختصة بالآية

منها ان المفهوم على تقدير ثبوته معارض لعموم التعليل في ذيل الآية فان الجهالة هي عدم العلم بالواقع وهو مشترك بين أخبار الفاسق والعادل ، فالتعليل بظاهره يقتضى التبين عن كلا القسمين فيقع التعارض بينهما والتعليل أقوى في مفاده ، خصوصا في مثل هذا التعليل الآبي عن التخصيص ، فعموم التعليل لأقوائيته يمنع ظهور القضية في المفهوم فلا يصل النوبة إلى ملاحظة النسبة فانها فرع المفهوم وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) ان الإنصاف انه لا وقع له اما أولا فلان الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه ، ولا شبهة في جواز الركون إلى خبر العادل دون الفاسق ، فخبر العادل خارج عن العلة موضوعا

واما ثانيا. فعلى فرض كونها بمعنى عدم العلم بمطابقة الخبر ، للواقع يكون المفهوم حاكما على عموم التعليل لأن أقصى ما يدل عليه التعليل هو عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضى إلغاء احتمال الخلاف ، وجعل خبر العادل محرزا للواقع ، وعلما في مقام التشريع ، فلا يعقل ان يقع التعارض بينهما ، لأن المحكوم لا يعارض الحاكم ، ولو كان ظهوره أقوى لأن الحاكم متعرض لعقد وضع المحكوم اما بالتوسعة أو التضييق (فان قلت) ان ذلك فرع ثبوت المفهوم ، والمدعى ان عموم التعليل مانع عن ظهور القضية فيه (قلت) المانع منه ليس إلّا توهم المعارضة بينهما ، وإلّا فظهورها الأولى فيه

١٨٠