تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

بشيء ، فلا محالة يرجع إلى ما هو صالح له وهو الاسم الظاهر ويأتي فيها ما تقدم من البيان فتذكر.

ومنها : ما إذا تكرر الاسم الظاهر كما لو قال أكرم العلماء وأضف التجار وألبس الفقراء الا الفساق منهم ، والحق انه محتمل غير ظاهر في رجوعه إلى الجميع أو الأخير فقط ، وربما يقال : بان الظاهر رجوعه إلى الأخيرة لأن تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب أخذ الاستثناء محله من الكلام وأنت خبير بان ذلك لا يرجع إلى محصل بل التحقيق ان المستثنى ان اشتمل على الضمير يكون الاستثناء تابعا له في السعة والضيق ، وبما ان كل جملة مشتملة على الاسم الظاهر يكون الضمير قابلا للعود إلى الأخيرة والجميع ، من غير تأول ولا تجوز ويتبعه الاستثناء ولو لم يشتمل فيحتمل الأمرين لانطباق عنوان المستثنى على الجميع ، (هذا) ولو لم نقل بان رجوع الضمير وانطباق العنوان على الجميع ، أظهر لدى العرف ، فلا أقل من المساواة احتمالا.

ومنها : ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسطة على الاسم الظاهر أيضا وما بعد ـ ها على الضمير الراجع إليه مثل قولك ـ أكرم العلماء وسلم عليهم ، وأضف التجار وأكرمهم إلا الفساق منهم ، فيحتمل الرجوع إلى الجملة المتوسطة المشتملة على الاسم الظاهر وما بعده أو إلى الجميع ، والظاهر عدم الترجيح بينهما وبقي هنا صور أخرى يظهر حالها مما قدمناه.

ثم انه إذا لم يظهر رجوعه إلى الجميع أو الأخيرة بعد اليقين بان الأخيرة من الجمل مخصصة قطعا لأن عودها إلى غيرها وصرفه عنها خلاف قانون المحاورة ، ربما يقال بجواز التمسك بأصالة العموم في سائر الجمل مطلقا ، وربما يفصل بين احتياج العموم إلى مقدمات الحكمة وعدمه فلا يتمسك في الأصل دون الثاني ، ولكن الحق عدم جواز التمسك بأصالة العموم مطلقا ، لعدم إحراز بناء العقلاء على العمل بها فيما حف الكلام بما يصلح للقرينية وتقييد مدخول أداة العموم وأصالة العموم بما هي حجة وكاشفة عن تطابق الإرادتين ، لم تحرز في المقام (فحينئذ) يصير الكلام مجملا

٦١

و (ما قيل) ان ذلك مخل بغرض المتكلم مدفوع بإمكان تعلق غرضه بإلقاء المجملات وإلّا لوجب عدم صدور المتشابهات والمجملات منه وهو كما ترى وما قيل انه لا قصور في الأخذ بإطلاق الاستثناء والمستثنى لو لا كون ظهور العام وضعيا ووارداً على الإطلاق ومعه لا مجال لقرينية الإطلاق لأنه دوري نعم لو كان العام في دلالته علي العموم بمئونة الإطلاق لم يكن وجه للتقديم. (مدفوع)

اما أولا فلان حكم الاستثناء في الرجوع إلى الجميع أو الأخير يتبع ضميره المشتمل عليه ان اشتمل عليه فالإطلاق في الاستثناء تابع لضميره ، ولا يعقل ان يكون الإطلاق مشخصا لمرجع الضمير وإلّا لزم الدور ، وثانيا ان العموم وان كان وضعيا لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة لكن لا يحتج به بمجرده ، ما لم يحرز بالأصل العقلائي ان الجد مطابق للاستعمال وقد عرفت عدم إحراز بناء العقلاء على التمسك به في مثل الكلام المحفوف بما يصلح لتقييد ما دخله أداة العموم (هذا) وكذا الكلام فيما لم يكن المستثنى مشتملا على الضمير. سواء قلنا ان الضمير منوي أم لا ، لعدم كون أصالة الجد محرزة وبقيت هاهنا أبحاث طفيفة لا يهمنا التعرض لها

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

عرف المطلق بأنه ما دل على معنى شايع في جنسه والمقيد بخلافه وهذا التعريف وان اشتهر بين الاعلام إلّا انه يرد عليه أمور.

منها ان الظاهر من هذا التعريف ان الإطلاق والتقييد من أوصاف اللفظ مع انهما من صفات المعنى ضرورة ان نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون متقيدة وان شئت قلت : ان الداعي لتعلق الأحكام بعناوينها هو اشتمالها على مصالح ومفاسد ملزمة أو غير ملزمة ، وهي قد تترتب على نفس الطبيعة وقد تترتب على المقيد بشيء ، فيصير الموضوع مع قطع النّظر عن اللفظ تارة مطلقا

٦٢

وأخرى مقيداً بل مع قطع النّظر عن الملاك يمكن تصوير الإطلاق والتقييد ، إذا الإنسان الأبيض مقيد والإنسان مطلق ، مع قصر النّظر على المعنى بلا رعاية لفظ أو ملاك.

ومنها ان الشيوع في جنسه الّذي جعل صفة المعنى ، يحتمل وجهين

الأول : ان يكون نفس الشيوع جزء مدلول اللفظ كما ان الذات جزء آخر ، فالمطلق يدل على المعنى والشيوع ، ولكنه بعيد غايته بل غير صحيح ، إذ لا يدل أسماء الأجناس على ذات الطبيعة ومفهوم الشيوع ، كيف والمطلق ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كل قيد يمكن تقييده به من غير دلالة على الخصوصيات والحالات وغير ذلك الثاني : ان يراد من الشيوع كونه لازم لمعنى بحسب الواقع لا جزء مدلول منه فالمطلق دال على معنى ، لكن المعني في حد ذاته شايع في جنسه أي مجانسه وافراده و (عليه) يصير المراد من الشيوع في الجنس هو سريانه في افراده الذاتيّة حتى يصدق بوجه انه شايع في مجانسه ، وإلّا فالجنس بالمعنى المصطلح لا وجه له ، و (لكنه) يوجب خروج بعض المطلقات عن التعريف المزبور ، مثل إطلاق افراد العموم في قوله سبحانه ـ أوفوا بالعقود وكذا الإطلاق في الاعلام الشخصية كما في قوله تعالى ـ وليطوفوا بالبيت العتيق ، وكذا الإطلاق في المعاني الحرفية ، على انه غير مطرد لدخول بعض المقيدات فيه كالرقبة المؤمنة فانه أيضا شايع في جنسه ، وما عن بعض أهل التحقيق في إدراج الاعلام تحت التعريف المشهور ، ـ من ان المراد سنخ الشيء المحفوظ في ضمن قيود طارئة سواء تحقق بين وجودات متعددة أو في وجود محفوظ في ضمن الحالات المتبادلة (لا يخلو عن تعسف بين)

فقد ظهر من هذا البيان عدة أمور الأول ان مصب الإطلاق أعم من الطبائع والاعلام الشخصية ، وتجد الثاني في أبواب الحج كثيرا ، في الطواف على البيت واستلام الحجر والوقوف بمنى والمشعر ، فما ربما يقال من ان المطلق هو اللابشرط المقسمي أو القسمي ليس بشيء وهناك (قسم ثالث) وهو الإطلاق الموجود في ناحية نفس الحكم كما تقدم في باب الواجب المشروط وتقدم ان القيود بحسب نفس

٦٣

الأمر تختلف بالذات بعضها يرجع إلى الحكم ولا يعقل إرجاعها إلى المتعلق وبعض آخر على العكس ، وعرفت ان معاني الحروف قابلة للإطلاق والتقييد ، فمصب الإطلاق قد يكون في الطبائع ، وقد يكون في الاعلام ، وقد يكون في الأحكام وقد يكون في الأشخاص والافراد.

الثاني : ان الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافية فيمكن ان يكون شيء مطلقا ومقيدا باعتبارين الثالث ان بين الإطلاق والتقييد شبه تقابل العدم والملكة فالمطلق ما لا قيد فيه مما شأنه ان يتقيد بذلك ، وما ليس من شأنه التقييد لا يكون مطلقا كما لا يكون مقيدا ، والتعبير بشبه العدم والملكة لأجل ان التقابل الحقيقي منه ما إذا كان للشيء قوة واستعداد يمكن له الخروج عن القوة إلى مرتبة الفعلية بحصول ما يستعد له ، والأمر هنا ليس كذلك الرابع ان مفاد الإطلاق غير مفاد العموم وانه لا يستفاد منه السريان والشيوع ولو بعد جريان مقدمات الحكمة ، بل الإطلاق ليس إلّا الإرسال عن القيد وعدم دخالته وهو غير السريان والشيوع.

في اسم الجنس وعلمه وغيرهما

غير خفي على الوفي ان البحث عنهما وعن توضيح الحال في الماهية اللابشرط واقسامها ومقسمها والفرق بين القسمي والمقسمي ، أجنبي عن مباحث الإطلاق والتقييد خصوصا على ما عرفت من ان الإطلاق دائما هو الإرسال عن القيد وليس المطلق هو الماهية اللابشرط القسمي أو المقسمي غير انا نقتفي أثر القوم في هذه المباحث فنقول.

واما أسماء الجنس كالإنسان والسواد وأمثالهما فالتحقيق انها موضوعة لنفس الماهيات العارية عن قيد الوجود والعدم وغيرهما حتى التقييد بكونها عارية عن كل قيد حقيقي أو اعتباري ، لأن الذات في حد ذاتها مجردة عن كافة القيود وزوائد الحدود ، (نعم)

 الماهية بما هي وان كان لا يمكن تصورها وتعقلها مجردة عن كافة الموجودات لكن

٦٤

يمكن تصورها مع الغفلة عن كافة الوجودات واللواحق ، واللاحظ في بدء لحاظه غافل عن لحاظه ، غير متوجه الا إلى مراده ومعقوله ، إذ لحاظ هذا اللحاظ البدئي يحتاج إلى لحاظ آخر ولا يمكن ان يكون ملحوظا بهذا اللحاظ (فلا محالة) تصير لحاظ الماهية مغفولا عنه وبما ان غرض الواضع وهدفه إفادة نفس المعاني ، يكون الموضوع له نفس الماهية لا بما هي موجودة في الذهن ، هذا واللفظ موضوع لنفس الماهية بلا لحاظ السريان والشمول وان كانت بنفسها سارية في المصاديق ومتحدة بها لا بمعنى انطباق الماهية الذهنية على الخارج بل بمعنى كون نفس الماهية متكثرة الوجود ، توجد في الخارج بعين وجود الافراد.

ومما يقضى منه العجب ، ما أفاده بعض الأعيان المحققين في (تعليقته) وملخص كلامه «انه لا منافاة بين كون الماهية في مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللابشرط القسمي ، وكون الموضوع له هو ذات المعنى فقط ، فالموضوع له نفس المعنى ، لا المعنى المطلق بما هو مطلق ، وان وجب لحاظه مطلقا تسرية للوضع ، ومثله قوله : أعتق رقبة ، فان الرقبة وان لوحظت مرسلة لتسرية الحكم إلى جميع افراد موضوعه ، إلّا ان الذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة ، لا عتق اية رقبة».

وفيه : ان الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سراية الوضع إلى الافراد ، ويكون لحاظ الواضع لغواً بلا أثر ، إلّا ان يجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وكذا إذا كان موضوع الحكم نفس الطبيعة ، لا يعقل سرايته إلى خصوصيات الافراد سواء لاحظ الحاكم افرادها أم لا ، فما أفاده في كلا المقامين منظور فيه.

في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة

ان من التقسيم الدائر بينهم انقسام الماهية إلى لا بشرط وبشرط شيء وبشرط لا ثم انه اختلف كلمات الأعاظم في تعيين المقسم وان الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي

٦٥

ما هو؟ ويظهر من بعضهم : ان المقسم هو نفس الماهية وهذه الاعتبارات واردة عليها كما يفصح عنه قول الحكيم السبزواري (١) (قدس‌سره) ومحصل هذا الوجه ان انقسام النوع والجنس والفصل إلى الثلاثة بالاعتبار ، وكذا افتراق الثلاثة باللحاظ أيضا ، وان الماهية إذا لوحظت مجردة عما يلحق بها تكون بشرط لا وإذا لوحظت مقترنة بشيء تكون بشرط شيء ، وإذا لوحظت بذاتها لا مقترنة ولا غير مقترنة تكون لا بشرط شيء والفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي هو كون اللابشرطية قيدا في الثاني دون الأول ، كما هو الفرق بين الجنس والمادة والنوع فان لوحظ الحيوان لا بشرط يكون جنسا ، وان لوحظ بشرط لا ، تكون مادة ، وان لوحظ بشرط شيء يكون نوعا وقد اغتر بظاهر كلماتهم أعاظم فن الأصول ووقعوا في حيص وبيص في أقسام الماهية والفرق بين المقسمي والقسمي حتى ذهب بعضهم إلى ان التقسيم للحاظ الماهية لا لنفسها

 هذا لكن حسن ظني بأهل الفن في هذه المباحث ، يمنعني ان أقول ان ظاهر هذه الكلمات مرادة لهم ، وانهم اقترحوا هذا التقسيم وما شابهه في مباحث الجنس والفصل من غير نظر إلى عالم الخارج ونظام الكون ، وكان غرضهم هو التلاعب بالمفاهيم والاعتبارات الذهنية من دون ان يكون لهذه الأقسام محكيات في الخارج أضف إلى ذلك أن ملاك صحة الحمل وعدم صحتها عندهم هو كون الشيء المحمول لا بشرط وبشرط لا ، ولو كان هذا الملاك امراً اعتباريا لزم كون اعتبار شيء لا بشرط مؤثرا في الواقع ، ويجعل الشيء امراً قابلا للاتحاد والحمل ، ولزم من اعتباره دفعة أخرى بشرط لا ، انقلاب الواقع عما هو عليه ، والحاصل انه يلزم من اعتبار شخص واحد شيئا واحدا على نحوين ، اختلاف نفس الواقع كما يلزم من اعتبار اشخاص مختلفة صيرورة الواقع مختلفا بحسب اختلاف اعتبارهم فتكون ماهية واحدة متحدة مع شيء ولا متحدة معه بعينه ، (هذا) مع ان الغرض من هذه التقسيمات وكذا الحمل هو حكاية الواقع ونفس الأمر لا التلاعب بالمفاهيم واختراع أمور ذهنية ، ومن ذلك يظهر ضعف ما ربما يقال من ان المقسم ليس هو نفس الماهية بل لحاظ الماهية أو الماهية الملحوظة ويقرب عنه ، ما أفاده بعض الأعيان في تعليقته الشريفة فراجع وليت

__________________

(١) مخلوطة ، مطلقة ، مجردة

عند اعتبارات عليها واردة

٦٦

شعري أي فائدة في تقسيم لحاظ اللاحظ ، ثم أي ربط بين تقسيمه وصيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل وعدمها والّذي يقتضيه النّظر الدّقيق ولعله مراد القوم هو ان كل المباحث المعنونة في أبواب الماهية من المعقولات الثانية انما هي بلحاظ نفس الأمر وان الماهية بحسب واقعها الأعم من حد الذات أو مرتبة وجودها لها حالات ثلاثة ، لا تتخلف عن واقعها ولا يرجع قسم منها إلى قسم آخر وان لوحظ على خلاف واقعه الف مرات حتى ان الاختلاف الواقع بين المادة والجنس والنوع واقعي لا اعتباري

 اما انقسام الماهية بحسب نفس الأمر إلى أقسام ثلاثة فلأنها إذا قيست إلى أيّ شيء فاما ان يكون ذلك الشيء لازم الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها كالتحيز بالنسبة إلى الجسمية والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، وهذه هي الماهية بشرط شيء ، واما ان يكون ممتنع الالتحاق بحسب وجودها أو ذاتها كالتجرد عن المكان والزمان بالنسبة إلى الجسم والفردية إلى الأربعة وهذه هي الماهية بشرط لا ، واما ان يكون ممكن الالتحاق كالوجود بالنسبة إلى الماهية والبياض إلى الجسم الخارجي فهذه هي الماهية اللابشرط فالماهية بحسب نفس الأمر لا تخلو عن أحد هذه الأقسام ، ولا يتخلف عما هو عليه بورود الاعتبار على خلافه ، وبهذا يخرج الأقسام عن التداخل إذ لكل واحد حد معين لا ينقلب عنه إلى الآخر ويتضح الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي لأن المقسم نفس ذات الماهية وهي موجودة في جميع الأقسام ، واللابشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الأمر ومضاد لهما ، (والحاصل) ان مناط صحة التقسيم هي الواقع لا اعتبار المعتبر فالماهية ان امتنع تخلفها عن مقارنها في واحد من مراتب الواقع فهي بالنسبة إليه بشرط شيء وان امتنع لها الاتصاف به فهي بالنسبة إليه بشرط لا ، وان كان له قابلية الاتصاف واستعداده من غير لزوم ولا امتناع فهي بالنسبة إليه لا بشرط كالأمثلة المتقدمة ، وما ذكرنا وان لم أر التصريح به بل مخالف لظواهر كلماتهم إلّا انه تقسيم صحيح دائر في العلوم لا يرد عليه ما أوردناه على ظواهر أقوالهم ، (نعم) هذا التقسيم انما هو للماهية بحسب نفسها ، ولكن يمكن ان يجري في الماهية الموجودة بل يمكن

٦٧

إجرائه في نفس وجودها وقد أجراه بعض أهل الذوق في بعض العلوم في حقيقة الوجود ولا يقف على مغزاه الا من له قدم راسخ في المعارف الإلهية

 واما كون الاختلاف بين المادة والجنس والنوع امرا واقعيا فتفصيله وان كان موكولا إلى محله وأهله إلّا ان مجمله ما يلي وهو ان تقسيم الماهية إلى الأجناس والفصول بلحاظ الواقع ونفس الأمر وأن الاختلاف بين المادة والجنس والنوع واقعي ، والمادة متحدة مع الصورة التي تبدلت إليها والتركيب بينهما اتحادي وتكون المادة المتحدة بالصورة والصورة المتحدة معها نوعا من الأنواع والمادة التي قابلة لصورة أخرى تكون منضمة إلى الصورة الموجودة ، والتركيب بينهما انضمامي لا اتحادي وتكون تلك المادة بالنسبة إلى الصورة المتحققة بشرط لا لعدم إمكان اتحادها بها وبالنسبة إلى الصورة التي تستعد لتبدلها إليها لا بشرط شيء لإمكان تبدلها بها ، مثلا المادة التي تبدلت بصورة النواة وصارت فعليتها متحدة معها تركيبهما اتحادي بل إطلاق الاتحاد أيضا باعتبار ظرف التحليل والتكثر وإلّا فبعد صيرورة القوة النواتية فعلية لا تكون في الخارج الا فعليتها والقوة ليست بحدها موجودة فيها وان كانت الفعلية واجدة لها وجدان كل كمال للضعيف والمادة المستعدة في النواة لقبول صورة الشجر تكون منضمة إلى الصورة النواتية وتركيبهما انضمامي لا اتحادي وتكون لا بشرط بالنسبة إلى الصورة الشجرية لإمكان اتحادها بهما وبشرط لا بالنسبة إلى تلك الصورة الشخصية النواتية المتحققة لعدم إمكان اتحادها معها ، فتحصل ان في النواة مادة متحدة ومادة منضمة ومأخذ الجنس والفصل والنوع هو الواقع المختلف بحسب نفس الأمر ، فلا يكون شيء من اعتبارات الماهية لا في باب الأجناس والفصول والمواد والصور ولا في باب الأقسام الثلاثة لها ، اعتباراً جزافاً وتلاعبا محضا هذا ولكن تفصيل هذه المباحث يطلب من مقاره وعند أهله هذا وقد مر ما ينفعك في المقام في بحث المشتق.

٦٨

البحث في علم الجنس

وهو كأسامة وثعالة ، فلا إشكال في انه يعامل معه معاملة المعرفة فيقع مبتدأ وذا حال ويوصف بالمعرفة والمنقول هنا في إجراء أحكام المعرفة عليه ، (وجهان) (الأول) ان تعريفه تعريف لفظي كالتأنيث اللفظي ومفاده عين مفاد اسم الجنس بلا فرق بينهما ، (الثاني) انه موضوع للطبيعة لا بما هي هي بل بما هي متصورة ومتعينة بالتعين الذهني ، وأورد عليه (المحقق الخراسانيّ) من انه يمتنع (ح) ان ينطبق على الخارج ويحتاج إلى التجريد عند الاستعمال ، ويصير الوضع لغواً ، وأجاب عنه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بان اللحاظ حرفي لا اسمي وهو لا يوجب امتناع انطباقه على الخارج ، و (فيه) ان كون اللحاظ حرفيا لا يخرجه عن كون موطنه هو الذهن ، فلا محالة يتقيد الطبيعة بأمر ذهني وان كان مرآة للخارج ولكن ما ينطبق على الخارج هو نفس الطبيعة ، لا المتقيدة بأمر ذهني ، وكون اللحاظ مرآتيا ليس معناه عدم تقيدها به أو كون وجوده كعدمه ، إذ بأي معنى فسر هذا اللحاظ فلا محالة يكون علم الجنس متقوما به حتى يفترق عن اسمه ، والمتقوم بأمر ذهني لا ينطبق على الخارج ويمكن ان يقال ان الماهية في حد ذاتها لا معرفة ولا نكرة ، لا متميزة ولا غير متميزة ، بل تعد هذه من عوارضها كالوجود والعدم لأن التعريف في مقابل التنكير عبارة عن التعين الواقعي المناسب لوعائه والتنكير عبارة عن اللاتعين كذلك ، على ان واحداً من التعريف والتنكر لو كان عين الطبيعة أو جزئها يمتنع عروض الآخر عليها (فحينئذ) لا بأس بان يقال ان اسم الجنس موضوعة لنفس الماهية التي ليست معرفة ولا نكرة ، وعلم الجنس موضوع للماهية المتعينة بالتعين العارض لها متأخراً عن ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها و (بالجملة) اسم الجنس موضوع لنفس الماهية ، وعلم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متميزة من عند نفسها بين المفاهيم ، وليس هذا التميز والتعين متقوما باللحاظ بل بعض المعاني بحسب الواقع معروف معين ، وبعضها منكور غير معين ، وليس المراد من التعين هو التشخص الّذي

٦٩

يساوق الوجود حتى يصير كالأعلام الشخصية بل المراد منه التعين المقابل للنكارة فنفس طبيعة الرّجل لا تكون نكرة ولا معرفة فكما ان النكارة واللاتعين تعرضها كذلك التعريف والتعين ، فالتعريف المقابل للتنكير غير التشخص فظهر ان الماهية بذاتها لا معروف ولا منكور ، وبما انها معنى معين بين سائر المعاني وطبيعة معلومة في مقابل غير المعين ، معرفة ، (فأسامة موضوعة لهذه المرتبة ، واسم الجنس لمرتبة ذاتها) ، وتنوين التنكير يفيد نكارتها ، واللاتعين ملحق بها كالتعين ثم الظاهر ان اللام وضعت مطلقا للتعريف وان إفادة العهد وغيره بدال آخر فإذا دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما وأفادت الاستغراق لأن غير الاستغراق من ساير المراتب لم يكن معينا والتعريف هو التعيين وهو حاصل مع استغراق الافراد لا غير وما ذكرنا في علم الجنس غير بعيد عن الصواب وان لم يقم دليل على كونه كذلك لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عن الأذهان

الكلام في النكرة

 فالظاهر انها دالة بحكم التبادر على الطبيعة اللامعينة أي المتقيدة بالوحدة بالحمل الشائع ، لكن بتعدد الدال فالمدخول دال على الطبيعة ، والتنوين على الوحدة ، و (عليه) فهي كلي قابل للصدق على الكثيرين سواء وقع في مورد الاخبار نحو جاءني رجل أم في مورد الإنشاء نحو جئني برجل وما يقال من ان الأول جزئيّ لأن نسبة المجيء إليه قرينة على تعينه في الواقع ضرورة امتناع صدور المجيء عن الرّجل الكلي غير تام لأن المتعين الّذي يستفاد عن القرينة الخارجية كما في المقام ، لا يخرج النكرة عن الكلية ومن هنا يظهر النّظر في كلمات شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.

القول في مقدمات الحكمة

قد عرفت ان الإطلاق في مقام الإثبات عبارة عن كون الشيء تمام الموضوع

٧٠

للحكم ، إذا كان مصب الإطلاق نفس المتعلق أو الموضوع أو كون الحكم مرسلا عن القيد ، إذا كان مصبه نفس الحكم وعلى أي حال ، لا يحتاج إلى لحاظ السريان والشياع ، إذ فيه مضافا إلى انه امر غير مفيد في حكاية الطبيعة عن الافراد كما مر ، انه لا وجه لهذا اللحاظ ، بل الإطلاق ينعقد بدونه ، ويتم الحجة وان لم يكن المقنن لاحظا سريانه فلا مجال لما أفاده المحقق الخراسانيّ من ان مقدمات الحكمة تثبت الشياع والسريان ومار بما يتوهم من لزوم لحاظ حالات الطبيعة بمعنى ثبوت الحكم عند كل حالة وحالة ، لامتناع الإهمال الثبوتي ، (مدفوع) بما حققناه في مبحث الترتب (فراجع) والأولى صرف عنان البحث إلى مقدمات الحكمة المعروفة وهي ثلاثة نبحث عن كل واحدة مستقلا.

الأولى إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، والظاهر لزوم وجود هذه المقدمة في الإطلاق ، ضرورة ان الدواعي لإلقاء الحكم مختلفة ، فربما يكون الداعي ، هو الإعلان بأصل وجوده ، مع إهمال وإجمال ، فهو (ح) بصدد بيان بعض المراد ومعه كيف يحتج به على المراد وربما يكون بصدد بيان حكم آخر (وعليه) لا بد من ملاحظة خصوصيات الكلام المحفوف بها ، ومحط وروده وانه في صدد بيان أي خصوصية منها فربما يساق الكلام لبيان إحدى الخصوصيات دون الجهات الأخر ، فلا بدّ من الاقتصار في أخذ الإطلاق على المورد الّذي أحرزنا وروده مورد البيان ولذلك يجب إعمال الدقة في تشخيص مورد البيان (هذا) وقد خالف في لزوم هذه المقدمة شيخنا العلامة (قده) حيث ذهب إلى عدم لزوم إحراز كونه في مقام بيان مراده مستدلا بأنه لو كان المراد هو المقيد تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة وانما ينسب إلى الطبيعة بالتبع وظاهر قول القائل جئني برجل هو ان الإرادة متعلقة بالطبيعة أولا وبالذات ، وليس المراد هو المقيد (انتهى) وفيه : انه غير تام لأن ما ذكره من ظهور الإرادة في الأصلية لا التبعية ، مستفاد من هذه المقدمة إذ لولاها فما الدليل على ان المقيد غير مراد وان المراد بالأصالة الطبيعة ، إذ يحتمل (لو لا هذه المقدمة) ان هنا قيداً لم يذكره المولى ، فإحراز كون الطبيعة واردا

٧١

مورد الإرادة بالأصالة فرع إحراز كونه في مقام البيان دون الإهمال والإجمال لأن هذا ليس ظهورا لفظيا مستنداً إلى الوضع بل هو حكم عقلائي بان ما جعل موضوع الحكم هو تمام مراده لا بعضه ولا يحكم العقلاء به ولا يتم الحجة الا بعد تمامية هذه المقدمة فيحتج العقلاء عليه بان المتكلم كان في مقام البيان ، فلو كان شيء دخيلا في موضوعيته له كان عليه البيان فجعل هذا موضوعا فقط يكشف عن تماميته.

المقدمة الثانية : وهي عدم وجود قرينة معينة للمراد ولا يخفى انها محققة لمحل البحث ، لأن التمسك بالإطلاق عند طريان الشك ، وهو مع وجود ما يوجب التعيين مرتفع فلو كان في المقام انصراف أو قرينة لفظية أو غيرها ، فالإطلاق معدوم فيه بموضوعه ، و (بالجملة) فهي محققة لموضوع الإطلاق لا من شرائطه ومقدماته.

المقدمة الثالثة : عدم وجود قدر متيقن في البين حتى يصح اتكال المولى عليه ، و (الظاهر) ان هذه المقدمة غير محتاجة سواء فسرنا الإطلاق بما تقدم ذكره أو بما عليه المشهور من جعل الطبيعة مرأة لجميع افرادها (اما على المختار) لأن القدر المتيقن انما يضر في مورد يتردد الأمر بين الأقل والأكثر بان يتردد بين تعلق الحكم ببعض الافراد أو جميعها ، مع ان الأمر في باب الإطلاق ليس كذلك بل هو دائر بين تعلق الحكم بنفس الموضوع من غير دخالة شيء آخر فيه أو بالمقيد ، فيدور الأمر بين كون الطبيعة تمام الموضوع أو المقيد تمامه فإذا كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلا ، ومع دخالته يكون الموضوع هو المقيد بما هو مقيد ، ولا يكون ذات الموضوع محكوماً والقيد محكوماً آخر حتى يكون من قبيل الأقل والأكثر ، وكذا لو جعل المتقيد موضوعا وشك في دخالة قيد آخر لا يكون من قبيلهما فلا يدور الأمر بين الأقل والأكثر في شيء من الموارد حتى يعتبر انتفاء القدر المتيقن ، هذا كله على المختار في باب الإطلاق من عدم كون الطبيعة مرآة للافراد ، ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيات وحالاتها وعوارضها ، و (اما) إذا قلنا بمقالة المشهور من جعلها مرسلة ومرآة لجميع الافراد ، والمقيد عبارة عن جعلها مرآتا لبعضها

٧٢

فلاعتبار انتفائه من المقدمات وجه ، و (لكنه) أيضا لا يخلو من إشكال

 وتوضيحه. ان مبنى الإطلاق ، لو كان هو لحاظها مرآتاً للكثرات فلا معنى لجعلها مرآتا لبعض دون بعض مع كون جميع الافراد متساوية الإقدام في الفردية ، وعدم قيام دليل صالح لقصر المرآتية على المتيقن من الانصراف القطعي فلو فرضنا سبق السؤال عن المعاطاة قبل الجواب بان الله أحل البيع ، لما يضر هذا المتيقن بالإطلاق ، و (بالجملة) كونها مرآة لبعضها لا يصح إلّا مع القيد ، وإلّا فيحكم لعقلاء بان موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق لا المتقيدة ، و (لهذا) ترى ان العرف والعقلاء لا ـ يعتنون بالقدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره ما لم يصل إلى حد الانصراف فتدبر.

إشكال ودفع

ربما يتوهم ان ورود القيد على المطلق بعد برهة من الزمن ، يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، وانخرام هذه المقدمة التي قد عرفت انها روح الإطلاق ، يوجب عدم جواز التمسك به في سائر القيود المشكوك فيهما ، والجواب ان المطلق كالعام مستعمل في معناه الموضوع له ، لأجل ضرب القانون وإعطاء الحجة ، والأصل هو التطابق بين الإرادتين ، فكما ان خروج فرد من حكم العام بحسب الجد ، لا يوجب بطلان حجية العام في البواقي (فهكذا) باب المطلق بحسب القيود لأن جعل الطبيعة في مقام البيان موضوعا لحكمه ، إعطاء حجة على العبد عند العقلاء على عدم دخالة قيد فيه ، لأجل أصالة التطابق بين الإرادتين «فحينئذ» لو عثرنا على قيد ، لا يوجب ذلك سقوطه عن الحجية ، وكون الكلام واردا مورد الإجمال والإهمال بالنسبة إلى سائر القيود ، ولذلك ترى العقلاء يتمسكون بالإطلاق وان ظفروا على قيد بعد برهة من الزمن ، وانما العثور على القيد يوجب انتهاء أمد حجية الإطلاق بالنسبة إلى نفى القيد المعثور عليه لا جميع القيود المشكوك فيها.

٧٣

حل عقدة

ربما يقال : ان التمسك بالإطلاق في نفى دخالة القيود ، انما يصح إذا وقع المطلق في كلام من عادته ، إلحاق قيود الكلام بأصوله كما هو الحال في الموالي العرفية ، واما المطلقات الواردة في محاورات من استقرت عادته على تفريق اللواحق عن الأصول وتفكيك المطلق عن مقيدة ، فساقطة عن مظان الاطمئنان ، لأنا علمنا ان دأب قائله جار على حذف ما له دخالة في موضوع الحكم عن مقام البيان ، والجواب : ان ما ذكره لا يوجب إلّا عدم جواز التمسك بالإطلاق قبل الفحص عن مقيدة ، واما التمسك به بعد الفحص بمقدار لازم ، فلا يمنع عنه هذا الدليل.

«تتميم»

 لا شك ان الأصل في الكلام كون المتكلم في مقام بيان كل ما له دخل في حكمه بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم وعليه جرت سيرة العقلاء في المحاجات ، (نعم) لو شك انه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر ، فلا أصل هنا لإحراز كونه في مقام هذا الحكم ، و (الحاصل) ان الأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم ، هو انه بصدد بيان كل ما له دخالة في موضوع حكمه في مقابل الإجمال والإهمال ، و (اما) كونه بصدد بيان هذا الحكم أو غيره ، فلا أصل فيه بل لا بد ان يحرز وجدانا أو بدليل آخر كشواهد الحال وكيفية الجواب والسؤال

في حمل المطلق على المقيد

إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يكونا متكفلين للحكم التكليفي أو الوضعي ، وعلى التقديرين فاما ان يكونا مثبتين أو نافيين أو مختلفين ، وعلى التقادير فاما ان يعلم وحدة التكليف أولا ، وعلى الأول فاما ان يعلم وحدته من الخارج أو من نفس الدليلين ، وعلى التقادير فاما ان يذكر السبب فيهما أو في واحد منهما أو لا يذكر ، وعلى الأول

٧٤

فاما ان يكون السبب واحدا ، أولا (ثم) الحكم التكليفي اما إلزاميّ في الدليلين أو غير إلزاميّ فيهما أو مختلف ، وعلى التقادير قد يكون الإطلاق والتقييد في الحكم ومتعلقه وموضوعه ، وقد يكونان في اثنين منهما وقد يكون في واحد ، فهذه جملة الصور المتصورة في المقام

 وقبل الشروع في أحكام الصور نشير إلى نكتة ، وهو ان محط البحث في الإطلاق والتقييد ، وحمل أحدهما على الآخر انما هو فيما إذا ورد المقيد منفصلا عن مطلقه ، واما المتصلين فلا مجال للبحث فيهما ، لأن القيد المتصل يمنع عن انعقاد الإطلاق حتى يكون من باب تعارض المطلق والمقيد ، لما عرفت : ان عدم القرينة من محققات موضوع الإطلاق ، و (بما ذكرنا) يظهر الخلط في كلام بعض الأعاظم ، حيث عمم البحث إلى الوصف والحال ، وقال ان ملحقات الكلام كلها قرينة حاكمة على أصالة الظهور في المطلق وقاس المتصلين بالقرينة وذي القرينة في ان ظهور القرينة حاكمة على ذي القرينة ثم قاس المقيد المنفصل بالمتصل

 قلت وفيه : اما أولا ، فلان باب الإطلاق ليس باب الظهور اللفظي ، حتى يقع التعارض بين الظهورين أو يقدم ظهور المقيد على ظهور المطلق ، بالحكومة ، بل الإطلاق دلالة عقلية ، والحكومة (كما سيوافيك ، بإذنه تعالى) من حالات لسان الدليل بان يتعرض لحال دلالة الدليل الآخر ، وثانياً : ان حكومة ظهور القرينة على ذي القرينة مما لا أساس لها ، ضرورة ان الشك في ذي القرينة لا يكون ناشئا من الشك في القرينة ، إذ في قوله : رأيت أسدا يرمي لا يكون الشك في المراد من الأسد ناشئا من الشك في المراد من يرمى كما ادعى القائل بل الشكان متلازمان فلا حكومة بينهما.

وثالثاً : ان قياس المقيد المنفصل بالمتصل ، مما لا وجه له ، إذ القياس مع الفارق لأن الإطلاق ينعقد مع انفصال القيد إذا أحرز كونه في مقام البيان ، واما القيد المتصل فهو رافع لموضوع الإطلاق ، فلا يقاس متصله بمنفصله ، واما وجه التقديم في المنفصلين فليس لأجل الحكومة بل المطلق انما يكون حجة ان لم يرد من المتكلم بيان وبعد

٧٥

ورود البيان ينتهى أمد الحجية لدى العقلاء وان شئت قلت : ظهور القيد في الدخالة أقوى من المطلق في الإطلاق وهذه الأظهرية ليست لفظية بل امرا يرجع إلى فعل المتكلم إذا جعل شيئا موضوعا ثم أتى بقيد منفصل كما ان تقديم ظهور القرينة على ذي القرينة للأظهرية أو مناسبات المقام لا للحكومة ، وسيوافيك حقيقة القول في هذه المباحث ، في التعادل والترجيح ، فتربص حتى حين

إذا عرفت ذلك : فنشرع في بيان مهمات الصور وأحكامها حتى يتضح حال غيرها.

الصورة الأولى : ما إذا كانا مختلفين بالنفي والإثبات وكان الحكم تكليفيا ، وهي على قسمين ، الأول : ما إذا كان المطلق نافيا ، والمقيد مثبتا نحو قولك لا تعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة بناء على ان قوله لا تعتق رقبة من قبيل المطلق لا العام كما هو المختار فلا ريب في حمله على المقيد لتحقق التنافي بينهما عرفا ، وذلك لما عرفت ان ترك الطبيعة انما يحصل عند العرف بترك جميع افرادها وان كان النّظر الدّقيق الفلسفي يقتضى خلافه كما مر (وعليه) فالتنافي بين حرمة مطلق الرقبة أو كراهتها ، وبين وجوب المؤمنة منها أو استحبابها ، ظاهر جدا والجمع العقلائي انما هو حمل مطلقها على مقيدها ، الثاني : عكس القسم الأول أي يكون المطلق مثبتا ، ومتعلقا للأمر ، والمقيد نافيا ومتعلقا للنهي (فحينئذ) تارة نعلم ان النهي تحريمي أو نعلم انه تنزيهي و (أخرى) لا نعلم ، فلو علمنا كون النهي تحريميا ، فلا ريب في حمله على المقيد لكونه طريقا وحيدا إلى الجميع في نظر العرف ولو عملنا ان النهي تنزيهي فهل يحمل على المقيد أولا (وجهان) أقواهما عدمه ، لأن الموجب للحمل هو تحقق التنافي في إنظار العرف حتى نحتال في علاجهما ، ومع إحراز كون النهي تنزيهيا أي مرخصاً في إتيان متعلقه فلا وجه لتوهم التنافي بل غاية الأمر ، يكون النهي إرشادا إلى أرجحية الغير أو مرجوحية متعلقه بالإضافة إلى فرد آخر ، فلو قال صل ولا تصل في الحمام وفرضنا ان

٧٦

النهي تنزيهي ، فلا شك ان مفاد الثاني هو ترخيص إتيانها فيه وانه راجح ذاتاً وصحيح لمكان الترخيص ، لكنه مرجوح بالإضافة إلى سائر الافراد ، ولا يلزم من ذلك اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد لما عرفت ان المرجوحية لأجل قياسها إلى سائر الافراد وفي المكان الخاصّ لا في حد ذاته ، و (بذلك) يظهر النّظر فيما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فراجع.

واما إذا كان كيفية دلالته مجهولة ولم نعلم انه للتنزيه أو للتحريم فللتوقف فيه مجال فان كل واحد يصلح ان يقع بيانا للآخر إذ النهي كما يمكن ان يكون بيانا لإطلاق المطلق ويقيد متعلق الأمر بمقتضى النهي ، (كذلك) يصلح ان يكون المطلق بيانا للمراد من النهي وانه تنزيهي ، و (الحاصل) ان الأمر دائر بين حمل النهي على الكراهة وحفظ الإطلاق ، وبين رفع اليد عن الإطلاق وحمله على المقيد (هذا) ولكن الأظهر هو حمل المطلق على المقيد وإبقاء النهي على ظهوره ، لأن التنافي كما هو عرفي كذلك الجمع عرفي أيضا ، ولا شك ان لحاظ محيط التشريع يوجب الاستئناس والانتقال إلى كونهما من باب المطلق والمقيد ، لشيوع ذلك الجمع وتعارفه بينهم ، واما جعل المطلق بيانا للنهي وان المراد منه هو الكراهة فهو جمع عقلي لا يختلج بباله لعدم معهودية هذا التصرف ويمكن ان يقال ان الهيئات بما هي معان حرفية لا يلتفت إليها الذهن حين التفاته إلى المطلق والمقيد والجمع بينهما وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة.

واما ما ربما يقال (في ترجيح ما اخترناه) من ان ظهور النهي في التحريم وضعي مقدم على الظهور الإطلاقي ، (غير تام) لما عرفت ان الوجوب والتحريم خارجان عن الموضوع له ، وان الهيئة لم توضع فيهما الا للبعث والزجر ، فأين الظهور اللفظي.

فان قلت ان هنا وجها آخر للجمع بينهما وقد أشار إليه بعض الأعاظم وجعل المقام من باب اجتماع الأمر والنهي على القول بكون المطلق والمقيد داخلين في ذاك الباب فلو قلنا بالجواز هناك يرفع التعارض بين المطلق والمقيد

٧٧

قلت : الفرق بين المقامين واضح ، فان التعارض هنا عرفي كجمعه ، والتعارض هناك عقلي ، وجمعه أيضا كذلك و (الحاصل) ان مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية غير مربوطة بالجمع بين الأدلة ، لأن مناط الجمع بينهما هو فهم العرف ، ولا شبهة في وقوع التعارض بين المطلق والمقيد عرفا ، وطريق الجمع عرفي لا عقلي فلا يكون أحد وجوه الجمع بين الأدلة ، الجمع العقلي وهذا واضح.

الصورة الثانية : ما إذا كان الدليلان مثبتين إلزاميين ، نحو قولك أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة (فحينئذ) إذا أحرزت وحدة الحكم فلا محيص عن الحمل لإحراز التنافي بإحراز وحدة الحكم ، ووجود الجمع العرفي «نعم» ، إذا كانت وحدة الحكم غير محرزة (فتارة) يحرز كون الحكم في المطلق على نفس الطبيعة ، ولا نحتمل دخالة قيد آخر في الموضوع ، غير القيد الّذي في دليل المقيد ، و (أخرى) نحتمل دخالة قيد آخر ، فعلى الأول يحمل المطلق على المقيد لا لما ربما يتراءى في بعض الكلمات من ان إحراز التنافي لأجل ان الحكم في المقيد إذا كان إلزاميا متعلقا بصرف الوجود فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق ، ومفاد دليل المطلق هو الترخيص بعتقه وبعبارة أخرى ان مفاد دليل المقيد دخالة القيد في الحكم ومفاد دليل المطلق عدم دخالته فيقع التنافي بينهما (انتهى) ، لأن التنافي بين الترخيص واللاترخيص ، ودخالة القيد ولا دخالته ، فرع كون الحكم في المقام واحدا ، فلو توقف إحراز وحدته عليه ، لدار (بل وجه التقديم) ، هو ان ملاحظة محيط التشريع وورود الدليلين في طريق التقنين ، توجب الاطمئنان بكونهما من هذا القبيل ، خصوصاً تكرر تقييد المطلقات من الشارع ، (نعم) الأمر في المستحبات على العكس ، فان الغالب فيها كون المطلوب متعددا وذا مراتب ، و (هناك) وجه آخر ، وهو ان إحراز عدم دخالة قيد آخر غير هذا القيد ، عين إحراز الوحدة عقلا لامتناع تعلق الإرادتين على المطلق والمقيد ، لأن المقيد هو نفس الطبيعة مع قيد ، عينية اللابشرط مع بشرط شيء ، فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع فيقع التنافي بينهما فيحمل المطلق على المقيد ولا ينافى ذلك ما مر من ان ميزان الجمع بين الأدلة هو العرف

٧٨

لأن إحراز وحدة الحكم انما هو بالعقل لا الجمع بين الدليلين والفرق بينهما ظاهر واما على الثاني أي ما لم نحرز عدم دخالة قيد آخر ، فيدور الأمر بين حمل المطلق علي المقيد ، ورفع اليد عن ظهور الأمر في استقلال البعث وبين حفظ ظهور الأمر وكشف قيد آخر في المطلق حتى يجعله قابلا لتعلق حكم مستقل به ، (هذا) ولكن الصحيح هو الأول لضعف ظهور الأمر في الاستقلال ولا يمكن الاعتماد عليه لكشف قيد آخر ، (نعم) لو أحرز تعدد الحكم واستقلال البعثين لا محيص عن كشف قيد آخر لامتناع تعلق الإرادتين بالمطلق والمقيد ، وقد تقدم شرحه في مبحث النواهي.

الصورة الثالثة : ما إذا كان الدليلان نافيين كقوله لا تشرب الخمر ولا تشرب المسكر ولا ريب في عدم حمل مطلقه على المقيد ، لعدم التنافي بينهما عرفا على ـ القول بعدم المفهوم والحجة لا يرفع اليد عنها إلّا بحجة مثلها ولكن يمكن ان يقال بأنه يأتي فيها ما ذكرناه في الصورة السابقة فتدبر

هذه الصور تشترك في ان الوارد إلينا ، ذات المطلق والمقيد بلا ذكر سبب واما إذا كان السبب مذكورا فلا يخلو ، اما ان يذكر في واحد منهما أو كليهما ، وعلى الثاني ، اما ان يتحد السببان ماهية أو يختلفا كذلك وعلى جميع التقادير فالحكم فيهما اما إيجابي ، أو غير إيجابي ، أو مختلف ، فهنا صور نشير إلى مهماتها

 (منها) ما إذا كان السبب مذكورا في كلا الدليلين وكان سبب كل ، غير سبب الآخر ماهية نحو قوله ان ظاهرت أعتق رقبة ، وان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، فلا شك انه لا يحمل لعدم التنافي بينهما ، لإمكان وجوب عتق مطلق الرقبة لأجل سبب ، ووجوب مقيدها لأجل سبب آخر ، (نعم) لو أعتق رقبة مؤمنة ففي كفايتها ، عنهما أو عدم كفايتها كلام مر تحقيقه في مباحث تداخل المسببات والأسباب.

و (منها) ما إذا ذكر السبب في كل واحد أيضا ولكن سبب المطلق عين سبب المقيد ماهية ، فيحمل لاستكشاف العرف من وحدة السبب وحدة مسببه ، و (منها)

٧٩

ما إذا كان السبب مذكورا في واحد منهما فالتحقيق عدم الحمل ، وعلله (بعض الأعاظم) بان الحمل يستلزم الدور لأن حمل المطلق على المقيد يتوقف على وحدة الحكم ففي المثال تقييد الوجوب يتوقف على وحدة المتعلق إذ مع تعددهما لا موجب للتقييد ، ووحدة المتعلق تتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر ، إذ مع عدم وحدة التكليف لم تتحقق وحدة المتعلق ، لأن أحد المتعلقين عتق الرقبة المطلقة ، والآخر عتق الرقبة المؤمنة (انتهى)

و (فيه) ان وحدة الحكم وان كانت تتوقف على وحدة المتعلق لكن وحدة المتعلق لا تتوقف على وحدة الحكم لا ثبوتا ولا إثباتا ، اما الأول فلان وحدة الشيء وكثرته امر واقعي في حد نفسه تعلق به الحكم أولا ، وبما ان المقيد في المقام هو المطلق مع قيد (فلا محالة) لا يمكن ان يقع متعلقاً للإرادتين وموضوعا للحكمين و (اما الثاني) فلان تعلق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام الموضوع للحكم فإذا تعلق حكم بالمقيد والفرض انه نفس الطبيعة مع قيد يكشف ذلك عن كون النسبة بين الموضوعين بالإطلاق والتقييد من غير ان يتوقف على إحراز وحدة الحكم.

بل التحقيق ، ان عدم الحمل ، انما هو لأجل ان المطلق حجة في موارد عدم تحقق سبب المقيد ، فقوله ، أعتق رقبة ، حجة على العبد على إيجاد العتق مطلقا ، ولا يجوز رفع اليد عنها بفعلية حكم قوله ان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة عند تحقق سببه وبعبارة أخرى ان العرف يرى ان هنا واجباً لأجل الظهار ، وواجبا آخر من غير سبب ولا شرط ، حصل الظهار أم لا (هذا) كله راجع إلى الحكم التكليفي (واما) الوضعي فيظهر حاله من التدبر فيه فربما يحمل مطلقه على مقيدة نحو قوله لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه ، ثم قال : صل في وبر السباع مما لا يؤكل ، وقوله : اغسل ثوبك من البول ، وقوله : اغسله من البولين مرتين ، وقد لا يحمل كما إذا قال لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ، ثم قال : منفصلا لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه ، لعدم المنافاة بين مانعية مطلق اجزائه ، ومانعية خصوص وبره ، بعد القول بعدم المفهوم في القيد

٨٠