تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

بأمر واحد وينبعث بأمرين أو أوامر ، وإمكان الانبعاث يكفى في الأمر ، ولو لا ذلك لزم لغوية التأكيدات ، مع ان المظنون بما انه مظنون ، يمكن ان يكون له ملاك مستقل في مقابل الواقع كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا بأس عن تعلق امر مستقل

 واما ما أفاده في فذلكته : من ان أخذ الظن على وجه الطريقية هو معنى اعتباره ففيه انه ممنوع ، فان الظن لما كان له طريقية ناقصة ، وكاشفية ضعيفة ذاتا يمكن ان يؤخذ على هذا الوجه موضوعاً في مقابل الوصفية التي معناها ان يؤخذ مقطوع النّظر عن كاشفيته

واما معنى اعتباره ، فهو ان يجعله الشارع معتبراً وواجب العمل بالجعل التشريعي فمجرد لحاظ الشارع طريقيته ، لا يلازم اعتباره شرعاً فضلا عن ان يكون معناه. وان شئت قلت ان لحاظ الطريقية من مقولة التصور ، وجعل الاعتبار من الإنشاء والحكم ولا ربط بينهما ، أضف إلى ذلك ان لحاظ الطريقية لو كان ملازما للاعتبار ، لزم ان يلتزم بامتناعه في القطع ، لأن جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع ، فلحاظ القطع الطريقي موضوعاً مطلقا يصير ممتنعاً

 اللهم إلّا ان يدعى ان ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعم من الذاتي أو الجعلي ، وهو كما ترى

 واما ما أفاد من ان أخذ الظن بالحكم موضوعاً لنفسه لا مانع منه بنتيجة التقييد فقد يظهر ما فيه عند البحث عن أخذ العلم كذلك من لزوم الدور

 واما ما أفاده أخيراً من عدم جواز أخذ الظن المعتبر موضوعاً لحكم متعلقه ، معللا بان أخذ الظن محرزاً لمتعلقه معناه انه لا دخل له فيه ، وهو ينافى الموضوعية ففيه ان ذلك ممنوع جداً ، فان الملاك يمكن ان يكون في الواقع المحرز بهذا الظن بعنوان المحرزية ، فلا بد من جعل المحرزية للتوصل بالغرض ، لكن أخذ الظن كذلك محال من رأس للزوم الدور

والّذي يسهل الخطب ان ما ذكره من الأقسام متصورات محضة لا واقع لها ـ

 

١٠١

في أخذ القطع تمام الموضوع لحكمه

قد يقال بعدم إمكانه للزوم الدور منه ، ويمكن ان يدفع بعدم لزومه ، فيما إذا كان القطع المأخوذ في الموضوع ، تمام الموضوع ، لأن الحكم (ح) على عنوان المقطوع بما انه كذلك ، من غير دخالة التطابق وعدمه ولا الواقع المقطوع به ، (فحينئذ) لا يتوقف تحقق القطع بالحكم ، على وجود الحكم لأنه قد يكون جهلا ، مركبا ، وليس معنى الإطلاق لحاظ القيدين حتى يكون الأخذ بلحاظ قيدية ممتنعاً ، بل معناه عدم القيدية ، وكون الطبيعة تمام الموضوع ، وهو لا يتوقف على الحكم ، وانما يتوقف الحكم عليه فلا دور.

وبعبارة أوضح : ان الدور المذكور في المقام أعني توقف القطع بالحكم على وجود الحكم ، وتوقف الحكم على الموضوع الّذي هو القطع سواء كان تمام الموضوع أو جزئه ـ انما يلزم لو كان القطع مأخوذاً على نحو الجزئية ، ومعنى ذلك عدم كون القطع موضعا برأسه بل هو مع نفس الواقع أعني الحكم الشرعي ، فالقطع يتوقف على وجود الحكم ، ولو توقف الحكم على القطع يلزم الدور ، واما إذا كان القطع تمام الموضوع لحكم نفسه ، فلا يلزم الدور ، لأن ما هو الموضوع هو القطع سواء وافق الواقع أم خالفه ، لأن الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع و (عليه) فلا يتوقف حصول القطع على الواقع المقطوع به وان توقف على المقطوع بالذات أعني : الصورة الذهنية من الحكم واما المقطوع بالعرض الّذي هو المقطوع به في الخارج ، فلا يتوقف القطع على وجوده واما المأخوذ جزء موضوع فلا يمكن دفع الدور بالبيان المتقدم لأن معنى جزئيته للموضوع ان الجزء الآخر هو الواقع ، وتوهم إمكان جعل الجزء هو المعلوم بالذات كما ترى

ثم انه أجاب بعض الأعاظم عن الدور بما يلي : ان العلم بالحكم لما كان من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيه الإطلاق ولا التقييد اللحاظي كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به كقصد التعبد والتقرب

١٠٢

بالعبادات ، فإذا امتنع التقييد ، امتنع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة

لكن الإهمال الثبوتي لا يعقل ، فان ملاك تشريع الحكم اما محفوظ في حالتي الجهل والعلم ، فلا بدّ من نتيجة الإطلاق ، واما في حالة العلم ، فلا بدّ من نتيجة التقييد فحيث لا يمكن بالجعل الأوّلي ، فلا بدّ من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان : وهو متمم الجعل ، وقد ادعى تواتر الأدلة علي اشتراك العالم ، والجاهل في الأحكام ، وان لم نعثر الأعلى بعض اخبار الآحاد لكن الظاهر قيام الإجماع والضرورة ، فيستفاد من ذلك نتيجة الإطلاق ، وان الحكم مشترك بين العالم والجاهل ، لكن تلك الأدلة قابلة للتخصيص كما خصت بالجهر والإخفات والقصر والإتمام. انتهى كلامه

 وفيه مواقع للإشكال الأول ان الانقسامات اللاحقة على ضربين ، أحدهما ما لا يمكن تقييد الأدلة به ، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد ، مثل أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم فانه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ، فان حاصل التقييد ونتيجته ان الحكم مختص بالعالم بالحكم وهذا دور ، وحاصله توقف الحكم على العلم به ، وهو متوقف على وجود الحكم ، وهذا الامتناع لا يرتفع لا بالتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة التقييد.

وهذا ، غير ما ربما يورد على الأشاعرة القائلين بان أحكام الله تابعة لآراء المجتهدين ، فانه يورد عليهم باستلزامه الدور. إذ يمكن الذب عنه ، بان الشارع أظهر أحكاماً صورية بلا جعل أصلا لمصلحة في نفس الإظهار ، حتى يجتهد المجتهدون ، ويصلوا إلى هذه الأحكام الغير الحقيقية ، فإذا ادى اجتهادهم إلى حكم ، سواء وافق الحكم الصوري أم خالف ، أنشأ الشارع حكما مطابقا لرأيه ، تابعا له ولكنه مجرد تصوير ربما لا يرضى به المصوبة.

واما عدم الإعادة فيما لو خافت في موضع الجهر ، أو جهر في موضع المخافتة ، أو أتم في موضع القصر ، أو قصر في موضع التمام ، فلا يتوقف الذب عنه

١٠٣

بالالتزام بما ذكره من الاختصاص بل يحتمل ان يكون عدم الإعادة من باب التقبل والتخفيف ، كما ربما يحتمل ذلك في قاعدة لا تعاد لو قلنا بعموميته للسهو وغيره ، ويمكن ان يكون لأجل عدم قابلية المحل للقضاء والإعادة ، بعد الإتيان بما كان خلاف الوظيفة وله نظائر في التكوين.

واما القسم الثاني من الانقسامات اللاحقة ما يمكن التقييد به بدليل آخر كقصد القربة والتعبد والأمر فان هذا القسم يمكن تقييد المتعلق بالتقييد اللحاظي ، كما يمكن بنتيجة التقييد ، فان الآمر يمكن ان يلاحظ متعلق امره وما له من قيود وحدود ، ويلاحظ حالة تعلق امره به في المستقبل ويلاحظ قصد المأمور للتقرب والتعبد ، بما انها من قيود المتعلق ، ويأمر به مقيداً بهذه القيود كسائر قيوده. وقد وافاك خلاصة القول في ذلك في مباحث الألفاظ.

ثم ان نفس تعلق الأمر يمكّن على إتيان المتعلق فان قبل تعلقه لا يمكن له الإتيان بالصلاة مثلا مع تلك القيود وبالتعلق يصير ممكنا فان قلت بناء على ذلك لم يكن الموضوع المجرد من قصد الأمر مأموراً به فكيف يمكن الأمر به بقصد امره قلت هذا إشكال آخر غير الدور ويمكن دفعه بان الموضوع متعلق للأمر الضمني وقصده كاف في الصحة وقد أوضحنا حاله في الجزء الأول فراجع.

الثاني : من الإشكالات على كلامه ان توصيف الإطلاق والتقييد باللحاظي مع القول بان تقابلهما تقابل العدم والملكة ، جمع بين امرين متنافيين ، لأن الإطلاق على هذا متقوم باللحاظ ، كالتقييد ، واللحاظان امران وجوديان لا يجتمعان في مورد واحد ، فيصير التقابل تقابل التضاد ، لا العدم والملكة.

نعم لو قلنا بما أوضحناه في محله من عدم تقوم الإطلاق باللحاظ وانه لا يحتاج إلى لحاظ السريان ، بل هو متقوم بعدم لحاظ شيء ، في موضوع الحكم ، مع كون المتكلم في مقام البيان ، يرد عليه إشكال آخر وهو ان امتناع الإطلاق حينئذ ممنوع ، فيصير ما ادعاه من انه كلما امتنع التقييد ، امتنع الإطلاق قولا بلا برهان.

١٠٤

والحق : ان بين الإطلاق والتقييد ، كما ذكره تقابل العدم والملكة أو شبه ذلك التقابل ، لكن لا يرتب عليه ما رتبه (قدس‌سره) من إنكار مطلق الإطلاق في الأدلة الشرعية ، حتى احتاج إلى دعوى الإجماع والضرورة ، لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل.

وخلاصة الكلام : ان عدم التقييد ، قد يكون لأجل عدم قابلية المتعلق له وقصوره عن ذلك ، ففي مثله لا يمكن الإطلاق ، ولا يطلق على مثل ذلك التجرد من القيد ، انه مطلق ، كما لا يطلق على الجدار ، انه أعمى ، فان الأعمي هو اللابصير الّذي من شأنه ان يكون بصيراً وليس الجدار كذلك ، ونظيره ، الاعلام الشخصية ، فلا يطلق لزيد انه مطلق افرادي كما لا يطلق انه مقيداً

 وقد يكون لا لأجل قصوره وعدم قابليته ، بل لأجل امر خارجي كلزوم الدور في التقييد اللحاظي ، فان امتناع التقييد في هذا المورد ونظائره لا يلازم امتناع الإطلاق ، إذا المحذور مختص به ولا يجري في الإطلاق ، فان المفروض ان وجه الامتناع ، لزوم الدور عند التقييد : أي تخصيص الأحكام بالعالمين بها ، واما الإطلاق فليس فيه أيّ محذور من الدور وغيره ، فلا بأس (ح) في الإطلاق ، وان كان التقييد ممتنعاً لأجل محذور خارجي

 والشاهد على صحة الإطلاق ووجوده ، هو جواز تصريح المولى بان الخمر حرام شربه على العالم والجاهل ، وصلاة الجمعة واجبة عليهما بلا محذور.

بل التحقيق : ان الإطلاق في المقام لازم ولو لم تتم مقدماته ، لأن الاختصاص بالعالمين بالحكم مستلزم للمحال ، والاختصاص بالجهال وخروج العالمين به خلاف الضرورة ، فلا محيص عن الاشتراك والإطلاق ، (نعم) هذا غير الإطلاق الّذي يحتاج إلى المقدمات ويكون بعد تمامها حجة.

ولعل ما ذكرناه من الوجه سند دعوى الإجماع والضرورة.

ثم ان بعض محققي العصر قدس‌سره أراد التفصي بوجه آخر فقال ما هذا تلخيصه : يمكن التفصي عن الدور على نحو نتيجة التقييد الراجع إلى جعل الحكم لحصة

١٠٥

من الذات في المرتبة السابقة ، التوأمة ، مع العلم بحكمه في المرتبة المتأخرة ، لا مقيداً به ، على نحو يكون عنوان التوأمية مع العلم المزبور معرفا محضا لما هو الموضوع ، وكان الموضوع هو الحصة الخاصة ، بلا تعنونه بعنوان التوأمية أيضا فضلا عن العلم بحكمه ، ونحوه من العناوين المتأخرة كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عارضه ، المتحفظ في الرتبة المتأخرة ، وكما في كل علة لمعلولها ، من دون اقتضاء التلازم والتوأمية اتحاد الرتبة بينهما ، أصلا انتهى

 وفيه ان نفس الطبائع لا تتخصص بالحصص لا في الذهن ، ولا في الخارج ، وانما تتقوم الحصة بأمر خارج عنها لا حق بها لحاظاً في الذهن لا في الخارج كالكليات المقيدة مثل الإنسان الأبيض ، والإنسان الأسود ، واما الخارج فإطلاق الحصة على الفرد الخارجي لا يخلو عن إشكال وعلى ذلك ، فالطبيعة لا تتحصص بحصص ، الا بإضافة قيود لها عند جعلها موضوعا لحكم من الأحكام و (ح) فالحكم اما يتعلق على الطبيعة مع قطع النّظر عن العلم بحكمها ، فلا تكون الحصة موضوعا ، لأنها مع قطع النّظر عن القيود ، ليست إلّا نفس الطبيعة ، واما ان يتعلق على الحصة الملازمة للعلم بحكمها ولو في الرتبة المتأخرة فلا تكون الحصة حصة ، الا بعروض القيد للطبيعة في الذهن فلا محيص الا عن لحاظ الموضوع توأماً مع العلم بحكمه ، وهذا الموضوع بهذا الوصف يتوقف على الحكم ، والحكم على العلم به فعاد الدور.

واما المعروض ، بالنسبة إلى عارضه ، فليس كما أفاد ، لأن العارض لا يعرض الحصة بل يعرض نفس الطبيعة ، ويصير الطبيعة بنفس العروض متخصصا ، فلا يكون قبل العروض وفي الرتبة المتقدمة حصة ، واما التوأمية بين العلة والمعلول مع حفظ التقدم الرتبي بينهما ، فهو حق لو أراد ما ذكرنا.

هذا كله في أخذه تمام الموضوع في نفس حكمه ، وهكذا إذا جعل بعض الموضوع لحكم نفسه ، فمحال ، للدور المتقدم ـ فتدبر.

في قيام الأصول والأمارات مقام القطع

وإشباع الكلام في قيام الأمارات والأصول بنفس أدلتها مقام القطع يتوقف

١٠٦

البحث في مقامين الأول في إمكان قيامها مقامه ثبوتا بجميع اقسامه سواء كان طريقيا أو موضوعيا ، وكان تمام الموضوع أو بعض الموضوع ، كان التنزيل بجعل واحد أو بجعلين والثاني في وقوعه إثباتا وبحسب الدلالة.

اما الأول فالظاهر إمكانه ، ويستفاد من المحقق الخراسانيّ الامتناع فيما إذا كان التنزيل بجعل واحد لوجهين.

الأول ما محصله ان الجعل الواحد ، لا يمكن ان يتكفل تنزيل الظن منزلة القطع ، وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما أخذ في الموضوع على نحو الكشف ، للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين أي اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث لا بد في كل تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، مع ان النّظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع ، آلي طريقي ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع ، استقلالي موضوعي ، والجمع بينهما محال ذاتاً.

وأنت خبير بما فيه يظهر من التأمل فيما ذكرناه جواباً لما استشكله بعض أعاظم العصر في تصوير القطع الطريقي على نحو تمام الموضوع ، وحاصله ان نظر القاطع والظان إلى المقطوع به وان كان استقلاليا ، وإلى قطعه وظنه آليا ، إلّا ان الجاعل والمنزل ، ليس نفس القاطع حتى يجتمع ما ادعاه من الامتناع ، بل المنزل غير القاطع فان الشارع ينظر إلى قطع القاطع وظنه ، ويلاحظ كل واحد استقلالا ، واسميا

 وينزل كل واحد منزلة الأخرى ، فكل واحد من القطع والظن ، وان كان ملحوظا في نظر القاطع والظان ، على نحو آلية ، إلّا انه في نظر الشارع والحاكم ملحوظ استقلالا ، فالشارع يلاحظ ما هو ملحوظ آلي للغير عند التنزيل على نحو الاسمية والاستقلال ويكون نظره إلى الواقع المقطوع به والمظنون بهذا القطع والظن ، وإلى نفس القطع والظن ، في عرض واحد بنحو الاستقلال ، فما ذكره (قدس‌سره) من الامتناع من باب اشتباه اللاحظين ، فان الحاكم المنزل للظن منزلة القطع ، لم يكن نظره إلى القطع والظن آليا ، بل نظره استقلالي قضاءً لحق التنزيل ، كما ان نظره إلى المقطوع به والمظنون استقلالي.

١٠٧

واما القول بقصور الأدلة ، فهو خارج عن المقام ، وسوف نستوفي الكلام فيه في المقام الثاني.

ثم ان بعض أعاظم العصر ، أجاب عنه بان المجعول هو الكاشفية والوسطية في الإثبات ، وبنفس هذا الجعل يتم الأمرين وسوف يوافيك في محله عدم صحة تلك المقالة.

ثم ان المحقق الخراسانيّ في تعليقته ، أجاب عن هذا الإشكال ، بان المجعول في الأمارات هو المؤدى ، وان مفاد أدلة الأمارات ، جعل المؤدّى منزلة الواقع ، ولكن بالملازمة العرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وبين تنزيل الظن منزلة العلم ، يتم المطلب

وعدل عنه في الكفاية بما أوضحه بعض أعاظم العصر : ان ذلك يستلزم الدور فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيما كان للعلم دخل ، لا يمكن إلّا بعد تحقق العلم في عرض

ذلك التنزيل ، فانه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتب على الواقع والعلم به ، والمفروض ان العلم بالمؤدى ، يتحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفا على العلم : والعلم موقوفا على التنزيل ، وهذا دور محال ، وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين

 وفيه ، ان اشتراط ترتب الأثر على التنزيل ، انما هو لأجل صون فعل الحكيم عن اللغوية ، واللغوية ، كما تندفع بترتب الأثر الفعلي كذلك تندفع بالأثر التعليقي ، أي لو انضم إليه جزئه الآخر ، يكون ذا أثر فعلى.

والحاصل : ما هو اللازم في خروج الجعل عن اللغوية ، هو كون التنزيل ذا أثر ، بحيث لا يكون التنزيل بلا أثر أصلا ، والمفروض ان المؤدى لما نزل منزلة الواقع فقد أحرز جزء من الموضوع ، وان هذا التنزيل يستلزم عرفا في الرتبة المتأخرة تنزيل الظن منزلة العلم بالملازمة العرفية ، وبه يتم ما هو تمام الموضوع للأثر.

بل يمكن ان يقال : ان هاهنا أثراً فعليا ، لكن بنفس الجعل ، ولا يلزم ان يكون الأثر سابقا على الجعل ، ففيما نحن فيه ، لما كان نفس الجعل متمما للموضوع ،

١٠٨

يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقق في ظرفه ، فلا يكون الجعل متوقفا على الأثر السابق فاللغوية مندفعة اما لأجل الأثر التعليقي ، أو بلحاظ الأثر المتحقق بنفس الجعل هذا

 ويمكن ان يقرر الدور بوجه آخر ، وهو اقرب مما قرره بعض الأعاظم.

وحاصله : ان تنزيل المؤدى ، منزل الواقع ، يتوقف على تنزيل الظن منزلة العلم في عرضه ، لأن الأثر مترتب على الجزءين ، وتنزيل الظن متوقف على تنزيل المؤدى حسب الفرض أي دعوى الملازمة العرفية ، وان شئت قلت : ان تنزيل جزء من المركب يتوقف على كون الجزء الآخر (غير المنزل) ذا أثر وجدانا أو تنزيلا ، والأول مفقود قطعا ، وعليه تنزيل المؤدى يتوقف على ثبوت الأثر لجزئه الآخر أعني الظن ، والمفروض ان الظن لا يصير ذا أثر إلّا بالملازمة العرفية وهي لا تتحقق الا بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيلزم الدور ويظهر جواب هذا التقرير من الدور ، مما ذكرناه جوابا عن التقرير الأول فلاحظ

 واما المقام الثاني : أعني مقام الإثبات والدلالة ، فلا بدّ في توضيح الحال من التنبيه على ما سيجيء منا تفصيله عند البحث عن حجية الخبر الواحد ، وملخصه :

ان الأمارات المتداولة في أيدينا مما استقر عليها العمل عند العقلاء بلا غمض أحد منهم في واحد منها ، ضرورة توقف حياة المجتمع على العمل بها ، والإنسان المدني يرى ، ان البناء على تحصيل العلم في الحوادث والوقائع اليومية ، يوجب اختلال نظام المدنية ، وركود رحاها ، فلم ير بدّاً منذ عرف يمينه عن شماله ، ووقف على مصالح الأمور ومفاسدها ، عن العمل ، بقول الثقة ، وبظواهر الكلام الملقى للتفهيم وغيرها.

جاء نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وأظهر أحكاما ، وأوضح أموراً ، ولكن مع ذلك كله عمل بالأمارات من باب انه أحد العقلاء ، الذين يديرون حياة المجتمع ، من دون ان يؤسس أصلا ويقيم عماداً ، أو يحدث أمارة ، أو يزيد شرطا أو يتمم كشف أمارة ، أو يجعل طريقية لواحد من الأمارات ، إلى غير ذلك من العبارات التي تراها ، متظافرة في

١٠٩

كلمات القوم.

وبالجملة لم يكن عمل النبي والخلفاء من بعده على الأمارات إلا جريا على المسلك المستقر عند العقلاء ، بلا تأسيس أمارة أو تتميم كشف لها ، أو جعل حجية وطريقية لواحدة منها ، بل في نفس روايات خبر الثقة ، شواهد واضحة على تسلم العمل بخبر الثقة ولم يكن الغرض من السؤال إلّا العلم بالصغرى ، وان فلا ناهل هو ثقة أولا ، فراجع مظانها تجد شواهد على ما ادعيناه

 ومن ذلك يعلم ان قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ، مما لا معنى له ، اما القطع الطريقي ، فان عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ، ليس من باب قيامها مقام العلم ، بل من باب انها إحدى الطرق الموصلة غالبا إلى الواقع ، من دون التفات إلى التنزيل والقيام مقامه

نعم : القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية ، والعقلاء انما يعملون بها عند فقد القطع ، وذلك لا يستلزم كون عملهم من باب قيامها مقامه ، حتى يكون الطريق منحصراً بالقطع عندهم ، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه ، وان شئت قلت : ان عمل العقلاء بالطرق ، ليس من باب انها منزلة مقام العلم ، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم ، كانوا عاملين بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلا.

فما ترى في كلمات المشايخ من القول بان الشارع جعل المؤدّى منزلة الواقع تارة ، أو تمم كشفه ، أو جعل الظن علما في مقام الشارعية ، أو أعطاه مقام الطريقية ، وغيرها لا تخلو عن مسامحة ، فانها أشبه شيء بالخطابة ، فتلخص ان العمل بالأمارات عند فقد القطع الطريقي ، ليس إلّا لكونها إحدى الافراد التي يتوصل بها إلى إحراز الواقع ، من دون ان يكون نائباً أو فرعاً لشيء أو قائما مقامه

 واما القطع الموضوعي : فملخص الكلام ان القطع تارة يؤخذ بما انه أحد الكواشف وأخرى بما انه كاشف تام ، وثالثة ، بما انه من الأوصاف النفسانيّة ، فلو كان مأخوذاً في الموضوع تماماً أو جزءاً ، على النحو الأول فلا شك انه يعمل بها عند

١١٠

فقد القطع لا لأجل قيامها مقامه ، بل لأجل ان الأمارات (ح) أحد مصاديق الموضوع مصداقا حقيقيا ، وإذا أخذ بما انه كاشف تام : أو صفة مخصوصة فلا شك عدم جواز ترتيب الأثر ، لفقد ان ما هو الموضوع عند الشارع ، لأن الظن ليس كشفا تاما ، وان عمل العقلاء علي الأمارات ، ليس إلّا لأجل كونها كواشف عن الواقع ، من دون ان يلاحظ صفة أخرى ، بلا فرق بين تمام الموضوع وجزئه وبذلك يظهر النّظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر ، فانه قدس‌سره مع انه قد اعترف بأنه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا ، قد أتى بما لا يناسبه ، وحاصله ان في القطع يجتمع جهات ثلاث ، جهة كونه قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النّفس في صقعها الداخليّ صورة على طبق ذي الصورة ، وجهة كشفه عن المعلوم ، وإراءته للواقع.

وجهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، والمجعول في باب الطرق هي الجهة الثانية ، فان المجعول فيها ، نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية ، وفي الأصول هي الجهة الثالثة.

ثم قال : ان حكومة الطرق على الأحكام الواقعية ، ليست الحكومة الواقعية مثل قوله الطواف بالبيت صلاة أو لا شك لكثير الشك بل الحكومة ظاهرية ، والفرق ، ان الواقعية توجب التوسعة والتضييق في الموضوع الواقعي ، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأوّلي ، وهذا بخلاف الظاهرية ، إذ ليس فيها توسعة وتضييق إلّا بناء على جعل المؤدى ، الّذي يرجع إلى التصويب واما بناء على المختار من جعل الطريقية ، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي ، وحكومتها انما يكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به فيكون المجعول في طول الواقع لا في عرضه.

ثم أفاد ان مما ذكرنا يظهر قيام الأمارات مقام القطع الطريقي مطلقا ، ولو كان مأخوذاً في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الوصفي ـ انتهى كلامه ،

١١١

أقول : وفيه مواقع للأنظار ، منها انك قد عرفت وسيمر تفصيله عند البحث عن حجية الاخبار ، انه ليس عن جعل الحجية والطريقية وتتميم الكشف في الاخبار والآيات خبر ولا أثر ، وان العمل بالأخبار كان امراً مسلما منذ قرون قبل الإسلام ، منذ قام للإنسانية عمود التمدن وان الشارع الصادع بالحق ترك اتباعه على ما كانوا عليه ، قبل ان ينسلكوا في سلك الإسلام ، بلا جعل ولا تأسيس ولا إمضاء لفظي ، وان كلما ورد من الروايات من التصريحات انما هو لتشخيص الصغرى وما هو موضوع لهذه الكبرى الكلية

 والعجب انه قدس‌سره قد اعترف كراراً على انه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا. ولكنه قد أسس في تقريراته هذا البنيان الرفيع الّذي لا يخرج عن حيطة التصور إلى مقام آخر الا بأدلة محكمة ، وليست منها في الاخبار عين ولا أثر.

ومنها ان تقسيم الحكومة إلى ظاهرية وواقعية ، تقسيم لها باعتبار متعلقها وهو ليس من التقسيمات المعتبرة وإلّا لكثرات الأقسام حسب كثرة التعلق فان المتصف بالظاهرية والواقعية انما هي الأحكام ، دون الحكومة ، فان الحكومة قد تكون متعلقها ، الأدلة الواقعية مثل قوله عليه‌السلام الصلاة بالبيت طواف ، وقد تكون متعلقها غير الأحكام الواقعية ، كما في الأمثلة التي ذكره قدس‌سره.

في قيام الأصول مقام القطع

اما غير المحرزة منها أعني ما يظهر من أدلتها انها وظائف مقررة للجاهل عند تحيره وجهله بالواقع كأصالتي الطهارة والحلية وأشباههما ، فلا معنى لقيامها مقام القطع مطلقا ، لعدم وجه التنزيل بينهما أصلا.

واما المحرزة والأصول التنزيلية أعني الاستصحاب وقاعدة التجاوز واليد وغيرهما فلا بأس لنا ان نتعرض حالها حسب اقتضاء المقام.

١١٢

اما الاستصحاب فيتوقف كونه أمارة شرعية على إثبات أمور ثلاثة.

الأول ان يكون له جهة كشف وطريقية ، فان ما لا يكون له جهة كشف أصلا لا يصلح للأمارية والكاشفية.

الثاني ان لا يكون بنفسه أمارة عقلية أو عقلائية ، فان الواجد للأمارية لا معنى لجعله أمارة ، فانه من قبيل تحصيل الحاصل.

الثالث ان يكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية (١) ولا شك ان الاستصحاب فيه جهة كشف عن الواقع ، فان اليقين بالحالة السابقة له جهة كشف عن البقاء وإلى ذلك يرجع ما يقال : ما ثبت يدوم. وهو في الآن اللاحق ليس كالشك المحض غير القابل للأمارية

 كما ان الجهة الثانية أيضا موجودة ، فان عمل بناء العقلاء ليس على كون الاستصحاب كاشفا عن متعلقه وان ادعى انه لأجل كون شيء له حالة مقطوعة في السابق إلّا انه مجرد ادعاء بل من القريب جداً ان يكون ذلك بواسطة احتفافه بأمور أخر مما توجب الاطمئنان والوثوق لا لمجرد القطع بالحالة السابقة ، وبالجملة لم يعلم ان عمل العقلاء بالاستصحاب في معاملاتهم وسياساتهم لأجل كونه ذات كشف عن الواقع كشفا ضعيفاً بلا ملاحظة قرائن محفوفة توجب الوثوق حتى يكون أمارة عقلائية كخبر الثقة ، ويكون ذاك مانعا عن تعلق الجعل الشرعي

واما الجهة الثالثة فلو ثبت تلك الجهة ، لا نسلك الاستصحاب في عداد الأمارات الشرعية مقابل الأمارات العقلائية ، ويمكن استظهاره ، من الكبريات الموجودة في الاستصحاب فترى ان العناية فيها بإبقاء اليقين وانه في عالم التشريع والتعبد موجود ، وانه لا ينبغي ان ينقض بالشك ، والحاصل ان الروايات تعطي بظاهرها ، ان الغرض إطالة عمر اليقين السابق ، وإعطاء صفة اليقين على كل من كان على يقين كما ينادى به ذلك قوله عليه‌السلام في مضمرة زرارة ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشك أبداً ، لا إعطاء صفة اليقين على الشاك بعنوان انه شاك ، ولا جعل الشك يقينا حتى يقال لا معنى لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية على الشك ، ولا إعطاء

__________________

(١) لا يخفى ان ما حررناه في المقام مما استفدناه عن سيدنا الأستاذ في الدورة السابقة في مبحث الاستصحاب ، وعند البحث عن الاجزاء في الاجتهاد والتقليد «المؤلف»

١١٣

اليقين على الشاك لأن الشك ليس له جهة الكشف ، وبالجملة الاستصحاب إطالة عمر اليقين تعبداً في عالم التشريع ، وقد عرفت أمارية اليقين السابق بالنسبة إلى اللاحق.

ثم انا قد أطلنا الكلام سابقا في النقض والإبرام بذكر إشكالات وتفصيات في المقام لكن التحقيق انه ليس أمارة شرعية بل هو أصل تعبدي كما عليه المشايخ ، لأن الجهة الأولى من الجهات اللازمة في أمارية الشيء مفقودة في الاستصحاب لأن كون اليقين السابق كاشفا عن الواقع كشفا ناقصاً لا يرجع إلى شيء ، لأن اليقين لا يعقل ان يكون كاشفا عن شيء في زمان زواله ، والمفروض ان كون المكلف حين الاستصحاب شاك ليس إلّا ، نعم يمكن ان يكون وجود المستصحب فيما له اقتضاء بقاء كاشفا ناقصاً عن بقائه بمعنى حصول الظن منه بالنسبة إلى بقائه ، لكنه أجنبي عن أمارية اليقين السابق.

والجهة الثالثة أيضا منتفية ، فلان العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية أي إلى ان الكون السابق كاشفا عن البقاء حتى يصح جعله أمارة ، لما عرفت ان الكون السابق يحصل منه مرتبة من الظن ، بل العناية إلى ان اليقين لكونه امراً مبرماً لا ينبغي ان ينقض بالشك ، الّذي ليس له إبرام ، وقد عرفت ان اليقين السابق ليس له أدنى أمارية بالنسبة إلى حالة الشك فما تعرض له الاخبار وكان مورد العناية فيها ليس له جهة كشف مطلقا وما له جهة كشف موجب للظن يكون أجنبيا عن مفادها فلا محيص عن الذهاب إلى ما عليه الأساتذة من انه أصل تعبدي ، واما الاستصحاب العقلائي الّذي ينظر إليه كلام الأقدمين فهو غير مفاد الروايات ، بل هو عبارة عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن اللاحق ، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس على ترتيب الآثار بمجرد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق بل الظاهر ان بناء العقلاء على العمل ليس لأجل الاستصحاب أي جرّ الحالة السابقة ، بل لأجل عدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف المقابل للوثوق كما في سائر الطرق العقلائية.

واما قاعدة التجاوز : فالكبرى المجعولة فيها بعد إرجاع الاخبار بعضها

١١٤

إلى بعض ، وجوب المضي العملي وعدم الاعتناء بالشك والبناء على الإتيان ، وما في بعض الاخبار من ان الشك ليس بشيء وان كان يوهم انها بصدد إسقاط الشك اللازم منه إعطاء الكاشفية ، لكنه اشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به ، والظاهر من مجموع الاخبار ليس إلّا ما تقدم كما يكشف عنه رواية حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أشك وانا ساجد فلا أدري ركعت أم لا فقال قد ركعت ، والحاصل ان العناية في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملا والمضي العملي والبناء على الإتيان وهو المراد بالأصل. هذا مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز.

واما قيام القاعدتين مقام القطع وعدمه ، فنقول قد وافاك ان القطع قد يؤخذ على نحو الطريقية التامة ، وقد يؤخذ على نحو الوصفية ، وقد يؤخذ على الطريقية المشتركة ، وعلى التقادير قد يكون المأخوذ تمام الموضوع ، وقد يكون بعضه لا كلام في عدم قيام الطرق العقلائية مقام القطع المأخوذ على نحو الكاشفية التامة ، ولا على نحو وصفية ، واما المأخوذ على نحو الكاشف المطلق ، فالأمارات تقوم مقامه ، لا من جهة النيابة ، بل لأنها مصداق واقعي للموضوع في عرض القطع كما تقدم بيانه.

واما الاستصحاب فعلى القول بأماريته فلا وجه لقيامه مقام القطع الوصفي إذ لا جامع بين الوسطية في الإثبات والقطع المأخوذ على وجه الوصفية وأدلة حجية الاستصحاب قاصرة عن هذا التنزيل ، بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام القطع الوصفي لاستلزامه الجمع بين اللحاظين المتباينين على ما مر بيانه على إشكال منا واما القطع الطريقي المأخوذ بنحو كمال الطريقية أو المشتركة فيقوم الاستصحاب بنفس أدلته مقام القطع ، فيما إذا كان القطع تمام الموضوع فيما إذا كان للمقطوع أثر آخر يكون التعبد بلحاظه ، فان مفاد أدلة الاستصحاب على الفرض إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره ، فالمستصحب (بالكسر) في حالة الاستصحاب ذو يقين تشريعاً

 وهكذا الكلام إذا كان مأخوذاً بنحو الجزئية ، فان نفس الأدلة يكفى لإثبات

١١٥

الجزءين من غير احتياج إلى دليل آخر ، فان إطالة عمر اليقين هو الكشف عن الواقع وإحرازه ، فالواقع محرز بنفس الجعل ، وان شئت قلت : ان المجعول بالذات هو إطالة عمر اليقين ولازمه العرفي إحراز الواقع ، لكن إطلاق القيام مقام القطع (ح) لا يخلو من تسامح بل يكون الاستصحاب مصداقا حقيقيا للموضوع.

واما على القول بكونه أصلا فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقا غير بعيد لأن الكبرى المجعولة فيه اما يكون مفادها التعبد ببقاء اليقين عملا وأثراً واما التعبد بلزوم ترتيب آثاره فعلى الأول تكون حاكمة على ما أخذ القطع الطريقي موضوعاً ، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر بل لأن مفاده لو كان هو التعبد ببقاء اليقين يصير حاكما عليه ، كحكومة قوله عليه‌السلام : كل شيء طاهر على قوله : لا صلاة إلّا بطهور ، وعلى الثاني يقوم مقامه بنتيجة التحكيم كما لا يخفى ، واما قيامها مقام القطع الوصفي فالظاهر قصور أدلتها عن إثبات قيامه مقامه ، لأن الظاهر منها اليقين الطريقي ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى الوصفي ، وان كان لا يمتنع الجمع بينهما كما تقدم.

قيام قاعدة التجاوز مقام القطع

 لا شك ان دليل تلك القاعدة ، قاصر عن إقامتها مقام القطع الموضوعي بأقسامه لأن مفاده كما عرفت ليس إلّا المضي تعبداً ، والبناء على الوجود كذلك ، وهذا أجنبي عن القيام مقامه ، نعم فيما إذا كان القطع طريقا محضاً ، ويكون نفس الواقع بما هو هو موضوع الحكم ، لا يبعد إحرازه بالقاعدة ، لا بقيامها مقام القطع الطريقي ، بل بنتيجة القيام.

وقد يقال ان للقطع جهات والجهة الثالثة منها : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث ان العلم بوجود الأسد يقتضى الفرار عنه والمجعول في الأصول المحرزة هي هذه الجهة ، فهي قائمة مقام القطع الطريقي بأقسامه. و (فيه) : ان مجرد البناء على الوجود لا يقتضى القيام مقام القطع ، وليس في الأدلة ما يستشم منها ، ان الجعل بعناية التنزيل مقام القطع في هذا الأثر. واشتراك القاعدة والقطع

١١٦

في الأثر لو فرض تسليمه ، لا يوجب التنزيل والقيام مقامه ، وبالجملة : ان كان المراد من قيام القاعدة مقام القطع كونها محرزة للواقع كالقطع ، غاية الأمر انها محرزة تعبداً وهو محرز وجدانا ، فهو صحيح ، لكنه لا يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ، بل إطلاق القيام مقامه في الطريقي المحض أيضا خلاف الواقع وان كان المراد هو القيام بمعناه المنظور ، ففيها منع منشؤه قصور الأدلة فراجعها.

الأمر الخامس في الموافقة الالتزامية

وتوضيحها يتوقف على بيان مطالب

الأول ان الأصول الاعتقادية على أقسام (منها) ما ثبتت بالبرهان العقلي القطعي ويستقل العقل في إثباتها ونفي غيرها من دون ان يستمد من الكتاب والسنة ، كوجود المبدأ وتوحيده وصفاته الكمالية ، وتنزيهه من النقائص والحشر والنشر وكونه جسمانيا على ما هو مبرهن في محله وعند أهله ، والنبوة العامة وما ضاهاها من العقليات المستقلة التي لا يستأهل لنقضه وإبرامه ، وإثباته ونفيه غير العقل ، حتى لو وجدنا في الكتاب والسنة ما يخالفه ظاهراً فلا محيص عن تأويله أو ردّ علمه إلى أهله كما أمرنا بذلك.

ومنها ما ثبت بضرورة الأديان أو دين الإسلام كالمباحث الراجعة إلى بعض خصوصيات المعاد ، والجنة والنار والخلود فيهما ، وما ضاهاها

 ومنها ما ثبت بالقرآن ، والروايات المتواترة

 ومنها ما لا نجد فيها الا روايات آحاد قد توجب العلم والاطمئنان أحيانا وأخرى لا توجبه هذا كله في الأصول الاعتقادية

 واما الأحكام الفرعية ، أيضا تارة ثابتة بضرورة الدين أو المذهب وأخرى بظواهر الكتاب والسنة ، آحادها أو متواترها وربما تثبت بالعقل إلينا

الثاني : ان العوارض النفسانيّة كالحب والبغض ، والخضوع والخشوع ليست أموراً اختيارية ، حاصلة في النّفس بإرادة منها واختيار ، بل وجودها في

١١٧

النّفس ، انما تتبع لوجود مباديها ، فان لكل من هذه العوارض مباد وعلل ، تستدعى وجود تلك العوارض مثلا : العلم بوجود الباري وعظمته وقهاريته ، يوجب الخضوع والخشوع لدى حضرته جلت كبرياؤه ، والخوف من مقامه ، والعلم برحمته الواسعة ، وجوده الشامل ، وقدرته النافذة ، يوجب الرجاء والوثوق ، والتطلب والتذلل ، وكلما كملت المبادي ، كملت النتائج ، بلا ريب

 فظهر ان تلك العوارض ، نتائج قهرية لا تستتبعه إرادة ولا اختيار ، وانما يدور مدار وجود مباديها المقررة في محله وعند أهله

الثالث : وهو أهم المطالب : ان التسليم القلبي ، والانقياد الجناني ، والاعتقاد الجزمي لأمر من الأمور ، لا تحصل بالإرادة والاختيار ، من دون حصول مقدماتها ومباديها ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها ، يمتنع تخلف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مباديها ، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها ـ فتخلفها عن المبادي ممتنع ، كما ان حصولها بدونها أيضا ممتنع.

والفرق بين هذا المطلب ، وما تقدمه أوضح من ان يخفى ، إذا البحث في المتقدم عن الكبرى الكلية من ان العوارض القلبية لا تحصل بالإرادة والاختيار ، وهنا عن الصغرى الجزئية لهذه القاعدة ، وهي ان التسليم والانقياد من العوارض القلبية ، يمتنع حصولها بلا مباديها ، كما يمتنع حصول أضدادها عند حصولها ، فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته ، لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده وعدم وحدته : ومن قام عنده البرهان الرياضي على ان زوايا المثلث مساوية لقائمتيه ، يمتنع مع وجود هذه المبادي ، عقد القلب على عدم التساوي فكما لا يمكن الالتزام على ضد امر تكويني مقطوع به ، فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضد امر تشريعي ثبت بالدليل القطعي.

نعم لا مانع من إنكاره ظاهراً ، وجحده لساناً لا جنانا واعتقاداً ، وإليه يشير قوله عزوجل وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعتواً.

وما يقال من ان الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين

١١٨

الحاصل في نفسه ، فاسد جداً.

هذا هو الحق القراح في هذا المطلب من غير فرق بين الأصول الاعتقادية والفروع العلمية من غير فرق أيضاً بين ان يقوم عليها برهان عقلي أو ثبت بضرورة الكتاب والسنة أو قام عليه الأدلة الثابتة حجيتها بأدلة قطعية من الأدلة الاجتهادية والفقاهتية فلو قام الحجة عند المكلف على نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها ، يمتنع عليه ان يعقد القلب على خلافها ، أو يلتزم جداً على طهارته ، إلّا ان يرجع إلى تخطئة الشارع والعياذ بالله وهو خارج عن المقام.

وبذلك يظهر ان وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة التشريع لا يرجع إلى محصل ان كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنه لم يكن من الشرع ، أو لم يعلم كونه منه ، ومثله وجوب الموافقة ، وهو عقد القلب اختياراً على الأصول والعقائد والفروع الثابتة بأدلتها القطعية الواقعية (والحاصل) ان التشريع بهذا المعنى امر غير معقول بل لا يتحقق من القاطع حتى يتعلق به النهي ، كما ان الاعتقاد بكل ما ثبت بالأدلة ، امر قهري تتبع مباديها ، ويوجد غبّ عللها بلا إرادة واختيار ولا يمكن التخلف عنها ولا للحاصل له مخالفتها فلا يصح تعلق التكليف لأمر يستحيل وجوده ، أو يجب وجوده بلا إرادة واختيار

 نعم التظاهر والتدين ظاهراً وعملا بشيء ليس من الدين افتراءً عليه ، وكذباً على الله ورسوله وعترته الطاهرين ، امر ممكن محرم لا كلام فيه

 فظهر ان وجوب الموافقة الالتزامية عين وجوب العقد والتصميم اختياراً على الأحكام والفروع الثابتة من الشرع بعد قيام الحجة امر غير معقول لا تقع مصب التكليف وحمل كلامهم على وجوب تحصيل مقدمات الموافقة الالتزامية وحرمة تحصيل مقدمات خلافها كما ترى ، واما ان كان المراد منه ، هو البناء القلبي على الالتزام العملي وإطاعة امر مولاه ، ويقابله البناء على المخالفة العملية ، فهو بهذا المعنى امر معقول تعد ان من شعب الانقياد والتجري

وبذلك يتضح ان ما ذهب إليه سيد الأساتذة المحقق الفشاركي (رحمه‌الله) من

١١٩

وجود التجزم في القضايا الكاذبة على طبقها ، حتى جعله (قدس‌سره) مناطا لصيرورة القضايا مما يصح السكوت عليها ، وان العقد القلبي عليها يكون جعليا اختياريا ، ـ لا يخلو من ضعف

وقد أوضحه شيخنا العلامة قدس‌سره وقال : ان حاصل كلامه : انه كما ان العلم قد يتحقق في النّفس بوجود أسبابه كذلك قد يخلق النّفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج ، فإذا تحقق هذا المعنى ، في الكلام يصير جملة يصح السكوت عليها ، لأن تلك الصفة الموجودة يحكى جزماً عن تحقق في الخارج

لكن فيه : ان العلم والجزم من الأمور التكوينية التي لا توجد في النّفس الا بعللها وأسبابها التكوينية ، وليس من الأمور الجعلية الاعتبارية وإلّا لزم جواز الجزم في النّفس بان الاثنين نصف الثلاثة ، أو ان الكل أصغر من الجزء وما أشبهه من القضايا البديهية ، وبالجملة ليس الجزم والعلم من الأفعال الاختيارية حتى نوجده بالإرادة والاختيار

 واما ما ذكره من كون الجزم هو المناط في القضايا الصادقة والكاذبة ، فهو وان كان حقا إلّا ان الجزم في القضايا الصادقة حقيقي واقعي ، وفي الكاذبة ليست إلّا صورة الجزم وإظهاره وما هو المناط في الصدق والكذب هو الاخبار الجزمي ، والأخبار عن شيء بصورة الجزم والبت ، واما التجزم القلبي ، فلا ربط له لصحة السكوت وعدمها ، ولا للصدق والكذب.

والشاهد عليه انه لو أظهر المتكلم ما هو مقطوع بصورة التردد ، فلا يتصف بالصدق والكذب ولا يصح السكوت عليه ، وتوهم ان المتكلم ينشأ حقيقة التردد في الذهن ويصير مردداً بلا جعل واختراع ـ كما ترى

نقل مقال وتوضيح حال

ان بعض الأعيان من المحققين (ره) ذكر وجها لصحة تعلق الأمر والنهي ، بالالتزام

١٢٠