تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

مما لا سبيل لإنكاره ، وقد عرفت عدم المعارضة بينهما ، لأن المفهوم لا يقتضى تخصيص العموم بل هو على حاله من العموم بل انما يقتضى خروج خبر العادل عن موضوع القضية ، لا عن حكمها فلا معارضة بينهما أصلا لعدم تكفل العام لبيان موضوعه وضعا ورفعا ، بل هو متكفل لحكم الموضوع علي فرض وجوده ، والمفهوم يمنع عن وجوده (انتهى)

 وفيه : اما أولا فلان التعليل مانع عن المفهوم في المقام بلا إشكال لا لما ذكره المستشكل من أقوائية التعليل ، بل السر ما وافاك من ان دلالة الشرطية على المفهوم واستفادة ذلك من تلك القضية مبنية على ظهور الشرط في القضية في كونه علة منحصرة بحيث ينتفي الحكم بانتفائه ، واما إذا صرح المتكلم بالعلة الحقيقية ، وكان التعليل أعم من الشرط أو كان غير الشرط فلا معنى لاستفادة العلية فضلا عن انحصارها ، فلو قال ان جاءك زيد فأكرمه ثم صرح ان العلة انما هو علمه ، فنستكشف ان المجيء ليس علة ولا جزء منها ، وهذا واضح جدا وهو أيضا من الإشكالات التي لا يمكن الذب عنه وقد غفل عنه الاعلام وعليه فلا وقع لما أفادوه في دفعه

 وثانيا : ان جعل الجهالة بمعنى السفاهة أو ما لا ينبغي الركون إليه كما أوضحه تبعا للشيخ الأعظم غير وجيه ، بل المراد منها عدم العلم بالواقع ، ويدل عليه جعلها مقابلا للتبين بمعنى تحصيل العلم وإحراز الواقع ، ومعلوم ان الجهالة بهذا المعنى مشترك بين خبري العادل والفاسق بل لا يبعد ان يقال ان الآية ليست بصدد بيان ان خبر الفاسق لا يعتنى به لأن مناسبات صدرها وذيلها وتعليلها موجبة لظهورها في ان النبأ الّذي له خطر عظيم وترتيب الأثر عليه موجب لمفاسد عظيمة والندامة ، كإصابة قوم ومقاتلتهم ، لا بد من تبينه ، والعلم بمفاده ، ولا يجوز الإقدام على طبقه بلا تحصيل العلم لا سيما إذا جاء به فاسق (فحينئذ) لا بد من إبقاء ظاهر الآية على حاله ، فان الظاهر من التبيين ، طلب الوضوح ، وتحقيق صدق الخبر وكذبه ، كما ان المراد من الجهالة ضد التبيين ، أعني عدم العلم بالواقع ، لا السفاهة ، ولو فرض انها إحدى معانيها مع إمكان منعه لعدم ذكرها في جملة معانيها في المعاجم و

١٨١

مصادر اللغة ويمكن ان يكون إطلاقها كما في بعض كتب اللغة لكونها نحو جهالة فان السفيه جاهل بعواقب الأمور ، لا انها بعنوانها معناها ، ثم انه على ما ذكرناه في معنى الآية لا تلزم فيها التخصيصات الكثيرة على فرض حملها على العلم الوجداني كما قيل بلزومها فتدبر جيدا.

وثالثا : ان جعل المفهوم حاكما على عمومه مضافا إلى عدم خلوه من شبهة الدور فان انعقاد ظهور القضية في المفهوم فرع كونه حاكما على عموم التعليل ، وكون المفهوم حاكما يتوقف على وجوده ، ان الحكومة امر قائم بلسان الدليل ومعلوم ان غاية ما يستفاد من المفهوم هو جواز العمل بخبر العادل أو وجوبه واما كونه بمنزلة العلم وانه محرز الواقع وانه علم في عالم التشريع ، فلا يدل عليه المفهوم ، نعم لو ادعى ان مفهوم قوله : ان جاءكم فاسق إلخ هو عدم وجوب التبين في خبر العادل لكونه متبينا في عالم التشريع لكان للحكومة وجه لكنه غير متفاهم عرفا

 ومن الإشكالات المختصة : لزوم خروج المورد عن المفهوم ، فانه من الموضوعات الخارجية وهي لا تثبت الا بالبينة ، فلا بدّ من رفع اليد عن المفهوم لئلا يلزم التخصيص البشيع وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قده) بان المورد داخل في عموم المنطوق وهو غير مخصص ، فان خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقا لا في الموضوعات ولا في الأحكام واما المفهوم ، فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود ، لأنه لم يرد في مورد أخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية فلا مانع من تخصيصه ، ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي سوى ان المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق ، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد بل القدر اللازم هو ان يكون الموضوع في المنطوق والمفهوم واحدا (انتهى).

وفيه : ان مبنى استفادة المفهوم من الآية هو القول بان علة التشنيع والاعتراض في العمل بقول الفاسق انما هو هو كون المخبر فاسقا ، بحيث لو لا فسقه ،

١٨٢

أو كون المخبر غيره من العدول ، لما توجه لوم ولا اعتراض مع ان الأمر على خلافه ، في المورد إذ لو كان الوليد غير فاسق أو كان المخبر غيره من العدول لتوجه اللوم أيضا على العاملين ، حيث اعتمدوا على قول العادل الواحد ، في الموضوعات مع عدم كفايته في المقام ، وبذلك يظهر ان التخصيص في المفهوم بشيع فلا بد من رفع اليد عن المفهوم والالتزام بان الآية سيقت لبيان المنطوق دون المفهوم ، وبذلك يظهر النّظر فيما أفاده الشيخ الأعظم (قدس‌سره) فراجعه

جولة حول ما لا يختص بآية النبأ

منها : ان النسبة بين الأدلة الدالة على حجية قول العادل ، وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، عموم من وجه ، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجية ولكن عرفت ان من الآيات ما يختص بالأصول الاعتقادية ولسانها آب من التخصيص ولو كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا ، ومنها ما هو قابل للتخصيص لعموميتها للأصول والفروع مثل قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والنسبة بينه وبين أدلة الباب هو العموم والخصوص المطلق ، فيخصص عمومها أو يقيد إطلاقها كما مر

 وأجاب بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) من ان أدلة الحجية حاكمة على الآيات الناهية ، لأن أدلة الحجية تقتضي خروج العمل بخبر العادل عن كونه عملا بالظن ، ثم قال : ولو لم نسلم الحكومة فالنسبة بين أدلة الباب مع الآيات الناهية ، هو العموم والخصوص المطلق ، والصناعة يقتضى تخصيص عمومها بما عدى خبر العادل. وقد عرفت الإشكال في حكومة أدلة الحجية لأن الحكومة قائمة باللسان ، وليس هنا ما يتكفل ، تنزيل الخبر الواحد منزلة العلم واما ما أفاده من التخصيص ، ففيه انه لو كان لسان العام آبيا عن التخصيص ، يقع المعارضة بينه وبين الخاصّ ولا يجري صناعة التخصيص في هذا المقام أصلا والجواب ما عرفت

 ومنها : ان حجية خبر الواحد ، تستلزم عدم حجيته ، إذ لو كان حجة ، لكان يعم قول السيد وأخباره عن تحقق الإجماع على عدم حجيته ، فيلزم من حجية الخبر عدم حجيته ، وهو باطل بالضرورة. وفيه بعد الغض عن انه إجماع منقول ، وأدلة حجيته لا تشمله ، وعن ان الاستحالة انما هو ناش من إطلاق دليل

١٨٣

الحجية وشموله لخبر السيد لا عن أصل الحجية ، ان الأمر دائر بين إبقاء عامة الافراد وإخراج قوله بالتخصيص ، أو العكس ، ولا يخفى ان الأول متعين ، إذ مضافا إلى بشاعة التخصيص الكثير المستهجن ، ان التعبير عن عدم حجية الخبر الواحد ، بلفظ يدل على حجية عامة افراده ، ثم إخراج ما عدى الفرد الواحد الّذي يئول إلى القول بعدم الحجية ، قبيح لا يصدر من الحكيم ، واما ما أفاده المحقق الخراسانيّ : ان من الجائز ان يكون خبر العادل حجة في زمن صدور الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيد ، وبعده يكون هذا الخبر حجة فقط فيكون شمول العام لخبر السيد مفيدا لانتهاء حكم في هذا الزمان وليس هذا بمستهجن. فيرد عليه ، ان الإجماع المحكي بقول السيد يدل على عدم حجية قول العادل من أول البعثة إذ هو يحكى عن حكم إلهي عام لكل الافراد في عامة الأعصار والأدوار ، فلو كان قوله داخلا تحت العموم ، لكشف عن عدم حجية الخبر الواحد من زمن النبي ، وان عمل الناس عليه واستفادتهم على حجيتها بظاهر الآية ، انما هو لأجل جهلهم بالحكم الواقعي. وعلى ذلك فلا معنى لما أفاده من انتهاء زمن الحجية.

ومن ذلك يظهر النّظر ان ما أفاده شيخنا العلامة (قدس‌سره) من ان بشاعة الكلام على تقدير شموله لخبر السيد ليست من جهة خروج تمام الافراد سوى فرد واحد حتى يدفع بما أفاده (أي المحقق الخراسانيّ) بل من جهة التعبير بالحجية في مقام إرادة عدمها ، وهذا لا يدفع بما أفاده لا يخلو عن نظر ، لما عرفت من ان البشاعة الأولى لا تندفع بما أفاده أيضا ، لما عرفت ان مفاد الإجماع حكم إلهي كاشف عن عدم الحجية من زمن النبي ، فيكون تمام الافراد خارجا ، سوى فرد واحد ، ولو أغمضنا عما ذكرناه ، وسلمنا ان شمول الأدلة لخبر السيد ، يدل على انتهاء أمد الحكم ، بعد شموله لهذه الافراد طول مدة قرون ، فالبشاعة الثانية مندفعة بما في كلام المحقق الخراسانيّ ، إذ لا مانع من شمول الإطلاق لفرد من الافراد ، يفيد انتهاء أمد الحكم ، ويعلن بعدم حجية قول العادل الواحد بعد هذا الإعلان والإخبار ، ولا إشكال فيه

١٨٤

وأجاب بعض محققي العصر (قدس‌سره) عن الإشكال بما هذا حاصله ان شمول إطلاق أدلة الباب لمثل خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية ممتنع لاستلزامه شمول الإطلاق لمرتبة الشك بمضمون نفسه لأن التعبد بإخبار السيد بعدم الحجية ، انما كان في ظرف الشك في الحجية واللاحجية وهو عين الشك في مضمون أدلة الحجية التي منها المفهوم ، وإطلاقه لمثل هذه المراتب المتأخرة غير ممكن. و (فيه) انه مبنى على امتناع شمول إطلاق الجعل للحالات المتأخرة عنه ، كالشك ونحوه ، وقد عرفت بطلانه وان إطلاق الحكم يشمل لبعض الحالات المتأخرة من الشك والعلم ، وبالجملة ان الآية وسائر الأدلة وردت رافعة لعامة الشكوك ، والشك في حجية قول العادل وعدمها ، امر ينقدح في ذهن الإنسان ، سواء جعل الحجية له أولا ، سواء وقف عليها أولا ، و (ح) فلو غض عن سائر الإشكالات فلا مانع لو قلنا بان إطلاق الأدلة شامل لقول السيد ، حتى يكون قول السيد رافعة للشك ، إذ هو نبأ ، والحكم معلق على مطلق النبأ ، ولهذا لو فرض عدم الإجماع ، بالفرق بين نبأ السيد ، وسائر الأنباء ، وفرض أيضا عدم كون إجماع السيد على عدم الحجية مطلقا من أول البعثة لجاز الأخذ بالمفهوم ، وإدخال قوله ، والحكم بحجية الأخبار إلى زمن السيد ، وانتهاء أمد الحكم كما أفاده المحقق الخراسانيّ

 وربما يجاب : بان الأمر دائر بين التخصيص والتخصص ، لأن شمول الآية لسائر الأخبار يجعلها مقطوع الحجية ، فيعلم بكذب خبر السيد وأما شمولها لخبر السيد واخرج غيره يكون من قبيل التخصيص ، لعدم العلم بكذب مؤدياتها ، ولو مع العلم بحجية خبر السيد ، لأن مؤدياتها ، غير الحجية واللاحجية ، و (فيه) أولا ان مفاد أدلة الباب ليس هو الحجية وانما لسانها ، ومفادها وجوب العمل وينتزع الحجية من الوجوب الطريقي ، كما ان إجماع السيد ، ليس مضمونه عدم الحجية ، بل مفاده ، حرمة العمل بالأخبار ، وينتزع من الحرمة ، عدم الحجية ، وذلك لأن الحجية واللاحجية ليستا من الأمور القابلة للجعل فإجماع السيد أيضا يرجع إلى الإجماع على حرمة العمل المنتزع منها عدم الحجية وعليه يدور الأمر بين التخصيصين

١٨٥

وثانيا أن مضمون الآية لو كان جعل الحجية للإخبار فلا إشكال في عدم شموله له قطع بعدم حجيته أو قطعت حجيته فحينئذ لو شملت الآية لخبر السيد يصير خبره مقطوع الحجية وخبر غيره مقطوع عدم الحجية وان لم يكن مقطوع المخالفة للواقع فيصير حال غيره كحاله في خروجه تخصصا فتدبر.

شمول الأدلة للإخبار بالواسطة

والمهم هنا إشكال شمول الأدلة للإخبار مع الواسطة ، وقد قرره الشيخ الأعظم بوجوه ضرب على بعضها القلم في بعض النسخ ، وفصلها وأوضحها بعض أعاظم العصر بوجوه خمسة ونحن نذكر ما هو المهم ، وبما ان بعض تلك الوجوه ليس تقريرا لإشكال واحد وان كانت عامة الوجوه راجعة إلى الإخبار بالواسطة ، فلا جرم نفصلها بما يلي.

الأول : انصراف الأدلة عن الإخبار بالواسطة ، إذا كانت الوسائط كثيرة كما في الاخبار الواصلة إلينا من مشايخنا ، فان الواسطة بيننا وبين المعصومين كثيرة جدا ، ومثل هذه الأخبار بعيد عن مصب الأدلة اللفظية ، واما اللبي منها كبناء العقلاء الّذي هو الدليل الوحيد عندنا ، فلم يحرز بناء منهم في هذه الصورة ، ولم يكن الإخبار بالوسائط الكثيرة بمرأى ومسمع من الشارع حتى نكشف من سكوته رضاه.

ولكنه مدفوع بمنع الانصراف بالنسبة إلى الأخبار الدارجة بيننا فإنه انما يصح لو كانت الوسائط كثيرة بحيث أسقطه كثرة الوسائط عن الاعتبار واما الأخبار الدائرة بيننا ، فصدورها عن مؤلفيها اما متواترة كالكتب الأربعة أو مستفيضة ولا نحتاج في إثبات صدورها عن هؤلاء الاعلام إلى أدلة الحجية ، واما الوسائط بينهم وبين أئمة الدين فليست على حد يخرجه عن الاعتبار أو يوجب انصراف الأدلة واما اللبي من الأدلة فلا وجه للتردد في شموله لما نحن فيه ضرورة ان العقلاء يحتجون

١٨٦

بما وصل إليهم بوسائط كثيرة أكثر مما هو الموجود في أخبارنا فكيف بتلك الوسائط القليلة.

الثاني : ان الأدلة منصرفة عن المصداق التعبدي للخبر الّذي أحرز بدليل الحجية فان من نسمع كلامه ونشافهه ، فإخباره امر وجداني لنا ، واما من يحكى عنهم من الوسائط إلى ان يصل إلى أئمة الدين ، فكلها اخبار تعبدية محرزة بدليل الحجية ويدفعه ان العرف لا يفرق بين فاقد الواسطة وواجدها بحيث لو قلنا بقصور الإطلاق ، لحكم العرف بشمول مناط الحجية لعامة الأقسام ، بإلغاء الخصوصية أو بتنقيح المناط

 الثالث : ان حجية الخبر الواصل إلينا بالوسائط ، تستلزم إثبات الحكم لموضوعه فان الشيخ إذا أخبر عن المفيد وهو عن الصدوق ، فالمصداق الوجداني لنا هو قول الشيخ فيجب تصديقه واما قول المفيد إلى ان ينتهى إلى الإمام ، فانما يصير مصداقا لموضوع قولنا : صدق العادل ، بعد تصديق الشيخ (قدس‌سره) فيلزم إثبات الموضوع بالحكم وهو محال

 وأجيب عنه تارة بان أدلة الحجية من قبيل القضايا الحقيقية الشاملة للموضوعات المحققة والمقدرة فلا مانع من تحقق الموضوع بها وشمولها لنفسها فيشمل قولنا صدق العادل للموضوع المنكشف لنا إثباتا : بنفس التصديق ، كشمول قول القائل : كل خبري صادق لنفسه وأخرى بانحلال قولنا صدق العادل إلى قضايا كثيرة ، فان الّذي لا يعقل انما هو إثبات الحكم موضوع شخصه ، لا إثبات موضوع لحكم آخر ، فان خبر الشيخ المحرز بالوجدان يجب تصديقه وبتصديقه يحصل لنا موضوع آخر وهو خبر المفيد وله وجوب تصديق آخر وهكذا ، فكل حكم متقدم (وجوب التصديق) يثبت موضوعا مستقلا لحكم آخر.

الرابع : انه يلزم ان يكون الأثر الّذي بلحاظه وجب تصديق العادل ، نفس تصديقه من دون يكون في البين أثر آخر ، كان وجوب التصديق بلحاظه ، وان شئت قلت : يلزم كون الحكم ناظرا إلى نفسه ، فان وجوب التصديق الّذي يتعلق بالخبر

١٨٧

مع الواسطة ، انما يكون بلحاظ الأثر الّذي هو وجوب التصديق. وتوضيحه : ان وجوب التعبد بالشيء لا بد وان يكون بلحاظ ما يترتب على الشيء من الآثار الشرعية ، فلو فرضنا خلو الموضوع عن الأثر الشرعي ، لما صح إيجاب التعبد الشرعي به ، فلزوم التعبد بعدالة زيد التي قامت البينة على اتصافه بها ، لأجل كونها ذات آثار من جواز الصلاة خلفه ، وإيقاع الطلاق عنده

وعلى ذلك ، فلو كان الراوي حاكيا قول الإمام ، فوجوب التصديق بلحاظ ما يترتب على قول الإمام من الآثار ، كحرمة الشيء ووجوبه ، ولو كان المحكي ، قول غيره كحكاية الشيخ قول المفيد ، فالأثر المترتب على قول المفيد ليس إلّا وجوب تصديقه. و (ح) يجب تصديق الشيخ. فيما يحكيه ، لأجل كون محكيه (قول المفيد) ذا أثر شرعي وهو وجوب التصديق ، ولا يعقل ان يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) بان المجعول عندنا في باب الأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات ، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية أي شيء كان المؤدى ، فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد ، وهو إلى قول الصدوق وهكذا إلى ان ينتهي إلى قول الإمام عليه‌السلام ولا نحتاج في جعل الطريق إلى ان يكون في نفس المؤدى أثر شرعي بل يكفى الانتهاء إلى الأثر كما في المقام

 وفيه : ان الإشكال غير مندفع أيضا حتى على القول بجعل الطريقية ، فان محصل الإشكال لزوم كون الدليل ناظرا إلى نفسه ، وكون دليل الجعل باعتبار الأثر الّذي هو نفسه ، وهو وارد على مبناه أيضا ، فان خبر الشيخ المحرز بالوجدان طريق إلى خبر المفيد وكاشف عنه بدليل الاعتبار ، وهو كاشف عن خبر الصدوق بدليل الاعتبار أيضا وهكذا فدليل جعل الكاشفية ناظر إلى جعل كاشفية نفسه ، ويكون جعل الكاشفية بلحاظ جعل الكاشفية وهو محال

 وبعبارة أخرى ان الحاكم لا بد له من لحاظ موضوع حكمه حين الحكم والموضوع لما لم يثبت الا بهذا الحكم فلا بدّ ان يكون دليل الجعل ناظراً إلى نفسه باعتبار ما عدى الخبر

١٨٨

الّذي في آخر السلسلة ولا بد في الذب عنه ببعض الوجوه المتقدمة أو الآتية.

ثم ان بعض أعاظم العصر قرر الإشكال المتقدم بتقرير آخر ، وجعله خامس الوجوه حيث قال : ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر لعله يأتي حتى بناء علي المختار وهو انه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة ، يلزم ان يكون الدليل حاكما على نفسه ويتحد الحاكم والمحكوم ، لأن أدلة الأصول والأمارات حاكمة على الأدلة الأولية الواردة للأحكام الواقعية ، ومعنى حكومتها ، هو انها مثبتة لتلك الأحكام ، وفيما نحن فيه يكون الحكم الواقعي هو وجوب التصديق ، وأريد إثباته بدليل وجوب التصديق فيكون دليل وجوب التصديق حاكما على نفسه ، أي مثبتا لنفسه ، ونظير هذا الإشكال يأتي في الأصل السببي والمسببي ، فان لازمه حكومة دليل لا تنقض على نفسه

 والتحقيق في الجواب : ان دليل الاعتبار قضية حقيقية ، ينحل إلى قضايا فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة ، حسب تعدد آحاد السلسلة ، ويكون لكل منها أثر يخصه ، غير الأثر المترتب على الآخر ، فلا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم ، بل يكون كل قضية حاكمة على غيرها ، فان المخبر به ، بخبر الصفار الحاكي لقول العسكري عليه‌السلام في مبدأ السلسلة لما كان حكما شرعيا من وجوب الشيء أو حرمته ، وجب تصديق الصفار في اخباره عن العسكري ، بمقتضى أدلة خبر الواحد ، والصدوق الحاكي لقول الصفار حكى موضوعاً ذا أثر شرعي ، فيعمه دليل الاعتبار ، وهكذا إلى ان ينتهى إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان ، فلأجل الانحلال لا يلزم ان يكون الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه ، ولا حكومة الدليل على نفسه فيرتفع الإشكال

 ومن ذلك يظهر دفع الإشكال في حكومة الأصل السببي ، على المسببي ، فان انحلال قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك ، يقتضى حكومة أحد المصداقين على الآخر كما في ما نحن فيه ، وانما الفرق ان الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك ، وحكومة دليل

١٨٩

الاعتبار فيما نحن فيه يقتضى إدخال فرد في دليل الاعتبار.

ثم أوضحه مقرر بحثه (رحمه‌الله) في ذيل الصحيفة بما حاصله : ان طريق حل الإشكال الثالث يختلف مع طريق حل الإشكال الرابع (الّذي جعله خامس الوجوه) ، وان كان امرا واحدا وهو انحلال القضية ، إلا أن حل الإشكال الأول يكون بلحاظ آخر السلسلة وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان فان وجوب تصديقه يثبت موضوعا آخر ، وحل الإشكال الثاني بلحاظ مبدأ السلسلة ، وهو الراوي عن الإمام عليه‌السلام ، فان وجوب تصديقه بلحاظ الأثر الّذي هو غير وجوب التصديق ثم يكون وجوب تصديقه أثر للاخبار الأخر وهكذا إلى آخر السلسلة.

ولا يخفى ان في كلامه مواقع للنظر نشير إلى مهماتها منها ان جعل الأمارات ـ حاكمة على الأحكام الواقعية ، بمعنى انها مثبتة لتلك الأحكام ، لا يخلو عن ضعف ، فان مجرد إثبات الأمارات الأحكام الواقعية ، لا يصحح الحكومة ، لعدم انطباق ضابطتها على ذلك

 ومنها ان أدلة الأصول ليست أيضا حاكمة على الأحكام الواقعية بل هي متكفلة لبيان الوظائف العملية في ظرف الشك ، من غير فرق بين المحرز منها وغير المحرز (وسيوافيك عدم صحة ما زعمه (قدس‌سره) من وجود الأصل المحرز) ، نعم بعض الأصول كأصالة الطهارة والاستصحاب حاكمة على أدلة الشرائط كما مر تفصيله في مبحث الاجزاء وهو امر آخر أجنبي عما نحن فيه.

ومنها انه يمكن ان يقرر كون الدليل حاكما على نفسه على وجه آخر بان يقال : ان الدليل المتكفل لبيان الموضوع حاكم على الدليل المتكفل لبيان الحكم فقولنا : زيد عالم ، حاكم على قولنا أكرم العادل ، فان الحكومة قد يكون بإخراج فرد وأخرى بإدخاله

 وعلى ذلك : فلو كان الدليل متكفلا لكلتا الحيثيتين كما في المقام ، لزم ما ذكرناه من المحذور ، فان أدلة اعتبار الخبر كما هي متكفلة لبيان الحكم من وجوب التصديق فهكذا مثبتة لموضوعه ، على ما عرفت في الجواب عن الإشكال الثالث وهذا ما يقال من

١٩٠

كون الدليل حاكما لنفسه وعلى ذلك فيكون هذا التقرير اما إشكالا مستقلا ، أو تقريرا آخر لثالث الإشكالات ، لا لرابعها ، كما ذكره مقرر بحثه (رحمه‌الله) وأظن ان المقرر قد خلط الأمر والشاهد ما ذكره في إبداء الفرق بين حكومة السببي على المسببي ، وما نحن فيه : ان الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار فان وجوب تصديق الشيخ في اخباره عن المفيد يقتضى وجوب تصديق المفيد في اخباره عن الصدوق فوجوب تصديق الشيخ يدخل فردا تحت عموم وجوب التصديق ، بحيث لولاه لما كان داخلا «انتهى» فانه صريح فيما ذكرناه.

ومنها ان ما أفاده مقرر بحثه ، من ان طريق حل الإشكالين وان كان واحدا ، وهو انحلال القضية إلى القضايا ، إلا أن حل الإشكال الثالث بلحاظ آخر السلسلة وحل الرابع انما هو بلحاظ مبدأ السلسلة ضعيف جدا فان الرابع لا ينحل بما ذكره فان محكي قول الصفار وان كان هو قول الإمام وله أثر شرعي غير وجوب التصديق إلّا ان وجوب تصديقه يتوقف على ثبوت موضوع ذي أثر وهو (قول) الصفار المنقول لنا تعبدا وثبوته يتوقف على وجوب تصديقه ، فان قول الصفار لم يصل إلينا من الطرق العلمية حتى يكون الموضوع محرزا بالوجدان ، ولا نحتاج في تحصيل الموضوع إلى شيء.

وبذلك يظهر ، ان الإشكال لا ينحل من طريق مبدأ السلسلة ، لعدم الموضوع لوجوب التصديق فلا بد من حل الإشكال باعتبار آخر السلسلة ، وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان ولا يتوقف الموضوع فيه على الحكم.

جولة حول الأجوبة الماضية

هذه جملة ما قيل أو يمكن ان يقال حول الإشكالات والأجوبة ، غير ان كل ذلك يتوقف على ان يكون لسان الأدلة لسان جعل الطريقية وأمثالها أو لسان التنزيل

١٩١

، وجعل المصداق ، بان يكون خبر الواحد من مصاديق العلم تشريعا وتعبدا أو يكون لسان الأدلة ناظرا إلى تحقق المخبر به في الخارج سواء كان المخبر به قول الإمام ، أو اخبار المفيد للشيخ مثلا. فلو صح واحد من هذه لصح ما تشبثوا به من إحراز الموضوع بدليل صدّق العادل ، فان العلم وما هو منزل منزلته أعني خبر الشيخ ، يكشف كشفا تاما تعبديا عن وجود موضوع كان مستورا عنا ، فيشمله وجوب التصديق لانحلاله إلى وجوبات حسب تعدد موضوعه واما إذا قلنا ان لسانها على فرض دلالتها ، هو إيجاب العمل ولزوم التمسك به فلا وجه لهذه الأجوبة لأن المحرز بالوجدان هو خبر الشيخ ، وما قبله ليس محرزا لا بالوجدان ولا بالتعبد ، لأن المفروض ان لسان الأدلة ، وجوب العمل بها ، حسب الوظيفة لا كون قول العادل نازلا منزلة العلم أو دالا على وقوع المخبر به تعبدا و (عليه) فلا يشمل وجوب التصديق لغير المحرز بالوجدان واما كون أدلة حجية الخبر كذلك فيظهر بالمراجعة إليها والتأمل فيها هذا إذا قلنا بان أدلة الحجية تأسيسية وإلّا فلا بدّ من ملاحظة بناء العقلاء ويأتي الكلام فيه.

واما حصول الظن النوعيّ منه ، أو الكشف الظني عن الواقع ، فكل ذلك يمكن ان يكون نكتة التشريع ، ليس مصبا للجعل كالقول بان علة التشريع عدم وقوع الناس في الكلفة وما أشبهه.

أضف إلى ذلك ، ان إيجاب التصديق شرعا يتوقف على أثر عملي للمنكشف وليس لمحكي قول الشيخ (اخبار المفيد له عن الصدوق) أيّ أثر شرعي ، فانه لا يخبر عن وجوب صلاة الجمعة بل عن اخبار أستاذه له كما ذكرناه وعليه فلا أثر لقوله بما هو قوله.

واما ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه : من انه لو أخبر العادل بشيء يكون ملازما لشيء له أثر شرعا اما عادة أو عقلا أو بحسب العلم نأخذ به ويكفى في حجية خبر العادل انتهائه إلى أثر شرعي لا يقال : ان ذلك انما يصح إذا كانت الملازمة عادية أو عقلية وليس هنا بين المخبر به (حديث المفيد) وصدقه ملازمة لا عادية ولا عقلية

١٩٢

«لأنا نقول» ان الملازمة وان لم تكن عقلية ولا عادية ولكن يكفى ثبوت الملازمة الجعلية بمعنى ان الشارع جعل الملازمة النوعية الواقعية بين اخبار العادل وتحقق المخبر به.

فلا يخلو عن إشكال فان الملازمة ليست عقلية ولا عادية كما اعترف به والملازمة الشرعية تحتاج إلى الجعل وليس بين الأدلة ما يتكفل ذلك.

ودعوى دخالة كل واحد من السلسلة في موضوع الحكم غريبة فان ما هو الموضوع للوجوب ليس إلا نفس الصلاة لا الصلاة المحكي وجوبها على ان الانتهاء إلى الأثر انما هو بالتعبد والتعبد بالشيء فرع تحقق الأثر الشرعي حتى يكون التعبد بلحاظ ذلك الأثر وان شئت قلت : ان خبر الشيخ لا عمل له ولا أثر

 عملي له وليس جزء موضوع للعمل نعم له أثر عملي بما هو موضوع من الموضوعات وهو جواز انتساب الخبر إلى المفيد وهو يتوقف علي تعدد المخبر كسائر الموضوعات

 واما وجوب صلاة الجمعة فليس مفاد خبر الشيخ ، حتى يكون إقامة الصلاة ترتيبا عمليا له ، فان الشيخ لم يخبر عن وجوبها ، وانما أخبر عن اخبار المفيد ، ولأجل ذلك يدور صدق قوله أو كذبه ، مدار اخبار المفيد له وعدم اخباره ، سواء كانت الصلاة واجبة أم لا.

ومن الغريب ان الأساتذة أعرضوا عن مصب الإشكال أعني آخر السلسلة وهو خبر الشيخ ، وتشبثوا بأول السلسلة أعني خبر الصفار عن العسكري عليه‌السلام حيث قالوا : ان قول الصفار له أثر غير وجوب التصديق ، فيجب تصديقه لأجل ذاك الأثر المغاير لوجوب تصديقه ، فيصير قوله ذا أثر فإذا أخبر الكليني يكون اخباره موضوعا ذا أثر حتى ينتهى إلى آخر السلسلة.

وقد عرفت ان ما هو المهم تصحيح الحجية من جانب الشيخ حيث ليس لقوله واخباره أثر عملي حتى يجب التصديق بلحاظه ، واما اخبار الصفار ، فان قوله وان كان ذا أثر شرعي غير ان اخبار الصفار للكليني ليس لنا وجدانيا. بل لم يثبت لنا إلّا بدليل

١٩٣

التعبد ، فلا يثبت اخباره له. إلّا ان يثبت قبله اخبار المفيد للشيخ وما بين المفيد والصفار من الوسائط. فلا مناص الا التشبث بآخر السلسلة وإصلاح حاله. وقد مضى اشكاله.

نظرنا في دفع الإشكالات

والّذي يقتضيه النّظر ان الإشكالات تندفع بحذافيرها. بمراجعة بناء العرف والعقلاء فانهم لا يفرقون في الاخبار بين ذي الواسطة وعدمه ، وسيمر عليك ان الدليل الوحيد هو البناء القطعي من العقلاء على العمل بخبر الثقة ، واما ان عدم كون محكي قول الشيخ ذا أثر فمدفوع بأنه لا يلزم في صحة التعبد ان يكون له أثر عملي بل الملاك في صحته عدم لزوم اللغوية في إعمال التعبد أو إمضاء بناء العقلاء كما في المقام فان جعل الحجية لكل واحد من الوسائط أو إمضاء بناء العقلاء ليس امرا لغوا.

ولعل السر في عدم تفريقهم بين ذي الواسطة وعدمه ، وعدهم الخبر المعنعن المسلسل خبرا واحدا لا اخبارا ، لأن نظرهم إلى الوسائط طريقي لا موضوعي وليس هاهنا إخبارات عديدة ولكن لا يترتب الأثر العملي الا بواحد منها أعني خبر الصفار بل اخبار واحد ، وعمل فارد ، ويشهد على ذلك انصراف ما يدل على احتياج الموضوعات إلى البينة عن المقام أعني أقوال الوسائط مع كونها موضوعات ، نعم لو كان لبعض الوسائط أثر خاص لا يمكن إثباته الا بالبينة ، كما لا يخفى

الاستدلال بآية النفر

ومما استدل به قوله تعالى : ما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم ينذرون (١) وقد ذكر بعض أعاظم العصر تقريبا زعم انه يندفع به عامة الإشكالات المتوهمة في دلالة الآية فقال ، ان الاستدلال يتركب من أمور

__________________

(١) التوبة ـ الآية ١٢٢

١٩٤

الأول ان كلمة لعل مهما تستعمل تدل على ان ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات والأفعال الاختيارية وغيرها فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لأن يتعلق بها الإرادة الآمرية كان لا محالة بحكم ما قبلها في الوجوب والاستحباب ، وبالجملة لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علته الغائية ، وفي الآية جعل التحذر علة غائية للإنذار ، ولما كان الإنذار واجبا كان التحذر واجبا «الثاني» ان المراد من المجموع في الآية هي المجموع الاستغراقية لا المجموعية لوضوح ان المكلف بالتفقه هو كل فرد فرد من النافرين أو المتخلفين على التفسيرين فالمراد ان يتفقه كل فرد منهم ، وينذر كل واحد منهم ، ويتحذر كل واحد منهم ، «الثالث» المراد من التحذر هو التحذر العملي وهو يحصل بالعمل بقول المنذر بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله «ولينذروا» هو وجوب الحذر مطلقا ، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل ، غايته انه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن ان يشك أحد في دلالتها على حجية الخبر الواحد وبما ذكرنا من التقريب يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسك بها «انتهى» ثم تصدى لبيان الإشكالات ودفعها.

وفي كلامه مواقع للنظر منها ان ما ادعاه من ان ما يقع بعد كلمة لعل انما يكون دائما علة غائية لما قبلها منقوض بقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، فان الجملة الشرطية وان كانت متأخرة ظاهرة لكنها متقدمة على قوله تعالى فلعلك باخع إلخ حسب المعنى ، مع ان ما بعد «لعل» ليس علة غائية لما قبلها أعني الجملة الشرطية ، فان بخوع نفسه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس علة غائية لعدم إيمانهم ، وان كان مترتبا عليه ، غير ان الترتب والاستلزام غير العلة الغائية لكن الأمر سهل بعد كون المقام من قبيل ما ذكره رحمه‌الله

 ومنها : ان ما ذكره من وجوب التحذر لكونه غاية للإنذار الواجب ، غير

١٩٥

صحيح بل الظاهر كونه غاية للنفر المستفاد وجوبه من «لو لا» التحضيضية الظاهرة في الوجوب ومع ذلك أيضا ليس للآية ظهور تام في وجوب النفر حتى يترتب عليه وجوب التحذر فان صدر الآية أعني قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة. يعطى ان الغرض المسوق له الكلام هو النهي عن النفر العمومي وانه لا يسوغ للمؤمنين ان ينفروا كافة وإبقاء رسول الله وحيدا فريدا ، وعلى ذلك فيصير المآل من الآية هو النهي عن النفر العمومي ، لا إيجاب النفر للبعض فالحث انما هو على لزوم التجزئة وعدم النفر العمومي ، لا على نفر طائفة من كل فرقة للتفقه

 ودعوى ان ذلك خلاف ظاهر الآية ، بشهادة انه لو كان الغرض هو المنع عن النفر العمومي لكان الواجب الاكتفاء على قوله عزّ شأنه فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ، من دون ان يعقبه بما ذكره بعده من التفقه والرجوع والإنذار والتحذر ، فان التعقيب بما ذكر شاهد على ان الغرض هو الحث على تحصيل هذه المطالب من بدئها إلى ختامها ، أضف إلى ذلك ان قوله تعالى وما كان المؤمنون إلخ ليس نهيا ولا منعا بل اخبارا عن امر تكويني خارجي ، وهو امتناع النفر العمومي ، امتناعا واضحا يحكم به ضرورة العقول لاستلزامه اختلال النظام ، ثم أردف ذلك عزّ شأنه بنفر البعض ، لعدم استلزامه هدم النظام وفساد المجتمع.

مدفوعة بان عدم الاكتفاء على الجملة الأولى يمكن ان يكون لدفع ما ربما ينقدح في الأذهان من بقاء ساير الطوائف على جهالتهم وعدم تفقههم في الدين فقال عزّ شأنه يكفى لذلك تفقه طائفة فليست الآية في مقام بيان وجوب النفر بل في مقام بيان لزوم التفرقة بين الطوائف وقوله وما كان المؤمنون اخبار في مقام الإنشاء ولو بقرينة شأن نزولها كما قال المفسرون وليس المراد بيان امر واضح لم يختلج ببال أحد لزوم نفر جميع الناس في جميع الأدوار إلى طلب العلم والتفقه حتى لزم التنبه به إلّا ان يحمل ذكره لصرف المقدمة لما بعده وهو أيضا بعيد مخالف لشأن نزول الآية وقول المفسرين.

ومنها ان ما ذكره (قدس‌سره) من ان المراد من الحذر هو الحذر العملي وهو

١٩٦

يحصل بالعمل يقول المنذر ، لا يخلو عن ضعف بل الظاهر ان المراد من الحذر هو الحذر القلبي بعد إنذار المنذر ، وإيعاده وتلاوته ما ورد في ذلك من الآيات والنصوص والسنن ، وعلى ذلك فبعد ما أنذر المنذر بما عنده من الآيات والروايات وحصل الحذر والخوف القلبيان ، يقوم المنذرون (بالفتح) بما لهم من الوظائف العملية التي تعلموها من قبل أو يلزم تعلمها من بعد فليست الآية ظاهرة في أخذ المنذر (بالفتح) شيئا من الأحكام من المنذر (بالكسر) تعبدا وبالجملة غرض القائل سبحانه من الآية ليس تعلم المنذر شيئا من المنذر ، ولا عمله بقوله ، بل غرضه سبحانه ، ان المنذرين بعد ما أو عدوا قومهم بتذكار الله ، وبيان عظمته ، وما أعد للمتقين من الجنة وللكافرين والفاسقين من النار ، وذكروا ذلك كله على سبيل الموعظة والإنذار ، يحصل له حذر قلبي ، وخوف باطني ، يجبر ذلك الخوف على العمل ـ بالوظائف الشرعية العلمية ، واما ما هو الوظائف ، وانها من أين يلزم تحصيلها والوقوف عليها ، فليس موردا لغرض الآية ، كما ان أوصاف المنذر من عدالته وتعدده ليس مصبا للبيان وعلى ذلك فبين معنى الآية وحجية الخبر الواحد بون بعيد

ومنها وذلك أهم ما في الباب من الإشكال وملخصه ، إنكار إطلاق الآية بالنسبة إلى حصول العلم من قول المنذر وعدمه ، فان الإطلاق فرع كون المتكلم في مقام البيان ، وليس في الآية ما يشعر بكونه سبحانه في مقام بيان تلك الجهة بعامة خصوصياتها ، فان الآية حسب بعض تفاسيرها ، في مقام بيان وجوب أصل النفر ، وقيام عدة به ، ورجوعهم وإنذارهم وتحذرهم ، واما لزوم العمل بقول كل منذر ، سواء كان عادلا أم فاسقا ، واحدا أم متعددا ، حصل منه الظن أو العلم أم لا ، فليس في مقام بيانها حتى يؤخذ بإطلاق الآية ، والعجب انه قدس‌سره قد صار بصدد دفع الإشكال فقال : بعد ما عرفت من ان المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، إذ أي إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (انتهى) وأنت خبير ، ان كون العام استغراقيا ، لا يثبت الإطلاق من ناحية الفرد ، إذ لا منافاة بين كون الحكم شاملا لكل أحد ، وبين حجية قول كل واحد منها في ظروف خاصة و

١٩٧

أوقات معينة.

ومنها : ان بعض الروايات الصادرة عنهم عليهم‌السلام يستفاد منها ان الأئمة الهداة قد استشهدوا بها على لزوم النفر إلى تحصيل العلم بالإمام المفترض طاعته ، بعد فوت امام قبله ، ومعلوم ان الأصول الاعتقادية ، لا يعتمد فيها بخبر الثقة ، وهذا أيضا يؤيد عدم الإطلاق الفردي.

هذا وقد استدل القوم بآيات كثيرة ، غير ان المهم ما عرفت

الاستدلال على حجية قول الثقة بالأخبار

قد استدل الأصحاب بالروايات الكثيرة الواردة التي جمعها الشيخ الجليل الحرّ العاملي في كتاب القضاء من وسائله ، ولا حاجة لنا في نقلها وسردها في المقام وعلى القاري الكريم ، ملاحظة أبواب القضاء من ذاك الكتاب ، لعله يقف على أزيد مما وقف عليه غيره. ولكن نعطف نظره إلى نكتة مرت الإشارة إليه غير مرة وهو انا لاحظنا ما وقفنا عليه من الاخبار واحداً بعد واحد ، وأمعنا النّظر في مفادها فلم نجد فيها ما يدل على التأسيس وان الشارع قد جعل الخبر الواحد ، أو قول الثقة حجة من عنده ، بل يظهر من كثيرها ، ان حجية خبر الثقة كان امرا مسلما عندهم ، وكانت الغاية في هذه الاخبار تشخيص الثقة عن غيرها ، وان فلانا هل يجوز الأخذ منه لوثاقته أو لا يجوز

 وان شئت قلت ان الاخبار في مقام بيان الصغرى ، وهو تعيين الثقة وان فلانا ثقة أو غير ثقة واما الكبرى وهو حجية قول الثقة ، فقد كانت امرا ارتكازيا لهم وكان بناء العقلاء على العمل به وبذلك يظهر ان ما استدلوا به من الكتاب والسنة ما يدل بظاهرها على حجية قول الثقة ، فهي محمولة على الأمر العقلائي الدائر بينهم وكان المرمي إمضاء عملهم لا تأسيس امر لهم

 واما ما أفاده المحقق الخراسانيّ وتبعه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه من ان لازم العلم إجمالا بتواترها الإجمالي وان كان هو الأخذ بأخص مضامين تلك الاخبار وهو حجية قول العدل الّذي شهد اثنان من أهل الفن بعدالته ، إلّا انه يوجد في تلك الاخبار خبر يكون جامعا لعامة الشرائط المحتملة ، ويكون مفاده حجية قول مطلق الثقة ،

١٩٨

فيتعدى منه إلى الأعم ، فغير صحيح إذ لا أظن ان يكون بين الاخبار في الباب خبر يكون جامعا لعامة الشرائط المحتملة التي قد قلنا بها من باب الأخذ بالقدر المتيقن ومع ذلك يكون من حيث المفاد أعم أي دالا على حجية قول المطلق الثقة فانه مجرد فرض فان القدر المتيقن من تلك الاخبار ، هو الخبر الحاكي من الإمام بلا واسطة ، مع كون الراوي من الفقهاء نظراء زرارة ، ومحمّد بن مسلم وأبي بصير ومعلوم انه ليس بينها خبر جامع لتلك الشرائط دال على حجية قول مطلق الثقة.

واما ما أفاده بعض أعاظم العصر من ان أغلب الطوائف وان لم يكن متواترا إلّا انه لا إشكال في ان مجموعها متواترة للعلم بصدور بعضها عنهم صلوات الله عليهم ، ففيه ان العلم بصدور البعض لا يمكن الاستدلال به على حجية قول الثقة مطلقا ، إذ من المحتمل ان يكون الصادر منهم ما يدل على حجية قول الثقة إذا كان جامعا لشرائط خاصة وبالجملة العلم بصدور البعض لا يكفى في استنتاج الأعم ، على انه يمكن منع التواتر لأنها مع كثرتها منقولة عن عدة كتب خاصة لا تبلغ حد التواتر واشترطوا في تحقق التواتر ، كون الطبقات عامتها متواترة والتواتر في جميعها ممنوع.

نعم هاهنا وجه آخر لإثبات حجية مطلق قول الثقة وحاصله : انه ان ثبت حال السيرة العقلائية ، وظهر أن بناء العقلاء على العمل بمطلق قول الثقة ، فهو وإلّا فالقدر المتيقن ، من السيرة هو بنائهم على حجية الخبر العالي السند ، الّذي يكون رواته كلهم ثقات عدول ، قد زكاهم جمع من العدول ، ولا إشكال في انه يوجد بين تلك الروايات ما يكون جامعا لتلك الشرائط ، مع كونه دالا على حجية قول الثقة مطلقا فقد روى الكليني عن محمّد بن عبد الله الحميري ومحمّد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن قال سألته وقلت : من أعامل وعمن آخذ ، وقول من أقبل ، فقال العمري ثقتي ، فما ادى إليك عني فعني يؤدى ، وما قال لك عني ، فعني يقول فاسمع له وأطع فانه الثقة المأمون ، ونحوها صحيحته الأخرى ، وهذه الرواية مع علوها ، رواته كلهم من المشايخ العظام ، ممن اتفق

١٩٩

الأصحاب على العمل برواياتهم ، فتلك الرواية لا إشكال في شمول السيرة العقلائية عليها ، فإذا شملتها نتعدى حسب مضمونها إلى كل ثقة مأمون.

لا يقال : لا يمكن التعدي منها إلا إلى نظراء العمري وابنه الذين هم من الأجلاء الثقات.

ولا يمكن منه التعدي إلى مطلق الثقة ، لأنا نقول : ان التعليل بأنه الثقة المأمون يرفع هذا الاحتمال ، فان التعليل بمطلق الوثاقة والمأمونية ، لا الوثاقة المختصة لأضراب العمري وابنه ، كما ان التعليل في قول القائل : لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، ظاهر في ان تمام العلة ذات الإسكار لا الإسكار المختص بالخمر.

ثم هذه الرواية وأمثالها وان كان لسانه عاريا عن جعل الحجية أو تتميم الكشف أو جعل الطريقية إلا انه يظهر منه ان العمل بقول الثقة المأمون كان رائجا بين الأصحاب بل بين العقلاء ولذا جاء أخذ الحديث من العمري وابنه معللا بأنه الثقة المأمون وبذلك يظهر الفرق بين مقالنا وبين ما ذكره المحقق الخراسانيّ فراجع لما نقلناه عنه.

نعم لو قلنا بعدم استفادة إيجاب العمل أو جعل الحجية وأمثالها منها يشكل التمسك بها لكشف حال السيرة لعدم الكشف القطعي وهو واضح وعدم كونه حكما عمليا فلا معنى للتعبد به وكيف كان فالخطاب سهل بعد إحراز بناء العقلاء على الاحتجاج بخبر كل ثقة ثم بناء على إنكار بنائهم فالرواية ونحوها تدل على التشريع ولزوم العمل بقوله وما ذكرناه من عدم الدلالة على التأسيس لأجل إحراز بناء العقلاء فتدبر.

الاستدلال بالسيرة العقلائية

وقد عرفت انها العمدة في الباب ، بل لا دليل غيرها ، ويقف على وجودها كل من له إلمام بالمجتمعات البشرية منذ دوّن تاريخ البشر ، واستقر له التمدن ، واتخذ لنفسه مسلكا اجتماعيّا

 وما ورد من الآيات الناهية من العمل بغير العلم ، أو العمل بالظن ، ليست رادعة

٢٠٠