تهذيب الأصول - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

مقدمة

قبل الخوض في تحقيق المسائل الأصولية يبحث عن أمور جرت السيرة على البحث عنها وهي أمور وموضوعات لها ارتباط بالمسائل المعنونة في المباحث الأصولية

الأول في حال العلوم وموضوعها ووحدتها ومسائلها وتميز بعضها عن بعض وغيرها ، فنقول انك إذا تفحصت العلوم المدونة الدائرة بين أبناء عصرنا من علمية وعملية وحقيقية واعتبارية ، يتضح لك تكامل العلوم في عصر بعد عصر من مرتبة ناقصة إلى مرتبة كاملة بحيث كانت في أول يومها الّذي دونت وانتشرت ، عدة مسائل متشتتة تجمعها خصوصية كامنة في نفس المسائل ، بها امتازت عن سائر العلوم وبها عدت علما واحدا ، فجاء الخلف بعد السلف في القرون الغابرة ، وقد أضافوا إليها ما تمكنوا عنه وما طار إليه فكرتهم ، حتى بلغ ما بلغ ، بحيث تعد بآلاف من المباحث بعد ما كانت أول نشوها بالغا عدد الأصابع

وينبئك عن هذا ما نقله الشيخ الرئيس في تدوين المنطق عن المعلم الأول من أنا ما ورثنا عمن تقدمنا في الأقيسة الا ضوابط غير منفصلة واما تفصيلها وافراد كل قياس بشروطه فهو امر قد كددنا فيه أنفسنا (وأمامك) علم الطب فقد تشعب وانقسم عدة شعبات من كثرة المباحث وغزارة المسائل حتى ان الرّجل لا يتمكن اليوم من الإحاطة بكل مسائله أو جلها بل يتخصص في بعض نواحيه بعد ما كان جميع مسائله مجتمعا في كتاب وكان من المرسوم الدائر قيام الرّجل الواحد بمداواة جميع الأمراض والعلل (وهذا هو الفقه) فانظر تطوره وتكامله من زمن الصدوقين إلى عصورنا الحاضرة

ثم ان وحدة العلوم ليست وحدة حقيقية بل وحدة اعتبارية لامتناع حصول الوحدة الحقيقية التي هي مساوقة للوجود الحقيقي من القضايا المتعددة لأن المركب من جزءين أو اجزاء ليس موجودا آخر وراء ما تركب منه. اللهم إذا حصل الكسر والانكسار ، وأخذت الاجزاء صورة على حدة غير موجودة في نفسها وهو الّذي يعبر عنه بالمركب الحقيقي (أضف) إليه ان سنخ وحدة العلم تابع لسنخ وجوده بل عينه على وجه دقيق وليس العلم إلا عدة قضايا متشتتة ولهذه المتشتتات ارتباط خاص وسنخية واحدة وخصوصية فاردة ،

١

لأجلها قام العقلاء بتدوينها وعدوها شيئا واحدا فهي في عين تكثرها؟ واحد بالاعتبار ، ولأجله تجمع في كتاب أو رسالة لكي يبحث عنه في الجوامع وليس موجودا واحدا مشخصا وراء الاعتبار فيكون ذا صورة ومادة أو جنس وفصل حتى يتقوم مهيته بالوجود الحقيقي.

ثم ان ما اشتهر في الألسن وتلقاه الاعلام بالقبول من ان قضايا العلوم ليست إلا قضايا حقيقية وان نسبة موضوع المسائل إلى موضوع العلم كنسبة الطبيعي إلى افراده (انما يصح) في بعض منها كالعلوم العقلية والفقه وأصوله فان غالب قضاياها حقيقية أو كالحقيقية والنسبة ما ذكروه في جملة من مسائلها دون جميع العلوم ، إذ قد يكون قضايا بعض العلوم قضايا جزئية كالجغرافيا وأكثر مسائل علم الهيئة والتاريخ وتكون النسبة بين موضوع المسائل وما قيل انه موضوع العلم نسبة الجزء إلى الكل ، وربما يتفق الاتحاد بين الموضوعين كالعرفان فان موضوعه هو الله جل اسمه وموضوع جميع مسائله أيضا هو سبحانه وليسا مختلفين بالطبيعي وفرده والكل وجزئه.

وأسوأ حالا من هذا ما اشتهر من ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة سواء فسرت بما نقل عن القدماء أو بما عن بعض المتأخرين بأنها ما لا يكون لها واسطة في العروض ، إذ هو ينتقض بعلمي الجغرافيا والهيئة وما شابههما مما يكون النسبة بين الموضوعين نسبة الكل إلى اجزائه فان عوارض موضوعات مسائلها لا تصير من العوارض الذاتيّة لموضوع العلم على التفسيرين إلّا بنحو من التكلف ، ضرورة ان عارض الجزء وخاصته عارض لنفس الجزء الّذي هو قسمة من الكل ومتشعب عنه ، لا لنفس الكل الّذي تركب منه ومن غيره! اللهم إذا تشبث القائل بالمجاز في الإسناد!

واعطف نظرك إلى علم الفقه فتراه ذا مسائل ومباد مع ان البحث عنها ليس بحثا عن الاعراض فضلا عن كونها أعراضا ذاتية ، إذ الأحكام الخمسة ليست من العوارض بالمعنى الفلسفي «أولا» اللهم إلّا ان تعمم الاعراض للمحمولات الاعتبارية بضرب من التأويل ، ولو سلم كونها أعراضا في حد نفسها فليست أعراضا ذاتية لموضوعات المسائل «ثانيا» إذ الصلاة بوجودها الخارجي لا تكاد تتصف بالوجوب لأن الخارج أعني إتيان المأمور به ظرف السقوط بوجه لا العروض ، ولا بوجودها الذهني لظهور عدم كونه هو المأمور به وعدم كون المكلف قادرا

٢

على امتثال الصورة العلمية القائمة بنفس المولى! والقول بكون الماهية معروضة لها مدفوع بان الوجدان حاكم ، على عدم كونها مطلوبة بل معنى وجوبها ان الأمر نظر إلى الماهية وبعث المكلف إلى إيجادها فيقال ان الصلاة واجبة من غير ان يحل فيها شيء ويعرضها عارض!

وهناك مشكلة أخرى وهو ان القوم قد التزموا عدا بعض المحققين من متأخريهم على وجود موضوع للعلم ينطبق على موضوعات المسائل وربما يتمسك في إثباته بقاعدة الواحد ، التي لا يكاد يخفى بطلان التمسك بها هنا على من له أدنى إلمام بالعلوم العقلية إذ هي تختص بالبسيط الحقيقي ولا تجري في مثل العلوم التي هي قضايا كثيرة يترتب على كل قضية فائدة غير ما يترتب على الأخرى وان كان بين الفائدتين وحدة وربط بالسنخ! مع ان حديث تأثير الجامع إذا اجتمعت المؤثرات على أثر واحد قول فاسد لا ينطبق إلّا على قول الرّجل الهمدانيّ.

وان شئت قلت ان السير والتتبع في العلوم ناهض على خلاف ما التزموه إذ العلوم كما سمعت لم تكن إلا قضايا قليلة قد تكملت بمرور الزمان فلم يكن الموضوع عند المؤسس المدون» مشخصا حتى يجعل البحث عن أحواله وما تقدم من علم الجغرافيا أصدق شاهد إذ العلم بأوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها لم يتيسر الا بمجاهدة الرّجال قد قام كل على تأليف كتاب في أوضاع مملكته الخاصة به حتى تم العلم ولم يكن الهدف في هذا البحث لدى هؤلاء الرّجال العلم بأوضاع الأرض حتى يكون البحث عن أحوال مملكته بحثا عن عوارضها ، ونظيره علم الفقه فلم تكن الفقيه الباحث لدى تأسيسه ناظرا ولاحظا فعل المكلف حتى يجعله موضوعا لما يحمله عليه وما يسلبه عنه مع ان ما تخيلوه موضوعا للعلم لا ينطبق على أكثر مسائل باب الضمان والإرث والمطهرات والنجاسات وساير الأحكام الوضعيّة مما هي من الفقه بالضرورة كما ان ما تصوره موضوعا للفن الأعلى لا يطرد لاستلزامه خروج مباحث الماهيات ، التي هي من أدق مسائله عنه ونظيرها مباحث كيفية المعاد والاعدام والجنة والنار والقول بالاستطراد أو التمسك ما ذكره بعض الأكابر غير تام مع ان القضايا السلبية التحصيلية موجودة في مسائل العلوم وهي لا تحتاج إلى وجود الموضوع ولم تكن أحكامها من قبيل الاعراض للموضوعات بناء على التحقيق

٣

فيها من كون مفادها سلب الربط فتلخص ان الالتزام بأنه لا بد لكل علم من موضوع جامع بين موضوعات المسائل ثم الالتزام بأنه لا بد من البحث عن عوارضه الذاتيّة ثم ارتكاب تكلفات غير تامة لتصحيحه والذهاب إلى استطراد كثير من المباحث المهمة التي تقضى الضرورة بكونها من العلم مما لا أرى وجها صحيحا له ولا قام به برهان بل البرهان على خلافه

في تمايز العلوم

كما ان منشأ وحدة العلوم انما هو تسانخ القضايا المتشتتة التي يناسب بعضها بعضا فهذه السنخية والتناسب موجودة في جوهر تلك القضايا وحقيقتها ولا تحتاج إلى التعليل «كذلك» تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها فقضايا كل علم مختلفة ومتميزة بذواتها عن قضايا علم آخر من دون حاجة إلى التكلفات الباردة اللازمة من كون التميز بالموضوع وقد عرفت عدم الحاجة إلى نفس الموضوع فضلا عن كون التميز به ، أو كون التميز بالأغراض وهو أيضا سخيف إذ الغرض سواء كان غرض التدوين أم التعلم متأخر عن نفس المسائل ، إذ هي فوائد مترتبة عليها فيكون التميز بنفس المسائل في الرتبة السابقة! وعليك بالاختبار أترى التناسب الواقع بين مرفوعية الفاعل ومنصوبية المفعول موجودا بين واحد منها وبين المسائل الرياضية أو العقلية وهكذا مباحث سائر العلوم التي بأيدينا فنرى جهة التوحد والتميز هو تسانخ القضايا وتمايزها بالطبع! وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب ان يكون التميز بالأغراض ، إذ كل علم مركب من قضايا كثيرة وأكثر مسائله ممتاز غير متداخل فيه ولكنه في بعضها ولعله القليل متحد ومتداخل ، وعليه فهذا المركب بما انه مركب وواحد اعتباري مختلف ومتميز أيضا بذاته عن غيره ، لاختلاف أكثر اجزاء هذا المركب مع اجزاء ذاك المركب وان اتحد في بعض ، ولكن النّظر إلى المركب بنظر التركب والمركب بما هو كذلك ممتاز عن غيره ، وان اشترك معه في بعض الاجزاء.

وبذلك يتضح ان أكثر المباحث العقلية أو اللفظية التي يكون البحث فيها أعم لا بأس بان يعد من المسائل الأصولية إذا اشترك مع سائر مسائل الأصولي في الخصوصية التي بها عدت علما واحدا فالمسألة المتداخلة قضية واحدة لها سنخية مع هذا المركب وذلك المؤلف ويكون أدبية لحصول ما يبتغيه الأديب من تأسيس قاعدة لفهم كلام العرب

٤

وأصولية يطلبها الأصولي لفهم كلام الشارع.

بقي الكلام في تعريفه

وفيه تحديد مسائل الأصول ـ التعاريف المتداولة في السنة القوم لا يخلو واحد منها من إشكال طردا وعكسا وأشهرها انه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية وأورد عليه بخروج الظن على الحكومة والأصول العملية في الشبهات الحكمية وقد عدل المحقق الخراسانيّ إلى تعريفه بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ويمكن ان يكون التعبير بالصناعة لأجل انه من العلوم العملية كالهندسة العملية وكالمنطق أو للإشارة بكونه آلة بالنسبة إلى الفقه كالمنطق بالنسبة إلى الفلسفة.

وظني ان هذا التعريف أسوأ التعاريف المتداولة لأنه لا ينطبق إلّا على مبادئ المسائل لأن ما يعرف به القواعد الكذائية هو مبادئ المسائل ولم يذهب أحد إلى ان العلم هو المبادي فقط بل هو اما نفس المسائل أو هي مع مباديها ، هذا مضافا إلى دخول بعض القواعد الفقهية فيه ، اللهم إلّا ان يراد بالصناعة العلم الآلي المحض ويرد الإشكال الأخير على تعريف بعض الأعاظم من انه عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي وقد تصدى لدفع الإشكال في أوائل الاستصحاب بما لا يخلو من غرابة فراجع ، ويتلوه في الضعف ما ذكره بعض المحققين من ان المدار في المسألة الأصولية على وقوعها في طريق الاستنباط بنحو يكون ناظرا اما إلى إثبات نفس الحكم أو إلى كيفية تعلقه بموضوعه وان المسائل الأدبية لا تقع الا في استنباط موضوع الحكم من غير نظر إلى كيفية تعلقه عليه وليت شعري أي فرق بين مبحث المشتق ودلالة الفعل على الاختيار وما ضاهاهما من الأبحاث اللغوية ، وبين مبحث مفاد الأمر والنهي وكثير من مباحث العام والخاصّ التي يبحث فيها عن معنى الكل والألف واللام بل المفاهيم مطلقا ، حيث اخرج الطائفة الأولى وادخل الثانية مع ان كلها من باب واحد تحرز بها أوضاع اللغة وتستنتج منها كيفية تعلق الحكم بموضوعه ، مضافا إلى ورود القواعد الفقهية عليه أيضا.

ويمكن ان يقال بأنه هو القواعد الآلية التي يمكن ان تقع في كبرى استنتاج

٥

الأحكام الكلية الفرعية الإلهية أو الوظيفة العملية ، فيخرج بالآلية القواعد الفقهية فان المراد بها كونها آلة محضة ولا ينظر فيها بل ينظر بها فقط والقواعد الفقهية ينظر فيها فتكون استقلالية لا آلية ، لأن قاعدة ما يضمن وعكسها حكم فرعي إلهي منظور فيها على فرض ثبوتها وقواعد الضرر والحرج والغرر كذلك فانها مقيدات للأحكام بنحو الحكومة ، فلا يكون آلية لمعرفة حال الأحكام وأما خروج بعض الأصول العملية فلا غرو فيه على فرضه وانما قلنا يمكن ان تقع لأن مناط الأصولية هو الإمكان لا الوقوع الفعلي فالبحث عن حجية القياس والشهرة والإجماع المنقول بحث أصولي ، وخرج مباحث سائر العلوم بقولنا نقع كبرى ولم نقيد الأحكام بالعملية ، لعدم عملية جميع الأحكام كالوضعيات وكثير من مباحث الطهارة وغيرها ، وإضافة الوظيفة لإدخال مثل الظن على الحكومة ، ولم نكتف بأنه ما يمكن ان تقع كبرى استنتاج الوظيفة لعدم كون النتيجة وظيفة دائما كالأمثلة المتقدمة وانتهائها إلى الوظيفة غير كونها وظيفة ، ثم ان المسائل المتداخلة بين هذا العلم وغيره ككثير من مباحث الألفاظ مثل ما يبحث فيه عن الأوضاع اللغوية كدلالة طبيعة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة ودلالة أداة الحصر على مدلولها وكمداليل المفردات والمركبات ، يمكن إدخالها فيه وتمييزها عن مسائل سائر العلوم بكونها آلة محضة فالأصولي يبحث عنها بعنوان الآلية والوقوع في كبرى الاستنتاج وغيره بعنوان الاستقلالية أو لجهات آخر ويمكن الالتزام بخروجها وانما يبحث الأصولي عنها لكونها كثير الدوران في الفقه ولذا لم يقتنع بالبحث عنها في بعض مباحث الفقه والأمر سهل

القول في الوضع

ان من العسير جدا تحليل أصول الألسنة المتنوعة المنتشرة في إرجاء الدنيا وأطراف العالم ، والّذي يمكن الاعتماد عليه ويؤيده العلم والتجربة هو تكامل الإنسان قرنا بعد قرن في شئونه وأطواره ، في عيشته وحياته ، وفيما يرجع إليه من النواحي الاجتماعية والمدنية ، بعد ما كان خلوا من هذه الجهات الحيوية.

ومن تلك النواحي تكثر لسانه وتزايد افراده ، بل توسع لسان واحد على حسب مرور الزمان ، ووقوفه امام تنوع الموجودات والمصنوعات ـ فاللسان الواحد كالعربي أو العبري لم يكن في بدء نشأته الا عدة لغات معدودة تكملت على حسب وقوفهم على الأشياء

٦

، مع احتياجهم أو اشتياقهم إلى إظهار ما في ضمائرهم إلى ان بلغت حدا وافيا ، كما هو المشاهد ، من المخترعين وأهل الصنعة في هذه الأيام ـ نعم تنوع افراده انما هو لأجل تباعد الملل وعدم الروابط السهلة بين الطوائف البشرية فاحتاج كل في افهام مقاصده إلى وضع ألفاظ وتعيين لغات.

وعليه فليس الواضع شخصا واحدا معينا بل أناس كثيرة وشرذمة غير قليلة على اختلافهم في العصور وتباعدهم في الزمان.

وما عن بعض الأشاعرة من ان الواضع هو الله تعالى ، وقد الهم بها أنبياءه وأولياءه مستدلا بلزوم العلاقة بين الألفاظ ومعانيها دفعا للترجيح بلا مرجح ، وامتناع إحاطة البشر على خصوصيات غير متناهية ، غير مسموع إذ المرجح لا ينحصر في الرابطة بين اللفظ والمعنى بل قد يحصل الترجيح بأمور أخر كسهولة أدائه أو حسن تركيبه أو غير ذلك ، على ان الامتناع مسلم لو كان الواضع شخصا معينا محدودا عمره ووقته.

ثم ان دعوى وجود المناسبة الذاتيّة بين الألفاظ ومعانيها كافة قبل الوضع مما يبطله البرهان المؤيد بالوجدان ـ إذ الذات البحت البسيط الّذي له عدة أسماء متخالفة من لغة واحدة أو لغات اما ان يكون لجميعها الربط به أو لبعضها دون بعض أو لا ذا ولا ذاك ـ فالأوّل يوجب تركب الذات وخروجه من البساطة المفروضة ، والأخيران يهدمان أساس الدعوى والتمسك بأنه لو لا العلاقة يلزم الترجيح بغير المرجح. قد عرفت جوابه وان الترجيح قد يحصل بغير الربط ، واما حصوله بعد الوضع فواضح البطلان ، لأن تعيين لفظ لمعنى لا يصير علة لحصول علاقة واقعية تكوينية إذ الاعتبار لا يصير منشأ لحصول امر واقعي حقيقي ، والانتقال إلى المعنى اما لأجل بناء المستعملين على كون استعمالهم على طبق الوضع ، أو لجهة الأنس الحاصل من الاستعمال ، وما ربما يقال من ان حقيقة الوضع لو كانت اعتبارية ودائرة مدار الاعتبار ، يلزم انعدام هذه العلقة بعد انقراض المعتبرين وهلاك الواضعين والمستعملين ، فلا ضير في الالتزام به ـ إذ هذا هو الفرق بين القوانين الحقيقية الفنية ، كقانون الجاذبة وسير النور وأوزان الأجسام ، وبين الاعتبارية ، كقانون الازدواج والنظام ـ فان الأولى ثابتة محققة ، كشفت أولا ، لوحظ خلافها أم لم يلحظ ، بخلاف الثانية فان سيرها وأمد عمرها مربوط بامتداد الاعتبار ـ فاللغات المتروكة البائد أهلها ، المقبورة

٧

ذواتها وكتبها ، مسلوبة الدلالة ، معدومة العلقة ، كقوانينها الاعتبارية.

(واما حقيقة الوضع ،) فهي على ما يظهر من تعاريفها عبارة عن جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه ، ـ وما يرى في كلمات المحققين من التعبير بالاختصاص أو التعهد ، فهو من آثار الوضع ونتائجه ، لا نفسه.

واما ما أقيم عليه من البرهان من انه لا يعقل جعل العلاقة بين امرين لا علاقة بينهما وانما المعقول هو تعهد الواضع والتزامه بأنه متى أراد افهام المعنى الفلاني تكلم بلفظ كذا ، فهو حق لو كان الوضع إيجاد العلاقة التكوينية ، واما على ما حققناه من انه تعيين اللفظ للمعنى فهو بمكان من الإمكان بل ربما يكون الواضع غافلا عن هذا التعهد كما يتفق ان يكون الواضع غير المستعمل بان يضع اللفظ لأجل ان يستعمله الغير ، وبه يتضح بطلان تقسيمه إلى التعييني والتعيني ، لأن الجعل والتعيين الّذي هو مداره ، مفقود فيه.

(الأمر الثالث) ـ ينقسم الوضع على حسب التصور ، إلى عموم الوضع والموضوع له ، وخصوصهما ، وعموم الأول فقط ، وعموم الثاني كذلك ـ وربما يسلم إمكان القسم الثالث دون الرابع ، بزعم ان العام يمكن ان يكون وجها للخاص وآلة للحاظ افراده وان معرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاصّ فلا يقع مرآتا للعام ولا لسائر الافراد لمحدوديته ـ (قلت) الحق انهما مشتركان في الامتناع على وجه والإمكان على نحو آخر ، إذ كل مفهوم لا يحكى إلّا عما هو بحذائه ويمتنع ان يكون حاكيا عن نفسه وغيره ، والخصوصيات وان اتحدت مع العام وجودا إلّا انها تغايره عنوانا وماهية ـ فحينئذ إن كان المراد من لزوم لحاظ الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاك عنه ومرآة له فهما سيان في الامتناع ، إذ العنوان العام كالإنسان لا يحكى إلّا عن حيثية الإنسانية دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيات لخروجها من حريم المعنى اللابشرطي ، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له ، وان كان المراد من شرطية لحاظه هو وجود امر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصور العام إلى تصور مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان ـ والظاهر كفاية الأخير بان يؤخذ العنوان المشير الإجمالي آلة للوضع لافراده ، ولا يحتاج إلى تصورها تفصيلا ، بل ربما يمتنع لعدم تناهيها.

وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض الأفاضل من ان الطبيعة كما يمكن ان تلاحظ

٨

مهملة جامدة يمكن لحاظها سارية في افرادها مندرجة في مصاديقها ، وعليه تكون عين الخارج ونفس المصاديق ضرورة اتحاد الماهية والوجود في الخارج ، والانفصال انما هو في الذهن ، فتصح مرآتيتها للافراد ـ إذ الاتحاد الخارجي لا يصحح الحكاية وإلّا لكانت الاعراض حاكية عن جواهرها ، ومن الواضح ان المشخصات غير داخلة في مفهوم العام فكيف يحكى عنها ، والحكاية تدور مدار الوضع والدخول في الموضوع له.

(ثم) ان هناك قسما خامسا بحسب التصور وان كان ثبوته في محل المنع ، وهو ان عموم الموضوع له قد يكون بوضع اللفظ لنفس الطبائع والماهيات كأسماء الأجناس فانها موضوعة لما هو عام بالحمل الشائع من دون أخذ مفهوم العموم فيه ، وإلّا يلزم التجريد والتجوز دائما لكونها بهذا القيد آبية عن الحمل ـ وأخرى يكون الموضوع له هو العام بما هو عام كما انه في الخاصّ كذلك دائما إذا الموضوع له هو الخاصّ بما هو خاص.

نقل وتنقيح

ان بعض المحققين من المشايخ ذهب إلى ان لعموم الوضع والموضوع له معنى آخر ، وملخص ما أفاده هو ان للطبيعي حصصا في الخارج متكثرة الوجود ولها جامع موجود في الخارج بالوجود السعي ملاصقا للخصوصيات واحدا بالوحدة الذاتيّة بدليل انتزاع مفهوم واحد منها ، ولامتناع تأثير العلتين في معلول واحدة وللصور الذهنية أيضا جامع كذلك وإلا لم تكن تام الانطباق على الخارج ، ولازم ذلك عدم تحقق المعنى المشترك في الذهن الا في ضمن الخصوصيات (فحينئذ) يمكن ملاحظة هذه الجهة المتحدة السارية في الخصوصيات ، المطابقة لما في الخارج بتوسيط معنى إجمالي فيوضع اللفظ لها لا للخصوصيات في قبال وضعه للجامع المجرد عنها ، وهذا أيضا من قبيل الوضع العام والموضوع له كذلك ولكن لازمه انتقال النّفس في مقام الاستعمال إلى صور الافراد : ولا ينافى هذا كون الطبيعي بالنسبة إلى الافراد كآباء إلى الأولاد.

(وأنت خبير) بان نخبة المقال في تحقيق الوجود الطبيعي وكيفية وجوده وتكثره بتكثر الافراد وان ما ينال العقل من الطبيعي من كل فرد مغاير من كل ما يناله من فرد آخر عددا : وان كان عينه سنخا ، لا بد أن يطلب من محل آخر ولكن عصارة ذلك هو : ان كل فرد من أفراد أي كلي فرض فهو مشتمل على تمام حقيقة كلية وطبيعيه ، فكل

٩

فرد يتحقق فيه الطبيعي بتمام اجزائه : فإذا إنسانية زيد غير إنسانية عمرو وهكذا سائر الافراد فكل فرد إنسان تام بنفسه ـ والسر في ذلك ان الماهية اللابشرط كمفهوم الإنسان توجد في الخارج بنعت الكثرة وتنطبق على آلاف من المصاديق كل واحد منها حائز حقيقة تلك الماهية بتمام ذاتها ـ (نعم) العقل بعد التجريد وحذف المميزات والمشخصات يجد في عالم (الذهن) منها شيئا واحدا وحدة ذاتية نوعية ، وهي لا تنافي الكثرة العددية في وعاء الخارج وهذا هو مراد من قال ان للماهية نشأتين ، نشأة خارجية هي نشأة الكثرة المحضة ونشأة عقلية وهي نشأة الوحدة النوعية ، وان الطبيعي مع افراده كآباء مع الأولاد ولكن ما ذكره المحقق المذكور قدس‌سره صريح في ان الكلي الطبيعي امر واحد جامع موجود في الخارج بنعت الوحدة ينتزع منه المفهوم الكلي ـ وهو وان فر عن ذلك قائلا بان الحصص متكثرة الوجود لئلا يلزم الوحدة العددية للطبيعي ، ولكن التزامه بالجامع الموجود في عالم الخارج بالوجود السعي الّذي جعله منشأ لانتزاع المفهوم الواحد أعني مفهوم الطبيعي ، يوهم أو يصرح بخلافه وينطبق لما ينسب إلى الرّجل الهمدانيّ القائل بوجود الطبيعي في الخارج بالوحدة الشخصية ـ إذا القول بوجود الجامع الخارجي بنعت الوحدة يساوق كونه موجودا بالوحدة العددية.

هذا واعطف نظرك إلى ما أقامه برهانا لما اختاره ، اما ما ذكره من قضية عدم انتزاع مفهوم واحد الا عن منشأ واحد ، ففيه انه لا يثبت ان يكون في الخارج امر واحد موجود بنعت الوحدة بل يجامع ما أسمعناك من تجريد الافراد عن اللواحق أيضا ، فعند ذلك ينال العقل من كل فرد ما ينال من الآخر ، إذ التكثر ناش عن ضم المشخصات فعند حذفها لا مناص عن التوحد في الذهن ـ واما ما ذكره من ان الجامع هو المؤثر عند اجتماع العلل على معلول واحد ، فالظاهر انه جواب عمار بما يورد على القاعدة المسلمة في محلها من انه لا يصدر الواحد الا عن الواحد ، حيث ينتقض ذلك بالبنادق المؤثرة في قتل حيوان وباجتماع عدة اشخاص لرفع حجر عظيم ـ فيجاب بان المؤثر في أمثال هذه الموارد هو الجامع الموجود بين العلل.

ولكن الإشكال والجواب لم يصدر الا عمن لم يقف على مغزى القاعدة ومورد ثبوتها ولم ينقح كيفية تعلق المعلول بالعلة في الفاعل الإلهي ، أعني مفيض الوجود ومعطي

١٠

الهوية ، إذ أصحاب التحقيق في هاتيك المباحث خصصوا القاعدة ، تبعا لبرهانها؟ بالواحد البحت البسيط من جميع الجهات ، والمتكثرات خصوصا العلل المادية أجنبية عنها فلا حاجة إلى دفع نقوضها. مع انها واضحة الفساد لدى أهله.

أضف إلى ذلك ان الواحد بالنوع والذات ، أعني المفهوم لا يمكن ان يكون مؤثرا ولا متأثرا إلّا بالعرض ، بل المؤثر والمتأثر هي الهوية الوجودية الواحدة بالوحدة الحقيقية ـ وح فالحق الصراح هو امتناع. وجوه الجامع بما هو جامع في الخارج والذهن كليهما بعد ما عرفت من ان الوجود مدار الوحدة وهو لا يجتمع مع الجامعية والكلية ـ نعم تصوير أخذ الجامع انما هو من ناحية تجريد الافراد عن الخصوصيات كما سبق وسيوافيك تفصيل القول في هذه المباحث عند التعرض بمتعلق الأوامر (فارتقب حتى حين)

هذا ولو سلمنا وجود ما تصور من الجامع أو فرضنا وضع اللفظ له ، لكنه لا يوجب إحضار الخصوصيات في الذهن بعد فرض وضع اللفظ لنفس الجامع اللابشرط الموجود بالوجود السعي ، ولصوقه بها واتحاده معها في الخارج لا يوجب إحضارها بلفظ لم يوضع لها ، ولو كان مجرد الاتحاد الخارجي كافيا في الإحضار لكفى فيما إذا كان اللفظ موضوعا لنفس الماهية مع قطع النّظر عن وجودها السعي ، لأنها متحدة معها خارجا ولو بنعت الكثرة.

«وهم ودفع»

اما الأول فهو انه قد يتخيل امتناع عموم الوضع مطلقا ، لأن الملحوظ بعد تنوره بنور الوجود في أفق الذهن لا محالة يصير جزئيا ذهنيا مشخصا علميا ، فان الوجود يساوق الوحدة ، وغفلة اللاحظ عن لحاظه وقطع نظره عن تشخصه لا يوجب انقلاب الجزئي كليا.

واما الثاني فهو ان المراد من الملحوظ ، ما هو ملحوظ بالعرض لا ما بالذات ولا طريق لنا إليه الا بالماهية الملحوظة كذلك ، والملحوظية بالعرض كافية في الوضع وفي صيرورته عاما وخاصا ، وإلا لصار الوضع للخارجيات ممتنعا كلية ، لعدم نيل النّفس إياها الا بواسطة الصورة الملحوظة بالذات ، كما انه لا يمكن لها النيل لنفس الماهية المعراة عن جميع الخصوصيات حتى عن كونها ملحوظة في الذهن الا بواسطة فرد ذهني يشير به إليها ، وهذا هو الحال في الاخبار عن المعدوم المطلق بأنه لا يخبر عنه وعن شريك الباري

١١

بأنه ممتنع.

الأمر الرابع

لا إشكال عندهم ولا خلاف في تحقق عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما في الخارج ، ومثلوا للأول بأسماء الأجناس وللثاني بالأعلام ـ ولكن في النّفس من التمثيل بالأعلام للثاني شيئا ، إذ لو كانت موضوعة لنفس الخارج والهوية الوجودية ، لزم ان يكون قولنا زيد موجود قضية ضرورية ، ومن قبيل حمل الشيء على نفسه ، ومجازية قولنا زيد معدوم أو زيد اما موجود واما معدوم ، لاحتياجها إلى عناية التجريد ، مع انا لا نجد الفرق بينها وبين ما إذا كان المحمول لفظ قاعدا وقائم ـ والّذي يناسب الارتكاز هو القول بكونها موضوعة لماهية لا تنطبق الا على فرد واحد! لا للماهية المنطبقة على الكثيرين ولا للفرد المشخص ، وعلى هذا الارتكاز جرت سيرة العوام في الاخبار عن معدومية المسميات في زمان وموجوديتها في زمان آخر ويقال لم يكن زيد في ذلك الزمان بل وجد بعده ـ فيستكشف ان الوضع لم ينحدر على الهوية الوجودية بل على ماهية مخصصة بإضافات كثيرة وحدود وافرة ، ولو ارتكازا ، لينطبق على المشخص المعين.

واما القسم الثالث أعني عموم الوضع وخصوص الموضوع له فقد مثلوا له بالحروف فلنبدأ بتحقيق معانيها حتى تتضح كيفية وضعها ، فنقول : انك إذا أمعنت النّظر ولاحظت الموجودات من شديدها إلى ضعيفها ترى بعين الدقة انقسام الموجودات الإمكانية إلى أقسام وشعب ، «فمنها» ما هو تام ماهية ووجودا ، أي يوصف حقيقتها ويدرك جوهرها مستقلة في المدارك العقلية بلا توسيط شيء ، كما انه يتحقق ويحصل في الأعيان كذلك من دون ان يعتمد على شيء أو يحصل في موضوع ، كالجواهر بأنواعها العالية والسافلة ويعبر عنه بالموجود لنفسه وفي نفسه ، (ومنها) ما هو تام ماهية ومفهوما ويتصور ماهية العقلانية في نشأة الذهن بحيالها ولا يحتاج في التحديد إلى امر آخر ، ولكنه غير تام وجودا ولا يمكن ان يتحقق في نفسه مستقلا ، ولا ان يشغل الأعيان الا بالحصول في موضوع والعروض على معروض ، كالإعراض بأسرها (ومنها) ما هو قاصر في كلتا النشأتين فلا يحصل في الذهن الا تبعا وتطفلا للغير ، ولا يوجد في الخارج الا مندكا في طرفيه ، كالنسب والإضافات ، والوجودات الرابطة ، فان لها محكيات ومسميات في الخارج لا تخرج

١٢

من حدود الوجود ولها حظ منه ، تجد جميع هذه في قولنا : الجسم له البياض ، فان محكي الجسم والبياض غير حصول البياض للجسم ، وحصوله للجسم ليس كلا حصوله ووقوع زيد في الدار ليس كلا وقوعه ـ نعم ليس لهذا القسم الأخير ماهية معقولة مستقلة ، بان يدرك ما هو ربط بالحمل الشائع من دون إدراك الأطراف ، كما ان موجوديته أيضا بعين موجودية الطرفين.

واما مفهوم الربط والنسبة التي تدرك مستقلة فليس نسبة ولا ربطا الا بالحمل الأولى الذاتي لا بالحمل الشائع ، إذ للعقل ان ينتزع منها مفهوما مستقلا يجعله حاكيا عن الروابط الحقيقية ومشيرا إليها بنحو من الحكاية والإشارة ، لا كحكاية الماهية عن مصداقها ، إذ لا يمكن استحضار حقائق النسب في الذهن بذاتها بتوسط هذه العناوين ولا يتعقل ذواتها بنحو استقلال لا بالذات ولا بالعرض ، إذا المفروض ان حقيقتها عين الربط بالطرفين والفناء والاندكاك فيهما فلا يمكن الاستحضار إلا تبعا لهما كما لا يوجد في وعاء الخارج الا كذلك.

وان شئت قلت : ان الفرق بين القضية المعقولة وما تنطبق عليه خارجا ليس إلّا باختلاف الموطن ، بحيث لو أمكن قلب أحدهما إلى الآخر لحصل التطابق بلا زيادة ونقصان ، فحينئذ فكما ان الربط التكويني بين الجواهر والاعراض انما هو بوجود النسب والوجودات الرابطة بحيث لولاها لا يستقل كل في مكانه ، ولم يكن زيد مثلا مرتبطا بالدار ولا الدار مرتبطة بزيد ، فكذلك حال المعقولات فانه لا يلتئم الجواهر المعقولة مع الاعراض في الذهن إلا ببركة النسب والإضافات الذهنية.

والحاصل انه قد يكون المعقول منا مطابقا لما في الخارج كما إذا تصورنا الجسم والبياض مرتبطا وجود أحدهما بالآخر ، من دون ان يكون لهذا الارتباط صورة مستقلة ، ففي هذا النحو من التعقل يكون حقيقة الربط والنسبة متحققين في الذهن كتحققهما في الخارج ، أعني مندكا في الطرفين وقد يكون المعقول منا مخالفا لما في العين كما إذا تعقلنا مفهومي الإنسان والدار ومفهوم الربط بالحمل الأولى فيكون الكل مفاهيم مفردة استقلالية لا يرتبط بعضها ببعض ـ هذا حال العين والذهن مع قطع النّظر عن الواضع والدلالة ، واما بالنظر إليهما فان أراد المتكلم ان يحكى عن ارتباط الجواهر بالاعراض

١٣

في الخارج أو عن الصورة المعقولة المرتبط بعضها ببعض لا محيص له إلّا بالتشبث بأذيال الحروف والهيئات ، فلو تكلم موضعها بألفاظ مفردة اسمية ، من الابتداء والانتهاء والربط ، لا يكون ح حاكيا عن نفس الأمر ولم ينسجم كلماته ـ وبالجملة لو لا محكيات الحروف ومعانيها لم يرتبط الجواهر بأعراضها في الخارج ولا الصور المعقولة الحاكية عن الخارج بعضها ببعض ، ولو لا ألفاظها لم يرتبط الكلمات ولم تحصل الجمل.

والخلاصة ان حصول الربط بها ليس معناه انها موضوعة لإيجاد الربط فقط كما سيجيء نقله ، بل حصوله انما هو لأجل حكايتها عن معان خاصة مختلفة مندكة فانية ، من الابتداء والانتهاء والاستعلاء والحصول الآليات التي بها حصل الربط في الخارج وفي وعاء التكوين ، فأوجب حكاية هذه المعاني المختلفة بألفاظ مخصوصة ، الربط في الكلام وانسجام الجمل فتدبر.

«تتميم»

ما ذكرنا من كون الحروف حاكيات عن معان مختلفة ، هي بنفسها عين الربط والتدلي ، مع اختلافها في المفهوم ليس حكما كليا ، إذ بعض منها ليس من شأنه الحكاية عن معنى واقع في الخارج ، بل هو موجود لمعناه حال التكلم به وليس له واقع يطابقه أولا ، وذلك كحروف القسم والتأكيد والتحضيض والردع ، فانها وضعت آلة لإيجاد معانيها في وعاء صدورها من قائلها من دون حكاية عن واقع محفوظ مع صرف النّظر عن ظرف التكلم ـ فاتضح من ذلك ان الحروف على قسمين ، حاكيات وإيجاديات ، وقد عرفت ان حكاية القسم الأول عن معان واقعة في الخارج غير مناف لا لإيجادها الربط في الكلام ، كما ان إيجاد الثاني لمعان متنوعة من القسم والتحضيض يجتمع مع إيجادها الربط الكلامي ، فاذن إيجاد الربط في الجمل انما هو بركة المعاني المختلفة محكية كانت أو موجدة.

فالآن حان حين التنبيه على كلمة صدرت عن بعض الأعاظم وعلى ما فيه ، حيث قال بعد تقسيم المعاني إلى إخطارية وهي معاني الأسماء ، وإيجادية. ان معاني الحروف كلها إيجادية حتى ما أفاد منها النسبة ، لأن شأن أدوات النسبة ليس إلّا إيجاد الربط بين جزئيّ الكلام الّذي لا يحصل بدونها ـ وبعد إيجاد الربط يلاحظ مجموع الكلام من النسبة والمنتسبين فان كان له خارج يطابقه كان صدقا وإلا فلا (انتهى ملخصا) والضعف فيه من

١٤

وجهين : «الأول» ان حصول الربط في الكلام ببركة الحروف والأدوات امر (مسلم إلّا ان) شأنها ليس منحصرا فيه ، والوجدان والتتبع في مواد اللغات المختلفة أصدق شاهدين على ان هذا متفرع على استعمالها في معانيها المختلفة الآلية ، وانها بلا دلالة على معنى. غير موجدة للربط.

أضف إلى ذلك ما في قوله «من ملاحظة مجموع الكلام» إذ لا وضع لمجموعه بعد وضع مفرداته إلّا ان يرجع إلى ما سنذكره من دلالة هيئات الجمل على تحقق النسب ، والحروف على الإضافات التصورية.

الثاني انه لا تقابل بين الإخطاري بمعنى إخطار المعنى بالبال ، وإلّا الإيجادي بالمعنى الّذي فسره وهو إيقاعها الربط بين اجزاء الكلام ـ فانك إذا قصدت الحكاية عن ربط الجوهر بالعرض في قولك «الجسم له البياض» مثلا ، تخطر معانيها ببالك وتحضر في وعاء ذهنك لا محالة ، ويصير اجزاء كلامك مرتبطا بعضها ببعض كما انه لا تقابل بينه وبين الإيجادي بالمعنى الّذي ذكرنا فان الحروف سواء كانت حاكية عن الواقع المقرر ، أم موجدة لمعانيها بالاستعمال ، توجب الانتقال من ألفاظها إلى معانيها على كل حال ـ نعم انما يتصور التقابل بين الحكاية و «الإيجاد».

والحاصل ان الحروف كافة تحضر معانيها في الذهن وتخطر معانيها بالبال سواء قلنا بأنها موجدة للنسبة الكلامية كما ذكره ، أم قلنا بأنها توجد معانيها في الخارج كما اخترناه في عدة من الحروف ، أو قلنا بأنها تحكى عن معانيها الخارجية كما ذكرناه في بعضها فتدبر جيدا.

ثم ان بعض المحققين من المشايخ. بعد تسليم إيجادية بعض الحروف أنكر كون الفرد الموجود به معناه الموضوع له ، واستدل عليه بوجوده :

أحدها ان معنى اللفظ ومدلوله بالذات هو ما يحضر في الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له ، ولا ريب ان الموجود الخارجي لا يمكن حضوره في الذهن فالخارج هو المدلول عليه بالعرض من جهة فناء المدلول عليه بالذات فيه.

وفيه «أولا» انه منقوض بالأعلام الشخصية على مبنى المشهور وقد اعترف هو قده ونحن بإمكانه وان ناقشنا في وقوعه.

١٥

«وثانيا» ان الغاية من وضع الألفاظ واستعمالها هي الإفادة والاستفادة بإحضار المعاني في الذهن من غير فرق من بين ان يكون حضورها بالعرض أو بالذات ، والقائل بوضع بعض الألفاظ للموجود في الخارج ينكر كون الموضوع له هو المعلوم بالذات بل يعترف بأنه المعلوم بالعرض.

«وثالثا» ان الموضوع له في أغلب الأوضاع أو جميعها غير ما يحضر في الذهن بالذات ، يرشدك إليه أسماء الأجناس حيث انها وضعت للطبيعة الصرفة العارية عن كل قيد حتى قيد كونها موجودة في نشأتي الذهن والخارج فإذا أطلقت فلا ينتقل السامع الا إلى هذا المعنى النّفس الأمري لا إلى الموجود في ذهنه ولا إلى ما في ذهن متكلمه.

وبالجملة ، الصورة الذهنية مرآة للمعنى المفهوم الّذي هو الموضوع له ، ولازم ذلك هو كونها مغفولا عنها وقس عليه الاعلام ، إذا لانتقال إلى الخارج الموضوع له انما هو بالصورة الذهنية لا غير.

(وثانيها) ان هذا الموجود الخارجي الّذي هو بالحمل الشائع نداء مثلا ، لا يتحقق في الخارج الا بنفس الاستعمال فيكون متأخرا عنه تأخر المعلول عن علته ، ولا ريب في ان المستعمل فيه مقدم على الاستعمال بالطبع فإذا كان هذا الموجود هو المستعمل فيه لزم تقدم الشيء على نفسه ، (وفيه) انه لا دليل على تقدم المستعمل فيه على الاستعمال وان كانت لفظة «في» توهم ذلك ، فان ملاك التقدم منتف فيه حتى في الحاكيات ، والتقدم في بعضها اتفاقي لا طبعي بملاكه ، والقائل بإيجادية بعض الألفاظ ينكر لزومه ـ والحاصل ان الألفاظ قد تكون حاكيات عن الواقع المقرر وقد تكون موجدة لمعانيها في الوعاء المناسب لها! والكل يشترك في كونها موجبة لإخطار معانيها في الذهن ولو بالعرض ولا دليل على أزيد من ذلك ولزوم تقدم المستعمل فيه غير ثابت لو لم يثبت خلافه.

(وثالثها) ان الأدوات الإيجادية كالنداء والتشبيه قد تستعمل في غير ما يكون نداء حقيقتا بداعي التشويق والسخرية فلا يكون الموجود بهذا الاستعمال نداء أو تشبيها بالحمل الشائع ـ فاما ان يكون الاستعمالات المزبورة في تلك المعاني بنحو من المجاز فهو مما لا يقول به المفصل ، واما ان تكون استعمالا في معانيها الحقيقية ولكن بداعي

١٦

التشويق أو غيره ، فيلزم ان يكون معانيها غير ما يوجد بها حتى في ما استعمل بداعي إفادة ما هو الموضوع له ، وفيه ان من المحقق عند العارف بأساليب الكلام ومحاسن الجمل ، هو ان المجاز ليس إلّا استعمال اللفظ فيما وضع له بدواع عقلائية من التمسخر والمبالغة والتشويق حتى في مثل إطلاق الأسد على الجبان ولفظ يوسف على قبيح المنظر وإلّا لصار الكلام خاليا عن الحسن ومبتذلا مطروحا.

(وعليه) فالشاعر المفلق في قوله «يا كوكبا» ما كان أقصر عمره» قد استعمل حرف النداء في النداء بالحمل الشائع وأوجد فردا منه ، لكن بداع آخر من التضجر وغيره ، ولكن إرادة الجد بخلافه ـ فما قال من عدم كونها مجازا ممنوع ، بل مجاز ومطلق المجاز يستعمل لفظه في معناه الحقيقي بداعي التجاوز إلى غيره وسيأتي زيادة تحقيق في ذلك إن شاء الله.

«ثم» انه (قدس‌سره) قد اختار ان الحروف كلها إخطارية موضوعة للاعراض النسبية التي يعبر عنها وعن غيرها من سائر الاعراض «بالوجودات الرابطية» وان مداليل الهيئات هي «الوجود الرابط» أي ربط العرض بموضوعه إذ لفظة «في» في قولنا : زيد في الدار تدل على العرض الأيني العارض على زيد والهيئة تدل على ربطه بجوهره (وما قيل) من ان مدلول الحروف إذا كان عرضا نسبيا فهو بذاته مرتبط بموضوعه فلا حاجة إلى جعل الهيئة لذلك ، مدفوع ، بان مدلول الهيئة يفصل ما دل عليه الحروف مجملا».

(قلت) ان الصدر مخالف لما في الذيل ، حيث أفاد في صدر كلامه ان مداليل الحروف من قبيل الاعراض النسبية أي غير الكم والكيف من الاعراض قاطبة ، فهي وجودات رابطية مستقلات في المفهومية ، وان مداليل الهيئات عبارة عن ربط الاعراض بموضوعاتها ، أي وجودات رابطة متدلية الذوات غير مستقلة المفاهيم ، ولكن ما في الجواب يصرح وينادى بتساويهما في المفهوم والمعنى وان الفرق بالإجمال والتفصيل فقط أضف إلى ذلك ان ما رامه خلف من القول وانحراف عما أخذه أئمة الأدب والأصول خطة مسلمة ، من كون معاني الحروف غير مستقلة في المفهومية وانها لا تكون محكوما عليها ولا بها ولا تقع طرف الربط ، وقد أشرنا إليه في تحقيق المختار. وما اختاره من كون معانيها هي الاعراض النسبية والوجودات الرابطية عين القول بالوجود المحمولي والاستقلال

١٧

في المفهوم.

«ثم» ليت شعري ان الحروف الإيجادية كحروف النداء وشبهها كحروف القسم كيف تحكى عن الاعراض النسبية ، مع حكمه كليا بان الحروف كلها حاكيات عن الاعراض النسبية مع بداهة ان القائل في قوله : «وا من حفر بئر زمزماه» و «يا أيها الرسول» لا يحكى عن نداء خارجي أو ذهني بل يوجد فردا منه حين الاستعمال.

«ثم» ان هذا لا يتم فيما كان المحمول وطرف الربط في القضية من مقولة الكم والكيف كما في قولنا : زيد له البياض والجسم له طول وعرض فهل اللام موضوع للعرض النسبي واستعمل هنا في معنى مجازي وهو نفس الربط والإضافة بينهما مع انه خلاف الارتكاز والتحقيق ان اللام يفيد الإضافة بالمعنى التصوري والهيئة تدل على تحققها وسيأتي زيادة تحقيق لذلك.

«تكميل» واما وضع الحروف فقد اختلف الأقوال وتكثرت الآراء فيه. الا انا لا نتعرض الا لجملة منها مشهورة ثم نعقبه بما هو المختار مشفوعا بالبرهان.

«فمنها» ما اختاره المحقق الخراسانيّ من عموم الموضوع والموضوع له مستدلا بان الخصوصية المتوهمة ان كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا فمن الواضح ان المستعمل فيه كثيرا ما يكون كليا. وان كانت هي الموجبة لكون المعنى جزئيا ذهنيا للحاظه حالة لمعنى آخر فهي لا توجب أخذه في المستعمل فيه بل لا يصح. لحديث اجتماع اللحاظين. واحتياجه إلى التجريد وإلغاء الخصوصية في استعمال الأوامر.

«وأنت خبير» بالمغالطة الواقعة فيه حيث ان ما رتبه من البرهان على نفى الجزئية مبنى على تسليم الاتحاد بين الأسماء والحروف وانهما من سنخ واحد جوهرا وتعقلا ودلالة فحينئذ يصح ان يبنى عليه ما بنى ، من انه لا مخصص ولا مخرج من العمومية. مع انك عرفت التغاير بينهما في جميع المراحل وسيأتي ان الموضوع له في مورد نقضه من قوله : «سر من البصرة إلى الكوفة» مما يتوهم كلية المستعمل فيه. خاص أيضا. فارتقب.

«ومنها» ما في تقريرات «بعض الأعاظم» من عمومها لا بالمعنى الّذي في الأسماء بل بمعنى ان الموجد بالحروف في جميع مواطن الاستعمالات شيء واحد بالهوية وان الخصوصيات اللاحقة لها خارجة عن الموضوع له ولازمة لوجوده. كالإعراض المحتاجة

١٨

في الوجود إلى المحل مع انه خارج عن هوية ذاتها من غير ان يكون الموضوع له معنى كليا قابلا للصدق على الكثيرين كالكلية في الأسماء. وذلك لأنه ليس لها مفاهيم متقررة يحكم عليها بامتناع الصدق وعدم امتناعه. واحتياجها إلى الخصوصيات في موطن الاستعمال لا يوجب جزئية الموضوع له. كما ان كونها إيجادية وموضوعة لإيجاد الربط لا يوجبها بعد قبول وجود الكلي الطبيعي. فان التشخص والوجود يعرضان له دفعة (انتهى ملخصا).

«وفيه أولا. ان الهوية الواحدة التي ذكرها ان كانت امرا في قبال الوجود كما جعلها في قباله في قوله «ان وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير لا هويته» وحقيقته» وفي قبال الماهية القابلة للصدق على الكثيرين أيضا. كما نفاها في الحروف. ومع ذلك تكون امرا واحدا موجدا للربط فهو كما ترى. فانا لا نتعقل له معنى محصلا ـ وان كانت وجودا بنعت السعة مشتركا بين الروابط أو ماهية كذلك لكن بنعت الوحدة الخارجية فهو فاسد لعدم الجامع الخارجي بنعت الوحدة بين الوجودات لا من سنخ الوجود ولا من سنخ الماهية. اما الأول فللزوم وحدة الروابط وجودا وهوية في جميع القضايا. واما الثاني فلما حقق في محله وأشرنا إليه آنفا من ان الماهية في الخارج موجودة بنعت الكثرة ولا جامع اشتراك خارجي بنعت الوحدة بين الافراد فان الوحدة تساوق الوجود فيلزم موجوديتها بوجود واحد.

وان تعجب فعجب قوله «ان كونه إيجاديا لا ينافى كلية المعنى بناء على وجود الطبيعي» لأن نسبة المعاني الحرفية إلى وجوداتها ان كانت كالطبيعي إلى افراده فلازمها كونها قابلة الصدق على الكثيرين. وان لم يكن كذلك فلا وجه لابتناء وجودها على وجوده وأظنك إذا رعيت ما مر بك في وجود الكلي الطبيعي تقدر على كشف حال ما ذهب إليه بعض المحققين في وضع الحروف. من انها موضوعة للقدر المشترك وان كان لا يتصور تلك الجهة الجامعة بينها الا في ضمن الخصوصيات ـ فان ما اختاره (قدس‌سره) أشبه شيء بالقول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج بوجود واحد شخصي كما نسب إلى الرّجل الهمدانيّ. بل يشعر بذلك أيضا عبارات كثير من الاعلام حيث يعبرون في كلماتهم بالحصة والجزء وما أشبههما.

(ومنها) ما نسب إلى بعض الفحول من كون معناها جزئيا إضافيا. وهو لما وقف على

١٩

المثال المعروف «سر من البصرة إلى الكوفة» توهم كلية المستعمل فيه.

(ومنها) ان الكلية أو الجزئية تابعة لكلية الطرفين أو جزئيتهما. ويقرب من ذينك القولين ما رجحه بعضهم من انها موضوعة للأخص من المعنى الملحوظ قائلا بان القول بوضعها للجزئي الحقيقي الخارجي أو الذهني من قبيل لزوم ما لا يلزم.

(هذا) ولكن القول بإيجادية بعض الحروف بنفس الاستعمال وعدم استقلال الحروف في المفهومية والمعقولية والوجود مطلقا يثبت ما هو المختار من كون الوضع مطلقا عاما والموضوع له خاصا. اما في الإيجادية منها كحروف النداء والتوكيد فواضح جدا بعد ما عرفت من انها وضعت لإيجاد معانيها من النداء وشبهه بالحمل الشائع من غير فرق بين ان يكون المنادى واحدا أو كثيرا. فانك إذا قلت يا زيد أو قلت يا أيها الناس فالنداء واحد شخصي. ينادى به مسمى ما يليه ولم توضع للحكاية عن معان مستقرة في مواطنها مع قطع النّظر عن الاستعمال. لعدم واقعية لها مع قطع النّظر عنه فهي آلات لإيجاد المعاني بنفس الاستعمال. والوجود حتى الإيقاعي منه يساوق بوجه الوحدة التي هي عين جزئية المستعمل فيه وخصوصية الموضوع له ـ واما القسم الآخر أعني الحاكيات من الحروف فتوضيحه : انك قد عرفت ان معاني الحروف نفس الربط والتدلي بالغير والقيام بشيء آخر خارجا وذهنا فهي اذن لا تتقوم في الخارج الا بالوجودات المستقلة مفهوما ووجودا كالجواهر أو مفهوما فقط كالإعراض. كما انه لا تتقوم في الذهن إلّا ان تلحظ حالة للغير ومندكة فيه وإلا لزم الانقلاب فيها وخرجت عن كونها معان حرفية ـ وقس على هذا مقام الدلالة. أصلها وكيفيتها فلا يستفاد من الحروف المجردة معنا ما لم يضم إليها شيء من الأسماء كما ان كيفية دلالتها. أعني دلالتها على الوحدة والكثرة. أيضا كذلك. فتدل على الواحد عند كون أطرافها واحدة وعلى الكثير عند كونها كثيرة.

تجد جميع ذلك أعني عدم استقلالها في المراحل الأربعة (الوجود الخارجي والذهني والدلالة وكيفيتها) عند التأمل في قولنا : زيد في الدار أو كل عالم في الدار ـ إذ لا شك ان لفظة زيد تحكى عن الواحد الشخصي ولفظة كل عن الكثرة التفصيلية ولفظة عالم تدل على المتلبس بالمبدإ ، والظرف أعني (الدار) على المكان المعهود ، فاذن هلم نحاسب مفاد لفظة «في» فانك لا تشك ـ مهما شككت في شيء ـ ان مفهومها في المثال

٢٠