تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يعم الشبهات الحكمية (الثالث) ان جعل الإباحة الظاهرية لا يمكن مع العلم بجنس الإلزام ، فان أصالة الحل بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال ، لأن مفادها الرخصة في الفعل والترك ، وذلك يناقض العلم بالإلزام ، وان لم يكن لهذا العلم أثر عملي ، إلّا ان العلم بثبوت الإلزام لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا فان الحكم الظاهري انما هو في مورد الجهل بالحكم الواقعي ، (أضف) إلى ذلك انه فرق بين أصالة الإباحة ، والبراءة والاستصحاب ، لأن جريان أصالة الإباحة في كل واحد من الفعل والترك يغنى عن الجريان في الآخر ، لأن معنى إباحة الفعل هو الرخصة في الفعل والترك ، ولذلك يناقض مفادها مطابقة لجنس الإلزام ، دون الاستصحاب والبراءة فان جريانه في واحد من الطرفين لا يغنى عن الآخر لأن استصحاب عدم الوجوب غير استصحاب عدم الحرمة (انتهى كلامه)

 وفي كلامه مواقع للنظر منها ان ما ذكره أخيرا مناف لما أفاده أولا من اختصاص دليل أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الحلية لا الوجوب ، لأن جعل الرخصة في الفعل والترك انما يكون فيما إذا كانت الشبهة في الوجوب والحرمة جميعا ، واما مع مفروضية عدم الوجوب وكون الشك في الحرمة والحلية لا معنى لجعل الرخصة في الترك ، فان جعل الرخصة الظاهرية تكون لغوا للعلم بالرخصة الواقعية ، فمفاد دليله الأول ان طرف الحرمة لا بد ان يكون الحلية لا الوجوب ، ولازم دليله الثالث من جعل الرخصة في الفعل والترك انّ طرف الشبهة يكون الوجوب أيضا وهما متنافيان

 وان شئت قلت : لو كانت الإباحة بالمعنى الّذي ذكره ثابتا ، أعني جعل الترخيص في جانب الفعل والترك معا بحيث يكون متعلق الترخيص المجعول هو كل من الفعل والترك ، لانحصر مجراها بصورة دوران الأمر بين المحذورين ، إذ لو دار الأمر بين الحل والحرمة ، يكون جعل الترخيص بالنسبة إلى الفعل والترك امرا لغوا ، لأنه قاطع بالترخيص في جانب الترك لدوران امره بين الحل والحرمة ، بحيث يكون جواز الترك مقطوعا به ، (وكذا) لو دار الأمر بين الحل والوجوب فان جعل الترخيص

٣٠١

في الجانبين امر لغو لأنه قاطع بالترخيص في جانب الفعل ، وبالجملة لا يصلح لأصالة الإباحة (ح) مورد سوى دوران الأمر بين المحذورين.

و (منها) ان ما ذكره من ان مفاد دليل الحل والإباحة مناف بمدلوله المطابقي مع العلم بالإلزام ، غير تام ، لأنه مبنى على ورود أصالة الإباحة بالمعنى الّذي أفاد حتى يكون لازمه طرح الإلزام الموجود في البين ولكن الموجود في لسان الأدلة هو أصالة الحل المستفاد من قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى ، فالحلية (ح) انما هو في مقابل الحرمة ، لا الحرمة والوجوب (وعليه) فالحكم بالحلية لازمه رفع الحرمة التي هو أحد الطرفين ، لا رفع الإلزام الموجود في البين ، فما هو مرتفع لم يعلم وجدانا ، وما هو معلوم لا ينافيه الحلية و (الحاصل) ان الدليل الحل لا يكون مفاده الرخصة في الفعل والترك ضرورة ان الحلية انما هي في مقابل الحرمة لا الوجوب فدليل أصالة الإباحة يختص بالشبهات التحريمية ، وليس في الأدلة ما يظهر منه الرخصة في الفعل والترك الا قوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى أو امر ، على رواية الشيخ ومضى الإشكال فيه.

(ومنها) ان مناقضة الترخيص الظاهري مع إلزام الواقعي ليس إلّا كمناقضة الأحكام الواقعية والظاهرية ، والجمع بينهما هو الجمع بينهما.

فان قلت : ان جعل الرخصة انما هي مع الجهل بالإلزام ومع العلم به يكون غايتها حاصلة قلت : لعل هذا مراده (قدس‌سره) من عدم انحفاظ رتبة أصالة الإباحة وان خلط الفاضل المقرر رحمه‌الله ، إلّا ان الشأن في كون أصالة الإباحة كما ذكره فانه لا دليل عليها بهذا المعنى أضف إلى ذلك ان ما أفاده من اختصاص دليل الحل بالشبهات الموضوعية لا يخلو عن نظر وقد قدمنا ما هو الحق عندنا بل من المحتمل ان يكون مفاده متحدا مع البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع وغيره فتأمل

في جريان البراءة الشرعية في المقام

فقد منع بعض أعاظم العصر جريانها مستدلا ، بان الرفع فرع إمكان الوضع وفي مورد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما

٣٠٢

لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير ، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع فأدلة البراءة الشرعية لا تعم المقام أيضا ، و (فيه) ان الممتنع رفعه ووضعه انما هو مجموع الحرمة والوجوب ، ولا يكون المجموع من حيث المجموع مفاد دليل الرفع ، واما رفع كل واحد ، فلا إشكال فيه فيقال ان الوجوب غير معلوم فيرتفع والحرمة غير معلومة أيضا فيرتفع فالتحقيق انه لا مانع من شمول حديث الرفع للمقام لعدم لزوم المخالفة العملية والالتزامية منه والتنافي بين الرفع والإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة مما لا إشكال فيه لأنه ليس بحكم شرعي بل امر انتزاعي غير مجعول وما هو المجعول نوع التكليف وهو مشكوك فيه ومثله في الضعف ما أفاده في منع جريان الاستصحاب من ان الاستصحاب من الأصول التنزيلية ، وهي لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا فان البناء على مؤدى الاستصحابين ينافى الموافقة الالتزامية ، فان البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا لا يجتمع مع التدين بان لله في هذه الواقعة حكما إلزاميا ـ و (فيه) منع كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية بالمعنى الّذي ادعاه ، فان مفاد قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثالثة ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ويبنى عليه ، ليس إلّا البناء على تحقق اليقين الطريقي وبقائه عملا أو تحقق المتيقن كذلك ، واما البناء القلبي على كون الواقع متحققا فلا ، فراجع كبريات الباب ، فانك لا تجد فيها دلالة على ما ذكره من البناء القلبي و (بالجملة) ان البناء في الاستصحاب عملي لا قلبي حتى ينافى الإلزام المعلوم في البين.

الأمر الثاني : إذا كان لأحد الحكمين في دوران الأمر بين المحذورين مزية على الآخر احتمالا كما إذا كان الوجوب أقوى في نظر العالم من الحرمة ، أو محتملا كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية في نظره على فرض مطابقته للواقع ، فهل يوجب تلك الأهمية تعين الأخذ به لأن المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما عن المحقق الخراسانيّ أولا يقتضى ذلك ، التحقيق جريان البراءة عن التعيينية ولو قلنا بأصالة التعين عند الشك في التعيين والتخيير ، لأن أصل

٣٠٣

التكليف مشكوك فيه يجري فيه البراءة فضلا عن خصوصياته نعم لو كان ذات المزية مما له أهمية عند العقل والشرع على فرض صدقه بحيث يحكم بالاحتياط وان كانت الشبهة بدئية كما لو تردد الشخص بين كونه نبيا أو مرتدا ، فيحكم العقل بالتعيين وان لم يكن في المقام علم ، ومثله إذا ترددت المرأة بين كونها واجبة الوطء ، أو محرمتها محرمة ذاتية مثل المحارم.

وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض الأعاظم من ان وجود المزية كعدمها حتى لو كان المحتمل من أقوى الواجبات الشرعية وأهمها

الأمر الثالث : إذا تعددت الوقائع فهل التغيير بدئي أو استمراري الأقوى هو الثاني لأن المكلف إذا أتى في الواقعة الثانية بخلاف الأولى يعلم بمخالفة قطعية وموافقة قطعية ، وليس في نظر العقل ترجيح بينهما ، فصرف لزوم مخالفة قطعية لا يمنع عن التخيير بعد حكم العقل بعدم الفرق بين تحصيل تكليف قطعا وترك تكليف قطعا ، و (توضيحه) ان كل واقعة اما ان تلاحظ مستقلا بلا لحاظها منضمة إلى واقعة أخرى فيدور امر المكلف في كل جمعة أو كل واقعة بين المحذورين ، أو تلاحظ منضمة إلى واقعة أخرى ، فيحصل له علمان : العلم بان صلاة الجمعة اما محرمة في هذا اليوم أو واجبة في الجمعة الآتية ، والعلم بأنها واجبة في هذا اليوم ، ومحرمة في الجمعة الآتية ، فامتثال كل علم على وجه القطع مخالفة قطعية للعلم الآخر ، مثلا لو ترك الجمعة في الحاضرة وصلى في القادمة فهو وان امتثل العلم الأول (العلم بأنها اما محرمة في اليوم أو واجبة في القادمة) إلّا انه خالف العلم الثاني (العلم بأنها اما واجبة في هذا اليوم ، أو محرمة في القادمة) ، كما انه لو عكس ، انعكس القضية إذا عرفت هذا فنقول.

لو كان كل واقعة موضوعا مستقلا ، فلا شك انه يجري البراءة سواء كان ما يختاره عين ما اختاره أو ما يختاره في القادمة ، أو لا كما هو واضح ، واما إذا لوحظ الوقائع مجتمعة ومنضمة فلو كان التخيير بدئيا كان يكون فاعلا في كل الوقائع أو تاركا ، فلا يتحقق مخالفة قطعية كما لا يتحقق موافقة قطعية بل يكون محتمل الموافقة والمخالفة ،

٣٠٤

واما إذا كان التخيير استمراريا وكان المكلف فاعلا في واقعة وتاركا في أخرى فيتحقق موافقة قطعية ، ومخالفة قطعية ، و (بما) انه لا دليل على ترجيح الموافقة والمخالفة الاحتماليين على الموافقة والمخالفة القطعيين ، فلا جرم لم يكن وجه للزوم كون التخيير بدئيا لا استمراريا ، وترجيح الأولى بانتفاء المخالفة القطعية فيها ، معارض بوجود المخالفة القطعية في الثاني.

واما ما أفاده بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) ما محصله : ان المخالفة القطعية لم تكن محرمة شرعا بل هي قبيحة عقلا ، وقبحها فرع تنجز التكليف ، فان مخالفة التكليف الغير المنجز لا قبح فيها ، كما لو اضطر إلى أحد الأطراف المعلوم بالإجمال فصادف الواقع فانه مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا ، وليس ذلك إلّا لعدم تنجز التكليف وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجزا في كل واقعة لأن في كل منها يكون الأمر دائرا بين المحذورين ، وكون الواقعة مما تتكرر لا يوجب تبدل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذورين (انتهى كلامه).

ففيه : ان عدم تنجز التكليف في المقام ليس لقصور فيه ضرورة كونه تاما من جميع الجهات ، وانما لم يتنجز لعدم قدرة المكلف على الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية بحيث لو فرضنا محالا إمكان الموافقة القطعية يحكم العقل بلزومها ، ولو فرض عدم إمكان الموافقة القطعية لكن أمكن مخالفة القطعية يحكم بحرمتها ، لتمامية التكليف.

و (بالجملة) التنجيز فيما نحن فيه فرع إمكان المخالفة لا ان حرمة المخالفة فرع التنجيز ، فإذا أمكن المخالفة يصير التكليف منجزا ، لرفع المانع ، وهو امتناع المخالفة القطعية والشاهد عليه انه لو فرضنا قدرة المكلف علي رفع النقيضين في الواقعة الواحدة يحكم العقل بحرمته ، وليس ذلك إلّا لعدم القصور في ناحية التكليف ، وانما

٣٠٥

القصور في قدرة العبد ، وفي الوقائع المتعددة يكون العبد قادرا على المخالفة فيتنجز التكليف.

تتميم : لو كان الطرفان تعبديين أو أحدهما المعين تعبديا فلا إشكال في امتناع الموافقة القطعية ، واما المخالفة القطعية فتحصل بالإتيان بأحد الطرفين أو المعين كونه تعبديا ، بلا تقرب. واما إذا كان أحد الطرفين تعبديا لا بعينه ، فهل يحكم العقل بالاخذ بأحد الطرفين والعمل على طبقه بنية الرجاء أولا ، يحتمل الثاني لأن الأخذ بأحد الطرفين والعمل علي طبقه بلا رجاء يوجب احتمال المخالفة من جهتين ، جهة احتمال ان حكم الله هو الآخر ، وجهة ان حكم الله لو كان ما عمل على طبقه ، أتاه بلا شرطه ، وهذا بخلاف ما لو أتى به رجاء فان احتمال المخالفة من الجهة الثانية منتفية ، ولعل الثاني هو الأقوى لأن العبد في المخالفة من الجهة الثانية غير معذور ، وليس في يده حجة مقبولة ، وبذلك يظهر النّظر فيما ربما يقال من ان أصل التكليف لم يقم عليه دليل فما ظنك بتعبديتها (انتهى) وقد عرفت في الأمر الثاني ما يوضح ضعفه ـ والحمد لله أولا وآخرا.

في الشك في المكلف به

نجز الكلام بحمد الله في البحث عن الشك في التكليف ، وحان وقت البحث عن الشك في المكلف به ، واما الميزان فيه فهو انه إذا علم المكلف بجنس التكليف أو نوعه وتردد متعلقه بين شيئين أو أزيد وأمكن له الاحتياط ، يصير الشك (ح) شكا في المكلف به ، فخرج ما لا علم فيه رأسا كالشبهة البدوية ، وما علم جنسه ولكن لم يمكن الاحتياط فيه ، كما إذا علم بكون أحد الشيئين اما واجب أو حرام فالعلم بالإلزام والتردد في المتعلق وان كان حاصلا إلّا ان الاحتياط على وجه الموافقة القطعية غير ممكن ، سواء أتى بهما أو تركهما ، أو أتى بواحد ، وترك آخر ، واما الشك في المحصل ، فهو وان كان يلزم فيه الاحتياط ، إلّا انه لا ضير في خروجه ، لعدم الملازمة بين لزوم الاحتياط وكون الشك فيه شكا في المكلف به ، بل هو باب برأسه يدخل فيه الشك في المحصل والشك في الإتيان بالمأمور مع بقاء الوقت

٣٠٦

إلى غير ذلك ، وما يقال في الميزان في المقام : ان كان الشك في الثبوت فهو الشك في التكليف وهو مرجع البراءة ، وان كان الشك في السقوط فهو الشك في المكلف به ومحل الاحتياط ، غير صحيح ، لأن كون الشك في السقوط وان كان محلا للاشتغال إلّا انه أعم من الشك في المكلف به كما لا يخفى إذا عرفت هذا فنقول : اختلفت الآراء في كون العلم بالحكم إجمالا هل هو علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ، أو مقتض بالنسبة إليهما ، أو علة تامة بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر ، يظهر الثمرة في إمكان الترخيص بالنسبة إلى بعض الأطراف أو كلها ، وبما ان محل النزاع غير منقح في كلام الأجلة ، حتى ان الشيخ الأعظم لا يخلو كلامه عن اختلاط ، فنقول : ان تنقيح البحث يحتاج إلى البحث في مقامين (الأول) إذا علم علما وجدانيا لا يحتمل الخلاف بالتكليف الفعلي الّذي لا يرضى المولى بتركه ، فلا شك انه يجب تحصيل الموافقة القطعية ، وتحرم المخالفة قطعيها أو محتملها ، ولا مجال للبحث عن جواز الترخيص في بعضها أو جميعها كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة لا لأجل كون القطع منجزا ، أو كون تحصيل الموافقة واجبا ، أو تحصيل المخالفة حراما ، بل لأجل لزوم اجتماع النقيضين قطعا أو احتمالا ، ضرورة ان القطع بالإرادة الإلزامية لا يجتمع مع احتمال الترخيص فضلا عن القطع به ، فان الترخيص في بعض الأطراف ولو كانت الشبهة غير محصورة مع احتمال انطباق الواقع على المورد المرخص فيه وان كان ضعيفا ، لا يجتمع مع الإرادة الإلزامية الحتمية ، ولا أظن ان العلمين (الخوانساري والقمي) ، جوزا الترخيص في هذه الصورة واما الشيخ الأعظم (قدس‌سره) فيظهر من بعض كلماته كون النزاع عاما يشمل المقام الأول حيث جعل المانع عن جريان الأصول لزوم الاذن في المعصية ووجود المانع عن جريانه في عالم الثبوت وان كان يظهر من بعض كلماته كون النزاع في غير هذا المقام ، وهذا هو الّذي يصلح ان يبحث عنه في باب القطع

 المقام الثاني : إذا علمنا حرمة شيء أو وجوبه لا بعلم وجداني بل بشمول إطلاق الدليل أو عمومه على المورد كما إذا قال لا تشرب الخمر

٣٠٧

وشمل بالإطلاق على الخمر المردد بين الإناءين ، فهل يمكن الترخيص بأدلة الأصول بتقييد إطلاق الدليل أولا ، وهذا هو الّذي ينبغي ان يبحث عنه في المقام ، ومثله إذا علم إجمالا بقيام حجة على هذا الموضوع أو ذاك ، كما إذا علم بقيام أمارة معتبرة اما بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة إلى غير ذلك مما يعد من أقسام المتباينين ويظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم انه محط البحث حيث استدل على حرمة المخالفة القطعية بوجود المقتضى للحرمة وعدم المانع عنها اما ثبوت المقتضى فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه فان قول الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر الموجود المعلوم بين الإناءين إلى آخر ما أفاده ومن ذلك ما أفاده في ذيل المطلب الثاني حيث قال : الكلام يقع في مثل ما ذكرنا في أول الباب أي الشبهة التحريمية في الشك في المكلف به لأنه اما يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر أو إجماله أو تعارض النصين أو من جهة اشتباه الموضوع اما الأولى فالكلام فيه اما في جواز المخالفة القطعية في غير ما علم بإجماع أو ضرورة حرمتها إلى آخر ما أفاده فهذه الكلمات وأضرابه يعين محط البحث وان البحث في غير ما علم وجدانا وجود تكليف قطعي لا يرضى المولى بتركه.

ثم ان للمقام الثاني صورتين ، الأولى : إذا علم المكلف علما جازما بان التكليف الواقعي على فرض تحققه فعلى لا يرضى المولى بتركه ، وهذه الصورة أيضا خارجة عن محط البحث لأنه مع العلم بفعلية التكليف على فرض تصادف الأمارة للواقع ، وتصادف المحتمل للأمارة لا يمكن الترخيص الفعلي بجميع الأطراف أو بعضهما ، لأن العلم بالترخيص مع العلم بفعلية التكليف على فرض المصادفة غير ممكن الاجتماع فمع العلم الثاني لا يمكن الأخذ بالأدلة المرخصة

 الثانية تلك الصورة ولكن يحتمل ذلك ويحتمل مزاحمته لما هو أقوى ملاكا كما سنشير إليه فيرفع اليد عنه في مقام التزاحم فانحصر محط البحث بالصورة الثانية من المقام الثاني وهي صورة عدم العلم الوجداني بالتكليف الفعلي لا فعلا ولا تقديرا وعلى فرض تصادف الأمارة يحتمل فعلية الواقع ويحتمل عدمها ويصير مآل البحث إلى

٣٠٨

انه بعد ما قامت الحجة الفعلية على التكليف من إطلاق أو عموم : هل هاهنا حجة أخرى أقوى أعني أدلة الأصول حتى ترفع اليد عن الحجة الأولى ويكون من قبيل دفع الحجة بالحجة أولا ـ

 تنبيه

اعلم : انه لو قلنا بجواز الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، لا يوجب ذلك تقييدا في الأدلة الواقعية بوجه ، بل يكون حالها حال قيام الأمارات على خلافها ، وحال جريان الأصول في الشبهات البدئية ، إذا كانت مخالفة للواقع ، فكما ان الواقع لم يتقيد بمؤديات الأمارات ، ولا بحال العلم فكذلك في المقام ، والفرق ان هاهنا ترخيص في مخالفة الأمارة ويحتمل انطباق الأمارة على الواقع ، وهناك ترخيص في العمل بها مع إمكان تخلفها عنه ، وفي الشبهات البدئية ترخيص مع احتمال تحقق الواقع ، و (بالجملة) ان البحث في المقام كالبحث في الأمارات والأصول في الشبهات البدئية إذا خالفت الواقع ، فكما ان في الأمر بالعمل بالأمارات أو إمضاء الطرق العقلائية ، احتمال تفويت الواقع ، والمصالح والأغراض بما ان تلك الطرق والأصول ربما تؤدى المكلف إلى خلاف المطلوب ، فهكذا الأمر في العمل بالأصول وفي جعل الترخيص فيما إذا قامت الحجة على وجوب الشيء أو حرمته وتردد بين امرين وكما ان المجوز لهذا التفويت والأغراض ليس إلّا التحفظ على الغرض الأهم من حفظ نظام العباد ، وصيانتهم عن الاعراض عن الدين ورغبتهم عن الشريعة كما مر توضيحه في بابه فهكذا لو فرض في جعل الترخيص مصلحة أولى وأهم من التحفظ على الواقع ، لا يكون ضير في المقام في جعله وتشريعه ، فالمولى الحكيم لوقوفه على الاعراض الهامة وغيرها يقدم بعضها على بعض ويعرض عن بعض ويرفع اليد عنه للتحفظ بما هو أولى وأقدم.

وان شئت قلت : ان التخصيص والتقييد في الأدلة الواقعية لقصور الاقتضاء وفي المقام (أي إمضاء الطرق العقلائية ، والترخيص في أطراف العلم الإجمالي) لا يكون

٣٠٩

إلّا قضاء قاصرا ولهذا يجب العلم بالتكاليف في الشبهات الحكمية ويجب تتبع الأحكام ونشرها ، ولكن الجهات الأخر لما كانت أهم من مراعاة الواقع ، صارت تلك الأهمية سببا للترخيص في الشبهات البدئية ولتنفيذ الأمارات وإيجاب العمل على طبقها ، وفي المقام أيضا على فرض إمكانه فلا تكون الواقعيات مخصصة ولا مقيدة بشيء من تلك الموارد بل متروكة مع كمال مطلوبيتها لأجل أغراض أهم.

إذا عرفت ما ذكر فاعلم : ان البحث يقع في جهتين (الأولى) في إمكان الترخيص ثبوتا ، و (ثانيتهما) في وقوعه فنقول : اما الجهة الأولى فلا إشكال ان العقل (مع قطع النّظر عن الأدلة المرخصة على فرض وجودها) يحكم بوجوب موافقة الأمارات وعدم جواز مخالفتها سواء علم قيامها على امر تفصيلا أو إجمالا ، ويحكم مع العلم الإجمالي بقيام أمارة اما على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو على وجوبه عند غروب الشمس ، على لزوم المطابقة القطعية وحرمة مخالفتها القطعية لكن لا بملاك المعصية والإطاعة لعدم إحراز موضوعها لعدم العلم بتصادف الأمارة للواقع بل بملاك قطع العذر واستحقاق العقوبة على فرض مطابقتها للواقع أو بملاك المعصية التقديرية أي على فرض المصادفة فلو ارتكب أحد أطراف المعلوم بالإجمال فيحتمل قيام الأمارة عليه وعدمه وعلى فرضه يحتمل تصادف الأمارة للواقع وعدمه لكن على فرض تصادف الاحتمالين للواقع لا عذر له في ترك المأمور به الواقعي فيستحق العقوبة عليه.

و (الحاصل) ان العلم بالحجة الإجمالية كالعلم بالحجة التفصيلية في نظر العقل لأن العمل بها واتباعها مؤمن عن العقاب صادف أو خالف ، والاعراض عنها يحتمل معه العقاب ، فيجب دفعه ، والعلم بالحجة وان لم يكن ملازما مع العلم بالحكم لكنه يجب العمل به عقلا لحصول الا من معه ، فان المكلف يعد إذا صادفت الأمارة

 للواقع ، غير معذور إذا لم يعمل به هذا حكم إذا قصر نظره إلى أدلة الأمارات ومع ذلك كله لا مانع هنا للشارع عن جعل الترخيص ، وليس حكم العقل

٣١٠

بلزوم اتباع الحجة الإجمالية مانعا عن جعل الترخيص كما ليس هاهنا مانع من ناحية الخطابات الأولية ولا من غيرها ، توضيحه : ان ما هو القبيح على المولى انما هو الاذن في معصيته ومخالفته فلو وقف المكلف بعلم وجداني على كونه مطلوبا فالترخيص في تركه يعد لدى العقل قبيحا بالنسبة إلى المولى الّذي لا يتلاعب بأحكامه وأغراضه ، فالعلم بالمطلوب والإلزام به ثم الترخيص فيه مع بقائه على المطلوبية التامة التي لا يرضى بتركه نقض في الغرض لا يليق بساحة الحكيم ـ بل يمكن ان يقال : ان امتناعه ليس لأجل كونه امرا قبيحا بل هو امر ممتنع بالذات لامتناع اجتماع إرادتين متعلقتين على فعله وتركه ، فالترخيص في المعصية مع كونه قبيحا محال ذاتا.

ولكن كون الترخيص ، إذنا في المعصية فرع العلم بكونه محبوبا ومطلوبا تاما ، والمفروض ان الموجود في المقام ليس إلّا العلم بالحجة ولا نعلم كونها مطابقة للواقع أولا ، فالترخيص في مخالفتها (لحفظ غرض أهم على فرض المطابقة للواقع) ليس ترخيصا في المعصية ، لعدم العلم بالحكم بل هو ترخيص في مخالفة الأمارة ، وإجازة في مخالفة الحجة ، فما يدعى من الامتناع والاستقباح غير آت في المقام ، واما توهم المانع من ناحية الخطابات الأولية واستلزام ذلك الترخيص ، تقييدا أو تخصيصا في أدلة الواقعية فقد مرّ توضيحه ودفعه.

والحاصل : انى لا أظن بقاء المجال للتشكيك في إمكان الترخيص حتى بالنسبة إلى جميع الأطراف بعد تصور محط البحث لعدم لزوم شيء مما ذكر كلزوم الاذن في المعصية ضرورة ان الاذن في مخالفة الأمارة لا يلازم الاذن في المعصية بل قد يلزم منه الاذن في مخالفة الواقع ولا إشكال فيه ، لجواز رفع اليد عن الواقع لأجل تزاحم جهات أهم منه ، وان شئت فاعطف نظرك إلى أشباهه ونظائره ، فان الشك بعد تجاوز المحل أو خروج الوقت ، لا يترتب عليه الأثر مع إمكان كون المضي موجبا لتفويت الواقع ومثله الاذن بالعمل بالاستصحاب أو إيجاب العمل به ، فان الترخيص والاذن والأمر في هاتيك الموارد يكشف عن عدم فعلية الأحكام الواقعية بمعنى رفع

٣١١

اليد عنها للمزاحم الأقوى من غير تقييد لها أو تخصيص ، فلو فرغنا عن دلالة الأدلة المرخصة إثباتا ولم يكن محذور في مقام الاستفادة عن الأخذ بمفادها ، فلا نتصور مانعا في المقام ، فما ربما يتراءى في كلمات الأعاظم من تصور المحاذير الثبوتية من ان الترخيص في جميع الأطراف مستلزم للإذن في المعصية وهو قبيح عقلا ، أو ان حكم العقل بالنسبة إلى المخالفة القطعية على نحو العلية التامة ، وبالنسبة إلى الموافقة القطعية كذلك أو بنحو الاقتضاء ، كل ذلك ناش من خلط محل البحث بما هو خارج عنه فإذا تبين إمكان الترخيص فلو دلت الأدلة على الترخيص فلا مانع من القول بمقالة المحققين (الخوانساري والقمي) (قدس‌سرهما)

 الجهة الثانية : في وقوع الترخيص : وتنقيح البحث يتوقف على سرد الروايات ـ فنقول : ان الروايات الواردة في المقام على طائفتين الأولى : ما يظهر منها التعرض لخصوص أطراف العلم الإجمالي أو الأعم منه ومن غيره وإليك بيانه

١ ـ صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال كل شيء فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

٢ ـ ما رواه عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال سألت : أبا جعفر عن الجبن فقال لقد سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام درهما فقال : يا غلام ابتع لنا جبنا ثم دعى بالغذاء فتغذينا معه فأتى بالجبن فأكل فأكلنا فلما فرغنا من الغذاء قلت ما تقول في الجبن قال أو لم ترني آكله قلت بلى ولكني أحب ان أسمعه منك فقال سأخبرك عن الجبن وغيره كلما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (والكبرى الواقعة فيه قريب مما وقع في الصحيحة السابقة.

٣ ـ رواية معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره : كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه

ثم ان الشيخ الأعظم نقل هذه الرواية بزيادة «منه» فلم نجد له إلى الآن مدركا ،

٣١٢

ويحتمل اتحاد الثانية والثالثة من الروايتين لقرب ألفاظهما وعدم اختلافهما الا في تنكير الحلال والحرام وتعريفهما ويحتمل اتحاد الأولى مع الثانية أيضا لكون الراوي في الثانية انما هو عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان فمن الممكن انه نقله تارة مع الواسطة وأخرى مع حذفها وليس ببعيد مع ملاحظة الروايات الا انا نتكلم فيها على كل تقدير

فنقول : ان في تلك الروايات احتمالات الأول : اختصاصها بالشبهة البدئية بان يقال : ان كل طبيعة فيه الحرام والحلال وينقسم إليهما تقسيما فعليا واشتبه فرد منها من انه من أي القسمين فهو لك حلال. ولكنك خبير بأنه أردى الاحتمالات لأن التعبير عن الشبهة البدئية بهذه العبارة بعيد غايته مع إمكان ان يقول كل ما شككت فهو لك حلال أو الناس في سعة ما لا يعلمون.

الثاني : اختصاصها بالعلم الإجمالي فقط فان الظاهر ان قوله كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، ان ما فيه الحلال والحرام حلال بحسب الشبهة الموضوعية كما هو مورد الثانية والثالثة ، ولا يبعد ان يكون مورد الصحيحة هو الموضوعية ، أيضا فيصدق قوله فيه الحلال والحرام على المال المختلف فإذا كان عنده خمسون دينارا بعضها معلوم الحرمة وبعضها معلوم الحلية يقال انه شيء فيه حلال وحرام ، والظاهر من قوله فهو لك حلال ، وان ما فيه الحلال والحرام لك حلال (فحينئذ) فالغاية هي العلم التفصيلي وهذا اقرب الاحتمالات.

الثالث : كونها أعم من العلم الإجمالي والشبهة البدئية بان يقال : ان كل طبيعة فيه حلال معين وحرام معين ، وفرد مشتبه ، فالمشتبه لك حلال حتى تعرف الحرام ، وان شئت قلت : إذا علم تفصيلا حرمة بعض افراد الطبيعة ، وعلم حلية بعض آخر وشك في ثالث فيقال : ان الماهية الكذائية التي فيها حلال وحرام فهي حلال مع الشبهة حتى تعرف الحرام ، ولكن إدخال هذا الفرد يحتاج إلى تكلف خارج عن محور المخاطبة وعلى أي فرض فلا محيص في الاحتمالين الأخيرين إلّا بجعل الغاية علما تفصيليا ، لا لكون مادة المعرفة ظاهرة في مقام التشخيص في المميزات الشخصية التي لا تنطبق الا على

٣١٣

العلم التفصيلي ، ولا لأن قوله : تعرف ظاهر في ذلك ، وان كان كل ذلك وجيها بل لأنه على فرض كونه متعرضا لخصوص العلم الإجمالي لا معنى لجعل الغاية أعم من العلم التفصيلي وعلى فرض كونه أعم ، لا معنى لجعل الغاية أعم أيضا لأن لازمه ان المشتبه البدوي حلال حتى يعلم إجمالا أو تفصيلا انه حرام والمعلوم الإجمالي حلال حتى يعلم تفصيلا انه حرام مع انه باطل بالضرورة لأن لازم جعل الغاية أعم تارة والعلم التفصيلي أخرى التناقض أي حلية المعلوم بالإجمال وحرمته وان كان المراد المشتبه البدئي حلال حتى يعلم إجمالا وجود الحرام فيه (فحينئذ) يرتفع حكمه ثم يندرج في صغرى المشتبه بالعلم الإجمالي فهو حلال إلى ان تعرف الحرام تفصيلا ، فهو وان كان مفيدا للمقصود لكنه أشبه شيء بالأحجية واللغز أضف إلى ذلك ان الظاهر ان قوله (بعينه) قيد للمعرفة وهو يؤيد كون العرفان لا بد وان يكون بالعلم التفصيلي ، ويؤيده أيضا الفرق المعروف بين العرفان والعلم فان الأول لا يستعمل إلّا في الجزئي المشخص ، فعليه فالغاية للصدر الشامل للعلم الإجمالي ليس إلّا العلم تفصيلا بكون الحرام هذا الشيء المعين.

هذا حال الروايات والإنصاف قوة الاحتمال الثاني كما هو غير بعيد عن روايات الجبن فان الظاهر ان الاشتباه في الجبن لأجل جعل الميتة في بعضها كما هو الظاهر في بعضها مثل ما رواه أبو الجارود قال سألت : أبا جعفر عن الجبن فقلت أخبرني ما رأى انه يجعل فيه الميتة فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض إذا علمت انه ميتة فلا تأكله وان لم تعلم فاشتر وبع (وما) رواه منصور بن حازم عن بكر بن حبيب قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجبن وانه توضع فيه الإنفحة من الميتة قال لا تصلح ثم أرسل بدرهم فقال اشتر من رجل مسلم ولا تسأل عن شيء.

وملخص الكلام في هذه الروايات : ان اشتراك عبد الله بن سليمان بين ضعيف وموثق يسقط الرواية عن الحجية ، أضف إلى ذلك ان المراد من الحرام فيها الإنفحة كما هو المنصوص في بعض روايات الباب مع ان ضرورة فقه الإمامية قاضية على حليتها وطهارتها ، وبذلك يظهر الجواب عن رواية ابن «عمار» مضافا إلى إرسالها ،

٣١٤

فلم يبق في الباب إلا صحيحة عبد الله بن سنان ، فيما ان ما رواه من الكبرى موافقة مع رواية عبد الله بن سليمان التي رواه نفس عبد الله بن سنان عنه أيضا ، فلا بعد لو قلنا باتحادهما حقيقة وان ما استقل به عبد الله بن سنان قطعة منها نقلها بحذف خصوصياتها ، و (عليه) فيشتركان فيما ذكرناه من الوهن.

نعم يمكن دفع الوهن بان التقية ، ليست في الكبرى ، بل في تطبيقها على تلك الصغرى لا بمعنى ان حلية الإنفحة لأجل التقية ، بل بمعنى ان الكبرى لما كان امرا مسلما عند الإمام ، كطهارة الإنفحة وحليتها على خلاف العامة القائلين بنجاستها ، فبين الإمام عليه‌السلام الحكم الواقعي في ظرف خاص (صورة الشبهة) بتطبيق كبرى على مورد ليس من صغرياته إلزاما للخصم ، وتقية منه ، ونجد له في الفقه أشباها كما في صحيحة البزنطي حيث تمسك الإمام على بطلان الحلف على العتق والطلاق إذا كان مكرها ، بحديث الرفع ، مع ان الحلف عليهما باطل من رأس سواء كان عن إكراه أولا فتدبر ، ويأتي بعض الكلام حول هذه الروايات عند البحث عن الموافقة القطعية لكنه أيضا محل إشكال لاحتمال تمسكه بالأصل لتسلمه عندهم لا عند الطائفة الثانية من الروايات : ما لا اختصاص له بأطراف العلم الإجمالي وإليك بيانها

 ١ ـ موثقة مسعدة بن صدقة : قال سمعته يقول : كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة أو العبد يكون عبدك ولعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك إلى آخرها

 ٢ ـ كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى.

٣ ـ رفع عن أمتي تسعة ، ما لا يعلمون واستكرهوا عليه إلخ إلى غير ذلك من أحاديث البراءة ومع ذلك كله لا يصح الاعتماد عليها في ارتكاب أطراف العلم اما الموثقة فان الظاهر من الصدر وان كان عموميته للبدئية والعلم الإجمالي ولأجل ذلك لا مناص من تخصيص الصدر بالعلم التفصيلي دفعا للإشكال المتقدم مضافا إلى ما عرفت من ان العلم بكون هذا أو هذا حراما ليس من معرفة الحرام بعينه ، إلّا ان الإشكال في

٣١٥

تطبيق الكبرى المذكورة على ما ذكر في ذيل الحديث ، فان الحل فيها مستند على أمارات وقواعد متقدمة على أصالة الحل ، لأن اليد في الثوب أمارة الملكية كما كان ان أصالة الصحة في العقد هي المحكم في المرأة واستصحاب عدم كونها رضيعة عند الشك في كونها رضيعة إلى غير ذلك من قواعد مما يوهن انطباق الكبرى على الصغريات المذكورة ، ولأجل ذلك لا بد من صرفها عن مورد القاعدة بان يقال انها بصدد بيان الحل ولو بأمارة شرعية مع الجهل الوجداني بالواقع وكيف كان فالاستناد بها في المقام مشكل.

واما أحاديث البراءة ، فالظاهر عدم شمولها لأطراف العلم لأن المراد من العلم فيها هو الحجة أعم من العقلية والشرعية لا العلم الوجداني وقد شاع إطلاق العلم واليقين على الحجة في الاخبار كثيرا كما سيوافيك بيانه في اخبار الاستصحاب ، والمفروض انه قامت الحجة في أطراف العلم على لزوم الاجتناب ، على ان المنصرف أو الظاهر من قوله : ما لا يعلمون كونه غير معلوم من رأس بمعنى المجهول المطلق لا ما علم وشك في انطباق المعلوم على هذا وهذا.

أضف إلى ذلك ان هنا إشكالا آخر يعم جميع الروايات عمومها وخصوصها وهو ان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي الّذي ثبت الحكم فيه بالحجة ، يعد عند ارتكاز العقلاء ترخيصا في المعصية وتفويتا للغرض وهذا الارتكاز وان كان على خلاف الواقع ما عرفت من انه ترخيص في مخالفة الأمارة لا ترخيص في المعصية لكنه تدقيق عقلي منا ، والعرف لا يقف عليه بفهمه الساذج ، وهذا الارتكاز يوجب انصراف الاخبار عامة عن العلم الإجمالي المنجز ، فان ردع هذا الارتكاز يحتاج إلى نصوص وتنبيه حتى يرتدع عنه ، والمراد منها (ح) اما الشبهات الغير المحصورة كما هو مورد بعض الروايات المقدمة أو غيرها مما لا يكون إذنا في ارتكاب الحرام ، ويؤيد ذلك حكم الأعاظم من المتأخرين بان الترخيص في أطراف العلم اذن في ارتكاب المعصية ، فان حكمهم هذا ناش من الارتكاز الصحيح ، وبالجملة فالعرف لا يرتدع عن فطرته بهذه الروايات حتى يرد عليه بيان أوضح وأصرح.

أضف إلى ذلك ما أفاده صاحب الجواهر في باب الرّبا : من ان ظاهر هذه الروايات

٣١٦

حل الجميع ولكن لم يعمل بها الا نادر من الطائفة مضافا إلى ان روايات الحل مختصة بالشبهة الموضوعية والبحث في الأعم منها.

ثم ان الظاهر من الشيخ الأعظم (قدس‌سره) ان المانع عن الشمول هو لزوم تعارض الصدر والذيل في أدلة الأصول وكلامه هذا حاك على ان المانع إثباتي لا ثبوتي وقد تقدم ان كلماته مختلفة ، قال في مبحث تعارض الاستصحابين : إذا لم يكن لأحد الاستصحابين مرجح فالحق التساقط دون التخيير لأن العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض ، لأن قوله : لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله ، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا أحدهما المعين لكونه ترجيحا بلا مرجح ، ولا أحدهما المخير لأنه ليس من افراد العام «انتهى كلامه»

 والإشكال عليه بان الذيل غير وارد الا في بعض الروايات غير صحيح ضرورة تقديم المشتمل على خصوصية على العاري منها على ما هو مقرر في محله ، (نعم) يمكن ان يورد عليه ، ان المراد من اليقين وان كان الحجة على ما سيوافيك في محله من ان المراد من قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك أي لا تنقض الحجة باللاحجة ، لكن المراد من الذيل هو العلم التفصيلي ، لا الأعم منه ومن الإجمالي ، لأن الظاهر ان متعلق اليقين الواقع في الذيل عين ما تعلق به اليقين الأول ، ولكن اليقين الأول قد تعلق بطهارة كل واحد بالخصوص كما ان الشك قد تعلق بطهارتهما كذلك ، فلا بد ان يحصل يقين آخر ضد اليقين الأول ، ويتعلق بنجاسة واحد منهما معينا ، واما اليقين في العلم الإجمالي فلم يتعلق بنجاسة إناء معين ، بل بأمر مردد وجودا بين الإناءين و (عليه) فالذيل غير شامل لليقين الإجمالي لعدم اتحاد متعلقي اليقينين ، ويبقى المورد تحت حكم الصدر فقط فتدبر.

نعم يأتي في المقام ما ذكرناه من المبعدات في جريان الأصول في أطراف العلم

٣١٧

الإجمالي ، من كونه ترخيصا في المعصية في نظر العرف فلاحظ.

ثم ان بعض أعاظم العصر رحمه‌الله فصل في دوران الأمر بين المحذورين بين أصالة الإباحة وبين الأصول التنزيلية وغيرها وجعل محذور كل واحد منها امرا غير الآخر ، وقد نقلنا شطرا منه في دوران الأمر بين المحذورين ، وذكرنا هناك بعض المناقشات في كلامه ، ومع ذلك فلا بأس بنقل شطر آخر من كلامه حسب ما يرتبط بالمقام فأفاد (قدس‌سره) : اما أصالة الإباحة في غير هذا المورد (مورد الدوران) أو مطلق الأصول في هذا المورد وفي غيره فالوجه في عدم جريانها ليس هو عدم انحفاظ الرتبة وانتفاء موضوع الحكم الظاهري بل امر آخر يختلف فيه الأصول التنزيلية مع غيره ، اما غيره فالوجه هو لزوم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم في البين ، واما التنزيلية فالسرّ فيه هو قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الإجمالي لأن المجعول فيها هو الأخذ بأحد طرفي الشك على انه هو الواقع ، وهذا المعنى من الحكم الظاهري لا يمكن جعله بالنسبة إلى جميع الافراد للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ، فالإحراز التعبدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف ، ولا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كل من الإناءين مع العلم بنجاسة أحدهما «انتهى»

 وأنت إذا أحطت خبرا بما ذكرناه تقف على ضعف ما أفاده حول الأصول غير التنزيلية من استلزامه المخالفة القطعية للتكليف اما عرفت من ان محل البحث هو العلم بالحجة ، لا العلم بالتكليف القطعي واما ما جعله وجها للمنع في الأصول التنزيلية فيرد عليه اما أولا ، فلمنع كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية ، وذلك لأن المجعول في الأصول التنزيلية على ما اعترف به انما هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشك على انه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع كقاعدة التجاوز حيث ان مفاد اخبارها ان الشك ليس بشيء وانما الشك إذا كان في شيء لم يجزه وفي رواية بلى قد ركعت فأمثال هذه التعابير يستفاد منها كون القاعدة من الأصول المحرزة التنزيلية بخلاف اخبار الاستصحاب فان الظاهر منها لحاظ الشك و

٣١٨

اعتباره كما تنادي به التعابير التي فيها كقوله لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ضرورة ان الظاهر منه ان الشك ملحوظ فيه لكنه ليس له معه نقض اليقين به ولا بد عند الشك ترتيب آثار اليقين الطريقي ومعه لا يكون من الأصول المحرزة

 واما ثانيا فلمنع عدم جريانه لو فرض كونه أصلا محرزا كما سيأتي بيانه.

تقريب لكون الاستصحاب أصلا محرزا

ثم ان هنا وجها لكون الاستصحاب أصلا محرزا ذكرناه في الدورة السابقة ومحصله ان الكبرى المجعولة فيه تدل على حرمة نقض اليقين أي السابق بالشك عملا ، ووجوب ترتيب آثار اليقين الطريقي في ظرف الشك ، ولما كان اليقين الطريقي كاشفا عن الواقع كان العامل بيقينه يعمل به على انه هو الواقع لكونه منكشفا لديه فالعالم بوجوب صلاة الجمعة يأتي بها في زمن اليقين بما انه الواقع فإذا قيل له لا تنقض اليقين بالشك عملا ، يكون معناه عامل معاملة اليقين ورتب آثاره في ظرف الشك ، ومعنى ترتيب آثاره ، ان يأتي بالمشكوك فيه في زمان الشك مبنيا على انه هو الواقع وان شئت قلت ان هذا الأصل انما اعتبر لأجل التحفظ على الواقع في ظرف الشك.

وفيه ان المتيقن انما يعمل على طبق يقينه من غير توجه على انه هو الواقع توجها اسميا ، يأتي بالواقع بالحمل الشائع ، بلا توجه بأنه معنون بهذا العنوان ، (نعم) لو سئل عنه بما ذا تفعل ، وان ما تعمل هل هو الواقع أولا ، لأجابك بأنه الواقع متبدلا توجهه الحرفي إلى الاسمي ، و (عليه) فمعنى لا تنقض اليقين بالشك عملا ، هو ترتيب آثار القطع الطريقي أي الترتيب آثار المتيقن ، لا ترتيب آثاره على انه الواقع ، واما حديث جعل الاستصحاب لأجل التحفظ على الواقع فان كان المراد منه ان جعله بلحاظ حفظ الواقع كالاحتياط في الشبهات البدئية فهو صحيح لكن لا يوجب ذلك ان يكون التعبد بالمتيقن على انه الواقع كالاحتياط فانه أيضا بلحاظ الواقع لا على ان المشتبه هو الواقع وان كان المراد منه هو التعبد على انه الواقع فهو مما لا شاهد له في الأدلة ، لأن المراد من حرمة النقض بالشك ، اما إطالة عمر اليقين (على وجه ضعيف) ، أو حرمة النقض

٣١٩

عملا أي ترتيب آثار اليقين أو المتيقن (على المختار) واما كونه بصدد بيان وجوب البناء على انه الواقع فلا

 ثم لو سلم كونه أصلا محرزا فما جعله مانعا من جريان الاستصحاب في الأطراف من ان معنى الاستصحاب هو الأخذ بأحد طرفي الشك وهو لا يجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، ليس بصحيح ، لأن الجمع بين الحكم الظاهري والواقع قد فرغنا عنه ، كما فرغ هو (قدس‌سره) فهذا الإشكال ليس شيئا غير الإشكال المتوهم فيه (فعليه) فلو علمنا بوقوع نجاسة في واحد من الإناءين ، فالتعبد بكون كل واحد ظاهرا واقعا لا ينافى العلم الإجمالي بكون واحد منهما نجسا يقينا ، لأن المنافاة ان رجع إلى جهة الاعتقاد وان الاعتقادين لا يجتمعان ، ففيه : ان الحديث في باب الاستصحاب ، حديث تعبد لا اعتقاد واقعي وهو يجتمع مع العلم بالخلاف إجمالا إذا كان للتعبد في المقام أثر عملي (لو سلم عن بقية الإشكالات من كونه ترخيصا في المعصية أو موجبا للمخالفة القطعية فان المانع عنده ، (قدس‌سره) هو قصور المجعول لا ما ذكر) وان رجع إلى ان هذا التعبد لا يصدر من الحكيم مع العلم الوجداني ففيه ان الممتنع هو التعبد بشيء في عرض التعبد على خلافه ، واما التعبد في ظرف الشك على خلاف العلم الإجمالي الوجداني فلا ، وان شئت قلت : ان كل طرف من الأطراف يكون مشكوكا فيه ، فيتم أركان الاستصحاب ومخالفة أحد الأصلين للواقع لا يوجب عدم جريانه لو لا المخالفة العملية كاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد إذا غسل بالماء المشكوك الكرية ، فان للشارع التعبد بوجود ما ليس بموجود ، والتعبد بتفكيك المتلازمين وتلازم المنفكين ، و (بالجملة) لا مانع من اجتماع الإحراز التعبدي مع الإحراز الوجداني بالضد.

ثم انه (قدس‌سره) لما تنبه على هذا الإشكال وان لازم كلامه (عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الإجمالي مطلقا وان لم يلزم مخالفة عملية) هو عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائع مردد بين البول والماء لأن استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني

٣٢٠