تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

عن السيرة ، إذ لو كانت رادعة لمطلق العمل بالظن أو بغير العلم ، شملت نفسها ، لأنها بمنزلة القضايا الحقيقية ، الثابت فيها الحكم لموضوعاتها المحققة كل في موطنها ، ومن العمل بالظن ، نفس التمسك بهذه الآيات ، والأخذ بمفادها فيلزم من جواز التمسك ، عدم جوازه ، واما ما أفاده المحقق الخراسانيّ من ان رادعية تلك الآيات تستلزم الدور المحال ، فضعيف ، وقد مر وجهه عند البحث عن استدلال النافين بالآيات لا يقال : ان المحال انما يلزم من شمولها لنفسها ، فيندفع بعدم شمولها لنفسها و (ح) يصلح للرادعية عن مطلق العمل بالظن «لأنا نقول» لا شك ان هذه الآية انما نزلت لأجل الإفادة والاستفادة حتى يأخذ الأمة بمضمونها ، كما لا شك في ان العمل بظاهرها ليس إلا عملا بالظن وبغير العلم و (ح) فهل المتكلم ، اتكل في بيان مراده على مفروغية حجية الظواهر الظنية كما هو المطلوب ، أو اتكل علي عدم شمولها لنفسها لاستلزامه المحال ولا أظن أحدا يتفوه بالثاني ، فانه خارج عن المتفاهم العرفي والطريقة المألوفة بين العقلاء. فإذا كان الاتكال في الإفهام على السيرة أعني مفروغية حجية الظواهر مع عدم افادتها العلم ، يعلم بعد إلغاء الخصوصية عدم رادعيتها للسيرة القطعية في العمل بالظواهر أو بقول الثقة المأمون أو غيرهما مما عليه عمل العقلاء وان شئت قلت : ان المتكلم قد اعتمد في إفادة المطلوب على السيرة العقلائية الدائرة بينهم من حجية الظواهر لا على ان هذا الكلام لا يشمل لنفسها لأجل لزوم المحال فانه خارج عن المتفاهم العرفي. فإذا كان الاعتماد على السيرة المستمرة من حجية الظواهر مع عدم افادتها العلم يعلم بإلغاء الخصوصية ، ان الآية غير رادعة لما قامت عليه السيرة من العمل بالظنون في موارد خاصة من الظواهر وحجية قول الثقة وغيرهما

 ثم ان بعض الأعاظم أفاد في المقام : انه لا يحتاج في اعتبار الطريقية العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها ، والتصريح باعتبارها ، بل يكفى عدم الردع عنها فان عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وان لم يصرح بالإمضاء ، نعم لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات لأنها من الأمور الاعتبارية التي يتوقف صحتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم و

٢٠١

الإطلاق ، وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملات المعروفة في هذا الزمان ـ «البيمة» (التأمين) فانها إذا لم يندرج في عموم أحل الله البيع ، أو أوفوا بالعقود. ونحو ذلك فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها «انتهى».

وفيه : ان التفريق بين المعاملات وغيرها باحتياج الأولى إلى الإمضاء وعدم كفاية الردع ، بخلاف الثاني ، غير صحيح لأن مجرد كون المعاملات أمورا اعتبارية لا يستلزم لزوم الإمضاء وعدم كفاية عدم الردع ، فإذا كانت المعاملة بمرأى ومسمع من الشارع ، وكان متمكنا عن الردع ، فسكوته كاشف عن رضاه وهذا كاف في نفوذ المعاملة.

ثم انه قدس‌سره أفاد ثانيا : ان سيرة المسلمين في الأمور التوقيفية التي من شأنها ان تتلقى من الشارع ، تكشف لا محالة عن الجعل الشرعي ، واما في غير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشرع ، فمن المحتمل قريبا رجوع سيرة المسلمين إلى طريقة العقلاء ولكن ذلك لا يضر جواز الاستدلال بها ، فانه كما ان استمرار طريقة العقلاء يكشف عن رضاء صاحب الشرع ، كذلك سيرة المسلمين تكشف عن ذلك غايته انه في مورد اجتماع السيرة والطريقة يكونان من قبيل تعدد الدليل على امر واحد. انتهى

وفيه : ان عد مورد اجتماع السيرتين ، من باب قيام الدليلين على شيء واحد غير صحيح ، فان سيرة المسلمين على جواز العمل بقول الثقة ، لو كانت قائمة عليه بما هم مسلمون فلا وجه لإرجاعها إلى طريقة العقلاء وسيرتهم كما ادعاه ، وان كانت قائمة عليه لا بما هم مسلمون ، فهي وان كانت راجعة إلى سيرة العقلاء ، لكن لا تصير السيرة (ح) دليلا مستقلا بعد اتحاد الحيثيتين في متعلق السيرتين ، بل الدليل ينحصر في واحد وهو سيرة العقلاء (١).

__________________

(١) ثم ان القوم قدس الله أسرارهم استدلوا على حجية قول الثقة بالدليل العقلي الّذي نقل الشيخ الأعظم تقريراته المختلفة في فرائده ومرجع الكل إلى الانسداد الصغير و ـ

 

٢٠٢

المقصد السابع في الأصول العملية

القول في البراءة

وينبغي تقديم أمور الأول قد اختلفت كلمات الأعاظم في بيان حالات المكلف وذكر مجاري الأصول ، وكلها لا يخلو عن النقض والإبرام. فان ما أفاده شيخنا العلامة وان كان أحسن وأتقن فقال : ان المكلف إذا التفت إلى حكم فاما ان يكون قاطعا به أولا وعلى الثاني فاما ان يكون له طريق منسوب من قبل الشارع أولا وعلى الثاني اما ان يكون له حالة سابقة ملحوظة أو لا ، وعلى الثاني اما ان يكون الشك في حقيقة التكليف أو في متعلقه ، وعلى الثاني اما ان يتمكن من الاحتياط أولا ، «انتهى».

لكن يرد عليه مع ذلك انه لو كان المراد من القطع بالحكم ، هو القطع التفصيلي به ففيه مضافا إلى انه لا وجه لتخصيصه بالتفصيلي ، ان ذلك لا يناسب مع البحث عن القطع الإجمالي في مبحث القطع ، وان أراد الأعم منه ومن الإجمالي فيقع التداخل بين مباحثه ، ومباحث الاشتغال ، وعليه لا بد ان يبحث عن الشك في المتعلق (الاشتغال) في أبحاث القطع لا في أبحاث الشك ، فان الشك في المتعلق يلازم القطع الإجمالي بالحكم ، ومنه يعلم انه لو أراد من الطريق المنصوب من الشارع الأعم مما عرضه الإجمال في متعلقه أولا ، يقع التداخل بينه وبين الشك في المتعلق.

أضف إلى ذلك انه ليس لنا طريق منصوب من الشارع ، وانه ليس هنا أمارة

__________________

 ـ الكبير ، وقد بحث سيدنا الأستاذ (دام ظله الوارف) عنه في الدورة السابقة ، وغار في عامة مباحثه وفند أكثر ما أفاده بعض أعاظم العصر في هاتيك المباحث غير انه (دام ظله) رأى البحث عنه في هذه الدورة ضياعا للوقت وصار بصدد تهذيب الأصول وتنقيحه ، ومن أجمل ما أفاد في هذا المقام قوله. ان البحث عن أصل الانسداد وان كان له شأن ، ليقف القاري على حقيقة الحال غير ان البحث عن فروعه من كون النتيجة على فرض صحة الانسداد مهملة أو كلية وكون الظن حجة على الكشف أو الحكومة وو وضار جدا ، إذ بعد إبطاله لا مساع للبحث عن فروعه إذ لا أساس حتى يبحث عما يبنى عليه المؤلف

٢٠٣

تأسيسية : بل كلها إمضائية ، وعلى ذلك يصير البحث عن تلك الأمارات الإمضائية ، بحثا استطراديا فيكون عامة مباحث الظن أبحاثا استطراديا إلا ان يراد بالطريق المنصوب أعم من الطرق الإمضائية ومع ذلك يرد عليه الظن على الانسداد بناء على الحكومة ولا محيص عن هذه الإشكالات وأشباهها ، والأولى ان يقال ان هذا التقسيم إجمال المباحث الآتية مفصلا وبيان لسر تنظيم المباحث فانه لأجل حالات المكلف بالنسبة إلى الأحكام فانه لا يخلو بعد الالتفات من القطع بالحكم أو الظن أو الشك به والشك لا يخلو اما ان يكون له حالة سابقة أولا والثاني لا يخلو اما ان يكون الشك في التكليف أو المكلف به والثاني لا يخلو اما ان يكون له حالة سابقة أولا فرتبت المباحث حسب حالات المكلف من غير نظر إلى المختار فيها فلا يرد الإشكال إلا التداخل بين القطع والشك في المتعلق فانه من القطع الإجمالي ويمكن ان يذب عنه بان ما ذكر في مبحث القطع هو حيث حجية القطع وما يرتبط به وما ذكر في مبحث الاشتغال جهات أخر مربوطة بالشك فلا يتداخلان لاختلاف اللحاظ وعلى ما ذكرناه لا يحتاج إلى تقييد الحالة السابقة بالملحوظة حتى يرد عليه انه من قبيل الضرورة بشرط المحمول.

بل الأولى في تنظيم مباحث الأصول ان يبحث من القطع بقسميه في مبحث وأدرج فيه بعض مباحث الاشتغال مما كان الحكم معلوما إجمالا بالعلم الوجداني كإمكان الترخيص وامتناعه ولو في بعض الأطراف.

ثم أردف بمبحث الأمارات سواء كانت الأمارة قائمة مفصلا أو إجمالا وأدرج فيه ساير مباحث الاشتغال والتخيير وأدرج البحث عن التعادل والتراجيح في ذيل حجية خبر الثقة ثم أردف بمبحث الاستصحاب ثم مبحث البراءة حتى يكون الترتيب حسب ترتيب حالات المكلف والأمر سهل

الثاني قد عرف المحققون الحكومة بتعاريف ولعل محصلها يرجع إلى كون الدليل الحاكم متعرضا للمحكوم نحو تعرض وبنحو اللزوم العرفي أو العقلي مما لا يرجع إلى التصادم في مرحلة الظهور وان شئت قلت كون الدليل متعرضا لحيثية

٢٠٤

من حيثيات دليل المحكوم مما لا يتكفله دليل المحكوم توسعة وضيقا ، وبذلك (أي تعرض الحاكم لما لم يتعرض به المحكوم مما يرجع إلى حيثية من حيثياتها) يعلم ان الحكومة قائمة بلسان الدليل الحاكم وكيفية تأديته ، فلا يتصور بين اللبية الصرفة كالإجماع أو الأدلة العقلية ، نعم يتصور بينهما الورود أو التخصيص وغيرهما إذا عرفت ذلك :

المشهور ان الأمارات حاكمة على الأصول العملية ، والظاهر ان في هذا التعبير مسامحة فان الحكومة انما هو بين أدلة الأمارات وأدلة الأصول لا بينهما كما لا يخفى ، على ان أدلة الأمارات ليست على نسق واحد حتى يصير الترجيح على أدلة الأصول بمثابة واحدة ، بل تختلف ، وباختلافها يختلف وجه الترجيح ، فان من الأمارات قول الثقة ، فان كان المدرك لحجية قوله ، آية النبأ فالترجيح ، انما هو بالحكومة ، فان لسانها ان خبر العدل متين وليس العمل على قوله عملا بجهالة ، فيقدم على الأصول لكون موضوعاتها الجهالة وعدم العلم أو الشك ، وان كان حجيتها لأجل بعض الأخبار الواردة فيها ، فلا يبعد ان يكون التقديم أيضا على نحو الحكومة (مثل قوله عليه‌السلام ما أديا عني فعني يؤديان) ، وان كان المستند ، هو بناء العقلاء على العمل به في أمورهم فلا شك ان التقديم ليس لأجل الحكومة ، لتقومها بلسان الدليل ودلالته اللفظية ولا لسان للدليل اللبي فلا بدّ ان يكون التقديم بنحو الورود أو غيره ومن ذلك يعلم ان تقديم دليل أصالة الصحة في محل الغير على الاستصحاب ليس بنحو الحكومة لكونه لبيا وهو بناء العقلاء واما تقديم أدلة قاعدة التجاوز على دليل الاستصحاب ، فالظاهر انه على نحو الحكومة ، بناء على ان الاستصحاب أصل ، فان مفاده عدم نقض اليقين بالشك ، ولسان الأدلة في القاعدة هو عدم الشك أو عدم شيئيته وهذا لسان الحكومة ، بل أي حكومة ، أقوى من قوله : انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه أو قوله عليه‌السلام فشكك ليس بشيء.

ثم ان بعض أعاظم العصر نسب إلى الشيخ الأعظم انه قال هنا وفي مبحث التعادل والترجيح ، ان التنافي بين الأمارات والأصول هو التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري

٢٠٥

وان الجمع هو الجمع ، ثم أورد عليه بان المقامين مختلفان تنافيا وجمعا وان الجمع بين الأمارات والأصول انما هو بالحكومة لا بما أفاده. «انتهى»

 وفيه ان الشيخ الأعظم قد صرح بحكومة الأمارات على الأصول في كلا المقامين وليس في كلامه ما يوهم ما نسبه إليه فراجع.

الثالث : ان الشيخ الأعظم (قدس‌سره) قد بحث عن كل من الشبهات بحثا مستقلا مع ان المناط في الجميع واحد سواء كانت الشبهة تحريمية أو وجوبية موضوعية كانت أو حكمية كانت الشبهة في الحكم لأجل فقدان النص أو تعارضه أو إجماله ، ومجرد اختصاص بعض الأقسام بالخلاف دون بعض ، أو عمومية بعض الأدلة دون بعض لا يوجب افراد البحث لكل واحدة من الأقسام

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : استدل على البراءة بالأدلة الأربعة اما الآيات فمنها قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وجه الاستدلال على وجه يندفع ما أشكل عليه من الإيراد ان يقال : ان المتفاهم عرفا من الآية لأجل تعليق العذاب على بعث الرسول الّذي هو مبلغ لأحكامه تعالى وبمناسبة الحكم والموضوع هو ان بعث الرسول ليس له موضوعية في إنزال العقاب بل هو طريق لا لإيصال التكاليف على العباد وإتمام الحجة به عليهم ، وليس المراد من بعث الرسول هو بعث نفس الرسول وان لم يبلغ أحكامه فلو فرض انه تعالى بعث رسولا لكن لم يبلغ الأحكام في شطر من الزمان لمصلحة أو جهة أخرى لا يصح ان يقال انه تعالى يعذبهم لأنه بعث الرسول وكذا لو بلغ بعض الأحكام دون البعض يكون التعذيب بالنسبة إلى ما لم يبلغ مخالفا للوعد في الآية

وكذا لو بلغ إلى بعض الناس دون بعض لا يصح ان يقال انه يعذب الجميع لأنه بعث الرسول وكذا لو بلغ جميع الأحكام في عصره ثم انقطع الوصول إلى الأعصار المتأخرة وهذا أو أشباهه يدل على ان الغاية لاستحقاق العذاب هو التبليغ الواصل ، وان ذكر بعث الرسول مع انتخاب هذه الكلمة ، كناية عن إيصال الأحكام ، وإتمام الحجة ، وان التبليغ غير الواصل في حكم العدم وانه لا يصحح العذاب ، كما ان وجود الرسول بين الأمة بلا تبليغ ، كذلك

٢٠٦

وعلي ذلك فلو بحث المكلف عن تكليفه ووظيفته بحثا أكيدا فلم يصل إلى ما هو حجة عليه من علم تفصيلي أو إجمالي وغيرهما من الحجج فلا شك انه يكون مشمولا لقوله عزوجل وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لما عرفت من ان الغاية للوعيد بحسب اللب هو إيصال الأحكام إلى العباد وان بعث الرسل ليس له موضوعية فيما رتب عليه

وان شئت قلت : ان قوله تعالى : وما كنا معذبين تنزيه للحق تعالى شأنه وهو يريد بهذا البيان ان التعذيب قبل البيان مناف لمقامه الربوبي ، وانّ شأنه تعالى أجل من ان يرتكب هذا الأمر ، فلذلك عبر بقوله وما كنا معذبين ، دون ان يقول : وما عذبنا ، أو ما أنزلنا العذاب ، وذلك للإشارة إلى ان هذا الأمر مناف لمقامه الأرفع وشأنه الأجل

 وبعبارة أوضح ان الآية مسوقة اما لإفادة ان التعذيب قبل الإتيان مناف لعدله وقسطه ، أو مناف لرحمته وعطوفته ولطفه على العباد ، فلو أفاد الأول لدل على نفى الاستحقاق ، وان تعذيب العبد حين ذاك امر قبيح مستنكر يستحيل صدوره منه ولو أفاد الثاني لدل على نفى الفعلية. وان العذاب مرتفع وان لم يدل على نفى الاستحقاق. وسيأتي عدم الفرق بين المفادين فيما هو المهم

 جولة حول مفاد الآية

 وقد أورد على الاستدلال بالآية أمور : منها : ما عن بعض أعاظم العصر : من ان مفاد الآية أجنبي عن البراءة فان مفادها الأخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم من حيث انه مشتبه. (وفيه) ما عرفت في تقرير الاستدلال من ان بعث الرسل كناية عن إيصال الأحكام ، فالمشتبه الحكم داخل في مفاد الآية اما لما ذكرناه من ان بعث الرسل لأجل كونها واسطة في التبليغ أو بإلغاء الخصوصية وإلحاق مشتبه الحكم بالموارد التي لم يبلغها الرسل

منها : ان الآية راجعة إلى نفى التعذيب عن الأمم السالفة قبل بعث الرسل فلا مساس له بالمقام (وفيه) أولا ان التأمل في الآيات المتقدمة عليها يعطى خلاف ذلك

٢٠٧

فإليك بمراجعة ما تقدمها من الآيات تجد صحة ما ادعيناه

 وثانيا : لو فرض ان موردها ما ذكر غير ان التعبير بقوله تعالى وما كنا معذبين حاك عن كونه سنة جارية لله عزّ شأنه من دون فرق بين السالفة والقادمة ، وان تلك الطريقة سارية في عامة الأزمان من غير فرق بين السلف والخلف ، ولو لم نقل ان ذلك مفاد الآية حسب المنطوق فلا أقل يفهم العرف من الآية ولو بإلغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع ان التعذيب قبل البيان لم يقع ولن يقع أبدا

 منها : ان الاستدلال بها لما نحن فيه متقوم بكونها في مقام نفى الاستحقاق لا نفى الفعلية لأن النزاع في البراءة انما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه وعدمه لا في فعلية العقاب ، (وفيه) ان ذلك أول الكلام ، إذ النزاع بين الأصولي والأخباري انما هو في ثبوت المؤمن وعدمه في ارتكاب الشبهات وانه هل يلزم الاحتياط أولا ، وهذا هو مصب النزاع بين الطائفتين واما البحث عن الاستحقاق وعدمه فهو خارج عما يهم على كلا الفريقين

 وبالجملة : ان المرمي للقائل بالبراءة هو تجويز شرب التتن المشتبه الحكم لأجل وجود مؤمن شرعي أو عقلي حتى يطمئن انه ليس في ارتكابه محذور سواء كان ذلك لأجل رفع العقوبة الفعلية أو نفى الاستحقاق ، والشاهد على ما ذكرنا انك ترى القوم يستدلون على البراءة بحديث الرفع الظاهر عندهم في رفع المؤاخذة لا نفى الاستحقاق

 وبما ذكرنا يظهر ان الآية أسد الأدلة التي استدل بها للبراءة ، وان ما أورد عليه من الإيرادات غير خال عن الضعف ، نعم لا يستفاد من الآية أكثر مما يستفاد من حكم العقل الحاكم على قبح العقاب بلا بيان فلو دل الدليل على لزوم الاحتياط ، أو التوقف لصار ذلك نفسه بيانا فيكون ذاك الدليل واردا على العقل وما تضمنته الآية

٢٠٨

الاستدلال على البراءة ببعض الآيات

منها : قوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا بيان الاستدلال ان المراد من الموصول التكليف ومن الإيتاء الإيصال والإعلام ومعناها ان الله لا يكلف نفسا إلا تكليفا أوصلها وبلغها ، ويمكن بيانه بوجه آخر حتى ينطبق على ما سبقها من الآيات بان يقال : ان المراد من الموصول هو الأعم من الأمر الخارجي ونفس التكليف وان المراد من «الإيتاء» الأعم من نفس الإقدار والإيصال ، ويصير مفادها : ان الله لا يكلف نفسا تكليفا ولا يكلفه بشيء (كالإنفاق) إلا بعد الإيصال والإقدار.

وفي كلا التقريرين نظر بل منع.

اما الأول فلان إرادة خصوص التكليف منه مخالف لمورد الآية وما قبلها وما بعدها نعم الظاهر ان قوله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها هو الكبرى الكلية وبمنزلة الدليل على ما قبلها كما يظهر من استشهاد الإمام عليه‌السلام بها في رواية عبد الأعلى حيث سئل أبا عبد الله هل كلف الناس بالمعرفة قال لا على الله البيان لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ولعل المراد بالمعرفة هي المعرفة الكاملة التي لا يمكن إلا بإقداره تعالى وتأييده لا مطلق العلم بوجود صانع للعالم الّذي هو فطري ثم ان التعبير بالإيتاء الّذي بمعنى الإعطاء لا يبعد ان يكون مشاكلة لقوله فلينفق مما آتاه الله

 واما ثاني التقريرين فالمنع فيه أوضح لأن إرادة الأعم من الموصول مع اسناد فعل واحد إليه غير ممكن في المقام ، إذ لو أريد من الموصول نفس التكليف ، ينزل منزلة المفعول المطلق ولو أريد مع ذلك الأمر الخارجي الّذي يقع عليه التكليف يصير مفعولا به ، وتعلق الفعل بالمفعول المطلق سواء كان نوعيا أم غيره يباين نحو تعلقه بالمفعول به ، لعدم الجامع بين التكليف والمكلف به بنحو يتعلق التكليف بهما على وزان واحد ، وان شئت قلت : المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل ، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه ، ولا جامع بين

٢٠٩

الأمرين حتى يصح الإسناد

 ثم ان بعض محققي العصر (قدس‌سره) وجه إرادة الأعم من الموصول والإيتاء ما هذا خلاصته : ان الإشكال انما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول وإلّا فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال أخر خارجية فلا يتوجه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا في لفظ الإيتاء ، ولا من جهة تعلق الفعل بالموصول ، اما من جهة الموصول فلأجل استعماله في معناه الكلي ، وان إفادة الخصوصيات من دوال أخر واما الإيتاء فهو مستعمل في معنى الإعطاء غير انه يختلف مصاديقه من كونه تارة هو الاعلام عند إضافته إلى الحكم ، وأخرى الملكية عند إضافته إلى المال ، واما تعلق الفعل بالموصول حيث لا يكون له الا نحو تعلق واحد به ، ومجرد تعدده بالتحليل لا يقتضى تعدده بالنسبة إلى الجامع الّذي هو مفاد الموصول غاية الأمر يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول «انتهى»

قلت : ان كون الشيء مفعولا مطلقا ليس معناه إلّا كونه ملحوظا عند إضافة الفعل إليه بأنه من شئون الفعل وكيفياته على نحو يكون وجوده بعين وجود الفعل كما ان المفعول المطلق يلاحظ عند إضافة الفعل إليه بأنه امر موجود في الخارج وقع الفعل عليه ومع ذلك فكيف يمكن إرادتهما باستعمال واحد وبعبارة أخرى ان نحو تعلق الفعل بهما مباين لا جامع بينهما ، وتعدد الدال والمدلول أو إقامة القرينة على الخصوصيات فانما يصح إذا كان في المقام جامع واقعي حتى يكون الخصوصيات من مصاديقه ، واما مع عدمه ، وعدم إمكان إرادتهما منها ، فلا معنى لإقامة القرينة كما لا يخفى ، (نعم) لو صح ما ذكره أخيرا : من إمكان كون المراد من التكليف في الآية هو الكلفة والمشقة لا الحكم الشرعي ، لرجع النسبتان إلى نسبة واحدة ، إذ يجعل الموصول (ح) عبارة عن المفعول به أو المفعول النشوي المعبر عنه في كلام بعضهم بالمفعول منه ، فيصير مفاد الآية انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم الا الحكم الّذي أوصله إليهم ، لارتفع الإشكال لكنه غير مفيد للمقام كما يأتي الكلام فيه

٢١٠

ثم انه قدس‌سره بعد ما استوجه وجود الجامع استشكل في التمسك بالإطلاق تارة بوجود القدر المتيقن حيث ان القدر المتيقن حسب سياق الآيات هو المال وأخرى بان المستفاد منها عدم الكلفة من قبيل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلف لا نفى الكلفة مطلقا ولو من قبل إيجاب الاحتياط ، فيكون مفاده مساو فالحكم العقل ، فلو ثبت ما يدعيه الاخباري لصار واردا عليه «انتهى» وأنت خبير بما فيه ، إذ وجود القدر المتيقن غير مضر في التمسك بالإطلاق كما أوضحناه في مبحث المطلق والمقيد ، كما ان جعل الاحتياط لأجل التحفظ على التكاليف الواقعية لا يناسب مع سوق الآية ، لأن مساقها ، مساق المنة والامتنان ، والاخبار عن لطفه وعنايته ، بأنه لا يجعل العباد في الكلفة والمشقة من جهة التكليف الا مع إيصالها ، ومن المعلوم ان جعل الاحتياط تضييق على المكلف بلا إيصال ، لأن المرمي من الاحتياط هو التحفظ على الواقع ، لا كونه طريقا موصلا إلى الواقع ، فإيجاب التحفظ في الشبهات البدوية ، كلفة بلا إيصال ولا إعلام ثم انه قدس‌سره استشكل ثالثا في التمسك بالإطلاق ما حاصله : ان مساقها مساق قوله عليه‌السلام ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فيكون دلالتها ممحضة في نفى الكلفة عما لم يوصل علمه إلى العباد لمكان سكوته وعدم بيانه وإظهاره ، لا نفى الكلفة مطلقا عما لم يصل علمه إلى العباد لا خفاء الظالمين «انتهى»

 وفيه ان ذلك بعيد عن مفاد الآية جدا إذ حينئذ يصير من قبيل توضيح الواضح إذ مآلها حسب قول القائل إلى ان الله لا يكلف نفسا بما هو ساكت عنه ، وهو كما ترى

نعم يمكن منع التمسك بالإطلاق بطريق آخر ـ بيانه ـ ان معنى الإطلاق كما مر هو كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم ، فلو احتملنا دخالة شيء غير مذكور في الحكم ، فنحكم به على عدم جزئيته وشرطيته ، ولكن الاحتجاج به بعد انعقاد الظهور لما وقع تحت دائرة الحكم حتى يحتج بعدم تعرضه على قيد آخر ، على عدم دخالته وهذا الشرط منتف في المقام ، إذا لم يثبت ان المتكلم أراد المعنى الجامع الانتزاعي الّذي يحتاج في تصور إرادته إلى تكلف أو أراد إحدى المعاني الأخر ، ومع

٢١١

ذلك التردد لا مجال للإطلاق ، إذ غاية ما ذكرنا من المعاني والوجوه ، احتمالات وإمكانات وهو لا ينفع من دون الظهور ، على ان الظاهر حسب السياق هو المعنى الأول أعني جعل المراد من الموصول الأمر الخارجي ومن الإيتاء هو الإقدار والإعطاء ـ فلاحظ ومما ذكرناه يظهر النّظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر في المقام بما هذا حاصله : ان المراد من الموصول خصوص المفعول به ، ومع ذلك يكون شاملا للتكليف وموضوعه لأن إيتاء كل شيء بحسبه ، أضف إلى ذلك ان المفعول المطلق النوعيّ والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية ، كما ان الوجوب والتحريم يصح تعلق التكليف بهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري «انتهى»

وفيه مضافا إلى عدم إمكان شمول الموصول لهما بما مر أولا ان قوله (قده) ان المفعول المطلق يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية لا محصل له كقوله ان الوجوب والتحريم يصلح تعلق التكلف بهما إذ كيف يتصور تعلق البعث بهما على نحو المفعول به ولو اعتبر النحو الاسم المصدري وثانيا : ان لازم ما أفاد هو الجمع بين الاعتبارين المتنافيين فان المفعول به مقدم في الاعتبار على المصدر لأنه إضافة قائمة به في الاعتبار واما المفعول المطلق فهو عبارة عن حاصل المصدر ، وهو متأخر رتبة عن المصدر فكيف يجمع بينهما في الاعتبار فيلزم مما ذكره اعتبار المتأخر في الاعتبار متقدما في الاعتبار في حال كونه متأخرا

ثم انه استشكل على دلالة الآية بان أقصى ما تدل عليه الآية هو ان المؤاخذة لا تحسن الا بعد بعث الرسل وتبليغ الأحكام وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في التكليف بعد البعث والإنزال وعروض اختفاء التكليف بما لا يرجع إلى الشارع ، فالآية لا تدل على البراءة بل مفادها مفاد قوله تعالى : ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا «انتهى» وفيه ما عرفت في توضيح دلالة الآية المتقدمة ، بان الميزان هو الإبلاغ والإيصال في استحقاق العقاب لا الإبلاغ ولو مع عدم الوصول ، على ان دلالة تلك بعد الغض عما ذكرنا من الإشكال أوضح من المتقدمة لوضوح دلالتها في الإبلاغ والإيصال من دون ان نحتاج إلى إلغاء الخصوصية كما لا يخفى

٢١٢

ثم ان القوم استدلوا ببعض الآيات وحيث ان فيما ذكرنا أو ما نذكره من السنة والأدلة العقلية غنى عن الخوض فيه طوينا البيان عنه ، ونذكر ما استدلوا به من السنة

الاستدلال على البراءة من طريق السنة

منها حديث الرفع فنقول روى الصدوق في الخصال بسند صحيح عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة الخطاء ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة ـ وقد ذكر القوم كيفية دلالتها على المقام غير ان المهم بيان الأمور

الأول قد استشكل في الاستدلال به للشبهات الحكمية بأمور أولها انه لا شك ان أكثر ما ذكر في الحديث الشريف موجود في الخارج كثير وجوده بين الأمة ، مع ان ظاهر الاخبار عن نفى وجوده ، فلا بد من تقدير امر في الحديث حسب دلالة الاقتضاء صونا لكلام الحكيم عن اللغوية والكذب ، فالظاهر ان المقدر هو المؤاخذة غير انه يصح فيما لا يطيقون وما اضطروا عليه وما استكرهوا عليه ، واما ما لا يعلمون فان أريد منه الشبهة الموضوعية والمجهول من ناحية المصداق فيصح التقدير أيضا فان أريد منه الأعم أو نفس الحكم المجهول ، فتقدير المؤاخذة يحتاج إلى العناية ثم ان بعض أعاظم العصر أجاب عن الإشكال بأنه لا حاجة إلى التقدير فان التقدير انما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه كما إذا كان الكلام اخبارا عن امر خارجي أو كان الرفع رفعا تكوينيا فلا بدّ في تصحيح الكلام من تقدير امر يخرجه عن الكذب ، واما إذا كان الرفع تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير فان الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس اخبارا عن امر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار ، وقوله عليه‌السلام لا شك لكثير الشك ونحو ذلك مما يكون متلو النفي امرا ثابتا في الخارج

٢١٣

وفيه : ان الفرق بين الإنشاء والاخبار في احتياج أحدهما إلى التقدير دون الآخر كما ترى ، فان الكلام في مصحح نسبته إلى المذكورات ، فلو كان هناك مصحح بحيث يخرج الكلام عن الكذب واللغوية تصح النسبة مطلقا اخبارا كان أو إنشاء ، وان كان غير موجود فلا تصح مطلقا ، والحاصل ان اسناد الشيء إلى غير ما هو له يحتاج إلى مناسبة وادعاء ، فلو صح لوجود المناسبة يصح مطلقا بلا فرق بين الإنشاء والاخبار

 أضف : إلى ذلك ان النبي والأئمة من بعده عليهم‌السلام ليسوا مشرعين حتى يكون الحديث المنقول عنه إنشاء ، بل هو اخبار عن امر واقع وهو رفع الشارع الأقدس ، مضافا إلى ان الاخبار بداعي الإنشاء لا يجعله إنشاء لا يسلخه عن الاخبارية فان الاخبار بداعي الإنشاء لا يجعل الشيء من قبيل استعمال الاخبار في الإنشاء بل هو يبقى على إخباريته وان كان الداعي إليه هو البعث والإنشاء كما هو الحال في الاستفهام الإنكاري ، والتقريري ، فان كلمة الاستفهام مستعملة في معناها حقيقة وان كان الغرض امرا آخر مخرجا به عن المحذور ، على ان الرفع التشريعي مآله إلى رفع الشيء باعتبار آثاره وأحكامه الشرعية وهو عين التقدير ، (نعم) ما ادعاه (قدس‌سره) من عدم احتياجه إلى التقدير صحيح لا لما ذكره بل لأجل كون الرفع ادعائيا وسيأتي توضيحه فانتظر.

ثانيها : لا شك ان المراد من الموصول في «ما لا يطيقون ، وما استكرهوا وما اضطروا» هو الموضوع الخارجي لا الحكم الشرعي لأن هذه العناوين الثلاثة لا تعرض الا للموضوع الخارجي دون الحكم الشرعي ، فليكن وحدة السياق قرينة على المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو الموضوع المشتبه لا الحكم المشتبه المجهول فيختص الحديث بالشبهات الموضوعية.

الثالث : ان اسناد الرفع إلى الحكم الشرعي المجهول من قبيل الإسناد إلى ما هو له لأن الموصول الّذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي واما الشبهات الموضوعية ، فالجهل انما تعلق فيها بالموضوع أولا وبالذات وبالحكم ثانيا وبالعرض ، فيكون اسناد الرفع إلى الموضوع من قبيل اسناد الشيء إلى غير ما هو له لأن الموضوع بنفسه غير قابل للرفع بل باعتبار حكمه الشرعي ولا جامع بين

٢١٤

الموضوع والحكم ، فلا بدّ ان يراد من الموصول هو الموضوع تحفظا على وحدة السياق.

وأجاب بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) قائلا ، بان المرفوع في جميع التسعة انما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى الأفعال الخارجية لأجل ان الإكراه والاضطرار ونحو ذلك انما يعرض الأفعال الخارجية لا الأحكام وإلّا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي كما ان المرفوع فيما لا يعلمون أيضا هو الحكم الشرعي وهو المراد من الموصول ، وهو الجامع بين الشبهات الموضوعية والحكمية ومجرد اختلاف منشأ الشبهة لا يقتضى الاختلاف فيما أسند الرفع إليه ، فان الرفع قد أسند إلى عنوان ما لا يعلم ولمكان ان الرفع التشريعي لا بد ان يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي فالمرفوع انما يكون هو الحكم الشرعي سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية فكما ان قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك يعم كلا الشبهتين بجامع واحد كذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة أشياء «انتهى».

وأنت خبير بان في المقام إشكالين وهو (قدس‌سره) يريد الجواب عنهما معا اما الأول فحاصله ان وحدة السياق يقتضى حمل الموصول في ما لا يعلمون» على الموضوع حتى يتحد مع أخواته ، فالقول بان رفع تلك العناوين بلحاظ رفع آثارها وأحكامها لا يفي بدفع الإشكال.

ومنه يعلم ما في جوابه عن ثاني الإشكالين لأن مناطه انما هو في الإسناد بحسب الإرادة الاستعمالية فان الإسناد إلى الحكم اسناد إلى ما هو له دون الإسناد إلى الموضوع فلا بدّ ان يراد في جميعها الموضوع حتى يصح الإسناد المجازي في الجميع فكون المرفوع بحسب الجد الحكم الشرعي لا يدفع الإشكال.

فالحق في دفع المحذورين ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه اما عن الأول فلان عدم تحقق الاضطرار والإكراه في الأحكام لا يوجب التخصيص في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعلمون ولا يقتضى السياق ذلك فان عموم الموصول انما يكون بملاحظة سعة

٢١٥

متعلقه وضيقه فقوله ما اضطروا إليه أريد منه كل ما اضطر إليه في الخارج غاية الأمر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم فيقتضى اتحاد السياق ان يراد من قوله ما لا يعلمون أيضا كل فرد من افراد هذا العنوان ألا ترى. انه إذا قيل ما يؤكل وما يرى في قضية واحدة لا يوجب انحصار افراد الأول في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني بذلك البعض وبعبارة أوضح : ان الإشكال نشأ من الخلط بين المستعمل فيه وما ينطبق عليه فان الموصول والصلة في عامة الفقرات مستعمل في معناهما لا في المصاديق الخارجية والاختلاف بين المصاديق انما يظهر عند تطبيق العناوين على الخارجيات وهو بمعزل عن مقام الاستعمال ، وهذا خلط سيال في أكثر الأبواب ، ومن هذا الباب توهم ان الإطلاق يفيد العموم الشمولي أو البدلي أو غيرهما مع ان الإطلاق لا يفيد قط العموم بل هو مقابل العموم كما مر تحقيقه في مقامه واما عن الثاني فان الأحكام الواقعية ان لم تكن قابلة للرفع ، وتكون باقية بفعليتها في حال الجهل يكون الإسناد في كل العناوين إسنادا إلى غير ما هو له ، وان كانت قابلة للرفع يكون الإسناد إلى ما لا يعلمون إسنادا إلى ما هو له ، وإلى غيره إلى غير ما هو له ، ولا يلزم محذور لأن المتكلم ادعى قابلية رفع ما لا يقبل الرفع تكوينا ثم أسند الرفع إلى جميعها حقيقة ، وبعبارة أخرى جعل كل العناوين بحسب الادعاء في رتبة واحدة وصفّ واحد في قبولها الرفع وأسند الرفع إليها حقيقة فلا يلزم منه محذور.

ثم ان بعض محققي العصر أنكر وحدة السياق في الحديث قائلا ، بان من الفقرات في الحديث ، الطيرة ، والحسد ، والوسوسة ، ولا يكون المراد منها الفعل ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبهة (على) انه لو أريد تلك فهو يقتضى ارتكاب خلاف الظاهر من جهة أخرى فان الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض الوصف وهو عدم العلم كما في غير ، من العناوين الأخر كالاضطرار والإكراه ونحوهما حيث كان الموصول فيها معروضا للأوصاف المزبورة ، فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافى هذا

٢١٦

الظهور إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضا للجهل وانما المعروض له هو عنوانه و (ح) يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في ما لا يعلمون على الحكم ، وبين حفظه من جهة أخرى بحمله على إرادة الفعل ، والعرف يرجح الأول «انتهى»

 والجواب عن الأول مضافا إلى ان المدعى وحدة السياق فيما يشتمل على الموصول لا في عامة الفقرات ، ان الفقرات الثلث أيضا فعل من الأفعال القلبية ، ولأجل ذلك تقع موردا للتكليف ، فان تمني زوال النعمة عن الغير فعل قلبي محرم ، وقس عليه الوسوسة والطيرة فانها من الأفعال الجوانحية ، (وعن الثاني) ان المجهول في الشبهات الموضوعية انما هو نفس الفعل أيضا لا عنوانه فقط ، بل الجهل بالعنوان واسطة لثبوت الجهل بالنسبة إلى نفس الفعل لا واسطة في العروض فالشرب في المشكوك خمريته ، أيضا مجهول وان كان الجهل لأجل إضافة العنوان إليه ، (أضف إلى ذلك) ، انه لو سلم ما ذكره فلا يختص الحديث بالشبهة الحكمية لأن الرفع ادعائي ويجوز تعلقه بنفس الموضوع ، فيه عن رفع الخمر بما لها من الآثار فيعم الحديث كلتا الشبهتين.

وربما يدعى اختصاص الحديث بالشبهة الحكمية لأن الموضوعات الخارجية غير متعلقة للأحكام وانما هي متعلقة بنفس العناوين فرفع الحكم عنها فرع وضعها لها وقد عرفت منعه ، وفيه : أولا بالنقض بالاضطرار ونحوه فانه يتعلق بالموضوع بلا إشكال فأي معنى لرفع الحكم فيه فليكن هو المعنى في «ما لا يعلمون»

 وثانيا : يمكن ان يقال : ان الرفع في الشبهات الموضوعية راجع إلى رفع الحكم عن العناوين الكلية كما هو الحال في الاضطرار والإكراه ، فان الحكم مرفوع عن البيع المكره والشرب المضطر والخمر المجهول حكما أو موضوعا ، وان شئت قلت : ان رفع الحكم مآله إلى نفى المؤاخذة ، أو رفع إيجاب الاحتياط أو رفع الفعلية ، من غير فرق بين الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

الأمر الثاني : هل الرفع : في الحديث بمعناه الحقيقي أو هو بمعنى الدفع استعمل في المقام مجازا التحقيق هو الأول سواء قلنا ان المرفوع هو نفس

٢١٧

الموضوعات ادعاء كما هو المختار أو المرفوع آثارها وأحكامها بالتزام تقدير في الكلام اما على الأول ، فبيانه ان معنى الرفع الحقيقي هو إزالة الشيء بعد وجوده وتحققه وقد أسند إلى نفس هذه العناوين التسعة المتحققة في الخارج فلا بدّ ان يحمل الرفع إلى الرفع الادعائي وهو يحتاج إلى وجود المصحح لهذا الادعاء ، ثم المصحح كما يمكن ان يكون رفع الآثار ، يمكن ان يكون دفع المقتضيات عن التأثير لأن رفع الموضوع تكوينا كما يوجب رفع الآثار المترتبة عليه ، والمتحققة فيه كذلك يوجب عدم ترتب الآثار عليه بعد رفعه وإعدامه وهذا مصحح الدعوى لا سيما مع وجود المقتضى فيجوز نسبة الرفع إلى الموضوع ادعاء بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع المقتضي عن التأثير وذلك لا يوجب ان يكون الرفع المنسوب إلى الموضوع بمعنى الدفع ، بل لو بدل الرفع بالدفع ليخرج الكلام عما له من البلاغة إلى الابتدال.

واما على الثاني ، أعني كون المرفوع هو الآثار بالتزام تقدير فتوضيحه ان إطلاق الرفع انما هو لأجل شمول إطلاقات الأدلة أو عمومها لمحالات الاضطرار والإكراه والنسيان والخطاء وعدم الطاقة ، فعمومات الكتاب مثل (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وأضرابه والسنة شاملة حسب الإرادة الاستعمالية هذه الحالات ، وإطلاق الرفع انما هو حسب تلك الإرادة ، وان كان حسب الإرادة الجدية دفعا ، لعدم شمولها لهذه الحالات من أول الأمر ، لكن المصحح لاستعمال الرفع ، هو الإرادة الاستعمالية التي مآله إلى ضرب القانون عموما على موضوعات الأحكام بلا تقييد وتخصيص فيستقر في ذهن المخاطب بدوا ثبوت الحكم للمضطر والناسي وأشباههما ، ثم ان المتكلم يخبر برفع الآثار والأحكام عن الموضوعات المضطر إليها والمستكره بها ، وإطلاق الرفع لأجل شمول العام القانوني لها ، واستقراره في أذهان المخاطبين وهذا كله بناء على جواز خطاب الناسي واضح واما بناء على عدم جواز خطابه يكون الرفع في الأحكام التكليفية في حقه في غير مورده.

واما الطيرة والوسوسة فالمصحح لاستعمال الرفع كونهما محكومين بالاحكام في الشرائع السابقة ، ولم يكن الشرائع السماوية محدودة ظاهرا ، بل أحكامها حسب الإرادة

٢١٨

الاستعمالية كانت ظاهرة في الدوام والبقاء ولهذا يقال انها منسوخة وان شئت قلت كانت هناك إطلاق أو عموم يوهم بقاء الحكم في عامة الأزمنة ، فإطلاق الرفع لأجل رفع تلك الأحكام الظاهرة في البقاء والدوام ، ويشهد على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «عن أمتي» وان كان كل ذلك دفعا حسب اللب والجد ، إلّا ان مناط حسن الاستعمال هو الاستعمالية من الإرادتين لا الجدية ، بل لو كان الميزان للرفع هو إطلاق الأحكام في الشرائع السماوية يمكن ان يكون وجه استعمال الرفع في عامة الموضوعات التسعة لأجل ثبوت الحكم فيها في الشرائع السابقة على نحو الدوام والاستمرار.

واما «ما لا يعلمون» فالرفع فيه لأجل إطلاق الأدلة وظهورها في شمول الحكم للعالم والجاهل بلا فرق كما هو المختار في الباب ، نعم لو لم نقل بإطلاق الأدلة فلا شك في قيام الإجماع علي الاشتراك في التكاليف ، فالرفع لأجل ثبوت الحكم حسب الإرادة الاستعمالية لكل عالم وجاهل وان كان الجاهل خارجا حسب الإرادة الجدية غير ان المناط في حسن الاستعمال هو الاستعمالي من الإرادة فتلخص كون الرفع بمعناها سواء كان الرفع بلحاظ رفع التسعة بما هي هي أو كان رفع تلك الأمور حسب الآثار الشرعية.

ثم ان بعض أعاظم العصر أفاد ان الرفع بمعنى الدفع حيث قال : ان استعمال الرفع مكان الدفع ليس مجازا ولا يحتاج إلى عناية أصلا ، فان الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق لأن بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علة البقاء فالرفع في مرتبة وروده على الشيء انما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء وان كان رفعا باعتبار الوجود السابق فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة المجاز بل لا يحتاج إلى عناية أصلا بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ لأن غلبة استعمال الرفع فيما يكون له وجود سابق لا يقتضى ظهوره في ذلك «انتهى» وفي كلامه مواقع للنظر

 «منها» ان اللغة والارتكاز قد تطابقا على ان معنى الرفع هو إزالة الشيء عن صفة الوجود بعد تحققه وتحصله ، فعلى هذا فلو استعمل بمعنى الدفع فلا مناص عن العناية وما به

٢١٩

يتناسب الاستعمال ، وإنكار احتياجه إلى العناية ، مكابرة ظاهرة «منها» ان ما أفاده (قدس‌سره) من ان بقاء الشيء يحتاج إلى العلة كحدوثه صحيح لا ريب فيه ، إلّا ان ما أفاده من ان الرفع عبارة عن دفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق ، غير صحيح ، فان دفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق لا يطلق عليه الرفع بل يطلق عليه الدفع ، وانما يستعمل الرفع في هذه الحالة لا بهذه الحيثية ، بل باعتبار إزالة الشيء عن صفحة الوجود بعد تحققه ، ومجرد تواردهما أحيانا علي مورد واحد أو حالة واحدة لا يجعلهما مترادفين ولا يرفع احتياج الاستعمال إلى العناية ، وان شئت فاعتبر الحدوث والبقاء فان الأول عبارة عن وجود الشيء بعد عدمه وجودا أوليا ، والثاني عبارة عن استمرار هذا الوجود ، وتواردهما على المورد لا يجعل الحدوث بقاء ولا بالعكس

منها : ان ما اختاره في المقام ، ينافى مع ما أفاده في الأمر الخامس في بيان عموم النتيجة حيث قال : ان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، وان الرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما وينافى أيضا مع ما أفاده في التنبيه الأول من تنبيهات الاشتغال حيث قال : ان الدفع انما يمنع عن تقرر الشيء خارجا وتأثير المقتضى في الوجود فهو يساوق المانع ، واما الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود ويقتضى إعدام الشيء الموجود ، عن وعائه ، نعم قد يستعمل الرفع في مكان الدفع ، وبالعكس ، إلّا ان ذلك بضرب من العناية والتجوز والّذي يقتضيه الحقيقة هو استعمال الدفع في مقام المنع عن تأثير المقتضى في الوجود واستعمال الرفع في مقام المنع عن بقاء الشيء الموجود «انتهى» وبقي في كلامه إنظارا تركناها مخافة التطويل

الأمر الثالث

لا شك في انه لا تلاحظ النسبة بين هذه العناوين وما تضمنه الأدلة الواقعية لحكومتها عليها كحكومة أدلة نفى الضرر والعسر والخروج عليها ، إلّا ان الكلام

٢٢٠