تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

المأخوذ فيه حتى يجيء التنافي من قبله ، وعليك بالتأمل في الصور الأخرى واستخراج حكمها مما ذكر ، هذا كله في الإلزاميين واما غيرهما فيختلف بحسب الموارد ، ولا يهمنا تفصيله (١)

المقصد السادس

في الأمارات المعتبرة عقلا أو شرعاً

وينبغي تقديم الكلام في القطع إذ هو حجة عقلية وأمارة بتية ، والبحث عن أحكامه ليس كلامياً ، بل بحث أصولي لأن الملاك في كون الشيء مسألة أصولية ، هو كونها موجبة لإثبات الحكم الشرعي الفرعي بحيث يصير حجة عليه ولا يلزم ان يقع وسطاً للإثبات بعنوانه بل يكفى كونه موجبا لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائية والشرعية ، وان شئت فاستوضح المقام بالظن ، فانه لا يقع وسطا بعنوانه بل هو واسطة لإثبات الحكم وحجة عليه ، إذ الأحكام تتعلق بالعناوين الواقعية لا المقيدة بالظن ، فما هو الحرام هو الخمر دون مظنونها ، والقطع والظن تشتركان في كون كل واحد منهما أمارة على الحكم وموجبا لتنجزه وصحة العقوبة عليه مع المخالفة إذا صادف الواقع. (أضف إلى ذلك) ان عده من مسائل الكلام لا يصح على بعض تعاريفه : من انه البحث عن الاعراض الذاتيّة للموجود بما هو هو على نهج قانون الإسلام. إذا عرفت ذلك فلنقدم امرين

الأول : قسم الشيخ الأعظم المكلف الملتفت إلى أقسام ومحصله : انه اما ان يحصل له القطع أو يحصل له الظن ، أو لا يحصل واحد منهما والمرجع على الأخير أي الشك هو الأصول المقررة للشاك

__________________

(١) نجز الكلام في البحث عن مباحث الألفاظ ، ونحمد الله على إتمامها وقد لاح بدر تمامه في ليلة الرابع عشر من شهر شعبان المعظم من شهور سنة ١٣٧٣ من الهجرة النبوية وكتبه بأنامله الداثرة مؤلفه الفقير الميرزا جعفر السبحاني التبريزي ابن الفقيه الحاج ميرزا محمد حسين عاملهما الله بلطفه يوم المساق يوم تلتف الساق بالساق آمين

٨١

وأورد عليه المحقق الخراسانيّ : بان الظن ان قام دليل على اعتباره فهو ملحق بالعلم ، وان لم يقم فهو ملحق بالشك فلا يصح التثليث.

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر : بان عقد البحث في الظن انما هو لأجل تمييز الظن المعتبر الملحق بالعلم عن غير معتبره الملحق بالشك ، فلا مناص عن التثليث حتى يبحث عن حكم الظن من حيث الاعتبار وعدمه «انتهى» ومحصله : ان التثليث توطئة لبيان المختار. و (فيه) انه أي فرق بين هذا التقسيم ، أي تثليث حالات المكلف ، وما أوضحه في مجاري الأصول فانهما من باب واحد ، فلأي وجه كان هذا التقسيم توطئيّا لبيان الحق دون ذاك؟! مع انه لا شك ان التقسيم الثاني حقيقي لا توطئة فيه ، والشاهد عليه تحفظ الشيخ الأعظم على قيود الأصول حيث قيد الاستصحاب بكون الحالة السابقة ملحوظة.

على ان المجيب صنع ما صنعه الشيخ حيث قال : وانما قيدنا الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة ولم نكتف بوجودها بلا لحاظها ، لأن مجرد وجودها لا يكفى في كونها مجرى الاستصحاب.

ثم ان المحقق الخراسانيّ عدل عما أفاده الشيخ الأعظم فقال : فاعلم ان البالغ الّذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلى واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه فاما ان يحصل له القطع أو لا إلى آخر ما أفاده.

ويرد عليه : ان المراد ان كان هو القطع التفصيلي فالبحث عن الإجمالي منه في المقام يصير استطراديا ، ولا يرضى به القائل ، وان كان أعم ، يلزم دخول مسائل الظن والشك في المقام حتى الظن على الحكومة فانه من مسائل العلم الإجمالي إلّا ان دائرته أوسع من العلم الإجمالي المذكور في مبحث القطع ، وكون دائرته أوسع غير دخيل في جهة البحث ، واما مسائل الشك فلوجود العلم بالحكم الظاهري في الأصول الشرعية ، بل بناء عليه يمكن إدراج عامة المباحث في مبحث القطع حتى الأصول العقلية بان نجعل متعلق القطع وظيفة المكلف فيصير المباحث مبحثا واحداً ولا يرضى به القائل

٨٢

والأولى ان يقال : إذا التفت المكلف إلى حكم كلي فاما ان يحصل له القطع به ولو إجمالا أولا والأول مبحث القطع ويدخل فيه مبحث الانسداد بناء على ان وجوب العمل بالظن في حال الانسداد لأجل العلم الإجمالي بالحكم وكون دائرة المعلوم بالإجمال فيه أوسع لا يضر بالمطلوب ، وكذا يدخل فيه أصل الاشتغال والتخيير في غير الدوران بين المحذورين ، فانهما أيضا من وادي العلم الإجمالي إذا تعلق العلم الإجمالي بالحكم نعم في الدوران بين المحذورين يكون التخيير للابدية العقلية لا العلم الإجمالي إلّا إذا قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها.

وعلى الثاني فاما ان يقوم عليه أمارة معتبرة أولا فالأوّل مبحث الظن ويدخل فيه ساير مباحث الاشتغال والتخيير أي فيما تعلق العلم الإجمالي بالحجة لا بالحكم كما إذا علم بقيام حجة كخبر الثقة ونحوه اما بوجوب هذا أو ذاك وعليه يكون أصل الاشتغال والتخيير خارجان عن مبحث الشك وداخلان في مبحث القطع والظن وعلى الثاني اما ان يكون له حالة سابقة ملحوظة أولا فالأوّل مجرى الاستصحاب والثاني مجرى البراءة

 وعلى هذا التقسيم يجب البحث عن الانسداد في مبحث القطع ان كان من مقدماته العلم الإجمالي بالاحكام الواقعية وفي مبحث الأمارات ان كان من مقدماته العلم الإجمالي بالحجة

ويمكن المناقشة في هذا التقسيم أيضا بأن الأولى ان يكون التقسيم في صدر الكتاب إجمال ما يبحث فيه في الكتاب تفصيلا وعليه لا يناسب التقسيم حسب المختار في مجاري الأصول وغيرها والأمر سهل

ثم ان أحكام القطع الإجمالي المتعلق بالحكم أو الحجة مختلفة لكونه علة تامة أولا وجواز الترخيص في الأطراف أو بعضها أولا يأتي الكلام فيه إن شاء الله وقد استقصينا الكلام في الفرق بين تعلق العلم الإجمالي بالحكم وتعلقه بالحجة في مبحث الاشتغال وطوينا الكلام فيما أفاده سيدنا الأستاذ في المقام روماً للاختصار فراجع

الأمر الثاني : قال الشيخ الأعظم : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل

٨٣

عليه ما دام موجوداً «انتهى» ولا يخفى ان للمناقشة فيما ذكره مجال ، لأن المكلف إذا قطع بحكم سواء حصل القطع به من المبادي البرهانية أم غيرها يحصل في نفسه امران الصفة النفسانيّة القائمة بها ، وانكشاف الواقع انكشافا تاما ، فان كان المراد من لزوم العمل على طبق القطع ، العمل على طبق الحالة النفسانيّة ، فلا يعقل له معني محصل ، وان كان المراد العمل على طبق المقطوع والواقع المنكشف ، فليس هو من أحكام القطع بل مآله إلى لزوم إطاعة المولى الّذي يبحث عنه في الكلام. (أضف إليه) ان الوجوب الشرعي غير متعلق بالإطاعة ، للزوم العقوبات غير المتناهية

والّذي ينبغي ان يقع محط البحث وان يعد من آثار القطع ان يقال : ان القطع موجب لتنجز الحكم وقطع العذر ، لأنه كاشف في نظر القاطع بلا احتمال الخلاف ، وهذا كاف في حكم العقل والعقلاء بالتنجز وصحة الاحتجاج وهذا أعني : انقطاع العذر وصحة الاحتجاج من آثار القطع نفسه يترتب عليه بلا جعل جاعل

واما ما يقال : ان الطريقية والكاشفية من ذاتيات القطع لا بجعل جاعل إذ لا يتوسط الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء وذاتياته كما انه يمتنع المنع عن العمل به لاستلزامه اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقا وحقيقة في صورة الإصابة ففيه ، : ان الذاتي في باب البرهان أو الإيساغوجي ، ما لا ينفك عن ملزومه ولا يفترق عنه والقطع قد يصيب وقد لا يصيب ، ومعه كيف يمكن عد الكاشفية والطريقية من ذاتياته ، والقول بأنه في نظر القاطع كذلك ، لا يثبت كونها من لوازمه الذاتيّة لأن الذاتي لا يختلف في نظر دون نظر ، واما احتجاج العقلاء فليس لأجل كونه كاشفا على الإطلاق ، بل لأجل ان القاطع لا يحتمل خلاف ما قطع به وقس عليه الحجية فان صحة الاحتجاج ، من الأحكام العقلائية لا من الواقعيات الثابتة للشيء جزءاً أو خارجاً.

فتلخص : ان الطريقية والكاشفية ليست عين القطع ولا من لوازمه واما الحجية فلا تقصر عنهما ، في خروجها عن حريم الذاتيّة ، غير ان الحجية تفترق عن الطريقية بأنها من الأحكام العقلية الثابتة له عند العقلاء ، ولأجل ذلك تستغني عن الجعل واما ما ذكر من قيام البرهان على امتناع الجعل التأليفي إلخ فيحتاج إلى التفصيل

٨٤

وهو ان الكشف من آثار وجود القطع لا من لوازم مهيته ، وآثار الوجود مطلقا مجهولة لأن مناط الافتقار إلى الجعل موجود في الوجود وآثاره وعليه فان أريد من امتناع الجعل ، هو الجعل التكويني فلا نسلم امتناعه بل لا يصح بدونه بناء على أصالة الوجود ومجعوليته ، وان أريد الجعل التشريعي فلو سلمنا كون هذه العناوين الثلاثة من لوازم وجوده ، فهو صحيح فان الجعل التشريعي لا يتعلق بما هو لازم وجود الشيء فلا معنى لجعل النار حارة تشريعا لا لأن الحرارة من لوازم ذاتها ، بل لأنها من لوازم وجودها المحققة تكوينا بوجود الملزوم ، والقطع حسب الفرض طريق تكويني وكاشف بحسب وجوده ، ولا يتعلق الجعل التشريعي به للزوم اللغوية ، نعم الحجية وقاطعية العذر ليستا من الآثار التكوينية المتعلقة للجعل ، ولا من لوازم الماهية بل من الأحكام العقلية الثابتة بوجوده

 ثم ان الردع عن العمل بالقطع كسلب الحجية غير ممكن ، لا للزوم اجتماع الضدين لما قررناه في محله من عدم الضدية بين الأحكام ، لأنها أمور اعتبارية لا حقائق خارجية ، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد ، لأن الإرادة الحتمية الإيجابية بالنسبة إلى صلاة الجمعة مثلا لا تجتمع مع الإرادة التحريمية بالنسبة إليها ، وكذا لا تجتمع مع المنع عن العمل بالقطع اللازم منه المنع عن العمل بالمقطوع به فيلزم اجتماع الإرادتين المتضادتين على شيء واحد مع فرض حصول سائر الوحدات.

القول في التجري

والبحث فيه عن جهات : الأولى : ربما يتوهم ان المسألة أصولية بتقريب ان البحث إذا وقع في ان ارتكاب الشيء المقطوع حرمته ، هل هو قبيح أولا ، فإذا حكم بقبحه ، يحكم بالملازمة بحرمة عمله شرعاً فيصير نتيجة البحث كبرى لمسألة فرعية. وفيه : اما أولا : ان هذه القاعدة لو تمت انما تصح في سلسلة علل الأحكام

٨٥

ومباديها كالمصالح والمفاسد ، لا في سلسلة معاليلها ، كالإطاعة والعصيان ، وقبح مخالفة القاطع لقطعه انما هي في سلسلة المعاليل والنتائج دون العلل والمقدمات واختصاص القاعدة لما ذكر واضح ، إذ لو كان حكم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة العصيان كاشفا عن حكم مولوي شرعي لزم عدم انتهاء الأحكام إلى حد ولزم تسلسل العقوبات في معصية واحدة.

وبالجملة : ان لازم شمول القاعدة لموارد المعاليل ، القول باشتمال معصية واحدة على معصيتين ، والإطاعة على طاعتين ، إحداهما لأجل مخالفة نهى المولى وامره أو موافقته وثانيهما لأجل موافقة الأمر المستكشف من حكم العقل بإطاعة المولى أو مخالفته ، وبما ان العقل يحكم بوجوب إطاعة الأمر المستكشف وحرمة مخالفته كالأول فله إطاعة وعصيان وهكذا فلا يقف عند حد.

ومثله المقام فان قبحه لا يستلزم حكماً شرعيا ، لأنه لو كان فهو بملاك الجرأة على المولى المحققة في المعصية أيضا : فيلزم عدم تناهي الأحكام والعقوبات في التجري

 واما ثانيا : فلان المسألة الأصولية هي الملازمة بين القبح العقلي والحرمة الشرعية ، واما البحث عن ان التجري هل هو قبيح أولا ، فهو بحث عن مبادئ المسألة الأصولية.

ومن ذلك يظهر : عدم صحة عدها مسألة فقهية ، لعدم صحة تعلق حكم شرعي بحرمته لكونه على فرض صحته بمناط الجرأة الحاصلة في المعصية ، فيلزم ما تقدم من عدم التناهي وذلك لأن التجري إذا كان حراماً يكون مخالفة هذا الحرام تجريا حراماً ومخالفة ذلك كذلك ، فلا ينتهى عدد التجري والحرام إلى حد وهذا نظير ما يقال ان الإطاعة لو وجبت يكون إطاعة هذا الواجب واجبا وهكذا

 ثم ان بعض أعاظم العصر أفاد وجها آخر لعقد المسألة أصولية وهو : ان البحث إذا وقع في ان الخطابات الشرعية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته تصير المسألة أصولية. و (فيه) ان لازمه إدراج جل المسائل الفقهية في الأصولية إذ قلما

٨٦

يتفق في مسألة من المسائل الفقهية ان لا يرجع البحث عن الإطلاق والعموم إلى شمولهما لبعض الموضوعات المشكوكة فيها.

والحاصل ان المسألة الأصولية هو ان العموم أو الإطلاق حجة أو لا مثلا واما البحث عن وجودهما فليس مسألة أصولية.

ثم انه يظهر من المحقق الخراسانيّ امتناع تعلق الحرمة على المقطوع به بما هو مقطوع وخلاصة ما أفاده في حاشية الفرائد وكفايته : ان الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون فعلا اختياريا. فان القاطع لا يقصده ، إلّا بما قطع انه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي ، لا بعنوانه الطاري الآلي بل لا يكون غالبا بهذا العنوان ملتفتا إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب والحرمة شرعا «انتهى»

 وهو بما ذكره بصدد نفى الحرمة عن الفعل المتجري به بما هو مقطوع ويستفاد منه بالملازمة حكم ما نحن بصدده من عدم الملاك لجعل المسألة فقهية وأوضح مرامه في حاشيته بان المتجري قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلا لأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع

 وفيه أولا : ان إنكار صدور الفعل الاختياري منه واضح الإيراد ، إذ ليس الفعل الإرادي الا كون الفعل مسبوقا بالعلم والإرادة ، وثانيا ان ما ذكره من عدم الالتفات إلى العلم والقطع ، لا يخلو عن إشكال ، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر من ان الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات ، فانه أشبه بالخطابة ، لأن الضرورة قاضية بان القاطع لا يتوجه حين قطعه الا إلى المقطوع به وليس القطع مورداً للالتفات الا آليا ، بل الإشكال فيه ان العناوين المغفول عنها على قسمين.

أحدهما ما لا يمكن الالتفات إليها ولو بالنظرة الثانية كعنوان النسيان والتجري ، وثانيهما ما يمكن الالتفات إليها كذلك كعنوان القصد والعلم ، فالأوّل لا يمكن اختصاص الخطاب به ، فلا يمكن ان يقال أيها الناسي الجزء الفلاني افعل كذا ، فانه

٨٧

بنفس هذا الخطاب يخرج عن العنوان ويندرج في العنوان المضاد له

 نعم يمكن الخطاب بالعناوين الملازمة مع وجوده واما ما كان من قبيل الثاني فلا مانع من تعلق الخطاب به ، فان العالم بالخمر بعد ما التفت إلى ان معلومه بما هو معلوم ، له حكم كذا ، يتوجه بالنظرة الثانية إلى علمه توجها استقلاليا وناهيك وقوع القصد وأشباهه موضوعاً للأحكام ، فان قاصد الإقامة في مكان معين له بحسب الشرع ، أحكام مع ان نسبة القصد إلى المقصود كنسبة العلم إلى المعلوم.

ثم انه يظهر عن بعض أعاظم العصر وجها آخر بل وجهين لامتناع عمومية الخطاب صورة المصادفة والمخالفة بان يقال لا تشرب معلوم الخمر مع تعلق خطاب بالخمر الواقعي أيضا ولكن المقرر (ره) قد خلط بينهما ، وحاصل الوجه الأول ان تعلق الحكم بالمقطوع به موجب لاجتماع المثلين في نظر العالم دائما وان لم يلزم في الواقع لأن النسبة بين الخمر ومقطوعه هي العموم من وجه فيتأكد الوجهان في صورة الاجتماع.

وحاصل الوجه الثاني لغوية الخطاب لعدم صلاحية ذلك الأمر للباعثية بحيال ذاته لعدم افتراق العنوانين وذلك لأن حكم الخمر ان كان محركا فلا نحتاج لمحرك آخر وإلّا فلا ينبعث من ذلك الأمر أيضاً.

ولا يخفى ان في كلامه مجالا للنظر اما الأول فلأنه لا مجال لجعل المقام من قبيل اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما ، بعد ما اعترف ان النسبة بين العنوانين هي العموم من وجه ، فان القاطع قد يرى اجتماع العنوانين عنده مع تصديقه بأنهما عامان من وجه ، لأن مقطوع الخمرية قد يكون خمراً وقد لا يكون ، ولو بالنسبة إلى سائر القاطعين ، فعدم احتمال تخلف قطعه لا يوجب اعتقاد اجتماع المثلين على العنوانين ، بل يوجب اعتقاد تصادق العنوانين حال قطعه

 اما الثاني ، فلان المراد ليس انبعاث كل فرد من المكلفين من هذا الخطاب ، بل

٨٨

المراد انبعاث عدة منهم ، ومن المعلوم ان العبد ربما لا ينبعث عن امر واحد ، وينبعث عن امرين أو أكثر ، لما يرى من شدة تبعاته ، وصعوبة لوازمه ، لما يرى ، ان تخلف الأمرين يورث عقابين فيصير ذلك داعيا لإطاعته أو اجتنابه ، فتخلص بما مر ان المسألة عقلية صرفة

الجهة الثانية : في استحقاق المتجري العقوبة وعدمه. ولا يخفى ان مجرد قبحه عقلا لا يستتبع الحرمة ، إذ لا ملازمة بين قبح شيء واستلزامه العقوبة ، فان ترجيح المرجوح قبيح ولا يوجب العقاب ، وكذا كثير من القبائح العقلية أو العقلائية ، إذا لم يرد فيها نهى أو لم ينطبق عليها عناوين محرمة أو لم يدرك العقل صحة عقوبة مخالفته.

فان قلت يمكن ادعاء الملازمة بين القبح والعقاب ، فيما إذا ارتكب قبيحا يرجع إلى دائرة المولوية والعبودية ، ولا شك في ان ارتكاب ما لا يجوّز ارتكابه العقل في تلك الدائرة ويعد تركه من شئون العبودية ، يستلزم العقوبة

 قلت غاية الأمر كون ذلك موجبا للوم والكشف عن سوء السريرة واما العقاب فلا ولهذا لم يحكم العقلاء بصحة العقاب على مقدمات الحرام زائداً على نفس الحرام ولا على الحرام مرتين تارة للتجري وأخرى للمخالفة كما يأتي الكلام فيه والالتزام بالتفكيك بان يقال مع الإصابة لا يستحق الأعلى المخالفة ولا ينظر إلى تجريه ومع التخلف يستحق على التجري لصيرورته منظوراً فيه غير وجيه لأن عدم كون الشيء منظورا فيه لا يوجب رفع القبح واستحقاق الواقعيين وعلى أي حال فلا بدّ من لحاظ حكم العقل من حيث استحقاقه للعقوبة لأجل ارتكاب ذلك الفعل مستقلا من غير قناعة على حكمه بالقبح ، كما لا بد من لحاظه مجرداً عن كل العناوين الخارجة عن ذاته حتى لا يختلط الأمر فنقول :

ان بين التجري والمعصية جهة اشتراك ، وجهة امتياز ، اما الثاني فيمتاز التجري عنها في انطباق عنوان المخالفة عليها دونه ولا إشكال في حكم العقل بقبح مخالفة امر المولى ونهيه مع الاختيار ، والعقلاء مطبقون على صحة المؤاخذة على مخالفة

٨٩

المولى بترك ما امره ، وارتكاب ما نهى عنه ، ولا ريب ان تمام الموضوع في التقبيح هو المخالفة فقط من غير نظر إلى عناوين أخر ، كهتكه وظلمه وخروجه عن رسم العبودية إلى غير ذلك ، كما انها تمام الموضوع أيضاً عند العقلاء الذين أطبقوا على صحة مؤاخذة المخالف من غير فرق فيما ذكرنا بين ان يكون نفس العمل مما يحكم العقل بقبحه مستقلا كالفواحش أولا كصوم يوم العيد والإحرام قبل الميقات ، (والحاصل) ان العقل إذا لاحظ نفس مخالفة المولى عن اختيار يحكم بقبحه مجردة عن كافة العناوين من الجرأة وأشباهها

واما الأول أعني الجهة المشتركة بينهما فهي الجرأة على المولى والخروج من رسم العبودية وزي الرقية والعزم والبناء على العصيان وأمثالها

واما الهتك فليس من لوازم التجري ولا المعصية فان مجرد المخالفة أو التجري ليس عند العقلاء هتكا للمولى وظلما عليه

 وعند ذلك يقع البحث في ان التجري هل هو قبيح عقلا أولا ، وعلى فرض قبحه هل هو مستلزم للعقاب أولا لما عرفت من عدم الملازمة بين كون الشيء قبيحا وكونه مستلزما للعقوبة والّذي يقوى في النّفس سالفاً وعاجلا عدم استلزامه للعقوبة ، سواء قلنا بقبحه أم لا ، والشاهد عليه ، انه لو فرض حكم العقل بقبح التجري واستحقاق العقوبة عليه فليس هذا الحكم بملاك يختص بالتجري ولا يوجد في المعصية ، بل لو فرض حكمه بالقبح وصحة المؤاخذة ، فلا بدّ ان يكون بملاك مشترك بينه وبين المعصية كأحد العناوين المتقدمة المشتركة ، ولو كانت الجهة المشتركة بينهما ملاكا مستقلا للقبح واستحقاق العقوبة ، لزم القول بتعدد الاستحقاق في صورة المصادفة ، لما عرفت ان مخالفة المولى علة مستقلة للقبح والاستحقاق ، فيصير الجهة المشتركة ملاكا مغايراً ، موجبا لاستحقاق آخر واما ما أفاده بعض محققي العصر فراراً عن الالتزام بتعدد الاستحقاق ، من ان الموضوع لحكم العقل في العصيان ليس مخالفة المولى ، بل الهتك والجرأة عليه أو العزم على العصيان أو الطغيان وغيرها مما هي جهات مشتركة وعند وحدة

٩٠

الملاك ، يصير العقاب واحداً ، غير مفيد : لما عرفت من ان العقل إذا جرّد النّظر عن تمام القيود والملاكات ، ، ونظر إلى نفس ذاك العنوان أعني مخالفة المولى عن اختيار ، لحكم بالقبح وصحة العقوبة ، فلو كان هذا عنوانا مستقلا وذاك أعني أحد هذه العناوين المشتركة بين المقامين ، عنوانا مستقلا آخر لزم القول باستحقاق عقابين ، مع ان العقل والعقلاء يحكمان على خلافه ، فان العاصي لا يستحق إلّا عقابا واحداً لأنه لم يرتكب الا قبيحا واحدا وهو ارتكاب المنهي عنه مع العمد والاختيار

واما العزم على العصيان والجرأة على المولى فهما وأشباههما من الأفعال الجنانية التي لا تستلزم الا الذم واللوم ، ولو فرضنا قبح التجري ، فقد عرفت في صدر البحث ، ان مجرد كونه امراً قبيحا لا يستلزم الاستحقاق للعقوبة واما حديث التداخل ، فهو لا يرجع إلى محصل.

الجهة الثالثة الظاهر ان الفعل المتجري به لا يخرج عما هو عليه ، ولا يصير فعلا قبيحا ولو قلنا بقبح التجري ، فان توهم قبحه لو كان بحسب عنوانه الواقعي فواضح ـ الفساد فان الفعل الخارجي أعني شرب الماء ليس بقبيح ، وان كان لأجل انطباق عنوان قبيح عليه ، فليس هنا عنوان ينطبق عليه حتى يصير لأجل ذلك الانطباق متصفا بالقبح فان ما يتصور هنا من العناوين فانما هي التجري والطغيان والعزم وأمثالها ، ولكن التجري وأخويه من العناوين القائمة بالفاعل والمتصف بالجرأة انما هو النّفس والعمل يكشف عن كون الفاعل جريئاً ، وليس ارتكاب مقطوع الخمرية نفس الجرأة على المولى بل هو كاشف عن وجود المبدأ في النّفس وقس عليه الطغيان والعزم فانهما من صفات الفاعل لا الفعل الخارجي.

واما الهتك والظلم ، فهما وان كانا ، ينطبقان على الخارج ، إلّا أنّك قد عرفت عدم الملازمة بينهما وبين التجري ، فتحصل ان الفعل المتجري به باق على عنوانه الواقعي ، ولا يعرض له عنوان قبيح.

نعم لو قلنا بسراية القبح إلى العمل الخارجي ، الكاشف عن وجود هذه المبادي في النّفس فلا بأس بالقول باجتماع الحكمين لأجل اختلاف العناوين ، ولا يصير المقام

٩١

من باب اجتماع الضدين ، فان امتناع اجتماع الضدين يرتفع باختلاف المورد ، وقد وافاك بما لا مزيد عليه ، ان مصب الأحكام وموضوعاتها انما هي العناوين والحيثيات فلا إشكال لو قلنا بإباحة هذا الفعل أعني شرب الماء بما انه شرب وحرمته من أجل الهتك والتجري والطغيان ، فالعنوانان منطبقان على مصداق خارجي ، والخارجي ، مصداق لكلا العنوانين ، وهما مصبان للأحكام على ما أوضحناه في مبحث الاجتماع.

واما ما ربما يقال في دفع التضاد : من ان العناوين المنتزعة عن مرتبة الذات مقدمة على العناوين المنتزعة عن الشيء بعد ما يقع معروضة للإرادة فان المقام من هذا القبيل فان شرب الماء ينتزع عن مرتبة الذات للفعل ، واما التجري فانما ينتزع عن الذات المعروضة للإرادة ، ونظير المقام ، الإطاعة ، فانها متأخرة عن ذات العمل فغير مفيد لأن القياس مع الفارق ، فان الإرادة لم تتعلق إلّا بإتيان ما هو مقطوع الحرمة ، والتجري منتزع عن إرادة إتيان ما هو مقطوع الحرمة أو منتزع من إتيانه ، وإرادة إتيانه أو نفس إتيانه الّذي ينتزع منهما التجري ، ليسا متأخرين عن عنوان شرب الماء بحسب الرتبة ، (والحاصل) ان الإرادة لم تتعلق بشرب الماء حتى تتأخر عن الشرب ، ويتأخر عنوان التجري عن هذه الإرادة ، تأخر المنتزع عن منشأ انتزاعه ، وهذا بخلاف الطاعة المتأخرة عن الإرادة والأمر ، وهما متأخران عن عنوان الذات أعني الصلاة والصوم.

ثم ان القوم فتحوا هنا باباً واسعاً للبحث عن الإرادة وملاك اختياريتها واختيار الأفعال الصادرة عنها. وبما انا قد استوفينا حق المقال فيهما عند البحث عن اتحاد الطلب والإرادة فالأولى ترك الكلام روماً للاختصار (١).

__________________

(١) فقد أفردنا لما أفاده سيدنا الأستاذ في هذه المباحث من الحقائق الراهنة والكنوز العلمية ، رسالة مفردة ، وعلقنا عليها بعض التعاليق وهي جاهزة للطبع.

٩٢

في أقسام القطع

فهاهنا مطالب :

الأول في أقسام القطع. نقول ان القطع قد يتعلق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم أو حكم شرعي متعلق بموضوع مع قطع النّظر عن القطع.

ويشترك الكل في ان القطع كاشف دائما في نظر القاطع ، واما توضيح الأقسام فيحتاج إلى تقديم امر. وهو ان العلم من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة فله قيام بالنفس قيام صدور أو حلول على المسلكين ، وإضافة إلى المعلوم بالذات الّذي هو في صقع النّفس إضافة إيجاد ، وإضافة إلى المعلوم بالعرض المحقق في الخارج وما ذكرنا من قيام العلم بالنفس وان الصورة المعلومة بالذات فيها أيضا ، انما يصح على عامة الآراء المذكورة في الوجود الذهني ، نعم على القول المنسوب إلى الإمام الرازي ، من ان حقيقة العلم ، هو إضافة النّفس إلى الخارج بلا وساطة صورة أخرى ، لا يصح القول ، بقيام الصورة المعلومة بالنفس ، إذ ليس هنا شيئا وراء الصورة المحققة في الخارج ، حتى نسميه علما ومعلوما بالذات ، بل حقيقة العلم على هذا المسلك ، ليس إلا نيل النّفس الأمور الخارجية بالإضافة إليها لا بالحصول فيها

وبذلك يظهر ان ما أفاده بعض أعاظم العصر : من قيام العلم بالنفس من دون فرق بين ان نقول ان العلم من مقولة الكيف أو مقولة الفعل أو الانفعال أو الإضافة ، لا يخلو عن مناقشة.

ثم ان للقطع جهات ثلاثة جهة قيامه بالنفس وصدوره منها أو حلوله فيها ، وعلى الجملة كونه من الأوصاف النفسانيّة مثل القدرة والإرادة ، والبخل وأمثالها وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات ، وجهة كمال الكشف وتمامية الإراءة المختصة به المميزة إياه عن الأمارات.

ثم هذه الجهات ، ليست جهات حقيقية حتى يستلزم تركب العلم من هذه الجهات ، وانما هي تحليلات عقلانيّة ، وجهات يعتبرها العقل بالمقايسات ،

٩٣

كتحليل البسائط إلى جهات مشتركة وجهات مميزة ، مع انه ليس في الخارج الا شيء واحد بسيط ، وتجد نظير ذلك في حقيقة التشكيك الموجود في أصل الوجود فان الوجود مع كونه بسيطا ، ينقسم إلى شديد وضعيف ، ولكن الشديد ليس مؤلفا من أصل الوجود والشدة ، ولا الضعيف من الوجود والضعف بل حقيقة الوجود في عامة الموارد بسيطة لا جزء لها ، إلّا ان المقايسة بين مراتبه ، موجبة لانتزاع مفاهيم مختلفة عنه ثم ان القطع قد يكون طريقا محضا ، وقد يؤخذ في الموضوع ، والمأخوذ في الموضوع تربو إلى أقسام ستة.

الأول والثاني ، أخذه تمام الموضوع أو جزئه بنحو الوصفية أي بما انه شيء قائم بالنفس ومن نعوتها وأوصافها مع قطع النّظر عن الكشف عن الواقع ، الثالث والرابع أخذه في الموضوع على ان يكون تمام الموضوع أو جزئه بنحو الطريقية التامة والكشف الكامل ، الخامس والسادس ، جعله تمام الموضوع أو جزئه ، على نحو أصل الكشف الموجود في الأمارات أيضا.

ثم ان بعض الأعاظم أنكر جواز أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع قائلا : ان أخذه تمام الموضوع يستدعى عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعى لحاظ ذي الصورة وذي الطريق ويكون النّظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم.

قلت : الظاهر ان نظره في كلامه هذا إلى امتناع اجتماع هذين اللحاظين فان الطريقية يستدعى ان يكون القطع ملحوظا آليا غير استقلالي ، بل الملحوظ استقلالا هو الواقع المقطوع به وأخذه تمام الموضوع ، يستدعى لحاظ القطع استقلالا غير آلي وهذا ان اللحاظان لا يجتمعان.

أقول يرد عليه ، مضافا إلى عدم اختصاص الإشكال (ح) بما إذا كان القطع تمام الموضوع بل يعم صورة أخذه بعض الموضوع ، لامتناع الجمع بين اللحاظين المتغايرين ان الامتناع على فرض تسليمه انما يلزم لو جعل الجاعل قطعه الطريقي تمام الموضوع لحكمه ، واما لو جعل قطع الغير ، الّذي هو طريقي ، تمام الموضوع لحكمه ، فلا يلزم ما

٩٤

ما ادعاه من المحال. وهل هذا الخلط بين اللاحظين

 فان قلت لعل مراده من الامتناع هو ان الجمع بين الطريقية وتمام الموضوع يستلزم كون الواقع دخيلا ، وعدم كونه دخيلا ، فان لازم الطريقية ، دخالة الواقع في حدوث الحكم ، وكون القطع تمام الموضوع يستلزم دوران الحكم مداره من دون دخالة للواقع

قلت مضافا إلى انه خلاف ظاهر كلامه ان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية ، ينافى دخالة الواقع حتى يلزم ما ذكره ، بل المراد لحاظ القطع بما ان له وصف الطريقية والمرآتية من بين عامة أوصافه ولا يستلزم هذا دخالة الواقع كما هو واضح.

الثاني : انك قد عرفت ان القطع قد يتعلق بموضوع خارجي فيأتي فيه الأقسام المذكورة ، وقد يتعلق بحكم شرعي فيقع الكلام تارة في أخذه موضوعاً لحكم غير ما تعلق به العلم مما يخالفه أو يماثله أو يضاده ، وأخرى في أخذه موضوعا لنفس الحكم الّذي تعلق به ، فنقول : اما الأول.

لا إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع وجزئه في حكم يخالفه كما إذا رتب على العلم بوجوب صلاة الجمعة وجوب التصدق انما الإشكال في أخذه كذلك لما يماثله أو يضاده. والّذي يمكن ان يكون مانعا أمور نشير إليها.

منها : كونه مستلزما لاجتماع الضدين أو المثلين

 وفيه انه قد مر بما لا مزيد عليه في مبحث النواهي ان الأحكام ليست من الأمور الوجودية الواقعية ، بل من الاعتباريات ، وقد عرف الضدان بأنهما الأمران الوجوديان غير المتضايفين المتعاقبان على موضوع واحد لا يتصور اجتماعهما فيه ، بينهما غاية الخلاف ، فما لا وجود لها الا في وعاء الاعتبار لا ضدية بينها ، كما لا ضدية بين أشياء لا حلول لها في موضوع ولا قيام لها به قيام حلول وعروض.

ومن ذلك الباب عدم تضاد الأحكام لأجل ان تعلق الأحكام بموضوعاتها ومتعلقاتها ، ليس حلوليا ، عروضيّا ، نحو قيام الاعراض بالموضوعات ، بل قيامها بها

٩٥

قيام اعتباري لا تحقق لها أصلا فلا يمتنع اجتماعها في محل واحد ، ولذا يجوز الأمر والنهي بشيء واحد من جهة واحدة من شخصين أو شخص واحد مع الغفلة ، ولو كان بينها تضاد ، لما صار ممكنا مع حال الغفلة ، وما ذكرنا يظهر حال المثلية.

ومنها : اجتماع المصلحة والمفسدة ، وفيه : لا مانع من كون موضوع ذا مصلحة من جهة ، وذا مفسدة من جهة أخرى ، والجهتان متحققتان في المقام ، فيمكن ان يكون ذا مصلحة حسب عنوانه الذاتي ، وذا مفسدة عند كونه مقطوعاً أو مظنونا.

ومنها : انه يستلزم اجتماع الكراهة والإرادة ، والحب والبغض. وفيه ان هذا انما يرد ، لو كان الموضوع للحكمين المتضادين ، صورة وحدانية ، له صورة واحدة في النّفس ، واما مع اختلاف العناوين ، تكون صورها مختلفة ، ولأجل اختلافها تتعلق الإرادة بواحدة منها ، والكراهة بصورة أخرى ، وليست الصور الذهنية مثل الموضوعات الخارجية حيث ان ذات الموضوع الخارجي محفوظة مع اختلاف العناوين بخلاف الصور الذهنية ، فان الموضوع مع كل عنوان ، له صورة على حدة (فتأمل لما سيجيء من التفصيل).

ومنها : لزوم اللغوية في بعض الموارد أعني إذا أحرز ان المكلف ينبعث عند حصول القطع بحكم من أحكام المولى ، فجعل حكم آخر مثله ، لغو لا يترتب عليه الانبعاث في هذه الصورة نعم لو أحرز ان المكلف لا ينبعث إلّا إذا تعلق امر آخر على المحرز المقطوع فلا يلزم اللغوية ، بل يكون لازما

 وفيه : ان ما ذكره صحيح في الأحكام الجزئية والخطابات الشخصية ، دون الأحكام الكلية ، فتعلقها مطلقا لا يكون لغوا لعدم إحراز الإتيان أو عدمه ، بل المحقق اختلاف المكلفين في ذلك المقام ، فرب مكلف لا ينبعث الا عن امرين أو أزيد ، وعليه لا بأس لجعل آخر مماثل لما تعلق به ، لأجل حصول الانبعاث في بعض المكلفين.

ومنها : لزوم الأمر بالمحال ، فانه مضافا إلى انه يستلزم لغوية جعل الحرمة للخمر

٩٦

، إذا فرضنا ان الخمر حرام فإذا قطع بحرمة الخمر يصير مقطوع الحرمة مرخصا فيه ، يستلزم ذلك الأمر بالمحال ، فان الامتثال في هذه الصورة ، غير ممكن (وسيجيء دفعه في آخر البحث) ، ومع ذلك كله فالحق التفصيل بين كونه تمام الموضوع للحكم المضاد والمماثل ، وبين كونه بعض الموضوع ، بالجواز في الأول والامتناع في الثاني ، لأن مصب الحكم المضاد الثانوي ، انما هو عنوان المقطوع بلا دخالة الواقع فيه ، وهو مع عنوان الواقع عموم من وجه ، ويتصادق على الموضوع الخارجي أحيانا وقد أوضحنا في مبحث النواهي ان اجتماع الحكمين المتضادين (حسب اصطلاح القوم) في عنوانين مختلفين متصادقين علي مورد واحد ، مما لا إشكال فيه.

والحاصل : انه إذا جعل الشارع القطع تمام الموضوع لحكم من الأحكام ، سواء ماثل حكم المتعلق أو ضاده ، بان قال : الخمر المقطوع الحرمة حرام شربها ، أو واجب الارتكاب ، فلا يلزم اجتماع المثلين ، لأن النسبة بين مقطوع الخمرية ، أو مقطوع الحرمة ، والخمر الواقعي ، أو الحرمة الواقعية عموم من وجه ، وإذا انطبق كل واحد من العنوانين على المائع الخارجي ، فقد انطبق ، كل عنوان على مصداقه أعني المجمع ، وكل عنوان يترتب عليه حكمه ، بلا تجاوز الحكم عن عنوانه إلى عنوان آخر ، فإذا قال أكرم العالم ، ثم قال أكرم الهاشمي ، وانطبق العنوانان على رجل عالم هاشمي ، فالحكمان ثابتان على عنوانهما ، وعلى ما هو مصب الأحكام ، من غير ان يتجاوز عن موضوعه وعنوانه المأخوذ في لسان الدليل ، إلى عنوان آخر ، حتى يصير الموضوع واحداً ، وتحصل غائلة الاجتماع ، ولا يسرى الأحكام من عناوينها إلى مصاديقها الخارجية ، لما حققناه من ان الخارج ظرف السقوط دون العروض ، فلا مناص عن القول بثبوت الحكم على عنوانه ، وعدم سرايته إلى عنوان آخر ، ولا إلى الخارج.

هذا إذا كان القطع تمام الموضوع ، واما إذا كان جزء الموضوع فينقلب النسبة وتصير النسبة بين الموضوعين الحاملين لحكمين متماثلين أو متضادين ، عموما وخصوصا

٩٧

مطلقا ، وقد قرر في محله خروجه عن مصب البحث في مبحث الاجتماع والامتناع ، وان الحق فيه الامتناع فراجع.

لا يقال : المفروض ان العنوانين مختلفان في هذا القسم أيضا ، فلو كان التغاير المفهومي كافيا في رفع الغائلة فليمكن مجديا مطلقا ، لأنا نقول : فكم فرق بين التغايرين ، فان التغاير في العموم من وجه حقيقي ، والتقارن مصداقي ، واما الآخر ، فالمطلق عين المقيد ، متحد معه ، اتحاد اللابشرط مع بشرط شيء كما ان المقيد عين المطلق زيد عليه قيد ، فلو قال أكرم هاشميا ، ثم قال أكرم هاشميا عالماً ، فلو لم يحمل مطلقه على مقيدة ، لزم كون الشيء الواحد مورداً للطلبين والإرادتين ، إذ الهاشمي ، عين الهاشمي العالم.

نعم قد ذكرنا وجها لصحة جعله مورد النزاع ، ولكن قد زيفناه في محله.

وبذلك يظهر دفع عامة المحذورات فيما جوزناه ، وقد عرفت دفع بعض منها وبقي لزوم اللغوية في الحكم المماثل ، والأمر بالمحال في الحكم المضاد

 فنقول اما الأول ، فلان الطرق إلى إثبات الحكم أو موضوعه كثيرة ، فجعل الحرمة على الخمر ، والترخيص على معلوم الخمرية أو معلوم الحرمة لا توجب اللغوية لإمكان العمل بالحكم الأول لأجل قيام طرق أخر ، واما لزوم الأمر بالمحال ، فلان امر الأمر ونهيه ، لا يتعلق إلّا بالممكن وعروض الامتثال في مرتبة الامتثال كباب التزاحم لا يوجب الأمر بالمحال كما حقق في محله وبذلك يظهر حال الظن جوازاً وامتناعا.

بقي الكلام في التفصيل المستفاد من كلام بعض أعاظم العصر ، فانه بعد بيان الأقسام المذكورة للظن وإمكان أخذه موضوعا لحكم آخر مطلقا ، الا فيما أخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية كما تقدم منه في القطع إشكالا وجواباً ، قال ما هذا ملخصه : واما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه ، فلا يمكن مطلقا من غير فرق بين الظن المعتبر وغيره للزوم اجتماع الضدين ولو في بعض الموارد ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل يلزم منه الاجتماع في محل واحد واما أخذه موضوعاً

٩٨

لحكم المماثل ، فان لم يكن الظن حجة ، فلا مانع منه ، فان في صورة المصادفة يتأكد الحكمان فان اجتماع المثلين انما يلزم لو تعلق الحكمان بموضوع واحد وعنوان فارد ، واما مع تعلقهما بالعنوانين فلا يلزم الا التأكد ، واما الظن الحجة فلا يمكن أخذه موضوعا للمماثل فان الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئه بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك لأن الحكم الثاني ، لا يصلح لأن يكون محركا وباعثا لإرادة العبد ، فان الانبعاث انما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر إلى ذلك المحرز كما لا يعقل ذلك في العلم أيضا

 وقال قدس‌سره في فذلكة المقام : ان الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه موضوعا على وجه الطريقية لا للمماثل ولا للمخالف ، فان أخذه على وجه الطريقية ، هو معنى اعتباره ، إذ لا معنى له إلّا لحاظه طريقا.

واما أخذه موضوعا لنفس متعلقه ، إذا كان حكما ، فلا مانع منه بنتيجة التقييد مطلقا بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد ، فان أخذ الظن حجة محرزاً لمتعلقه معناه انه لا دخل له في المتعلق ، إذ لو كان له دخل لما أخذ طريقا ، فأخذه محرزاً مع أخذه موضوعاً يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد وذلك واضح (انتهى كلامه) وفيه مواقع للنظر نذكر منها ما يلي فنقول اما أولا

 ان اختلاف العنوانين ان كان رافعاً لاجتماع المثلين ، فهو رافع لاجتماع الضدين فان محط الأمر والنهي إذا كانا عنوانين مختلفين ، وفرضنا اتفاقهما في موضوع واحد ، فتعدد العنوان كما يرفع اجتماع المثلين ، فكذلك يرفع اجتماع الضدين واما إذا كان أحد العنوانين محفوظاً مع الآخر ، كما في المقام ، فان الخمر محفوظ بعنوانه مع مظنون الخمرية ، فكما لا يرفع معه التضاد ، فكذلك لا يرفع به اجتماع المثلين.

وثانيا ان ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكد مما لا أساس له أصلا فان التأكد انما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحداً ، (لا ما إذا كان العنوان

٩٩

متعدداً كما ذكره قدس‌سره) ، وكان تعلق الأوامر به لأجل التأكيد ، ثم التأكيد قد يحصل بأداته ، وقد يحصل بتكرر الأمر والنهي ، كالأوامر الكثيرة المتعلقة بعناوين الصلاة والزكاة والحج ، وعناوين الخمر والميسر والربا ، كما تجده في الشريعة المقدسة

 فهذه كلها من قبيل التأكيد لا اجتماع المثلين ، ويحكى هذه الأوامر المتظافرة عن اهتمام الآمر والناهي وعن إرادة واحدة مؤكدة ، لا عن إرادات ، فان تعلق إرادتين بشيء واحد مما لا يمكن ، لأن تشخص الإرادة بالمراد. هذا حال العنوان الواحد.

واما مع اختلاف العنوانين ، فلا يكون من التأكيد أصلا ، وان اتفق اجتماعهما في موضوع واحد ، فان لكل واحد من العنوانين حكمه ، ويكون الموضوع مجمعا لعنوانين والحكمين ، ويكون لهما إطاعتان وعصيانان ، ولا بأس به وما اشتهر بينهم ان قوله أكرم العالم وأكرم الهاشمي يفيد التأكيد إذا اجتمعا في مصداق واحد مما لا أصل له.

وثالثا ان ما أفاده من ان الظن المعتبر لا يمكن أخذه موضوعاً للحكم المماثل ، معللا تارة بان المحرز للشيء ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث الملاك ، وأخرى بان الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث ، (وان خلط المقرر بينهما) فيرد على الأول ، ان عدم كون الظن المحرز من العناوين الثانوية ، التي توجب الملاك هل هو من جهة كون الظن مختلفا مع الواقع المظنون في الرتبة ، أو من جهة الاعتبار الشرعي ، فعلى الأول يلزم ان يكون الظن غير المعتبر أيضا كذلك ، فعلى الثاني فنحن لا نقبله حتى يقوم الدليل على ان الاعتبار الشرعي مما ينافى الملاكات الواقعية ويرفعها

والحاصل : ـ لا فرق بين الظن المعتبر وغيره الا في الجعل الشرعي وهو مما لا يضاد الملاكات النّفس الأمرية ، مع ان الظن والقطع كسائر العناوين يمكن ان يكونا موجبين لملاك آخر و (يرد) على التعليل الثاني انه يمكن ان لا ينبعث العبد

١٠٠