تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

واما مقدار الفحص : فيختلف باختلاف المباني ، فلو كان المبنى في إيجاب الفحص هو العلم الإجمالي ، فغايته انحلال علمه ، وعلى المختار فلا بدّ من التفحص التام حتى يخرج عن المعرضية ويحصل اليأس عن المخصص والمعارض ، وسيوافيك في باب الاجتهاد والتقليد ما ينفع في المقام فانتظر

في الخطابات الشفاهية

هل الخطابات الشفاهية تعم غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين أولا ، ولا بأس بذكر أمور الأول : ان النزاع يمكن ان يقع بحسب التصور في مقامين (الأول) ان يكون النزاع في جواز خطاب المعدوم والغائب ومرجعه إلى إمكان هذه المسألة العقلية وعدمه ، وهو مع انه غير مناسب لمبحث العام لأن إمكان مخاطبتهما وعدمه غير مربوط به ، بعيد جداً لأنه ضروري البطلان ، نعم لا يبعد عن مثل بعض الحنابلة حيث جعل محط البحث ما حررناه مستدلا بخطاب الله على المعدومين بقوله ـ كن فيكون ـ وخطابه في عالم الذرّ ، إلى غير ذلك من الاستدلالات الواهية (الثاني) ان يكون خطاب المعدوم مسلم البطلان عندهم ، ولكن البحث في ان استفادة أحكام الغائبين والمعدومين من نفس الخطابات هل يستلزم خطابهما ، أولا ، وان شئت قلت : ان النزاع في ان تعميم ألفاظ العموم التي جيئت تلو أداة النداء وأشباهها مما تكون خطابا بالنسبة إليهما هل يستلزم مخاطبتهما حتى يمتنع أولا ، فيكون النزاع في الملازمة وعدمها ، وهذا أنسب إذ المناسب للبحث عنه في هذا المقام هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه إذا وقعت تلو الخطابات الشفاهية.

الثاني : الظاهر ان ملاك النزاع علي ما حررناه كما هو موجود في الخطابات الشفاهية ، كذلك موجود في أمثال قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت ، وقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان مما لم يصدر بألفاظ النداء وأداة الخطاب فيمكن ان يقال : هل يلزم من شمول أمثال تلك العناوين والأحكام لغير الموجودين ، تعلق التكليف الفعلي بهم في حال العدم وصدق العناوين عليهم في هذا الحال ، أولا ، فلو قلنا باستلزامه

٤١

فلا محالة تختص تلك الأحكام بالموجودين ، وإلّا فتعمهم والغائبين والمعدومين نعم يظهر من الشيخ الأعظم ادعاء الاتفاق في شمول ما لم يصدر بأداة النداء وانه لم يعهد من أحد إنكار شموله لهما ، وتبعه بعض الأعاظم قائلا بان أسماء الأجناس يشمل المعدومين بلا ريب و (فيه) ان القائل بالاختصاص يمكن ان يدعى ان المعدوم لا يطلق عليه الناس عقلا ، ولا يمكن عقد الأخوة بين المعدومين في قوله انما المؤمنون إخوة ، لا بمعنى ان الألفاظ موضوعة للموجودين حتى يدفع بأنها موضوعة للماهية اللابشرط بل بمعنى ان الشيء ما لم يوجد ولم يتشخص ليس له ماهية كما ليس لها وجود ، فالإنسان إنسان بالوجود ولولاه لا إنسان ولا ماهية ولا غير ذلك ، فالقصور من ناحية نفس العناوين لا من جانب الوضع ، وحينئذ لو كان المراد من شمول أسماء الأجناس لهم ، هو شمولها حال عدمهم فهو ضروري البطلان كما تقدم وان كان المراد انطباقها عليهم في ظرف الوجود بنحو القضية الحقيقية فهو جواب عن الأشكال ولا يوجب خروج هذا القسم عن محط البحث.

الثالث : ان حل الشبهة في بعض الصور مبنى على القضية الحقيقية فلا بأس بتوضيح حالها وحال القضية الخارجية والفرق بينهما فنقول ان هذا التقسيم للقضايا الكلية واما الشخصية مثل زيد قائم مما لا تعتبر في العلوم فخارجة عن المقسم فقد يكون الحكم في القضايا الكلية على الأفراد الموجودة للعنوان بحيث يختص الحكم على ما وجد فقط من غير ان يشمل الموجودين في الماضي والمستقبل وذلك بان يتقيد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق إلّا عليها مثل كل عالم موجود في الحال كذا أو كل من في هذا العسكر كذا ، سواء كان الحكم على افراد عنوان ذاتي ، أو عرضي ، أو انتزاعي ، فلفظ الكل لاستغراق افراد مدخوله والعنوان المتلو له بعد التقييد المذكور لا يصلح إلّا للانطباق على الافراد المحققة ، واما القضية الحقيقية فهو ما يكون الحكم فيها على افراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال وغيره مثل كل نار حارة فلفظة نار تدل على نفس الطبيعة وهي قابلة للصدق على كل فرد لا بمعنى وضعها للافراد ولا بمعنى كونها حاكية عنها أو كون الطبيعة حاكية عنها

٤٢

بل بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الافراد الموجودة وما سيوجد في ظرف وجوده.

ولفظ الكل دال على استغراق افراد مدخوله من دون ان يدل على الوجود والعدم ولهذا يقع مقسما للموجود والمعدوم ويصح ان يقال كل فرد من الطبيعة اما موجود أو معدوم بلا تجوز وتأول ، وإضافة الكل إلى الطبيعة تدل على تعلق الاستغراق بما يتلوه ولما لم تتقيد بما يجعلها منحصرة الانطباق على الافراد المحققة فلا محالة تكون منطبقة عليها وعلى غيرها ، كل في موطنه ، لا في حال العدم لامتناع صدقها على المعدوم لأن الطبيعة لم تكن طبيعة في حال العدم ولا افرادها افراداً في حاله ، فكل نار حارة اخبار عن مصاديق النار دلالة تصديقية والمعدوم ليس مصداقا للنار ولا لشيء آخر كما ان الموجود الذهني ليس نارا بالحمل الشائع فينحصر الصدق على الافراد الموجودة في ظرف وجودها من غير ان يكون الوجود قيداً ، أو ان يفرض للمعدوم وجود أو ينزل منزلة الوجود ، ومن غير ان يكون القضية متضمنة للشرط كما تمور بها الألسن مورا ، فان تلك التكلفات مع كونها خلاف الوجدان في إخباراتنا بداهة ان كل من أخبر بان النار مثلا حارة لا يخطر بباله الافراد المعدومة فضلا عن تنزيلها منزلة الموجود أو الاشتراط بأنه إذا وجدت كانت كذلك ، ناشئة من عدم تعقل القضية الحقيقية وتخيل ان للطبيعة افراداً معدومة وتكون الطبيعة صادقة عليها حقيقة حال عدمها ولما لم يصدق عليها الحكم في ظرفه لا بد من ارتكاب تأول وتكلف.

وأنت خبير بان ذلك في غاية السقوط لأن العدم ليس بشيء كالمعدوم فلا تكون القضية الحقيقية اخباراً عن الافراد المعدومة بل اخبار عن افراد الطبيعة بلا قيد وهي لا تصدق الأعلى الافراد الموجودة في ظرف وجودها فيكون الاخبار كذلك بحكم العقل بلا قيد واشتراط وتأول.

(وليعلم) ان الحكم في الحقيقية على الافراد المتصورة بالوجه الإجمالي ، وهو عنوان كل فرد أو جميع الافراد فعنوان الكل والجميع متعلق للحكم ، ولما كان هذا العنوان موضوعا للكثرات بنحو الإجمال ، فبإضافته إلى الطبيعة يفيد افرادها بنحو

٤٣

الإجمالي وهو عنوان كل فرد أو جميع الافراد فعنوان الكل والجميع متعلق للحكم ولمّا كان هذا العنوان موضوعاً للكثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد افرادها بنحو الإجمال فالحكم في المحصورة على افراد الطبيعة بنحو الإجمال لا على نفس الطبيعة ولا على الافراد تفصيلا ، فما اشتهر من ان الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للافراد ليس بشيء وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم في الفرق بين الحقيقية والخارجية من القضايا حيث حكم في عدة مواضع من كلامه بان الحكم في الخارجية على الافراد والأشخاص بلا توسط عنوان حتى لو فرض هنا عنوان ، فهو امر اتفاقي ، مع انك قد عرفت ان التقسيم وارد على القضايا المعتبرة في العلوم وهي تحتاج إلى عنوان ذاتي أو عرضي ، وكأنه (قدس‌سره) خلط بين الجزئية والخارجية.

كما ظهر الضعف فيما أفاد : «ان الطبيعة في الحقيقة تؤخذ عنوانا ومرأة للافراد» مع انك عرفت امتناع أخذها مرآة لها ، وان الدال على الافراد ، هو لفظ كل وأشباهه من ألفاظ العموم.

وأغرب منه ما أفاد من التقدير وتنزيل المعدوم منزلة الموجود حيث تقدم ان ذلك كله خلاف الارتكاز وخلاف ما يقتضيه الذوق السليم. وبقي في كلامه مواقع للنظر تركنا الكلام فيه.

إذا عرفت ذلك. فاعلم : ان الكلام يقع في مقامين ، (الأول) فيما إذا كان الجعل على نهج القانون الكلي بلا لفظ خطاب أو نداء سواء كان الجعل متعلقاً على نحو القضية الحقيقية ، على مصاديق العناوين بنحو الإجمال كما في القضية المحصورة أم كان الجعل على نفس العناوين كما في غيرها والإشكال المتوهم فيه هو ان التكليف الفعلي لا يمكن ان يتوجه إلى المعدوم وتعميم الأدلة أو ما يستلزم ذلك ، و «الجواب» عنه واضح بعد ما عرفت الحال فيما تقدم ، إذ المعدوم في حال العدم لم يتوجه إليه التكليف حتى يرد ما ذكرت بل يتوجه إليه إذا صار موجود أو تحقق مصداق المستطيع في ظرفه ، فإذا

٤٤

رأى المكلف ان كتاب الله تعالى ينادى بأنه يجب الحج على كل مستطيع من دون ان يقيد بما يخصه بالموجودين ورأى نفسه مستطيعا عليه ، فلا محالة يرى نفسه مأمورا بالحج لا لأجل جعل الحكم على المعدوم بل لأجل جعله على العنوان بلا قيد وهو قبل وجوده واستطاعته ليس من الناس ولا من افراد المستطيع بالضرورة وبعد وجوده واستطاعته يصدق عليه هذان العنوانان ولازم جعله كذلك ، شمول الحكم له ، و (بالجملة) هذا القسم لا يستلزم جعل الحكم على المعدوم بل على العنوان الّذي لا ينطبق إلّا على الموجود فاتضح وجه شمول قوله تعالى الرّجال قوامون على النساء وأشباهه الواردة في الذّكر الحكيم وغيره.

المقام الثاني : ما إذا كان من قبيل توجيه الكلام إلى المخاطب سواء كان التوجيه بكلام مشتمل على كاف الخطاب أو أداة النداء أم لغيرهما ممّا يعد توجيها بالحمل الشائع وان لم يكن فيه ما يدل وضعا على التخاطب والإشكال في هذا المقام استلزام التعميم للغائب والمعدوم ، لزوم مخاطبة المعدوم والغائب ، و (اما حلّه) فربما يتمسك هنا أيضا بالقضية الحقيقية لكن ستعرف ضعفه.

والتحقيق في دفع الإشكال عن هذا القسم ، ان الخطابات القرآنية ليست خطابات شفاهية لفظية بحيث يقابل فيها الشخص الشخص ، بل كخطابات كتبية ، ومثلها القوانين العرفية الدائرة بين العقلاء ، اما كون الثاني من هذا القبيل فواضح فلان المقنن في القوانين العرفية والسياسية (سواء كان شخصا واحداً أم هيئة وجماعة) بعد ما أحكمها وأثبتها ، يتشبث في إبلاغه وإعلانه ، بالنشر في الكتب والجرائد ، وسائر الآلات المستحدثة في هذه الأزمنة من المذياع وغيره ، و (ح) فالفرد الحائز للشرائط من الشعب المأمور بالعمل بها إذا عطف نظره إلى كتاب القانون لأهل وطنه لا يشك انه مأمور بالعمل به وان تأخر عن زمان الجعل بكثير بل لم يكن موجوداً في ظرف الوضع ، ولكن جعل الحكم بصورة الخطاب على الناس

٤٥

في قول القائل (يا أيها الناس) ، كاف في شموله له وان وجد بعد زمن الخطاب ، بمدة متراخية وما ذلك إلّا لأجل كون الخطاب كتبيا أو شبيها بذلك ، وهو ليس بخطاب لفظي حقيقة ، ولا يحتاج إلى مخاطب حاضر ، و (اما) الأول أعني خطابات الذّكر الحكيم فلان مشكلة الوحي وان كانت عويصة عظيمة قلما يتفق لبشر ان يكشف مغزاه (١) لكنّا مهما شككنا في شيء لا نشك في ان خطابات الله تعالى النازلة إلى رسوله لم تكن متوجهة إلى العباد ، لا إلى الحاضرين في مجلس الوحي ولا الغائبين عنه ولا غيرهم كمخاطبة بعضنا بعضا ضرورة ان الوحي بنص الذّكر الحكيم أعني قوله سبحانه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين انما نزل على شخص رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلام الله وخطاباته لم تكن مسموعة لأحد من الأمة ، بل يمكن ان يقال بعدم وصول خطاب لفظي منه تعالى بلا واسطة إلى رسوله غالبا صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، لأن الظاهر من الا ـ يأت والروايات ان نزول الوحي كان بتوسط أمين الوحي جبريل وهو كان حاكيا لتلك الخطابات منه سبحانه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فليس هنا خطاب لفظي حقيقي إذ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن طرف المخاطبة له تعالى ، ولا المؤمنون المقتفون به ، بل حال الحاضرين في زمن النبي ومجلس الوحي كحال غيرهم من حيث عدم توجه خطاب لفظي من الله سبحانه إليهم.

وبالجملة لو تأملت في ان خطابات الله وكلامه لم تكن مسموعة لأحد من الأمة ، وان الوحي كان بتوسط أمينه بنحو الحكاية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعرف عدم خطاب لفظي من الله لا إلى نبيه ولا إلى عباده بل تلك الخطابات القرآنية كسائر الأحكام الّذي لم يصدر بألفاظ الخطاب من غير فرق بينهما وتكون أشبه بالخطابات الكتابية ،

__________________

(١) إلّا أنّك لو أخفيت الحقيقة من كتاب مصباح الهداية في الولاية والخلافة لسيدنا الأستاذ «دام ظله» ، يسهل لك حل بعض مشاكله ، وهو من أنفس ما الف في هذا المقام ، فحيا الله سيدنا الأستاذ وبياه. «المؤلف»

٤٦

مثل قول القائل (فاعلموا إخواني) و (ح) بما أن تلك الخطابات المحكية باقية إلى زماننا ، ونسبة الأولين والآخرين إليها سواء ، فلا محالة يكون اختصاصها إليهم بلا وجه ، بل اختصاصها إليهم ثم تعميمها إلى غيرهم لغو ، إذ لا وجه لهذا الجعل الثانوي من قوله مثلا ـ ان حكمي على الآخرين حكمي على الأولين ـ بعد إمكان الشمول للجميع على نسق واحد.

بل عدم الدليل على الاختصاص كاف في بطلانه بعد كون العنوان عاما أو مطلقا وبعد كون الخطاب الكتبي إلى كل من يراه امراً متعارفاً كما هو المعمول من أصحاب التأليف من الخطابات الكثيرة ، فظهر ان خطابات القرآن كغيرها في انها ليست خطابات حقيقية.

واما التخلص عن هذا الإشكال بالتمسك بالقضية الحقيقية ، فضعيف جداً لأن الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كل مصداق موجود فعلا أو ما يوجد في القابل ، ومثل ذلك لا يتصور في الخطاب ، إذ لا يمكن ان يتعلق الخطاب بعنوان أو افراد له ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب والخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم ، ومثل ذلك يتوقف على حاضر ملتفت ، والمعدوم والغائب ليسا حاضرين ولا ملتفتين ، و (بالجملة) ما سلكناه من التمسك بالقضية الحقيقية ، في غير الخطابات لا يجري فيها ، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم وجوداً للمخاطب ، ووجودا واقعيا للمخاطب ، والقول بان الخطاب متوجه إلى العنوان كجعل الحكم عليه ، مغالطة محضة ، لأن تصور الخطاب بالحمل الشائع يأبى عن التفوه بذلك ، و (لو اشتهى) أحد إصلاح هذا القسم من هذا الطريق أيضا فلا بدّ ان يتمسك في إثبات شمول الخطاب للمعدوم والغائب ، بان المعدوم نزل منزلة الموجود ، أو غير الشاعر منزلة الشاعر الملتفت كما هو المشهور في مخاطبة الجمادات كما في الشعر :

٤٧

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وفي قول القائل :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

مع انك قد عرفت ان هذا التنزيل ليس لازم القضية الحقيقية وان زعمه بعض الأعاظم ، فلا وجه لارتكاب التكلف والتعسف بالتمسك بالقضية الحقيقية ، ثم الالتزام بتكلف آخر من حديث التنزيل ، وهي بذاتها غير محتاج إليها ، والحاصل ان الإنشائيات بنحو الخطاب ليست من القضايا الحقيقية ، لأن الخطاب العمومي مثل يا أيها الذين آمنوا ، لا يمكن ان يتوجه بنحو الخطاب الحقيقي إلى افراد العنوان حتى يكون كل فرد مخاطبا بالخطاب اللفظي في ظرف وجوده لأن أدوات النداء وضعت لإيجاد النداء لا لمفهومه ، والمخاطبة نحو توجه إلى المخاطب توجها جزئيا مشخصا ، وهو يتوقف على وجود المخاطب الملتفت ، فلو التزمنا على خلاف المختار وقلنا ان خطابات الذّكر الحكيم متوجهة نحو المخلوق ، وان مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل شجرة موسى عليه‌السلام فلا محيص (ح) في شمول الخطابات إلى غير الحاضرين ، من الالتزام بتنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة الموجود والحاضر ، و (لكن) لا يصار إليه إلّا بدليل خارج بعد عدم كونه لازم القضية الحقيقية. فتدبر

في ثمرة البحث

واما ثمرة البحث : فتظهر في موضعين : الأول في ظواهر خطابات الكتابات فعلى القول بالتعميم يكون المشافه وغيره سواء في الأخذ بظواهر الخطاب ويصير حجة للمشافه وغيره ، و (أورد) عليه المحقق الخراسانيّ بان هذه الثمرة مبنية على اختصاص

٤٨

حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وهو باطل ، مع ان غير المخاطبين أيضا مقصودون بها ، و (أجاب) عنه بعض الأعاظم بان الثمرة لا تبتنى على مقالة القمي (ره) فان الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولم تعم غيرهم فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا (انتهى) وفيه ان تسرية ما تضمنته تلك الخطابات إلى الغائبين والمعدومين ليست بنفس تلك الخطابات فقط على القول باختصاصها بالمشافهين الحاضرين ، بل بقاعدة الاشتراك في التكليف الّذي انعقد عليه الإجماع والضرورة (فحينئذ) لو لم نقل بمقالة المحقق القمي (قده) تكون الظواهر قابلة للرجوع إليها لتعيين تكليف المخاطبين وان كانت مخصوصة بالمشافهين لرفض مقالة القمي (ره) فيتمسك في إثباته في حقنا بدليل الاشتراك و «هذا» بخلاف ما لو قلنا بمقالته فظهور الثمرة موقوف على مقالة القمي ، وكأنه (قدس‌سره) تخيل ان اختصاص الخطاب لجماعة يوجب انحطاطه عن جميع المزايا ، حتى لو لم نقل بمقالة القمي كما هو صريح كلامه

«الثاني» صحة التمسك بإطلاق الكتاب بناء على التعميم وان كان غير المشافه مخالفا في الصنف مع تمام المشافهين ، وعدم صحته بناء على الاختصاص ، و (السر) في ذلك هو انه لو قلنا بعدم اختصاصها بهم يكون المشافه وغيره سواء ، ويكون نفس الإطلاق يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الإطلاقات من الأحكام ولو مع اختلاف الصنف ، و (هذا) بخلاف ما لو خصصناها بهم لفقدان الضرورة والإجماع الدالين على الاشتراك في التكليف ، في مورد الاختلاف ، بل لا بد عند التمسك بدليل الاشتراك على القول بالاختصاص ، من إحراز كل ما له دخل في التكليف المتوجه إليهم.

وأورد عليه المحقق الخراسانيّ بأنه يجوز التمسك بأصالة الإطلاق لرفع الشك فيما يمكن ان يتطرق إليه الفقدان ، وان كان لا يجوز ذلك بالنسبة إلى الأمر الموجود الّذي لا يتطرق الفقدان إليه ، لأنه على تقدير شرطيته لا يحتاج إلى البيان ،

٤٩

لأن عدم بيانه لا يوجب نقضا للغرض (هذا) ووافقه شيخنا العلامة في إنكار أصل الثمرة ولكن من طريق آخر وحاصله : انه ليس في الخارج امر يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر أعمارهم ولا يوجد عندنا و (ح) لو احتملنا اشتراط شيء يوجد في بعضهم دون آخرا وفي بعض الحالات دون بعض ، يدفعه أصالة الإطلاق (انتهى) قلت : يمكن ان يقال بظهور الثمرة في التمسك بالآية لإثبات وجوب صلاة الجمعة علينا فلو احتملنا ان وجود الإمام وحضوره شرط لوجوبها أو جوازها يدفعه أصالة الإطلاق في الآية على القول بالتعميم ، ولو كان شرطا كان عليه البيان واما لو قلنا باختصاصه بالمشافهين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما كان يضر الإطلاق بالمقصود وعدم ذكر شرطية الإمام أصلا ، لتحقق الشرط وهو حضوره عليه‌السلام إلى آخر أعمار الحاضرين ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة وليّ العصر عجل الله فرجه فتذكر.

العام المتعقب بالضمير الراجع

 إلى البعض

إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ، هل يوجب ذلك تخصيصه به أولا ، وهذا التعبير لا يخلو من مسامحة ، لأن عود الضمير إلى بعضها ليس مفروغا عنه بل المسلم كون الحكم في مورد الضمير يختص ببعض الافراد جداً ، لا ان الضمير يرجع إلى بعضها والأولى ان يقال : ان تخصيص الضمير بدليل متصل أو منفصل هل يوجب تخصيص المرجع العام أولا ، ثم ان الظاهر من الشيخ الأعظم (قده) ان محط البحث ما إذا كان الحكم الثابت للضمير مغايراً للثابت لنفس المرجع سواء كانا في كلام واحد كما إذا قال أكرم العلماء وخدامهم ، وعلم من الخارج ان المراد هو عدول الخدام وقد يكون في كلامين كما في الآية الشريفة ، وسواء كان الحكمان من سنخ واحد كالمثال الأول أولا ، كالآية الشريفة ، واما إذا كان الحكم واحداً مثل قوله تعالى والمطلقات يتربصن حيث ان حكم التربص ليس لجميعهن فلا نزاع (انتهى).

٥٠

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الحق هو التفصيل (بينما) إذا دل دليل منفصل على ان الحكم غير عام لجميع افراد المرجع بحيث لو لا هذا الدليل المنفصل لكنا حاكمين على التطابق بين العام ومفاد الضمير بحسب الجد ، كما في الآية فان السنة دلت على ان حق الرجوع ليس إلّا للرجعيات دون غيرها و (بينما) إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو لفظية حافة بالكلام مثل قوله أهن الفساق واقتلهم ، حيث علم المتكلم بضرورة الشرع ان مطلق الفساق لا يجوز قتلهم فكيف وجوبه ، فالحكم مخصوص بالمرتد أو الحربي فهي قرينة متصلة أو تشبهها ، (هذا) ويحتمل ان يكون النزاع مخصوصا بالأول ، كما يشعر به التمثيل ، وظاهر كلام المحقق الخراسانيّ في ذيله يشهد على التعميم.

وخلاصة التفصيل بينهما هو انه يوجب الإجمال في الثاني دون الأول وتوضيحه ان الأمر في الأول دائر بين تخصيص واحد وأزيد ولا ريب ان الثاني هو المتعين ، إذ الدليل المنفصل دل على ان الحكم في ناحية الضمير مختص ببعض افراد المرجع بحسب الجد ، وهو لا يوجب تخصيص المرجع واختصاص حكمه ببعض افراده جداً

وبالجملة : كل من الضمير في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن وكذلك المرجع قد استعملا في معانيهما ، بمعنى انه أطلق المطلقات وأريد منها جميعها ، وأطلق لفظة «بردهن» وأريد منها تمام افراد المرجع ، ثم دل الدليل على ان الإرادة الاستعمالية في ناحية الضمير لا توافق الإرادة الجدية ، فخصص بالبائنات وبقيت الرجعيات بحسب الجد ، و (ح) لا معنى لرفع اليد عن ظهور المرجع لكون المخصص لا يزاحم سوى الضمير دون مرجعه ، فرفع اليد عنه رفع عن الحجة بلا حجة ، وبما ذكرنا يظهر ضعف ما يظهر في بعض الكلمات من ان الأمر دائر بين تخصيص المرجع والاستخدام في الضمير ، لأن ذلك يخالف ما عليه المحققون من المتأخرين من ان التخصيص لا يوجب مجازية المخصص (بالفتح) فالضمير لم يستعمل الا في الإشارة إلى تمام افراد المرجع ، والتخصيص وارد على الإرادة الجدية وانه لا يوجب التصرف في ظهور العام ، (أضف) إلى ذلك ان حديث الاستخدام والمجازية في الإسناد أو اللفظ ، لو صح في العمومات ، فهو غير صحيح في المقام لأن الضمائر كما تقدم وضعت لنفس الإشارة الخارجية

٥١

فلا بدّ لها من مشار إليه وهو هنا مفقود ، لأن المذكور هو المطلقات وهي ليست مشاراً إليها وما هو المشار إليه أعني ـ الرجعيات ـ فغير مذكورة ، فكيف يشار بالضمير إليها والقول بمعهوديتها ، كما ترى ، (هذا) كما ان المجاز على تفصيل قد عرفته ، متقوم بالادعاء وهو لا يناسب هذه المقامات إذ ليس المقام مقام مبالغة حتى يدعى ان الرجعيات تمام المطلقات فالبحث عن الاستخدام والمجاز وتخصيص المرجع وبيان الترجيح بينها ، ساقط من أصله ، وما في كلام المحقق الخراسانيّ في وجه الترجيح من ان أصالة العموم حجة إذا شك في أصل المراد ، لا فيما إذا شك في انه كيف أراد (وان كان متينا) في نفسه إلّا انه أجنبي عن المقام ، إذ الشك هنا في أصل المراد ، لأنا نشك في ان تخصيص الضمير هل يوجب تخصيص المرجع أولا ، وقد اعترف (قدس‌سره) بجريانها في هذه الموارد على ان الدوران على فرضه (قدس‌سره) بين الظهور السياقي والتخصيص ، فراجع تمام كلامه.

واما الإجمال في القسم الثاني فلان المخصص (بالفتح) من أول الإلقاء محفوف بما يصلح ان يكون قرينة على تخصيصه ، فلا يجري التمسك بالأصل لعدم إحراز بناء العقلاء بالعمل بهذه الأصول وإجراء التطابق بين الإرادتين في مثل ما حف الكلام بما يصلح للاعتماد عليه ، فصحة الاحتجاج بمثل أهن الفساق واقتلهم علي وجوب إهانة الفساق من غير الكفار مشكلة.

تخصيص العام بالمفهوم

قد نقل غير واحد الاتفاق على جواز تخصيص العام بالمفهوم الموافق ، واختلافهم في جوازه بالمخالف ، ولكن هذا الإجماع لا يسمن ولا يغنى من جوع ، فلا بد في تمحيص الحق من افراد كل واحد للبحث ، و (عليه) يقع الكلام في مقامين ، (الأول) في تفسير الموافق من المفهوم وجواز التخصيص به. فنقول : اختلفت فيه تعبيراتهم ، ونحن نذكر الأقوال والاحتمالات في تفسيره ، (الأول) ما يعبر عنه في لسان المتأخرين بإلغاء الخصوصية وإسراء الحكم لفاقدها كقول زرارة أصاب ثوبي دم رعاف ، وقول القائل

٥٢

رجل شك بين الثلث والأربع ولا شك في ان العرف يرى ان الموضوع هو الدم وذات الشك ، ولا دخالة لثوب زرارة أو دم الرعاف كما لا دخل للرجولية ، (الثاني) المعنى الكنائي الّذي سيق الكلام لأجله ، مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق ، ولا يبعد ان يكون منه قوله سبحانه ـ ولا تقل لهما أف ـ فهو كناية عن حرمة الإيذاء من الشتم والضرب ، ولكن الأفّ غير محرم (الثالث) هذه الصورة ، ولكن المنطوق أيضا محكوم بحكم المفهوم ، كالآية المتقدمة على وجه وهو فرض كون الأفّ محرما أيضا فأتى المتكلم بأخف المصاديق مثلا للانتقال إلى سائرها (الرابع) الأولوية القطعية ، وهو الحكم الّذي لم يذكر لكن يقطع به العقل بالمناط القطعي من الحكم المذكور كما في قول القائل (أكرم) خدام العلماء حيث يقطع منه لوجوب إكرام العلماء وهذا ما يعبر عنه بالمناسبات العقلية بين الموضوع ومحموله ، وهو رائج بين المتأخرين ، (الخامس) الحكم المستفاد من العلة الواردة في الاخبار كقوله مثلا لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، وكيف كان فالجامع بين هذه الاحتمالات هو ان المفهوم الموافق حكم غير مذكور في محل النطق ، موافق للحكم في محل النطق على فرضه في الإيجاب والسلب ، ولا يبعد ان يكون محط البحث فيما إذا كان المفهوم أخص مطلق من العام ، لا ما إذا كان بينهما عموم من وجه وان كان الظاهر من بعضهم خلافه وسيأتي بيانه.

واما جواز التخصيص به وعدمه ، فالظاهر جواز التخصيص به فيما عدى الرابع إذا كان المفهوم أخص منه مطلقا ضرورة ان المفهوم على فرض وجوده حجة بلا إشكال فيكون حكمه حكم المنطوق ويكون حاله حال اللفظ الملقى إلى المخاطب فيخصص به العام بلا ريب ، واما إذا كان بينهما عموم من وجه فيعامل معهما حكمهما المقرر في محله ، ولعل وضوح الحكم في تقديم الخاصّ على العام ، أوجب كون المسألة اتفاقية ، و «اما الرابع» أعني ما يكون فيه مدار الاستفادة هو المناط العقلي القطعي فربما يقال بتقدم المفهوم على العام ، وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه إذا كان المعارض نفس المفهوم مستدلا بان الأمر دائر بين رفع اليد عن العام وبين رفعها عن المفهوم فقط أو عنه وعن المنطوق لا سبيل إلى الثالث لأن المنطوق لا يزاحم

٥٣

العام على الفرض ، والثاني ممتنع عقلا ، لأنه كيف يمكن رفع اليد عن الأقوى مع إثباتها على الأضعف على ان رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرف في المنطوق غير ممكن للزوم التفكيك بين اللازم والملزوم فان المفروض لزومه له بنحو الأولوية ، فحينئذ يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم ، (انتهى).

قلت : لو فرضنا ان مقتضى القواعد هو لزوم تقديم العام على المفهوم لكونه في عمومه أظهر من اشتمال القضية على المفهوم لا يكون رفع اليد عن المفهوم والمنطوق بلا وجه ، اما رفعها عن المفهوم فواضح لأن المفروض انه مقتضى القواعد لكونه في عمومه أظهر ، وان كانت النسبة عموما من وجه ، واما رفع اليد عن حكم المنطوق بمقداره فلان تقديم العام على المفهوم يكشف عن عدم تعلق الحكم بالمنطوق وإلّا يلزم التفكيك بين المتلازمين.

وبالجملة ان رفع اليد عن المفهوم لأجل أقوائية العام يوجب رفع اليد عن المنطوق بمقداره لحديث الملازمة ، والمعارضة وان كانت بين العام والمفهوم أولا وبالذات ، لكن تتحقق أيضا بينه وبين المنطوق ثانيا وبالعرض ، ورفع المحذور العقلي كما يمكن بتخصيص العام كذلك يمكن برفع اليد عن حكم المنطوق والمفهوم ، وقد يقال كما عن بعض الأعاظم قدس الله روحه بعدم إمكان كون المفهوم معارضا للعام دون منطوقه ، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وانه سيق لأجل الدلالة عليه ، ومعه كيف يعقل ان يكون المنطوق غير معارض للعام مع كون المفهوم معارضا له ، فالتعارض في المفهوم الموافق يقع ابتداء بين المنطوق والعام ، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام ، ولا بد أولاً من علاج التعارض بين المنطوق والعام ، ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام ، (انتهى).

وفيه : انه ربما يكون بين المنطوق والعام تباين كلي كما إذا قال أكرم الجهال من خدام النحويين ، ثم قال لا تكرم الصرفيين فان المستفاد من الأول وجوب إكرام النحويين بالأولوية فبين المنطوق وهو وجوب إكرام الجهال من خدام النحويين والعام أعني وجوب إكرام علماء الصرف تباين ، مع ان بين مفهومه الموافق وهو

٥٤

وجوب إكرام علماء النحو ، ونفس العام أعني لا تكرم الصرفيين عموم من وجه ، إذ الصرفي والنحوي قد يجتمعان وقد يفترقان (فحينئذ) إذا كان المنطوق أجنبيا عن العام ، وكان التعارض ابتداء بين العام والمفهوم مع كون النسبة بينهما عموما من وجه (فلا محيص) من علاج التعارض ابتداء بين العام والمفهوم لكون التعارض بينهما بالذات ويتبعه العلاج بين المنطوق والعام لكون التعارض بينهما بالعرض ، إذ ليس بين وجوب إكرام الجهال من خدام النحويين ، وبين حرمة إكرام الصرفيين تعارض بدءاً فلو ـ فرضنا تقدم العام على المفهوم حسب القواعد يتبعه رفع اليد عن المنطوق لا محالة بمقداره (هذا حال هذا القسم من المنطوق والمفهوم)

 واما إذا كان التعارض بين المنطوق والعام ، فان كان الأول أخص منه مطلقا ، فيقدم على العام بلا إشكال ويتبعه تقدم المفهوم على العام مطلقا سواء كانت نسبة المفهوم إلى العام عموما مطلقا أو عموما من وجه ، و (السر) هنا هو انه يمتنع رفع اليد عن المفهوم بعد لقطع بالتلازم ، فإذا فرضنا تقدم المنطوق على العام لكونه خاصا ، يستتبعه تقدم المفهوم عليه أيضا بأي نسبة اشتملت للقطع بالتلازم بين التقدمين ، و (الحاصل) ان عدم تقديم المفهوم على العام حتى فيما إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه إذا كان المنطوق أخص مطلقا من العام ، يستلزم اما تفكيك أحد المتلازمين عن الآخر إذا خصصنا بالمنطوق دون المفهوم أو عدم تقديم الخاصّ على العام ، إذا لم نخصصه بالمنطوق أيضا مع انه بالنسبة إلى العام خاص مطلق وأظن انك إذا تدبرت تعرف الفرق الواضح بين هذا القسم ، وما تقدم بحثه آنفا ، لأن البحث هاهنا فيما إذا كان التعارض بين العام والمنطوق وكان الثاني أخص من الأول مطلقا ، فلا محالة يقدم عليه ، ولأجل تقدمه يقدم المفهوم لحديث التلازم ، وإلّا يلزم أحد المحذورين المتقدمين ، و (لكن) البحث هناك فيما إذا كان التعارض بين العام والمفهوم ابتداءً وكانت النسبة بينهما عموما من وجه ، لا عموما مطلقا ، إذ هو خارج عن محط البحث فقد ذكرنا انه لا وجه لتقديم المفهوم والحال هذه كما لا وجه للاستدلال على هذا التقديم بمجرد كون المنطوق موافقا له ، بل ما لم يرفع

٥٥

التعارض بين العام والمفهوم لا يتعين حكم المنطوق ، فلو ألزمنا القواعد تقديم العام على المفهوم ، لقدمناه على المفهوم والمنطوق بلا تصور مانع فتذكر

هذا : ولو كان التعارض بين المنطوق والعام أيضا ولكن كان النسبة عموما من وجه فيعامل معاملتهما ، ومع تقديمه على العام بحسب القواعد أو القرائن يقدم المفهوم أيضا لما عرفت.

المقام الثاني في المفهوم المخالف ، وظاهر عناوين القوم يعطى ان النزاع فيما إذا فرغنا عن اشتمال القضية على المفهوم كما فرغنا عن وجود عام مخالف للمفهوم سواء كان النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا نحو قولك أكرم العلماء ، وإذا جاءك زيد لأنهن فساق العلماء أم كانت عموما من وجه كما إذا قلت أكرم العلماء ـ وان جاءك زيد أكرم الفساق ـ ولعل جعل محط البحث أعم ، لأجل ان أقوائية عموم العام يضعف ظهور اشتمال القضية على المفهوم وان كان المفهوم أخص مطلق منه ، وهذا لا ينافى اشتمال القضية في حد ذاتها على المفهوم (هذا) ويظهر من شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، وبعض الأساطين ان البحث هنا عند القدماء هو البحث في باب الإطلاق والتقييد ، والكلام في تخصيص العام بالمفهوم ، مرجعه عندهم إلى تقييد العام بالقيد المذكور في القضية ومثل له بقوله عليه‌السلام خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء وقوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء ، فان الأول يدل على ان تمام الموضوع للاعتصام هو نفس الماء ، ودل الثاني على ان للكرية دخلا فيه فآل التعارض إلى تعارض الإطلاق والتقييد ، فيحكم القيد على الإطلاق ، و (لكن) هذا خروج عن عنوان البحث الدائر بلا دليل وكيف كان فالنسبة بينهما (تارة) تكون عموما مطلقا و (أخرى) عموما من وجه وعلى أي تقدير ربما يقعان في كلام واحد متصل وقد يقعان في كلامين منفصلين ، وخلاصة الكلام هو ان النزاع في تقديم العام على المفهوم المخالف أو في عكسه انما هو إذا لم يعارض العام نفس المنطوق.

(فحينئذ) إذا كانت دلالة القضية على المفهوم بالدلالة الوضعيّة مثل دلالة العام على عمومه ، فلا محالة يقع التعارض بين الظاهرين ، فمع عدم

٥٦

الترجيح يرجع إلى اخبار العلاج أو يحكم بالإجمال ، من غير فرق بين كونهما في كلام واحد أو كلامين ، وان كانت استفادة المفهوم بمقدمات الحكمة فلو كانا في كلام واحد فلا محيص عن رفع اليد عن المفهوم ، لانثلام مقدماتها ، فان جريانها معلق على عدم البيان ، والظهور المنجز أعني العام بيان له أو صالح للبيانية ، ولو كانا منفصلين ، يصيران متعارضين ، ولا ترجيح للظهور الوضعي على الإطلاقي في مثله.

هذا كله على المختار من كون دلالة اللفظ على العموم وضعية ، ولا يستفاد العموم من الإطلاق ، ولو قلنا بإمكان استفادة العموم من الإطلاق أيضا ، وفرضنا دلالة القضية على المفهوم أيضا بالإطلاق ، فهل المرجع هو التساقط والإجمال ، وقعا في كلام واحد أولا ، أو يقدم المفهوم على العام ، وجهان ، والمختار عند بعضهم هو الثاني حيث قال : ان المناط في المفهوم ان يكون التقييد راجعاً إلى الحكم لا إلى الموضوع والقضية الشرطية بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم لأنها وضعت لتقييد جملة بجملة ، تكون حاكمة على مقدمات الحكمة ، فظهورها في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في العام ، وكون القضية ذات مفهوم وان كانت بمقدمات الحكمة ، إلّا ان المقدمات الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على ان المراد من العام هو الخاصّ ، والعام لا يصلح ان يكون قرينة على ان الشرطية سيقت لغرض وجود الموضوع فلا بدّ فيه من دليل يدل عليه هذا إذا كان المفهوم أخص مطلقا (انتهى)

 وفيه : ان إناطة الجزاء بالشرط وان كانت مستفادة من الوضع إلّا انها ليست مناط استفادة المفهوم بل مناطه هو استفادة العلة المنحصرة من الشرط ، والمفروض ان الدال عليها هو الإطلاق كما ان الدال عليه أيضا هو الإطلاق فلا وجه لجعل ـ أحدهما بيانا للآخر ، وجريان مقدمات الحكمة في العام لا يوجب رجوع القيد إلى الموضوع حتى يقال انه لا يصلح لذلك بل يمنع عن جريانها في الشرطية لإثبات الانحصار ، وما ذكره من ان جريانها في المفهوم بمنزلة القرينة للعام لا يرجع إلى محصل

٥٧

تخصيص الكتاب بالآحاد

الحق جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، بعد ما ثبت في محله ان المدرك الوحيد في حجيته هو بناء العقلاء على ذلك من دون ان يصدر عن الشارع تأسيس ولا إعمال تعبد ، وما ذكر من البناء لا يأبى عن القول بتقديمه على العموم الكتابي ، وان كان ظني السند ، والآخر قطعي المدرك بعد إحراز التوفيق بينهما في محيط القانون ومركز جعل الأحكام.

ومجرد اختلافهما فيما ذكر لا يوجب رفع اليد عنه والمصير إلى العموم ، لعدم وقوع التعارض بين السندين حتى يتخيل الترجيح ، بل بين الدلالتين ، وهما سيان ، ولذلك يخصص القائل بالمنع في المقام بخبر الآحاد الاخبار المتواترة مع اشتراكها في القطعية مع الكتاب الكريم ، وما ورد من ان ما خالف كتاب الله زخرف أو لم نقله ، أو باطل وغير ذلك من التعابير لا يمكن الاستشهاد به ، إذ لازمه عدم جواز التخصيص بالخبر المتواتر لكون لسان تلك الاخبار آبية عن التخصيص جداً ، والحل هو ان التعارض بالعموم والخصوص وان كان يعد من التعارض الحقيقي ، إذ الموجبة الكلية نقيضه السالبة الجزئية ، ولكن العارف بأصول الجعل والتشريع وكيفيته ، من تقديم بعض وتأخير آخر وان محيط التشريع يقتضى ذلك بالضرورة ، سوف يرجع ويعترف بالتوافق والجمع في هذه الاختلاف ، وقد أقر الأمة جميعاً على ان في نفس الآيات مخصصات ومقيدات تقدم بعضه بعضا من دون ان يختلف فيه اثنان ، مع عدم عد ذلك تناقضا وتهافتا في الكتاب ولا منافياً لقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وليس ذلك إلّا عدم عد التقييد والتخصيص اختلافا وتناقضا في محيط التشريع والتقنين فلا بدّ من إرجاع تلك الاخبار إلى المخالفات الكلية التي تباين القرآن وتعارضه وكان باب الافتراء من خصماء الأئمة عليهم‌السلام مفتوحا عليهم بمصراعيه ، وكانوا يدسون في كتب أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام وكانت الغاية للقالة والجعل هو ان يثبتوا عند الناس انحطاط مقاماتهم بالأكاذيب الموضوعة حتى يرجع الناس عن بابهم ، وغير ذلك من الهوسات فما قيل ان الدس منهم لم يكن بنحو التباين الكلي والتناقض في غير محله.

٥٨

الاستثناء المتعقب للجمل

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة هل يرجع إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور فيه وان كان الرجوع إلى الأخيرة متيقناً وتفصيل القول فيه يقع في مقامين.

الأول في إمكان الرجوع إلى الجميع ، الظاهر إمكان رجوعه إلى الجميع بلا فرق بين ان يكون آلة الاستثناء حرفا أو اسما ، وبلا فرق بين ان يكون المستثنى علما أو وصفا مشتقا ، اما (آلة الاستثناء) ، فلو قلنا ان الموضوع في الحروف كالأسماء عام فلا إشكال أصلا ، وان كان خلاف التحقيق ، واما على المختار من ان الموضوع له في الحروف ، خاص فربما يقال من انها على هذا الفرض موضوعة للإخراج بالحمل الشائع فيلزم من استعمالها في الإخراجات استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو في الحروف أشكل ، لأنها آلات لملاحظة الغير فيلزم ان يكون شيء واحد فانيا في شيئين أو أكثر ، (أقول) ان الأمر في الحروف أسهل من الأسماء بحيث لو ثبت الجواز في الثانية لثبت في الأولى بلا ريب ، لما تقدم في مقدمة الكتاب من ان دلالة الحروف على التكثر والوحدة تبعي كأصل دلالته على معناه ، فلو فرضنا صدق المدخول على أكثر من واحد ، لسرى التكثر إلى الحروف تبعا فراجع (أضف إليه) انه يمكن ان يقال ان أداة الاستثناء بإخراج واحد يخرج الكثيرين ، فلو قال المتكلم ، أكرم العلماء وأضف التجار الا الفساق منهم ، فهو إخراج واحد للفساق القابل للانطباق على فساق العلماء والتجار فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنى فتدبر.

واما المستثنى فربما يستشكل فيما إذا كان المستثنى مثل زيد مشتركا بين اشخاص ، ويكون في كل جملة شخص مسمى بزيد ، فإخراج كل منهم بلفظ واحد مستلزم للمحذور المتقدم.

والجواب قد مر جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع عدم لزومه هنا

٥٩

أيضا لإمكان استعماله في مثل المسمى الجامع بين الافراد انتزاعا فلا يلزم الإشكال في الإخراج ولا في المخرج.

المقام الثاني في حاله إثباتاً : ، فهناك صور وأقسام يختلف الحكم باختلافها ، (منها) ما إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الأولى ، وعطف سائر الجمل عليها مشتملا على الضمير الراجع إليه ، واشتمل المستثنى أيضاً على الضمير ، مثل قولك ـ أكرم العلماء وسلم عليهم وألبسهم الا الفساق منهم ـ فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع ، و (وجهه) ان الضمائر كأسماء الإشارة ، وضعت لنفس الإشارة إلى الغائب (فحينئذ) إذا اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شيء ، ولم يكن في الجمل شيء صالح للإشارة إليه الا الاسم الظاهر المذكور في صدرها واما سائر الجمل فلا تصلح لإرجاع الضمير إليها لعدم إمكان عود الضمير إلى الضمير فإذا رجع ضمير المستثنى إلى الاسم الظاهر يخرجه عن تحت جميع الأحكام المتعلقة به ، ويؤيده فهم العرف أيضا

 وبالجملة ان الأحكام المتواردة على الضمائر ، متواردة على الاسم الظاهر حقيقة ، لكون عمل الضمائر هو نفس الإشارة إلى الغائب والمثال المذكور يئول حقيقة إلى قولنا أضف وأكرم وسلم العلماء والاستثناء ورد على هذا الظاهر ، والفساق من العلماء قد خرجوا عن موضوع الحكم فلا محالة ينسلخ عنهم عامة الأحكام

 فان قلت ان إخراج الفساق عن العلماء كما يمكن ان يكون بما لهم من الأحكام ، يمكن ان يكون بما لهم حكم التسليم (قلت) ما ذكرت تدقيق صناعي لا يتوجه إليه العرف الساذج ، وهو لا يفرق بين حكم وحكم بعد التفاته ، إلى ان فساق العلماء خرجوا عن الموضوعية للحكم ، (بل ما ذكرنا بيان مناسبة لإرجاعه الاستثناء إلى الجميع لا برهان عليه) فتدبر.

ومنها : هذه الصورة أيضا ، ولكن المستثنى غير شامل للضمير العائد إلى الاسم الظاهر كما إذا قال في المثال المتقدم (الا بنى فلان) والظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع أيضا اما على القول بان الضمير في مثله منوي فواضح واما إذا لم نقل بتقديره فيه ، فلان الضمائر في سائر الجمل غير صالحة لتعلق الاستثناء بها فانها بنفسها غير محكومة

٦٠