تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

المقصد الرابع في العام والخاصّ

وفيه فصول وقبل الخوض فيها نقدم البحث عن أمور :

الأول ان القوم عرفه بتعاريف عديدة ، وجاء عدة منهم ناقش في عكسه وطرده ولكن لا طائل في البحث عنها ، ولننبه على امر يتضح في خلاله حال العام وتعريفه ، وهو ان القوم رضوان الله عليهم ، لا يزالون على خلط دائر بين كلماتهم حيث قسموا العموم إلى وضعي وإطلاقي مع ان باب الإطلاق غير مربوط بالعموم.

توضيحه ان الطبيعة الصرفة كما لا يوجب تصورها إلّا الانتقال إلى ذاتها اللابشرط من دون إراءة مشخصاتها وقيودها الصنفية ، كذلك اللفظ الموضوع مقابل هذه الطبيعة لا يدل الأعلى ذات الماهية المجردة من كل قيد لأن الحكاية الاعتبارية الوضعيّة دائر مدار الوضع سعة وضيقاً ، والمفروض ان الوضع لم ينحدر الأعلى ذات الطبيعة بلا انضمام قيوده وعوارضه ، فلا محالة ينحصر دلالته عليها فقط ولا يحكى ولا يكشف عن الافراد وعوارضها ولوازمها أصلا.

١

وبعبارة أوضح : كما ان نفس الطبيعة لا يمكن ان تكون مرآة وكاشفة عن الافراد (سواء كان التشخص بالوجود والعوارض أماراته أو كان بالعوارض) ، ضرورة ان نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخص وسائر عوارضها ، ذهنية كانت أو خارجية ، ولا يمكن كاشفية الشيء عما يخالفه ، فالماهية لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافة به (فكذلك) الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط ، كأسماء الأجناس وغيرها لا تكون حاكية الا عن نفس الطبائع الموضوعة لها ، فالإنسان لا يدل إلّا على الطبيعة بلا شرط وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به.

فان قلت : ان الطبيعة كما يمكن ان تلاحظ مهملة جامدة ، فهكذا يمكن ان تلاحظ سارية في افرادها دارجة في مصاديقها كما هو الحال في القضية الحقيقية فهي على فرض السريان عين كل فرد في الخارج ومتحدة معه في وعائه فتصور هذه عين تصور ذاك لأن المفروض ان الطبيعة لوحظت لا بما هي هي بل بما هي موجودة في الخارج وانها عين الافراد

 قلت : ان ذا من العجب وهو خلط بين الانتقال والحكاية ، إذ مجرد الاتحاد لا يوجب الحكاية والمرآتية وإلا كانت الاعراض حاكية عن جواهرها لأن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، والمتحدات في الخارج حاكية بعضها عن بعض والحاصل ان مفهوم الإنسان مع قطع النّظر عن عالم اللفظ والوضع عبارة عن طبيعة منحلة إلى جنسه وفصله عند التحليل لا غير ، فلنفس المفهوم ضيق ذاتي لا يكشف عن العوارض والخصوصيات ، فلو فرضنا وضع لفظ لتلك الطبيعة فهو لا يمكن ان يحكى الا عما وضع بإزائه لا غير واتحاد الإنسان خارجا مع الافراد لا يقتضى حكايتها لأن مقام الدلالة التابعة للوضع غير الاتحاد خارجا إذا عرفت ذلك فنقول :

ان حقيقة الإطلاق انما يتقوم بوقوع الشيء كالطبيعة موضوعا للحكم بلا قيد واما العموم فهو يتقوم بشيئين (أحدهما) نفس الطبيعة و (ثانيهما) ما يدل على العموم والشمول مثل لفظة كل والجميع والألف واللام مما وضعت للكثرات أو تستفاد منه الكثرة لجهة أخرى ، فإذا أضيفت هذه المذكورات إلى الطبائع أو دخل بها وصارتا ككلمة

٢

واحدة كما في الألف واللام تستفاد منهما الكثرة بتعدد الدال والمدلول ، فإذا قلت كل إنسان ناطق فلفظة إنسان تدل على الطبيعة الصرفة من دون ان تكون حاكية عن الكثرة والافراد ، أو تكون الطبيعة المحكية به مرآة لها ، وكلمة «كل» تدل على نفس الكثرة والتعدد ، وإضافتها إليها تدل علي ان هذه الكثرة ، هو كثرة الإنسان لا كثرة طبيعة أخرى وهي الافراد بالحمل الشائع ، وقس عليه العام المجموعي أو البدلي ، إذ كل ذلك انما يستفاد من دوال أخر غير ما يدل على الطبيعة كلفظة (مجموع) كما تقدم ذكر منه في بحث الواجب المشروط ويأتي إن شاء الله بيانه.

فظهر : مما ذكرنا امران (الأول) ان باب الإطلاق غير مربوط بباب العموم وانه لا جامع بينهما حتى نلتمس في وجه الافتراق ، إذ الغاية من إثبات الإطلاق إحراز كون الطبيعة مثلا تمام الموضوع للحكم من غير قيد واما الاستغراق والبدل ونحوهما فلا يمكن استفادتها من الإطلاق إذ الإطلاق لا يتعرض للكثرة حتى يبحث عن كيفيتها ، واما العموم فهو المقيد للكثرة وكيفيتها ، وعلى هذا يصح ان يعرف العام بأنه ما دل على تمام مصاديق مدخوله مما يصح ان ينطبق عليه ، (واما) تعريفه بأنه ما دل على شمول مفهوم لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه ، فلا يخلو من مسامحة ضرورة ان الكل لا يدل على شمول الإنسان لجميع افراده (والخطب بعد سهل).

الثاني : إذا أمعنت النّظر فيما ذكرناه من انه لا جامع قريب بين باب الإطلاق والعموم ، يظهر النّظر فيما أفاده شيخنا العلامة وبعض الأعاظم (قدس‌سرهما) من ان العموم قد يستفاد من دليل لفظي كلفظة كل ، وقد يستفاد من مقدمات الحكمة ، والمقصود بالبحث في هذا الباب هو الأول والمتكفل للثاني هو مبحث المطلق والمقيد (انتهى ملخصا) وهو صريح في ان العام على قسمين ، قسم يسمى عاما وفي مقابله الخاصّ ويبحث عنه في هذا المقام وقسم يسمى مطلقا وفي مقابله المقيد ويبحث عنه في باب المطلق والمقيد.

أقول ما أفاداه لا يخلو من غرابة لأن ملاك العام غير ملاك المطلق والمستفاد من الأول غير المستفاد من الآخر ، إذ حقيقة العام وكيفية دلالته قد عرفت بما يسعه

٣

المجال ، واما المطلق فهو وقوع الطبيعة تمام الموضوع للحكم باعتبار كون المقنن عاقلا غير ناقض لغرضه في مقام إعطاء الدستور ، وان شئت قلت : كون الطبيعة موضوعاً للحكم بصرافتها وإطلاقها من دون ان يقيد بوقت دون وقت أو بأمر دون امر ، فموضوع الحكم في العام هو افراد الطبيعة وفي المطلق هو نفسها بلا قيد ولم تكن الافراد بما هي موضوعاً للحكم ، وان شئت فاستوضح الفرق بين العام والمطلق من قوله سبحانه (أوفوا بالعقود) وقوله عزوجل (أحل الله البيع) فان مفاد الأول هو التصريح بوجوب الوفاء بكل مصداق من العقد فمصب الحكم هو الافراد بآلية الجمع المحلى بالألف واللام مثلا ، ومفاد الثاني بناء على الإطلاق وتمامية المقدمات ، إثبات النفوذ والحلية لنفس طبيعة البيع من غير ان يكون للموضوع كثرة ، واما استكشاف صحة هذا الفرد الخارجي من البيع فانما هو لأجل انطباق ما هو تمام الموضوع للحلية عليه من دون ان يتعرض نفس الدليل للكثرة وسيوافيك مزيد بيان لذلك عن قريب بإذنه تعالى.

الثالث : ربما يقال : ان استفادة العموم في جميع المقامات يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة لأن الألفاظ المقيدة للعموم تابعة لمدخولها فإذا أخذ المدخول مطلقا يدل على تمام افراده بنحو الإطلاق ، وإذا أخذ مهملا أو مقيداً يدل على استيعابه كذلك ، ومثلها «لا» النافية إذ هي موضوعة لنفي الطبيعة سواء كان مطلقة أو مهملة وإحراز كونها نافية بصرافتها يحتاج إلى إجراء مقدمات الحكمة.

وفيه انه غير متين جداً لو أريد من إجراء المقدمات إثبات كون كل فرد موضوع للحكم لأن الاحتياج إلى الإطلاق ومقدماته فيما إذا لم يكن في الكلام دلالة لفظية على ان كل واحد ، موضوع للحكم حتى يثبت الإطلاق كون كل فرد موضوعا على مبنى القوم في باب الإطلاق ، واما إذا توصل إليه المتكلم بالأدوات الموضوعة له فلا حاجة إليه ، (وبعبارة ـ ثانية) : ان موضوع الإطلاق هو الطبيعة وإذا جرت مقدماته يستكشف ان تمام الموضوع هي نفسها دون قيد معها ، وموضوع العام هو افراد الطبيعة لا نفسها كما عرفت من قوله سبحانه

٤

(أوفوا بالعقود) وعليه يكون جريان المقدمات في استفادة العموم لغواً عاطلا ، لأن المقدمات تجري بعد تعلق الحكم والمفروض ان الحكم متعلق بالافراد لأن لفظ كل وغيره يدل على استغراق المدخول (فحينئذ) هذه الألفاظ دالة على الاستغراق بحكم أوضاعها جرت المقدمات أولا

(أضف) إلى ما ذكرنا ان ألفاظ العموم موضوعة للكثرة لغة وإضافتها إلى الطبيعة تفيد الاستغراق وتعلق الحكم متأخر عنه ، (فحينئذ) جريان المقدمات متأخر برتبتين فلا يعقل توقفه عليه.

(نعم) لو كان الغرض من إجرائها هو دفع احتمال دخالة بعض حالات الفرد وأوقاته ، فالحق انه يحتاج في دفعه إلى التمسك به وسيوافيك ان مصب الإطلاق (تارة) يكون نفس الطبيعة باعتبار قيودها وصنوفها و (أخرى) يكون الفرد الخارجي باعتبار حالاته (فانتظر)

 والحاصل ان دخول ألفاظ العموم على نفس الطبيعة المهملة يدل على استغراق افرادها ومعه لا حاجة في جانب الافراد إلى التمسك به ويشهد لما ذكرنا قضاء العرف بذلك ، وأنت إذا تفحصت جميع أبواب الفقه وفنون المحاورات لا تجد مورداً يتوقف فيه العرف في استفادة العموم من القضايا المسورة بألفاظه من جهة عدم كون المتكلم في مقام البيان كما يتوقفون في المطلقات إلى ما شاء الله (والعجب) ممن يرى ان الإطلاق بعد جريان المقدمات يفيد العموم ومعه ذهب إلى لزوم جريانها في العموم ، مع ان لازمه لغوية الإتيان بألفاظ العموم.

الرابع : ينقسم العموم إلى العموم الاستغراقي والمجموعي والبدلي واما الإطلاق فلا يأتي فيه هذا التقسيم ولا يمكن إثبات واحد منها بمقدمات الحكمة (اما انقسام العموم) فلان اللفظ الدال على الكثرة والشمول ان دل على مصاديق الطبيعة وافرادها عرضاً بحيث يكون كل واحد محطا للحكم ، لا واحد منها لا بعينه ، ولا يكون الافراد ملحوظة بنعت الاجتماع ، فهو العام الاستغراقي ، كما في لفظ الكل والجميع والتمام ، فان قولنا كل إنسان وأشباهه يدل على تمام افراد مدخولها ، بنحو كل واحد واحد

٥

لا باعتبار اجتماعها وصيرورتها موضوعا واحداً كما في العام المجموعي ، ولا باعتبار كون شموله عليها بنحو البدلية كما في العام البدلي بل بنحو العرضية في شموله لها (واما) إذا اعتبرت مع شموله لها بنحو العرضية ، صفة الوحدة والاجتماع في الافراد فتعرضها الوحدة الاعتبارية بحيث يصير الافراد بمنزلة الاجزاء حكما (فلا محالة) يصير العام مجموعيا ولعل اللفظ المفيد له هو لفظ مجموع ولذا اختص هذا اللفظ به ارتكازا فقولك أكرم مجموع العلماء يفيد ثبوت الحكم على الافراد بنحو العرضية مع اعتبار صفة الإجماع (واما) إذا كان تعلق الحكم بها لا بنحو العرضية في الشمول بل بنحو البدلية ، فهو عام بدلي ، واللفظ المفيد له هو لفظة (أي) استفهامية كانت أو غيرها فالاستفهامية مثل قوله سبحانه : فأي آيات الله تنكرون ، أيكم يأتيني بعرشها ، وغير الاستفهامية مثل قوله أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسني وقولك اذهب من أيّ طريق أردت ، (فهذه الكلمة) بوضعها اللفظي يدل على العموم البدلي ، وقد عرفت ان العموم عن مداليل الألفاظ ، (هذا) كله راجع إلى انقسام العموم.

واما عدم انقسام الإطلاق إليها فأوضح من ان يخفى ، لما عرفت ان غاية ما يثبته الإطلاق كون ما أخذ موضوعا ، تمام الموضوع فقط ، والحاكم بذلك هو العقل ، واما كون الموضوع هو الطبيعة والافراد ، وان تعلق الحكم هل هو بنحو الاستغراق أو البدلية أو غيرهما فلا سبيل له إلى إثبات واحد من هذه المطالب ، من الإطلاق بل لا بد في استفادة ذلك من التوصل بالألفاظ الموضوعة لها.

والعجب من كثير من الأعاظم منهم المحقق الخراسانيّ حيث خلطوا بين البابين ، قال في (باب المطلق والمقيد) ان قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف باختلاف المقامات فانها (تارة) يفيد العموم الاستغراقي ، والأخرى العموم البدلي (انتهى) ونسج على منواله بعض أهل التحقيق قال في مقالاته : انما الامتياز بين البدلي وغيره بلحاظ خصوصية مدخوله من كونه نكرة أو جنسا فان في النكارة اعتبرت جهة البدلية دون الجنس (انتهى).

قلت : ولعل منشأ الخلط هو ما ربما يتراءى بين الكلمات ان قوله تعالى :

٦

(أحل الله البيع) يفيد العموم ، وقولنا أكرم رجلا يفيد العموم البدلي ولكنك قد عرفت ان استفادة الاستغراق بمعنى نفوذ كل بيع بالنتيجة من الأول ليس باعتبار دلالة اللفظ عليه ولا الإطلاق ، بل لما كان تمام الموضوع هو طبيعة البيع ببركة الإطلاق ، وكان العقل والعقلاء يرون ان ما أخذه موضوعا ، موجود في هذا وهذا وذاك ، فلا محالة يحكمون بنفوذ هذا وذاك ، فأين هذا من دلالة الإطلاق عليه ، واما استفادة البدلية من النكرة كقولنا (أعتق رقبة) ففيه ان النكرة تدل بمادتها على نفس الطبيعة بلا شرط ، وتنوين التنكير يدل على الوحدة «فرجل يدل بتعدد الدال على واحد غير معين من الطبيعة ، وليس فيه دلالة على البدلية بلا ريب ، إذ البدلية غير كونه دالا على واحد غير معين ، إذ هي عبارة عن جعل الحكم على الافراد لا بنحو العرضية بل بنحو التخيير والبدلية فيها كما في لفظة أيّ ، واما النكرة فليست فيها دلالة على هذا ، وانما يحكم العقل بتخيير المكلف بين الإتيان بأيّ فرد شاء في مورد التكاليف فقول القائل أعتق رقبة ، يدل بعد تمامية المقدمات على وجوب عتق رقبة واحدة من غير دلالة على التبادل ، ولذا يكون التخيير عقليا بخلاف قوله أعتق اية رقبة شئت فان التخيير فيه شرعي مستفاد من اللفظ (وبالجملة) لا يستفاد من مقدمات الحكمة شيء مما ذكر سوى كون ما وقع تحت دائرة الحكم تمام الموضوع له ، وهذا معنى واحد في جميع الموارد ، (نعم) حكم العقل والعقلاء فيها مختلفة وهو غير مربوط بباب الألفاظ والعموم ولا بباب الإطلاق.

تنبيه

يظهر من المحقق الخراسانيّ وتبعه بعضهم ان انقسام العموم إلى الأقسام المذكورة انما هو بلحاظ تعلق الحكم بموضوعاتها وانه مع قطع النّظر عن هذا التعلق لا واقعية للتقسيم.

ولكن التحقيق خلافه لما عرفت من ان لكل من الثلاثة ألفاظا مخصوصة قد

٧

وضعت لإفادتها بنحو الدلالة التصورية (فكل وجميع) يدلان على استغراق افراد مدخولهما قبل تعلق الحكم وكذا لفظ (مجموع وأي) دالان على ما تقدم تفصيله ، ويرشدك إلى ما ذكرنا المحاورات العرفية فانهم لا يرتابون في ان قول القائل أكرم كل عالم يدل على استغراق مدخوله وقس عليه ما تقدم من أمثلة البدلي والمجموعي إذ لا شك انهم يفهمون من تلك الأمثلة واحداً من الثلاثة بحسب لفظه بحكم التبادر من غير توقع قرينة تدل على كيفية تعلق الحكم بالموضوع ، بل يحكمون على ان الحكم قد تعلق بنحو الاستغراق في المدخول أو غيره بنفس دلالة اللفظ ولازم ما ذكره (المحقق الخراسانيّ) ان يتوقف أهل المحاورة في فهم كيفية تعلق الحكم حتى يتفحصوا ويتطلبوا حوله.

أضف إليه ، انه لا يعقل ذلك التقسيم مع قطع النّظر عما ذكرناه ضرورة ان الحكم تابع لموضوعه ، ولا يعقل تعلق الحكم الوحداني بالموضوعات الكثيرة المأخوذة بنحو الاستغراق ولا الحكم الاستغراقي على الموضوع الوحداني بل لا بد من تعيين الموضوع استغراقا أو جمعا حتى يتبعه الحكم فهو تابع للموضوع فينحل بنحو الاستغراق في فرض دون فرض

الخامس : ربما يعد من ألفاظ العموم النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي أو اسم الجنس الواقع كذلك ، و (فيه إشكال) لأن اسم الجنس موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط ، وتنوين التنكير لتقييدها بقيد الوحدة غير المعينة لكن لا بالمعنى الاسمي بل بالمعنى الحرفي ، وألفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنها فلا دلالة فيها لنفي الافراد التي هي المناط في صدق العموم ، ولا وضع على حدة للمركب وقولنا أعتق رقبة وقولنا لا تعتق رقبة سيان ، في ان الماهية متعلقة للحكم وفي عدم الدلالة على الافراد ، وفي ان كلا منهما محتاج إلى مقدمات الحكمة حتى يثبت ان ما يليه تمام الموضوع له ، (نعم) بعد تماميتها تكون نتيجتها في النفي والإثبات مختلفة عرفا لما تقدم من حكم العرف بان المهملة توجد بوجود فرد ما وتنعدم بعدم جميع الافراد وان كان ما يحكم عليه العرف خلاف البرهان

٨

والحاصل ان عد شيء من ألفاظ العموم يتوقف على وضع اللفظ لما يفيد الشمول بالدلالة اللفظية لا لأجل دلالة من العقل أو كون الارتكاز عليه كما في المقام (فحينئذ) فرق واضح بين «لا» النافية وبين لفظ (كل) إذ الثاني موضوع بحسب التبادر لاستيعاب الافراد فهو بدلالته اللفظية دال على الشمول ، والأولى موضوعة لنفي المدخول ، ومدخولها اما يدل على نفس الطبيعة أو عليها مع قيد الوحدة إذا كان المدخول نكرة و (بعد هذا التحليل) ليس هنا لفظ يدل علي الكثرة سوى حكم العرف بان عدم الطبيعة بعدم جميع الافراد ، وليس هذا مفاد اللفظ حتى يعد من ألفاظ العموم (هذا) مع انه غير مستغن عن إجراء المقدمات ، (واما الألف واللام) فهو في المفرد يفيد تعريف الجنس فقط دون الاستغراق فيحتاج إلى مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق.

(نعم) الجمع المحلى باللام يفيد العموم ، وليس الدال عليه هو اللام ولا نفس الجمع ، ولذا لا يستفاد ذلك من المفرد المحلى والجمع غير المحلى بل انما يستفاد من تعريف الجمع ، ووجه دلالتها هو ان الجمع له عرض عريض ، واللام وضعت لتعريفه ، وما هو معين ومعرف انما هو أقصى المراتب وغيره لا تعيين فيه حتى أدنى المراتب ، و (بما ذكرنا) ظهر عدم احتياجه إلى مقدمات الحكمة

في ان التخصيص لا يوجب

مجازية العام

لا ريب في ان تخصيص العام لا يوجب مجازيته مطلقا ، متصلا كان المخصص أم منفصلا ويتفرع عليه انه حجة فيما بقي بعد التخصيص وعلى القول بالمجازية لازمه سقوطه عن الحجية وصيرورة الكلام مجملا.

وتوضيح ذلك ان حقيقة المجاز كما تقدم ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير

٩

ما وضع له ، إذ التلاعب بالألفاظ لا حسن فيه وكون زيد أسدا لفظا لا بلاغة فيه ، بل كل المجازات من مرسل واستعارة لا يستعمل لفظها الا فيما وضع له ، لكن بادعاء ان المورد وما سبق لأجله الكلام من مصاديقه ، وان كانت العامة غافلين عنه ، كما في قوله سبحانه : ما هذا بشرا ان هذا إلا ملك كريم (وتقدم تفصيله فراجع) والقائل بان العام المخصص مجاز لا بد ان يصحح مقالته بالادعاء إذ قوام المجاز في جميع الأقسام والأمثلة انما هو بالادعاء وان ما قصده أيضا هو نفسه أو من مصاديقه فانظر إلى قوم الشاعر

جددت يوم الأربعين عزائي

والنوح نوحي والبكاء بكائي

ترى ان حسن كلامه وجمال مقاله انما هو في ادعائه بان النوح والبكاء منحصران في نوحه وبكائه وليس غيرهما نوحا وبكاء (وعليه) لا يجوز ان يكون العام المخصص من قبيل المجاز ضرورة عدم ادعاء وتأول فيه ، فليس في قوله أوفوا بالعقود ، ادعاء كون جميع العقود هي العقود التي لم تخرج من تحته وان الباقي بعد التخصيص عين الكل قبله ، إذ ليس المقام مقام مبالغة وإغراق حتى يتمسك بهذه الذوقيات ، وكذلك قوله سبحانه أحل الله البيع في المطلق الوارد عليه التقييد ، و (الحاصل) ان حمل العام المخصص على باب المجاز مع ان مداره الادعاء وهو غير مناسب في هذه العمومات التي لم يقصد منها الا ضرب القانون ، ضعيف جداً مع إمكان كونه حقيقة على وجه صحيح ، وإليك بيانه.

ان الدواعي لإنشاء الحكم وإلقاء الأمر على المخاطب كثيرة جداً قد أشرنا إلى بعضها في باب الا وامر ، ومن تلك الدواعي هو ضرب القانون وإعطاء القاعدة الكلية للعبيد بجعل حكم على عنوان كلي نحو (أكرم العلماء) وللموضوع آلاف من المصاديق ، ولكن بعضها محكوم بالإكرام بالإرادة الجدية ، وبعضها محكوم بعدم الإكرام كذلك ، و (ح) فالقائل يستعمل قوله أكرم العلماء في تمام افراده الّذي هو المعنى الحقيقي ، بالإرادة الاستعمالية ، ثم يشير بدليل منفصل أو متصل علي ان الفساق منهم وان تعلقت بهم الإرادة الاستعمالية وشملهم عموم القانون ، إلّا ان الإرادة الجدية في هذا المورد على خلافه وانهم يحرم إكرامهم

١٠

أو لا يجب ، وهذا الجعل بهذه الكيفية ربما يفيد العبد فيما إذا شك في خروج غير الفساق أو في المخصص المجمل المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر فالجعل على عنوان كلي ، يصير ضابطة وتكون حجة في الموارد المشكوكة إذ الأصل الدائر بين العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية الا ما قام الدليل من جانب المولى على خلافه ، فهذا الظهور بنحو العموم حجة عليه في كل فرد من افراده حتى يقوم حجة أقوى على خلافه ، فظهر ان العام مستعمل في معناه الأول ، وان التضييق والتخصيص في الإرادة الجدية ، ومدار كون الشيء حقيقة أو مجازا على الأولى من الإرادتين دون الثانية ويصير حجة في الباقي لما عرفت من ان الأصل الدائر بين العقلاء هو تطابق الإرادتين حتى يقوم دليل أقوى على خلافه

وان شئت قلت : ان قوله تعالى أوفوا بالعقود استعمل جميع ألفاظه فيما وضعت له لكن البعث المستفاد من الهيئة لم يكن في مورد التخصيص لداعي الانبعاث بل إنشائه على نحو الكلية مع عدم إرادة الانبعاث في مورد التخصيص ، انما هو لداع آخر وهو إعطاء القاعدة ليتمسك بها العبد في الموارد المشكوكة فالإرادة الاستعمالية التي هي في مقابل الجدية قد تكون بالنسبة إلى الحكم بنحو الكلية إنشائيا وقد تكون جديا لغرض الانبعاث ، و (قوله) سبحانه أوفوا بالعقود ، إنشاء البعث إلى الوفاء بجميع العقود وهو حجة ما لم تدفعها حجة أقوى منها ، فإذا ورد مخصص يكشف عن عدم مطابقة الجد للاستعمال في مورده ، ولا ترفع اليد عن العام في غير مورده ، لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصص ، وأصالة الجد التي هي من الأصول العقلائية حجة في غير ما قامت الحجة على خلافها

 لا يقال : إذا لم يكن البعث حقيقيا بالإضافة إلى بعض الافراد مع كونه متعلقا به في مرحلة الإنشاء فلازمه صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هو الداعي.

لأنا نقول : ان التمسك بالقاعدة المعروفة في هاتيك المباحث ضعيف جدا كما هو غير خفي على أهله وكفى في إبطال ما ذكر ان الدواعي المختلفة ربما تدعو

١١

الإنسان إلى شيء واحد ، أضف إلى ذلك ان الدواعي المختلفة ليست علة فاعلية لشيء بل الدواعي غايات لصدور الأفعال ، وما قرع سمعك ان الغايات علل فاعلية الفاعل ليس معناه انها مصدر فاعليته بحيث تكون علة فاعلية لها ويصدر حركة الفاعل منها بل معناه ان الفاعل لا يصير مبدأ إلّا لأجلها ، فالغاية ما لأجلها الحركة لا فاعل التحريك والحركة.

فان قلت : ان حقيقة الاستعمال ليس إلّا إلقاء المعنى بلفظه والألفاظ مغفول عنها حينه لأنها قنطرة ومرآة للمعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي والمستعمل ان أراد من لفظ العام المعنى الواقعي فهو وإلّا كان هازلا.

قلت : فيما ذكر خلط واضح وان صدر عن بعض الأعاظم إذ ليس الإرادة الاستعمالية والجدية متعلقتين بلفظ العام بحيث يكون المراد الاستعمالي جميع العلماء والجدي بعضهم ، حتى يرد عليه ما ذكر ، بل الاستعمالية والجدية انما هي بالنسبة إلى الحكم فما ذكر من الإشكال أجنبي عن مقصودهم. ولعل ما أفاده شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) يبين ما أفاده القوم وراموه حيث قال : ان هذا الظهور الّذي يتمسك به لحمل العام على الباقي ليس راجعا إلى تعيين المراد من اللفظ في مرحلة الاستعمال بل هو راجع إلى تعيين الموضوع للحكم فراجع.

ثم ان بعض أهل التحقيق قد أجاب في مقالاته عن هذا الإشكال بان دلالة العام وان كانت واحدة ، لكن هذه الدلالة الواحدة إذا كانت حاكية عن مصاديق متعددة فلا شبهة في ان هذه الحكاية بملاحظة تعدد محكيها بمنزلة خطابات متعددة نظرا إلى ان الحاكي يتلون بلون محكيه ويقتضيه في آثار فمع تعدده يكون الحاكي كأنه متعدد (فحينئذ) مجرد رفع اليد عن حجية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد لا يوجب رفع اليد عن حجيته العليا ، (وأيد كلامه) بالمخصص المتصل (مدعيا) ان الظهور في الباقي مستند إلى وضعه الأول غاية الأمر تمنع القرينة عن إفادة الوضع لأعلى المراتب من الظهور فيبقى اقتضائه للمرتبة الأخرى دونها بحاله (انتهى).

ولا يخفى ان ما ذكره من حديث جذب الألفاظ لون محكيها أشبه بالخطابة و

١٢

مبنى على ما اشتهر من ان أحكام المعاني ربما تسرى إلى الألفاظ مستشهدا بأسماء ما يستقبح ذكره ، غافلا عن ان قبحه لأجل ان التلفظ به يوجب الانتقال إلى معناه ولذا لا يدرك الجاهل باللغة قبحه وشينه ، و (عليه) فتعدد المحكي لا يوجب تعدد الحكاية بعد كون الحاكي عنوانا واحداً ، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكى عن الكثير ، فإذا علم ان اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل (كما هو المفروض) لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره ، وما ذكره في المخصص المتصل من مراتب الظهور ممنوع ، ضرورة ان كل لفظ في المخصص المتصل مستعمل في معناه ، وان إفادة المحدودية انما هو لأجل القيود والإخراج بالاستثناء ، فلفظ كل موضوع لاستغراق مدخوله ، فإذا كان مدخوله قولنا (العالم الا الفاسق) يستغرق ذلك المدخول المركب من المستثنى منه والمستثنى ، من دون ان يكون الاستثناء مانعا من ظهوره لعدم ظهوره الا في استغراق المدخول أي شيء كان ، ولو فرض ان القيد أو الاستثناء يمنعان عن ظهوره ، صار الكلام مجملا لعدم مراتب للظهور ، وما ذكرنا من إجراء التطابق بين الإرادتين في كل فرد فرد غير مربوط بهذا الفرض ، لأن العام على ما ذكرنا قد انعقد له الظهور فيما وضع له ، وهذا العام مع هذا الأصل حجتان حتى يرد حجة أقوى منهما ، ولو أمعنت النّظر فيه يسهل لك التصديق.

في سراية إجمال المخصص

 إلى العام وعدمها

ان المخصص قد يكون مبين المفهوم وقد يكون غير مبينة وعلى الثاني (تارة) يكون دائرا بين الأقل والأكثر و (أخرى) بين المتباينين وعلى (جميع التقادير) فهو اما متصل أو منفصل (ثم) انه اما لبي أو غير لبي. وأيضا الشبهة اما مفهومية أو مصداقية فهذه صور المسألة ولنقدم البحث عن المفهومية على البحث عن المصداقية

١٣

فنقول : يقع البحث في الشبهة المفهومية في مقامين :

المقام الأول في المخصص المتصل المجمل من حيث المفهوم وهو على قسمين الأول : ما كان امره دائراً بين الأقل والأكثر كما إذا شك في ان الفاسق هو خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منها والصغيرة ، فالحق سريان إجماله إلى العام ولا يكون العام المخصص حجة في موارد الشك ، لأن اتصال المخصص المجمل ، يوجب عدم انعقاد ظهوره من أول إلقائه إلّا في العالم غير الفاسق أو العالم العادل ، وليس لكل من الموصوف والصفة ظهور مستقل حتى يتشبث بظهور العام في الموارد المشكوكة فيشبه المقام بباب المقيد إذا شك في حصول قيده أعني العدالة أو عدم الفسق فيمن كان مرتكبا للصغيرة ، و (بعبارة ثانية) : ان الحكم في العام الّذي استثنى منه أو اتصف بصفة مجملة ، متعلق بموضوع وحداني عرفا فكما ان الموضوع في قولنا أكرم العالم العادل هو الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا : أكرم العلماء الا الفساق منهم ، ولذا لا ينقدح التعارض حتى التعارض البدئي بين العام والمخصص كما ينقدح بينه وبين منفصله (فحينئذ) كما لا يجوز التمسك بالعامّ كقولنا : لا تكرم الفساق إذا كان مجمل الصدق بالنسبة إلى مورد كذلك لا يجوز في العام المتصف أو المستثنى منه بشيء مجمل بلا فرق بينهما.

الثاني ما إذا دار مفهومه بين المتباينين مع كونه متصلا كما إذا استثنى منه زيدا واحتمل ان يكون المراد هو زيد بن عمرو وان يكون هو زيد بن بكر ، والحق سريان إجماله أيضا بالبيان المتقدم في الأقل والأكثر لأن الموضوع يصير بعد الاستثناء (العالم الّذي هو غير زيد وهو امر وحداني) لا يكون حجة إلّا فيما ينطبق عليه يقينا ، والمفروض انه مجمل من حيث المفهوم فكيف يمكن الاحتجاج بشيء يشك في انطباقه على المشكوك

واما المقام الثاني أعني المخصص المنفصل المجمل من حيث المفهوم فهو أيضا على قسمين.

١٤

الأول : ما إذا دار بين الأقل والأكثر فلا يسرى أصلا ويتمسك به في موارد الشك لأن الخاصّ المجمل ليس بحجة في موارد الإجمال فلا ترفع اليد عن الحجة بما ليس بحجة ، ولا يصير العام معنونا بعنوان خاص في المنفصلات ، (وبعبارة أوضح) ان الحكم قد تعلق بعنوان الكل والجميع ، فلا محالة يتعلق الحكم على الافراد المتصورة إجمالا ، والأصل العقلائي حاكم على التطابق بين الإرادتين في عامة الافراد فلا يرفع اليد عن هذا الظهور المنعقد إلّا بمقدار قامت عليه الحجة ، والمفروض ان الحجة لم تقم الا على مرتكب الكبائر وغيرها مشكوك فيه ، و (لا يقاس) ذلك بالمتصل المردد بين الأقل والأكثر ، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط ، الا في المعنون بالعنوان المجمل ، والمرتكب بالصغائر مشكوك الدخول في العام هناك من أول الأمر بخلافه هنا فان ظهور العام يشمله قطعا.

كيف فلو كان المخصص المجمل حكماً ابتدائيا من دون ان يسبقه العام لما كان حجة الا في مقدار المتيقن دون المشكوك ، فكيف مع ظهور العام في إكرام المشكوك واما ما أفاده شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) من انه يمكن ان يقال انه بعد ما صارت عادة المتكلم على ذكر المخصص منفصلا فحال المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره (لا يخلو عن نظر) فان وجوب الفحص عن المخصص باب ، وسراية إجمال المخصص إليه باب آخر ، ومقتضى ما ذكره عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص لا سراية الإجمال لأن ظهور العام لا ينثلم لأجل جريان تلك العادة كما ان الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجد حجة بعد الفحص عن المخصص وعدم العثور إلّا على المجمل منه لكنه قدس‌سره رجع في الدورة الأخيرة عما أفاده في متن كتابه ، (نعم) لو كان الخاصّ المجمل المردد بين الأقل والأكثر وارداً بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرع كما في بعض أنحاء الحكومات ، فسراية إجماله وصيرورة العام معنونا غير بعيدة كما إذا قال المراد من العلماء هو غير الفساق ، أو ان الوجوب لم يجعل على الفاسق منهم ، ومع ذلك فالمسألة بعد محل إشكال.

١٥

القسم الثاني ما إذا دار المخصص المنفصل بين المتباينين ، فالحق انه يسرى الإجمال إليه حكما بمعنى عدم جواز التمسك به في واحد منهما وان كان العام حجة في واحد معين واقعا ولازمه إعمال قواعد العلم الإجمالي ، وان شئت قلت ان العلم الإجمالي بخروج واحد منهما يوجب تساوى العام في الشمول لكل واحد منهما ولا يتمسك به في إثبات واحد منهما الا بمرجح وهو منتف بالغرض ، وبتعبير آخر : انه بعد الاطلاع بالمخصص لا متيقن في البين حتى يؤخذ به ويترك المشكوك كما في الأقل والأكثر بل كلاهما في الاحتمال متساويان فلا محيص عن إجراء قواعد العلم الإجمالي ، فلو كان المخصص رافعا لكلفة الوجوب عن مورد التخصيص وكان مقتضى العام هو الوجوب ، فلازمه إكرام كلا الرجلين حتى يستيقن بالبراءة ، ولو كان المخصص ظاهرا في حرمة مورده فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المحذورين ولكل حكمه.

التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية

محط البحث في الاشتباه المصداقي لأجل الشبهة الخارجية ، انما هو فيما إذا أحرز كون فرد مصداقا لعنوان العام أعني العالم قطعا ولكن شك في انطباق عنوان المخصص أعني الفاسق عليه وبعبارة أخرى : البحث فيما إذا خص العام ، ولم يتعنون ظهور العام بقيد زائد سوى نفسه لا في تقييد المطلق الّذي يوجب تقييده بقيد زائد سوى ما أخذ في لسان الدليل ، وبما ذكرنا يظهر الخلط فيما أفاده بعض الأعاظم حيث قال (ان تمام الموضوع في العام قبل التخصيص هو طبيعة العالم ، وإذا ورد المخصص يكشف عن ان العالم بعض الموضوع وبعضه الآخر هو العادل فيكون الموضوع واقعا هو العالم العادل فالتمسك في الشبهة المصداقية للخاص يرجع إلى التمسك فيها لنفس العام من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها) ، (وجه الخلط) ان ما أفاده صحيح في المطلق والمقيد واما العام فالحكم فيه متعلق بافراد مدخول أداته لا على عنوان

١٦

الطبيعة ، والمخصص يخرج طائفة من افراد العام كأفراد الفساق منهم ، وما ربما يتكرر في كلامه من ان الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق عليه ، غير تام لأن العنوان لا يمكن ان يكون مرآة للخصوصيات الفردية ، مع ان لازم ما ذكره ان يكون الافراد موضوعا للحكم لأن المحكوم عليه هو المرئي دون المرآة فلا يصح قوله : ان تمام الموضوع في العام قبل التخصيص هو طبيعة العالم إلخ بل التحقيق كما تقدم ان العنوان لم يكن مرآة الا لنفس الطبيعة الموضوع لها ، وأداة العموم تفيد افرادها ، والقضية الحقيقية متعرضة للافراد فتحصل : ان الكلام انما هو في العام المخصص لا المطلق المقيد

 وكيف كان فقد استدل لجواز التمسك بان العام بعمومه شامل لكل فرد من الطبيعة وحجة فيه ، والفرد المشكوك فيه لا يكون الخاصّ حجة بالنسبة إليه للشك في فرديته ، فمع القطع بفرديته للعام والشك في فرديته للخاص يكون رفع اليد عن العام رفع اليد عن الحجة بغير حجة و (الجواب) ان مجرد ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة لا يوجب تمامية الاحتجاج ما لم تحرز أصالة الجد ، «توضيحه» : ان صحة الاحتجاج لا تتم الا بعد ان يسلم أمور : من إحراز ظهوره ، وعدم إجماله مفهوما ، وعدم قيام قرينة على خلافه حتى يختتم الأمر بإحراز ان المراد استعمالا هو المراد جداً ، ولذلك لا يمكن الاحتجاج بكلام من دأبه وعادته الدعابة ، وان أحرز ظهوره وجرت أصالة الحقيقة ، لعدم جريان أصالة الجد مع ان ديدنه على خلافه (فعليه) ما مر من أصالة التطابق بين الإرادتين ، انما هو فيما إذا شك في أصل التخصيص وان هذا الفرد بخصوصه أو بعنوان آخر هل خرج عن حكم العام أو لا ، واما إذا علم خروج عدة افراد بعنوان معين ، وشك في ان هذا العنوان هل هو مصداق جدي لهذا العنوان أو ذاك العنوان ، فلا يجري أصلا ، ولا يرتفع به الشك عندهم. و «بالجملة» إذ ورود المخصص نستكشف عن ان إنشائه في مورد التخصيص لم يكن بنحو الجد ، ويدور امر المشتبه بين كونه مصداقا للمخصص حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم المخصص ، وبين عدم كونه مصداقا له حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم العام المخصص ، و

١٧

مع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفين فانها كالشبهة المصداقية لأصالة الجد بالنسبة إلى العام والخاصّ كليهما

 ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده الشيخ الأعظم والمحقق الخراسانيّ (قدس الله روحهما) ، نعم بعض أهل التحقيق فسر كلام الشيخ بما لا يخلو عن إشكال قال في (مقالاته) الّذي ينبغي ان يقال ان الحجية بعد ما كان منحصرا في الظهور التصديقي المبنى على كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة ، فانما يتحقق هذا المعنى في فرض تعلق قصد المتكلم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفات المتكلم بما تعلق به مرامه ، وإلا فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه ، كيف يتعلق قصده بلفظه على كشفه وإبرازه ، ومن المعلوم ان الشبهات الموضوعية طرا من هذا القبيل ، ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبها فيه ، فلا يكون الظهور (ح) تصديقيا كي يكون واجدا لشرائط الحجية (انتهى)

 ولا يخفى انه لا يلزم على المتكلم في الاخبار عن موضوع واقعي الفحص عن كل فرد فرد حتى يعلم مقطوعه ومشكوكه بل ما يلزم عليه في جعل الحكم على عنوان كليا ، إحراز ان كل فرد واقعي منه محكوم بهذا الحكم كما في قولك النار حارة واما تشخيص كون شيء نارا فليس متعلقا بمرامه ولا مربوطا بمقامه وببيان أوضح ان الحجية وان كانت منحصرة في الظاهر الّذي صدر من المتكلم لأجل الإفادة ولا بد له ان يكون على تيقن فيما تعلق به مرامه لكن ذلك في مقام جعل الكبريات لا في تشخيص الصغريات ، فلو قال المولى (أكرم كل عالم) فالذي لا بد له انما هو تشخيص ان كل فرد من العلماء فيه ملاك الوجوب وان اشتبه عليه الافراد ، ولو قال بعد ذلك لا تكرم الفساق من العلماء ، لا بد له من تشخيص كون ملاك الوجوب في عدولهم واما كون فرد عاد لا في الخارج أولا فليس داخلا في مرامه حتى يكون بصدد بيانه

 ويرشدك إليه انه لو صح ما أفاده (ان المولى لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة

١٨

إلى ما كان بنفسه مشتبها فيه) ، لا بد من التزامه بعدم وجوب إكرام من اشتبه عند المولى انه عادل أولا ولكن العبد أحرز كونه عالما عادلا ، مع ان العبد لا يعد معذورا في ترك إكرامه وان اعتذر بان المولى لم يكن في مقام البيان بالنسبة إلى المشكوك واما نسبة ما أفاده إلى الشيخ الأعظم ففي غير محله فان كلامه في تقريراته آب عن ذلك ، و (ملخصه) ان العام الواقع في كلام المتكلم غير صالح لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه أيضا قد يكون مثل العبد فيها ، فالعام مرجع لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية وأنت ترى ان كلامه آب عما نسب إليه ، بل يرجع إلى ما فصلناه وأوضحناه ، ولو لا تشويش عبائر القائل وإغلاقها لجاز حملها على ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره كما قد يظهر من ذيل كلامه

ثم : ان شيخنا العلامة أعلى الله مقامه نقل تقريبا لجواز التمسك عن المحقق النهاوندي (طيب الله رمسه) ، وهو ان قول القائل أكرم العلماء يدل بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كل واحد من العلماء ، ويدل بإطلاقه على سراية الحكم إلى كل حالة من الحالات ومن جملة حالات الموضوع كونه مشكوك الفسق والعدالة وقد علم من قوله (لا تكرم الفساق من العلماء) خروج معلوم الفسق منهم فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحته (انتهى)

 والجواب : أولا ان ما فسر به الإطلاق غير صحيح لأن الإطلاق ليس الا كون الشيء تمام الموضوع كما تقدم لا أخذ جميع الحالات والعناوين في الموضوع فان ذلك معنى العموم ، فما اصطلح به من الإطلاق الأحوالي باطل من رأس ، و (ثانيا) ان البحث انما هو في العام المتضمن لبيان الحكم الواقعي ، والمفروض ان الموضوع له انما هو العالم بقيد كونه غير الفاسق لبّا فكيف يحكم بوجوب إكرام المشتبه مع كونه فاسقا واقعيا ، وما ذكره من ان العام وان كان غير شامل له بإطلاقه الأفرادي إلّا انه شامل له بإطلاقه الأحوالي بمعنى ان العالم واجب الإكرام في جميع الحالات ومنها كونه مشكوك الفسق يستلزم إجماع حكمين في موضوع واحد بعنوان واحد ، لأن ما ذكره من الإطلاق الأحوالي موجود في الخاصّ أيضا فان قوله لا تكرم الفساق شامل

١٩

لمشتبه الفسق ومعلومه إذا كان فاسقا واقعيا ، فهذا الفرد بما انه مشتبه الفسق واجب الإكرام ومحرمه ، ولو التجأ قدس‌سره إلى ان العام متكفل للحكم الواقعي والظاهري يلزمه أخذ الشك في الحكم في جانب موضوع نفس ذلك الحكم وفيه مضافا إلى ان أخذ الشك في الموضوع لا يصحح الحكم الظاهر ، ان مجرد أخذه فيه لا يرفع الإشكال إذ كيف يمكن تكفل العام بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي وللحكم الظاهري على مشتبه الحكم مع ترتبهما ، وهل هذا الا الجمع بين عدم لحاظ الشك موضوعاً ولحاظه كذلك.

القول في المخصص اللبي

ما ذكرناه في المخصص اللفظي جار في اللبي لكن بعد تمحيص المقام في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي كما إذا خرج عنوان عن تحت العام بالإجماع أو العقل وشك في مصداقه فلا محالة يكون الحكم الجدي في العام على افراد المخصص دون المخصص بالكسر ومعه لا مجال للتمسك بالعامّ لرفع الشبهة الموضوعية لما مر ومنه يظهر النّظر في كلام المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله حيث فصل بين اللبي الّذي يكون كالمخصص المتصل وغيره مع ان الفارق بين اللفظي واللبي من هذه الجهة بلا وجه ودعوى بناء العقلاء على التمسك في اللبيات عهدتها عليه كما يظهر النّظر فيما يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين كالعالم الفاسق والعالم غير الفاسق فلا يجوز ، وغيره كما إذا لم يعتبر المتكلم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العام وان علمنا بأنه لو فرض في افراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه فيجوز التمسك بالعامّ وإحراز حال الفرد أيضا ، ثم فصل في بيانه بما لا مزيد عليه ولكن يظهر من مجموعه خروجه عن محط البحث ووروده في واد الشك في أصل التخصيص مع ان الكلام في الشك في مصداق المخصص فراجع كلامه

واما توجيه كلامه بان المخصص ربما لا يكون معنونا بعنوان بل يكون مخرجا لذوات الافراد لكن بحيثية تعليلية وعلة سارية فإذا شك في مصداق انه محيث بالحيثية

٢٠