تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

عن الملاقى (بالفتح) والسر في ذلك ان ما يجب الاجتناب عنه هو ملاقى النجس القطعي فيجب الاجتناب عنه وان صار الملاقى غير واجب الاجتناب لأجل الاضطرار إليه أو لخروجه عن محل الابتلاء أو لغير ذلك واما المقام فليس ملاقيا للنجس بل ملاقى لشيء لم يحرز نجاسته ولم يثبت وجوب الاجتناب عنه عند حصول العلم الأول كما هو المفروض ، و (بالجملة) بعد ما حدث العلم الثاني ، كشفنا عن ان العلم الأول الّذي تعلق بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) أو الطرف كان وهنا محضا ولم يكن ملاك وجوب الاجتناب موجودا فيه ، فيبطل ما يقال : ان الطرف كان واجب الاجتناب من أول الأمر ولم يحدث العلم الثاني تكليفا آخر بالنسبة إليه ، ويصير الملاقى (بالفتح) مشكوكا بدئيا.

قلت : ان العلم الثاني لم يكشف إلا عن سبب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) لا عن بطلان العلم الأول ، والشاهد عليه انه بعد حصول العلم الثاني ، ان لنا ان نقول الطرف واجب الاجتناب أو الملاقى (بالكسر) لكونه ملاقيا للنجس واقعا ، غاية الأمر كان وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) مجهولا سببه وكان المكلف معتقدا ان علة نجاسته على فرضها هو وقوع النجس فيه بلا واسطة ثم بان بأنّ سببها هو الملاقاة لما هو نجس على فرض نجاسة الملاقى (بالفتح) وهذا مثل ما إذا وقفنا على وجوب أحد الشيئين ثم وقفنا على ضعف الطريق مع العثور على طريق صحيح فالتغاير في السبب لا يوجب التغاير في المسبب

هاهنا إشكالان

ربما يقال بانحلال العلم الأول بالثاني قائلا بأنه أي فرق بين المقام وما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في واحد من الإناءين ثم علم بعد ذلك بوقوع قطرة سابقا اما في هذا الإناء المعين من الإناءين أو في إناء ثالث ، فلا ينبغي التأمل في ان الثاني من العلمين يوجب انحلال الأول منهما لسبق معلومه عليه ، وان الأول منهما وان كان متقدما حسب الوجود إلّا ان معلومه متقدم ، وان شئت قلت : ان العلم الأول لم يحدث

٣٦١

تكليفا بالنسبة إلى الإناء الّذي وقع عدلا للإناء الثالث في العلم الثاني لأن العلم الثاني كشف عن كونه كان واجب الاجتناب من قبل في نفس الأمر وان كان مجهولا لنا وقد علمت ما هو الشرط في تنجيز العلم الإجمالي.

وفيه : مع انه يرجع إلى الإشكال المتقدم مآلا وان كان يفترق عنه تقريرا وتمثيلا ، ان الفرق بين المقامين واضح ، لأنه إذا علم (بعد العلم بوقوع قطرة في إحدى الإناءين) بأنه وقعت قطرة قبل تلك القطرة المعلومة ، في واحد معين من الإناءين أو الثالث ، يكشف ذلك عن ان علمه بالتكليف على أي تقدير كان جهلا مركبا لأن القطرة الثانية المعلومة أولا إذا كانت واقعة فيما وقعت فيه القطرة قبلا لم يحدث تكليفا ، فالعلم الثاني يكشف عن بطلان العلم الأول وينحل العلم الأول ، واما المقام فليس كذلك فان العلم الأول باق على ما هو عليه ومانع عن وقوع كشف وتنجيز بالنسبة إلى الطرف بالعلم الثاني ، فالعلم الأول المتعلق بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف باق على حاله ولا ينحل بحدوث العلم الثاني المتعلق بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف

الثاني : ما أورده بعض أعاظم العصر «قدس‌سره» ردا على هذا التفصيل وحاصله : ان هذا التفصيل مبنى على كون حدوث العلم الإجمالي بما انه وصف في النّفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وان تبدلت صورته لأنه (ح) يكون المدار على حال حدوث العلم ومن المعلوم انه قد يكون متعلق العلم الإجمالي حال حدوثه هو نجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف وقد يكون هو نجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف ولكن الإنصاف فساد المبنى ، لأن المدار في تأثر العلم انما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) وان تقدم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى «بالفتح» أو الطرف لأن التكليف في الملاقى انما جاء من قبل التكليف

٣٦٢

بالملاقى فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره ، بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالآخر «انتهى ما يتعلق بالمقام» ويأتي باقي كلامه عند البحث عن المورد الثاني للصورة الثالثة

وفيه : ان التنجز من آثار العلم المتقدم وجودا في الزمان على الآخر ، لا من آثار المتقدم رتبة ، وان تأخر زمان وجوده ، فالعلم بنجاسة الطرف أو الملاقى «بالفتح» وان كان متقدما رتبة ، إلّا انه حادث ومتأخر وجودا عن العلم الأول وما هو الملاك في باب الاحتجاج وقطع الاعذار انما هو وجود الحجة على التكليف المتقدم بوجوده على الآخر ، والرتب العقلية ليست مناطا في المقام

 وان شئت قلت : انه لا تأثير لتقدم الرتبة عقلا في تقدم التنجيز كما اشتهر في الألسن ضرورة ان التنجيز انما هو أثر العلم في الوجود الخارجي وتقدم السبب على المسبب ليس تقدما خارجيا بل هو معنى يدركه العقل وينتزع من نشوء أحدهما عن الآخر ، فالعلم الإجمالي المتعلق بالملاقى (بالفتح) والطرف وان كان مقدما على العلم الإجمالي بالملاقى (بالكسر) والطرف في الرتبة العقلية ، لكنه لا يوجب تقدمه في التنجيز حتى يصير مانعا من تنجز المتأخر رتبة ولأجل ذلك يجب الاجتناب عن الجميع فيما إذا تعلق العلم بالأطراف بعد العلم بالملاقاة وبعد العلم بأنه ليس للملاقى نجاسة غير ما اكتسب من الملاقى «بالفتح» لكن حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف والملاقى «بالفتح» في زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقى «بالكسر» والطرف ، فان العلم (ح) يكون منجزا ويجب الاجتناب عن الأطراف عامة نظير الصورة الثانية التي تقدم وجوب الاجتناب فيها عن الأطراف عامة

 وسيوافيك في بحث السببي والمسببي وفي هذا البحث عند بيان الأصل الشرعي في الملاقى ان القول بالرتب العقلي في الأحكام العرفية والشرعية لا يرجع إلى شيء وان جعل الشيخ الأعظم ذلك التقدم علة لتقدم السببي على المسببي وتبعه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فانتظر.

المورد الثاني للصورة الثالثة أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقى

٣٦٣

(بالكسر) والطرف دون الملاقى. ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى «بالفتح» أو الطرف ولكن كان الملاقى حال حدوث العلم داخلا في مورد الابتلاء ، والملاقى «بالفتح» خارجا عنه ثم عاد إلى محل الابتلاء وأورد عليه بعض الأعاظم رحمه‌الله بأنه لا أثر لخروج الملاقى «بالفتح» عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم ، نعم لو فرض ان الملاقى (بالفتح) كان في ظرف حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو بالأصل فالعلم الإجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا أثر له ويبقى الملاقى «بالكسر» طرفا للعلم الإجمالي فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف «انتهى».

التحقيق ما عرفت من عدم الاعتبار بالخروج عن محل الابتلاء لأن الأحكام الشرعية مجعولة على الطريق الكلي الّذي عبرنا عنه بأنه أحكام قانونية أو خطابات قانونية ، ولو سلم فهو فيما إذا لم يكن للخارج أثر فعلى داخل في محل الابتلاء ، واما إذا كان له أثر فعلى فلا نسلم قبح الخطاب ولا قبح الحكم الوضعي ، فان جعل النجاسة على الحيوان الخارج عن محل الابتلاء ببركة أصالة التذكية إذا كان بعض اجزائه داخلا في محل الابتلاء ، مما لا قبح فيه ، إذا قلنا بان التذكية ترد على الحيوان فقط ، والاجزاء تصير ذات تذكية بواسطة عروضها على الحيوان ، ومثله المقام فان جعل النجاسة للإناء الخارج عن محل الابتلاء مع كون ملاقيه داخلا فيه ، ليس بقبيح لأن أثر نجاسة الملاقى (بالفتح) الخارج عن محل الابتلاء انما هو نجاسة الملاقى (بالكسر) الّذي داخل فيه ، و (عليه) فيجري أصالة الطهارة في الملاقى (بالفتح) بلحاظ اثره الّذي داخل في محل الابتلاء أي نجاسة ملاقيه ، فظهر ان عود الملاقى (بالفتح) إلى محل الابتلاء وعدم عوده سيّان فما فصله بعض الأعاظم من تسليم ما ذكره المحقق الخراسانيّ فيما عاد الملاقى (بالفتح) إلى محل الابتلاء ، دون ما لم يعد ، لا يرجع إلى محصل ، لما عرفت من ان خروج الملاقى (بالفتح) كلا خروجه لوجود اثره.

٣٦٤

القول في الأصل الشرعي في الملاقى

هذا كله في مفاد الأصل العقلي في المقام وامّا بيان الأصل الشرعي فعلى المختار من عدم جريان أدلة الأصول في الأطراف على الوجوه التي حررناه في محلها ، فلا يبقى إشكال في جريان الأصل في الملاقى (بالكسر) في الصورة الأولى كما يجري الأصل في الملاقى (بالفتح) في المورد الأول من الصورة الثالثة ، بصيرورتهما كالشبهة البدئيّة على ما عرفت.

واما على جريانها فيها وسقوطها بالمعارضة فقد تصدى المحققون لرفع التعارض بان الأصل في الملاقى (بالفتح) حاكم على الأصل في الملاقى لكون الشك في طهارته ونجاسته ناش من الشك في الملاقى (بالفتح) فجريان الأصل فيه يرفع الشك عن ملاقيه ، فلا مجرى للأصل في الملاقى (بالكسر) في رتبة جريان الأصل في الملاقى ، فأصالة الطهارة في الملاقى (بالفتح) معارض لمثلها في الطرف وبعد سقوطهما يبقى الأصل في الملاقى جاريا بلا معارض من غير فرق بين الصور المتقدمة لأن رتبة السبب مقدم على المسبب والأصل الجاري فيه يرفع الشك عن المسبب كلما تحقق حتى في المورد الأول من الصورة الثالثة أعني ما إذا علم إجمالا بنجاسة الملاقى (بالكسر) والطرف ثم علم بأنه لو كان نجسا فانما هو من الملاقى (بالفتح) يكون الأصل فيه رافعا للشك في ملاقيه ويصير معارضا للأصل في الطرف ويصير الأصل في الملاقى (بالكسر) جاريا بلا معارض.

أقول : سيوافيك بيانه في خاتمة الاستصحاب ان مجرد كون الشك في أحدهما متقدما على الآخر رتبة لا يوجب حكومة أصله على الآخر ولا يصير رافعا لشكه ، لأن ما هو الموضوع للدليل الشرعي «لا تنقض اليقين بالشك» انما هو المشكوك فيه الواقع في عمود الزمان ، لا المشكوك فيه الواقع في الرتب العقلية ، وبما ان الشك في السبب والمسبب حادثان في عمود الزمان دفعة بلا تقدم وتأخر فيشملهما الدليل الشرعي دفعة واحدة في عرض واحد ، فلا يعقل (ح) حكومة أحد الأصلين على الآخر مع عرضيتها في الموضوع.

٣٦٥

بل السبب الوحيد لتقدم السببي على المسببي ، هو ان الأصل في السببي ينقح موضوع الدليل الاجتهادي ويؤسس موضوعا تعبديا له والحاكم (ح) عدى الأصل المسببي انما هو الدليل الاجتهادي فان شئت فلاحظ المثال المعروف (إذا غسل الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة) فان استصحاب طهارة الماء أو كريته ينقح موضوعا تعبديا لدليل اجتهادي ، وهو ان كل متنجس غسل بماء طاهر فهو طاهر ،. و (على هذا) فالشك في الملاقى (بالكسر) في طهارته ونجاسته ، وان كان مسببا عن الملاقى ، إلّا ان الميزان المذكور هو غير موجود في المقام. فان الشك في طهارة الملاقى ونجاسته وان كان مسببا من الملاقى (بالفتح) إلّا ان استصحاب طهارة الملاقى (بالفتح) لا ينقح معه موضوع الدليل الاجتهادي ، فان غايته انما هو طهارة الملاقى (بالفتح) إلّا انه لم يقم دليل على ان كل ما لاقى الطاهر فهو طاهر ، وتوهم انه وان لم يقم الدليل على ان ملاقى الطاهر طاهر إلّا انه قام الدليل على ان ملاقى الطاهر ليس بنجس ، مدفوع بأنه ليس حكما شرعيا بل هو امر مستنبط من لا اقتضائية الشيء لتنجيس الشيء كما لا يخفى ، ولا بد من العلاج من طريق آخر غير طريق سببية الأصل في أحدهما ومسببيته في الآخر وإليك بيانه وخلاصته انه كلما صار الملاقى (بالكسر) أو الملاقى في حكم الشبهة البدئية يجري فيه الأصل وكلما صارا طرفا للعلم فلا ، وما اخترناه من التفصيل مبنى على هذا وإليك بيانه حتى يتميز حكم ما يجري فيه الأصل عما لا يجري ويكون ما نتلو عليك كالفذلكة مما مر.

فذلكة

قد عرفت ان هذا البحث على مبنى بعضهم من جريان الأصول في الأطراف وتعارضها لأجل استلزامه مخالفة الحكم المنجز (فحينئذ) فلا بدّ ان يلاحظ ويعلم ما يستلزم تلك المخالفة وما لا يستلزمه فنقول :

اما الصورة الأولى : أعني ما إذا علم بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف ثم علم بالملاقاة فيجري في الملاقى (بالكسر) كل من أصالتي الطهارة والحلية ، فان العلم الثاني المتعلق بنجاسة الطرف أو الملاقى (بالكسر) ليس علما

٣٦٦

بالتكليف المنجز ، وان كان علما بوجود الموضوع أعني النجس بينهما ، إلّا ان الميزان هو العلم بالتكليف المنجز ، على كل تقدير لا العلم بالموضوع وان لم يكن حكمه منجزا والمانع من الجريان هو الأول لا الثاني

توضيحه انه إذا علم الإنسان بوقوع قطرة دم اما في إناء زيد أو في إناء عمرو فلا شك في تنجيز ذاك العلم ، ولو وقف بعد ذلك على وقوع قطرة أخرى منه اما في إناء عمرو أو إناء بكر ، فالعلم بوجود الموضوع وان كان موجودا بين الثاني والثالث ، إلّا انه ليس علما بتكليف منجز على كل تقدير ، فان القطرة الثانية لو وقعت في إناء عمرو لم يحدث تكليفا جديدا ولم يوجب إلزاما على كل تقدير ، بل هو كان قبل حدوث هذا العلم واجب الاجتناب لأجل العلم الأول ، و (لذلك) لو شرب الإناء الثاني والثالث وفرضنا وقوع القطرة الأولى في إناء زيد ، فهو وان شرب النجس إلّا انه لم يخالف التكليف المنجز على كل تقدير واما الاجتناب عن إناء عمر فهو لأجل العلم الأول دون الثاني ولذلك يجري في الثالث عامة الأصول ، دون إناء عمرو

 وقس عليه المقام ، فان العلم الثاني وان تعلق بنجاسة الطرف أو الملاقى (بالكسر) ، إلّا انه ليس علما بالتكليف الحادث المنجز على كل تقدير لأن الطرف كان واجب الاجتناب لأجل العلم الأول ، و (لذلك) لو شرب الطرف والملاقى (بالكسر) وفرض وقوع النجس في نفس الأمر في العلم الأول في الإناء الملاقى (بالفتح) فهو وان شرب النجس في نفس الأمر إلّا انه لم يخالف التكليف المنجز فلا يعاقب ، على شرب النجس ، وان كان يصح عقابه على شرب الإناء الطرف على القول بعقاب المتجري ، فالإناء الّذي يعد طرفا انما يجب الاجتناب عنه لأجل العلم الأول لا الثاني

 واما الصورة الثانية : فقد عرفت انه يجب فيه الاجتناب عن الجميع لأنه إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف والملاقى (بالفتح) بعد العلم بالملاقاة ، فيحصل العلم بنجاسة مرددة بين الطرف وغير الطرف عن الملاقي وملاقيه ، ويصير الملاقى (بالكسر) طرفا للعلم فلا مجال للأصول أصلا

٣٦٧

واما الصورة الثالثة : فقد عرفت ان لها موردين (الأول) ما ذا علم بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ، ثم علم الملاقاة ووقف على نجاسة الطرف والملاقى (بالفتح) بحيث لا وجه لنجاسة الملاقى (بالكسر) غير نجاسة الملاقى ، فالحكم الشرعي لا يتخلف عما حكم به العقل من منجزية العلم الأول وان انكشف سبب وجود النجاسة دون الثاني ، لامتناع إفادة العلم

 الثاني التنجيز على كل تقدير ، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز ويصير الملاقى (بالفتح) موردا للأصل دون الملاقى ، واما المورد الثاني أعني ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الإجمالي كان الملاقى خارجا عن الابتلاء ، فحكمه ، ما أوضحناه من ان الملاقى (بالكسر) يصير طرفا للعلم غير ان خروج الملاقى (بالفتح) عن محل الابتلاء غير مؤثر ولذلك لو عاد يجب الاجتناب عنه كما عرفت

هاهنا شبهة

ومحصلها انه يلزم ان يكون الملاقى (بالكسر) على مباني القوم حلالا غير محرز الطهارة ، لأن في كل من الملاقى «بالفتح» والطرف والملاقى أصولا ستة ، تحصل من ضرب الأصلين (الطهارة والحلية) في الثلاثة إلّا انهما مختلفة رتبة فأصالة الطهارة في كل من الملاقى بالفتح والطرف في رتبة واحدة ، كما ان الشك في حليتهما في رتبة ثانية لأن الشك في حليتهما مسبب عن طهارتهما ، واما الملاقى بالكسر فبما ان الشك في طهارته مسبب عن الشك في طهارة الملاقى بالفتح فيكون الشك في طهارته في رتبة ثانية أي يتأخر الشك في طهارة الملاقى بالكسر عن الشك في طهارة الملاقى «بالفتح» والطرف برتبة ، ويتحد رتبة ذلك الشك «أي الشك في طهارته» مع رتبة الشك في حلية الملاقى بالفتح والطرف لأن الشك في طهارة الملاقى بالكسر وحلية الملاقى والطرف مسبب عن طهارة الطرف والملاقى بالفتح ، و «ح» يتحد هذه الأصول الثلاثة رتبة ، واما الشك في حلية الملاقى بالكسر فهو في رتبة ثالثة.

٣٦٨

إذا عرفت هذا : فالأصول الموجودة في الرتبة الواحدة تتساقط بالتعارض ، ويبقى الأصل الّذي لم يوجد له معارض و (عليه) فيسقط كل من أصالتي الطهارة في الملاقى (بالفتح) والطرف كما يسقط كل من أصالتي الحلية فيهما مع أصالة الطهارة في الملاقى «بالكسر» ، وتبقى أصالة الحلية في ناحية الملاقى (بالكسر) بلا معارض فهو حلال لم يحرز طهارته وان شئت قلت : في كل من الطرفين والملاقى أصل موضوعي وهو أصالة الطهارة ، وأصل حكمي وهو أصالة الحل ، والأصول الحكمية محكومة بالنسبة إلى الموضوعية ، والأصل الموضوعي في الملاقى «بالكسر» محكوم بالأصل الموضوعي في الملاقى بالفتح ، فإذا تعارض الأصلان الموضوعيان في الطرفين تصل النوبة إلى الأصلين الحكميين فيهما وإلى الأصل الموضوعي في الملاقى بالكسر فتتعارض هذه الأصول ويبقى الأصل الحكمي في الملاقي (بالكسر) سليما عن المعارض ، فالملاقي محكوم بالاجتناب من حيث انه ، لم يحرز طهارته ، ومحكوم بالحلية لأصالة الحلّ.

والجواب بوجهين : الأول : وهو مبنى على المختار من عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي للوجوه التي عرفتها في محله (فحينئذ) يكون الأصول الموضوعية والحكمية غير جارية في الملاقى (بالفتح) والطرف ويكون جريانها في الملاقى (بالكسر) بلا مانع ، لعدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه لكونه كالشبهة البدئية فيجري فيه الأصلان ، الطهارة والحل ، الا ما عرفت من بعض الصور الّذي يكون الملاقى فيه طرفا للعلم على ما عرفت.

الثاني : ان ما ذكره (قدس‌سره) مضافا إلى انه مبنى على تسليم أمور لم يسلم أكثرها كما سنشير إليها ـ مدفوع بان أصالة الطهارة في الملاقى (بالكسر) في الصورة الأولى التي تقدم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) والطرف غير معارضة لأصالة الحل في الطرف فلا مانع من جريانها لأن التعارض بين أصالة الطهارة فيه وأصل الحل في الطرف متقوم بالعلم الإجمالي المنجز حتى يلزم من جريانهما المخالفة العملية الممنوعة ، والمفروض انه لا تأثير للعلم الإجمالي الثاني في الملاقى (بالكسر)

٣٦٩

كما تقدم ، ومخالفة ذلك العلم غير المنجز لا مانع منه ، ولا يوجب عدم جريان الأصل فيه ، و (الحاصل) ان ما يجري فيه الأصل الملاقى بالكسر انما هو طرف للعلم غير المنجز وما لا يجري فيه أعني الملاقى والطرف فهما طرفان للمنجز منه ، و (عليه) فيجري في الملاقى أصالة الطهارة ، ولا يعارض ذلك الأصل مع أصالة الحل في الطرف ، وان كان يعارض أصالة الحل في الطرف مع أصالة الحل في الملاقى (بالفتح) لكونهما طرفين للعلم المنجز هذا كله في الصورة الأولى.

واما الصورة الثانية أعني ما تعلق العلم بنجاسة الملاقى والملاقى والطرف في عرض واحد ، فلا يجري الأصل في واحد منها لكون الجميع طرفا للعلم وقد عرفت قصور الأدلة عن شمولها للأطراف ومع تسليم جريانها ، فتجري وتسقط بالتعارض من غير تقدم للأصل السببي والمسببي لما سيوافيك من ان الرتب العقلية لا اعتبار بها وما هو الميزان لتقدمه عليه مفقود في المقام فتأمل.

واما الصورة الثالثة ، فلا يجري في الملاقى (بالكسر) والطرف لكونهما طرفين للعلم المنجز ، واما الملاقى (بالفتح) فقد عرفت انه خارج عن كونه طرفا للعلم فيجري فيه الأصول عامة ، نعم المورد الثاني من تلك الصورة أعني ما إذا خرج الملاقى (بالفتح) عن محل الابتلاء فقد عرفت ما هو الحق عندنا على خلاف بيننا وبين القوم ، فعلى المختار لا يجري فيه أيضا كالملاقي (بالكسر) لعدم الاعتبار بالخروج عن محل الابتلاء فتلخص ان ما أفاده من الشبهة ، لا تجري في الملاقى في الصورة الأولى ، لكونه كالشبهة البدئية ، فلا تتعارض أصوله مع غيره ، ولا في الملاقى (بالفتح) في الموضع الأول من الصورة الثالثة مطلقا ، ولا فيه أيضا في المورد الثاني منها على مباني القوم ، واما الصورة الثانية فالأصول في الجميع متعارضة ، ولا اعتبار بالسببي والمسببي في المقام لما عرفت.

ما أفاده شيخنا العلامة من الجواب حول الشبهة

ومحصله : ان الأصول في أطراف العلم غير جارية حكمية كانت أو موضوعية ، اما لأجل التناقض الواقع في مدلول الدليل ، واما لأجل ان أصالة الظهور في عمومات

٣٧٠

الحل والطهارة معلقة بعدم العلم على خلافها ، فحيثما تحقق العلم ، يصير قرينة على عدم الظهور فيها من غير فرق بين كون العلم سابقا على مرتبة جريانها أو مقارنا (فحينئذ) نقول : ان العلم الإجمالي المانع من جريان الأصلين الموضوعيين لأجل التناقض أو لأجل عدم جريان أصالة الظهور في العمومات مانع عن جريان الأصلين الحكميين أيضا لكونه قرينة على عدم الظهور ، غاية الأمر تكون قرينيته بالنسبة إلى الأصل الموضوعي مقارنة وبالنسبة إلى الأصل الحكمي مقدمة ، ولا فرق من هذه الحيثية فمورد جريان الأصل الحكمي ووجود الشك في الأصل المحكوم كان حين وجود القرينة على خلافه ، فلا يبقى الظهور لأدلة الأصول فيبقى الأصل الموضوعي في الملاقى (بالكسر) سليما عن المعارض «انتهى»

وفيه : ان مراده رحمه‌الله من التناقض في مدلول الدليل ان كان ما أفاده الشيخ الأعظم في أدلة الاستصحاب وأدلة الحل من تناقض صدرها مع ذيلها فقد أوضحنا حاله عند البحث عن جريان الأصول في أطراف الشبهة ، وان كان مراده هو العلم بمخالفة أحدهما للواقع ، فهذا ليس تناقضا في مدلول الدليل ، بل مآله إلى مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي ، وقد فرغنا عن رفع الغائلة بينهما فراجع ، أضف إلى ذلك ان ما ادعاه من كون العلم قرينة على عدم الظهور في أدلة الأصول ، ممنوع لأن كل واحد من الأطراف مشكوك فيه ، ومصداق لأدلة الأصول ، والعلم بمخالفة بعضها للواقع لا يوجب صرف ظهورها بعد رفع المناقضة بين مفاد الأصلين والحكم الواقعي.

البحث الرابع إذا شككنا في ان الملاقى مخصوص بجعل مستقل أو يكون وجوب الاجتناب عنه من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح فهل الأصل يقتضى البراءة أو الاحتياط الظاهر جريان البراءة العقلية والشرعية. فيه لرجوع الشك إلى الأقل والأكثر فان التكليف بوجوب الاجتناب عن نفس الأعيان النجس معلوم وشك في كونه بحيث يقتضى وجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضا أولا فيكون الشك في خصوصية زائدة على أصل التكاليف بالاجتناب عن الأعيان

٣٧١

موجبة للاجتناب عن ملاقيها أيضا وهي مورد الأصل عقلا وشرعا.

وبعبارة أخرى : ان الاشتغال متقوم بتعلق العلم الإجمالي بتكليف واحد مقتض للاجتناب عن النجس وملاقيه ، فيكون علم إجمالي واحد متعلق بتكليف واحد لكن مع تلك الخصوصية والاقتضاء ، ولو شككنا في ان الحكم على الأعيان النجسة كذلك أولا ، فلا ينجز العلم الإجمالي الأول المتعلق بوجوب الاجتناب عن الطرف أو الملاقى (بالفتح) وجوب الاجتناب عن الملاقى ، لكون تلك الخصوصية مشكوكة فيها والعلم الإجمالي الثاني على فرضه غير منجز كما مرّ سابقا ، ومع عدم تمامية الحجة من المولى وعدم تنجيز العلم الإجمالي للخصوصية تجري البراءة العقلية ، والشرعية لعدم المانع في الثانية بعد جريان الأولى.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده بعض أعاظم العصر في تقريراته وأطنب نفسه الشريفة وجعل المسألة مبنية على ما لا يبتنى عليه أصلا (١) كما يظهر الإشكال فيما أفاده بعض محققي العصر (قدس‌سره) فراجع.

وينبغي التنبيه على أمور

وقد تعرض لها الشيخ الأعظم وتبعه بعض أعاظم العصر (قدس‌سره)

الأول : لا إشكال حسب القواعد العقلية في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع ، من غير فرق بين الشرائط والموانع ، فيجب الصلاة إلى أربعة جهات ، أو في ثوبين يعلم بطهارة أحدهما ، أو بخلوه مما لا يؤكل لحمه ، ولا وجه لسقوط الشرائط والموانع بالإجمال ، فما حكى عن المحقق القمي من التفصيل بينما يستفاد من قوله عليه‌السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ، فذهب إلى السقوط وعدم وجوب الاحتياط وما يستفاد من قوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بطهور ، فاختار وجوب الاحتياط لعله مبنى على ما هو المعروف منه من عدم تنجيز العلم الإجمالي مطلقا وانه كالشبهة البدئية ، و (ح) لا بد من الرجوع إلى الأصول وبما ان المستفاد من الأول هو المانعية فيرجع فيها إلى البراءة لانحلال الحكم فيه حسب افراد المانع ومصاديقه فيؤخذ بالمعلوم منه ، ويرجع في المشكوك فيه إلى

__________________

(١) وقد بحث سيدنا الأستاذ في الدورة السابقة حول كلامه وطوي عنه الكلام في هذه الدورة وعن غيره من المباحث غير الهامة فشكر الله مساعيه الجميلة في تهذيب أصول الفقه وتنقيحه. المؤلف.

٣٧٢

البراءة لكون الشك في حكم مستقل ، واما المستفاد من الثاني وأضرابه هو الشرطية وهو مما يجب إحرازه وطريق إحرازه هو تكرار الصلاة على وجه يحصل اليقين بالبراءة

 واما ما أفاده بعض الأعاظم من ان المحقق القمي فصل بين الشرائط (لا بين الشرط والمانع) المستفادة من قوله عليه‌السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه والمستفادة من قوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بطهور ، ثم قال : ولم يحضرني كتب المحقق حتى أراجع كلامه وكأنه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فغير صحيح احتمالا وإشكالا ، اما الأول ، فلان القياس المذكور لا يصحح التفصيل المحكي عنه ، ضرورة ان العجز عن الشرط والمانع سواسية فلو كان مفاد الدليل هو الشرطية والمانعية المطلقتين ، فلازمه سقوط الأمر لعدم التمكن من الإتيان بالمكلف به ، وان لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط والمانع مطلقا عن الشرطية والمانعية من غير فرق.

واما إشكالا فلان غرضه الفرق بين العلم والقدرة بان العلم من شرائط التنجيز ، والقدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليته ، و (فيه) ما مرّ من ان العلم والقدرة سواسية فان القدرة الشخصية من شرائط التنجيز لما مر من ان الأحكام الشرعية أحكام قانونية ولما ذكرنا يجب الاحتياط عند الشك في القدرة ، فلو كانت من شرائط ثبوت التكليف لكانت البراءة محكمة عند الشك فيها.

أضف إلى ذلك ان من البعيد ان يذهب المحقق إلى ان المستفاد من قوله عليه‌السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه هو الشرطية ، فان جمهور الأصحاب الا ما شذ قالوا بالمانعية ، فمن البعيد ان يكون ذلك مختار المحقق القمي قدس‌سره وبذلك يظهر الخلل في حكاية مقالة المحقق كما لا يخفى.

التنبيه الثاني

فصل الشيخ الأعظم (قدس‌سره) : بين الشبهات البدئية والمقرونة بالعلم

٣٧٣

الإجمالي إذا كان المحتمل أو المعلوم بالإجمال من العبادات ، فاكتفى في الأولى في تحقق الامتثال بمجرد قصد احتمال الأمر والمحبوبية فانه هو الّذي يمكن في حقه ، واما في المقرونة بالعلم الإجمالي فحكم بعدم كفايته بل رأى لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كل تقدير وقال : ولازمه ان يكون المكلف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصدا للإتيان بالآخر ، إذ مع عدم ذلك لا يتحقق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كل تقدير ، بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلقه بالمأتي به ، وهذا لا يكفى في تحقق الامتثال مع العلم بالأمر

 وأورد عليه بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) بان العلم بتعلق الأمر بأحد محتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات ، فان الطاعة في كل من المحتملين ليست إلّا احتمالية كالشبهة البدئية ، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكل من المحتملين وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء حتى يقال : العلم بتعلق التكليف بعمل واحد يقتضى قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على تقدير تعلق الأمر بالمأتي به وان كان متجريا في قصده عدم الامتثال على كل تقدير «انتهى»

 قلت : قد مر في مبحث القطع ما يوضح حال المقام وضعف ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس‌سره) من ان إطاعة الأمر المعلوم تتوقف على ان يكون المكلف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصدا للإتيان بالآخر ، لما عرفت من عدم الدليل على الجزم في النية ، بل يكفى كون العمل مأتيا لله تعالى وهو حاصل في إتيان كل واحد من العملين ولا يحتاج إلى الجزم بوجود الأمر في البين حتى لا يصح إطاعة المحتمل الأول إلّا بالقصد إلى ضم الآخر ، «وبالجملة» ان الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ليس إلّا إطاعة المولى فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره ، وكونه قاصدا للإتيان بالآخر أو تركه لا ينفع ولا يضر بذلك فلا يتوقف امتثال الأمر المعلوم على قصد امتثال كلا المشتبهين.

٣٧٤

واما ما نقلناه عن بعض أعاظم العصر رحمه‌الله فهو أيضا غير تام من ناحية أخرى ، فان الفرق في الداعي في البدئية والمقرونة بالعلم واضح جدا فان الداعي في الأولى ليس إلّا احتمال الأمر ، وفي الثانية ليس احتماله فقط ، بل له داعيان ، داع إلى أصل الإتيان وهو الأمر المعلوم ، وداع آخر إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه ، والداعي الثاني ينشأ من الأول ، فهو يأتي بالمحتمل لداعيين : الأمر المعلوم ، واحتمال الانطباق وهو منشأ من الداعي الأول ، وان شئت قلت انه ينبعث في الإتيان بكل واحد من المحتملين عن داعيين داع لامتثال امر المولى ، وداع الاحتفاظ عليه عند الاشتباه.

التنبيه الثالث

إذا كان المعلوم بالإجمال واجبين مترتبين كالظهر والعصر واشتبه شرط من شرائطهما كالقبلة أو الستر ، فلا إشكال انه لا يجوز استيفاء محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الظهر كما انه لا يجوز قبل استيفاء محتملات الظهر ان يأتي بالعصر ، إلى الجهة التي لم يصل الظهر إليها بعد انما الكلام في انه هل يجب استيفاء جميع محتملات الظهر مثلا قبل الشروع في الآخر ، أو يجوز الإتيان بهما مترتبا إلى كل جهة ، فيجوز الإتيان بظهر وعصر إلى جهة ، وظهر وعصر إلى أخرى وهكذا حتى يستوفى المحتملات الأقوى هو الثاني وبنى بعض الأعاظم ما اختاره على ما قواه سابقا من ترتب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وان فيما نحن فيه جهتين

إحداهما إحراز القبلة فهو مما لا يمكن على الفرض ، والأخرى إحراز الترتيب بين الظهر والعصر ، وهو بمكان من الإمكان ، وذلك بالإتيان بجميع محتملات الظهر ثم الاشتغال بالعصر ، وعدم العلم حين الإتيان بكل واحد من محتملات العصر ، بأنه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر انما هو للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه ، لا يوجب سقوطه في سائر الشروط مع الإمكان ، انتهى ملخصا

 وفيه ان المبنى عليه والمبنى كلاهما ممنوعان ، اما الأول فلما عرفت من عدم

٣٧٥

الدليل علي تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي ولا طولية بينهما أصلا ، فيجوز الاحتياط مع التمكن من التقليد والاجتهاد ، والجمع بين المحتملات مع التمكن من العلم ، إذا كان هنا غرض عقلائي ، ولا يعد ذلك تلاعبا بأمر المولى على ما عرفت من حكم العقل والعقلاء والبرهان ما تقدم ، واما الثاني فلان أقصى ما يحصل من الشروع بمحتملات العصر بعد استيفاء محتملات الظهر ، هو العلم بالإتيان بالظهر محققا على كل تقدير أي سواء كان محتمل العصر عصرا واقعيا أولا ، وهذا بخلاف ما لو شرع قبل الاستيفاء ، ولكن هذا المقدار لا يجدى من الفرق فلان في الإتيان بكل ظهر وعصر مترتبا إلى كل جهة ، موافقة على تقدير ، وعدم موافقة رأسا بالنسبة إلى كل واحد من الظهر والعصر على تقدير آخر ، وليس الأمر دائرا بين الموافقة الإجمالية والتفصيلية حتى يقال انهما مترتبان ، لأن كل واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة ، فقد أتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعا وغير المصادف منها ، عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما حتى يقال انه موافقة إجمالية ، العلم بحصول الترتيب بين الظهر والعصر حين الإتيان بهما لا يمكن على أي حال سواء شرع في محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الأخر أولا ، واما ما ادعى : من ان عدم العلم حين الإتيان بكل عصر بأنه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر انما هو للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب فمن غرائب الكلام ، فان الترتيب مجهول على كل تقدير فان المكلف لا يعلم (ولو استوفى محتملات الظهر) عند الإتيان بكل عصر انها صلاة واقعية عقيب الظهر أولا ، بل يعلم إجمالا انها اما صلاة واقعية مترتبة على الظهر واما ليست بصلاة أصلا فضلا عن ان يكون مترتبا ، ولو قلنا بكفايته فهو حاصل على المختار أي إذا أتى بواحد من محتملات الظهر والعصر إلى جهة ، وهكذا حتى يتم المحتملات ، فانه يعلم إجمالا بان المحتمل الأول من محتملات العصر اما صلاة واقعية مترتبة على الظهر ، واما ليس بصلاة

 وان شئت قلت : ان الترتيب بينهما يتقوم بثلث دعائم ، وجود الظهر ، وجود العصر ، تأخره عنه ، فلو لم يأت بالظهور ، أو بالعصر أو قدم الثاني على الأول لبطل

٣٧٦

الترتيب ، (فحينئذ) فالقول بتحقق العلم بالترتيب عند الإتيان بكل واحد من محتملات العصر ، غريب لأنه عند الشروع بواحد منها لا يعلم انها صلاة عصر صحيحة أولا ، ومع ذلك فكيف يعلم تفصيلا بوجود الترتيب مع كون الحال ما ذكر فان الترتيب امر إضافي بين الصلاتين الصحيحتين ، لا ما بين ما هو صلاة محققا ، وما هو مشكوك كونه صلاة أو امرا باطلا ، وان أراد من الترتيب ما ذكرنا فهو حاصل على كل تقدير.

القول في الأقل والأكثر

قد استوفينا الكلام بحمد الله في البحث عن المتباينين الّذي يعدّ مقاما أولا للشك في المكلف به ، وحان البحث عن الأقل والأكثر وهو من أنفع المباحث الأصولية ، فلا عتب علينا لو أرخينا عنان الكلام وجعلنا البحث مترامي الأطراف.

فنقول : تنقيح المقام يتوقف على بيان مقدمات.

الأولى : الفرق بين الاستقلاليين منهما والارتباطيين أوضح من ان يخفى ، فان الأقل في الاستقلالي مغاير للأكثر غرضا وملاكا ، وامرا وتكليفا كالفائتة المرددة بين الواحد وما فوقها ، والدين المردد بين الدرهم والدرهمين ، فهنا أغراض وموضوعات وأوامر وأحكام على تقدير وجوب الأكثر ومن هنا يعلم ان إطلاق الأقل والأكثر عليهما بضرب من المسامحة والمجاز وباعتبار ان الواحد من الدراهم أقل من الدرهمين وهو كثيرة ، وإلّا ، فلكل تكليف وبعث بحياله ، واما الارتباطي فالغرض قائم بالاجزاء الواقعية ، فلو كان الواجب هو الأكثر فالأقل خال عن الغرض والبعث من رأس ، فوزانه في عالم التكوين كالمعاجين فان الغرض والأثر المطلوب قائم بالصورة الحاصلة من تركيب الاجزاء الواقعية على ما هي عليها ، ولا تحصل الغاية الا باجتماع الاجزاء عامة بلا زيادة ولا نقيصة كما هو الحال في المركبات الاعتبارية أيضا ، فلو تعلق غرض الملك على إرعاب القوم وخصمائه ، يأمر بعرض الجنود والعساكر ، فان الغرض لا يحصل إلّا بإراءة صفوف من العساكر لا إراءة جندي واحد ، ومن ذلك يظهر ان ملاك

٣٧٧

الاستقلالية والارتباطية باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلق الأمر ، فان الغرض قد يقوم بعشرة اجزاء وقد يقوم بأزيد منها ، وسيوافيك ضعف ما عن بعضهم من ملاكهما انما هو وحدة التكليف وكثرته ، ضرورة ان وحدته وكثرته باعتبار الغرض الباعث على التكليف ، فلا معنى لجعل المتأخر عن الملاك الواقعي ملاكا لتمييزهما فتدبر.

الثاني : البحث انما هو في الأقل المأخوذ لا بشرط حتى يكون محفوظا في ضمن الأكثر ، فلو كان مأخوذا بشرط لا ، فلا يكون الأقل ، أقل الأكثر ، بل يكونان متباينين ، ورتب على هذا بعض محققي العصر رحمه‌الله خروج ما دار الأمر فيه بين الطبيعي والحصة من موضوع الأقل والأكثر ، بان تردد الأمر بين وجوب إكرام الإنسان أو إكرام زيد لأن الطبيعي باعتبار قابليته للانطباق على حصة أخرى منه المباينة مع الحصة الأخرى ، لا يكون محفوظا بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر. و (فيه) أولا : ان تسمية الفرد الخارجي حصة غير موافق لاصطلاح القوم فان الحصة عبارة عن الكلي المقيد بكلى آخر كالإنسان الأبيض واما الهوية المتحققة المتعينة فهو فرد خارجي لا حصة وثانيا : ان لازم ما ذكره خروج المطلق والمقيد عن مصب النزاع فان المطلق لم يبق بإطلاقه في ضمن المقيد ضرورة سقوط إطلاقه الأولى بعد تقييده فلو دار الأمر بين انه امر بإكرام الإنسان أو الإنسان الأبيض ، فالمطلق على فرض وجوب الأكثر بطل إطلاقه

 وثالثا : ان خروج دوران الأمر بين الفرد والطبيعي من البحث ، لأجل انه يشترط في الأمر المتعلق بالأكثر (على فرض تعلقه) داعيا إلى الأقل أيضا والفرد والطبيعي ليسا كذلك ، فلو فرضنا تعلق الأمر بالأكثر (الفرد لكونه هو الطبيعي مع خصوصيات) فهو لا يدعو إلى الأقل أعني الإنسان ، لأن الأمر لا يتجاوز في مقام الدعوة عن متعلقه إلى غيره ، وتحليل الفرد إلى الطبيعي والمشخصات الحافة به ، انما هو تحليل عقلي ، فلسفي ، ولا دلالة للفظ عليه أصلا فلو فرضنا وقوع كلمة «زيد» في مصب الأمر ، فهو لا يدل دلالة لفظية عرفية على إكرام الإنسان ، وقس عليه الأمر ، ما لو دار الأمر بين

٣٧٨

الجنس والنوع ، فلو تردد الواجب بين كونه الحيوان أو الإنسان فهو خارج عن الأقل والأكثر المبحوث عنه في المقام ، نعم لو دار الأمر بين الحيوان ، أو الحيوان الناطق فهو داخل في مورد البحث

الثالثة : ان الترديد بين الأقل والأكثر تارة يكون في متعلق التكليف وأخرى في موضوعه وثالثة في السبب المحصل الشرعي أو العقلي أو العرفي ، وعلى التقادير قد يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وقد يكون من الشرط والمشروط وثالثة من قبيل الجنس والنوع إلى غير ذلك من التقسيمات التي يتضح حالها وأحكامها مما نتلوه عليك.

إذا عرفت ما ذكرنا واعلم ان البراءة هو المرجع في الأقل والأكثر الاستقلاليين ـ ، اتفاقا إلّا ان الارتباطي منهما مورد اختلاف فهل المرجع هو البراءة أيضا مطلقا أو الاشتغال كذلك أو يفصل بين العقلي منها والشرعي فيجري الثاني منها دون الأول كما اختاره المحقق الخراسانيّ ، والتحقيق هو الأول ولنحقق المقام برسم أمور :

الأول : ان وزان المركبات الاعتبارية في عالم الاعتبار من بعض الجهات وزان المركبات الحقيقية في الخارج ، فان المركب الحقيقي انما يحصل بعد كسر سورة الاجزاء بواسطة التفاعل الواقع بينها ، فتخرج الاجزاء من الاستقلال لأجل الفعل والانفعال والكسر والانكسار ، وتتخذ الاجزاء لنفسها صورة مستقلة هي صورة المركب ، فلها وجود ووحدة غير ما للاجزاء واما المركب الصناعي كالبيت والمسجد ، أو الاعتباري كالقوم والفوج والأعمال العبادية كلها ، فان كل جزء منها وان كان باقيا على فعليته بحسب التكوين ، ولا يكسر عن سورة الاجزاء في الخارج شيء ، إلّا انها في عالم الاعتبار لما كان شيئا واحدا ، ووجودا فاردا ، تكسر سورة الاجزاء وتخرج الاجزاء عن الاستقلال في عالم الاعتبار. وتفنى في الصورة الحاصلة للمركب في عالم الاعتبار ، فما لم يحصل للمركب الصناعي أو الاعتباري وحدة اعتبارية كصورتها الاعتبارية لم يكن له وجود في ذلك اللحاظ ، فان ما لا ـ

 

٣٧٩

وحدة له لا وجود له تكوينا واعتبارا ، وانما تحصل الوحدة بذهاب فعلية الاجزاء وحصول صورة أخرى مجملة غير صورة الاجزاء المنفصلات

 والحاصل : ان النّفس بعد ما شاهدت ان الغرض قائم بالهيئة الاعتبارية من الفوج ، وبالصورة المجتمعة من الأذكار والأفعال ، ينتزع عندئذ وحدة اعتبارية وصورة مثلها تبلغ فعلية الاجزاء وأحكامها في عالم الاعتبار ، والفرق بين الاجزاء والصورة المركبة هو الفرق بين الإجمال والتفصيل ، فتلخص ان المركبات الاعتبارية والصناعية وان كانت تفارق الحقيقية إلّا انها من جهة اشتمالها على الصورة الصناعية أو الاعتبارية ، أشبه شيء بالحقيقية من المركبات ، والتفصيل في محله

الثاني : ان صورة المركب الاعتباري انما ينتهى إليها الآمر بعد تصور الاجزاء والشرائط على سبيل الاستقلال فينتزع منها بعد تصورها صورة وحدانية ويأمر بها ، على عكس الإتيان بها في الخارج توضيحه : ان المولى الواقف على أغراضه وآماله يجد من نفسه تحريكا إلى محصلاته فلو كان محصل غرضه امرا بسيطا ، يوجه امره إليه ، واما إذا كان مركبا فهو يتصور اجزائها وشرائطها ومعداتها وموانعها ويرتبها حسب ما يقتضى المصلحة والملاك النّفس الأمريين ثم يلاحظها على نعت الوحدة بحيث تفنى فيها الكثرات ، ثم يجعلها موضوعا للحكم ، ومتعلقا للبعث والإرادة فينتهى الآمر من الكثرة إلى الوحدة غالبا ، واما المأمور الآتي به خارجا فهو ينتهى من الوحدة إلى الكثرة غالبا ، فان الإنسان إذا أراد إتيان المركب في الخارج وتعلقت إرادته بإيجاده يتصوره بنعت الوحدة أولا ويجد في نفسه شوقا إليه ، ولما رأى انه لا يحصل في الخارج إلا بإتيان اجزائها وشرائطها حسب ما قرره المولى ، تجد في نفسه إرادات تبعية متعلقة بها ، فالمأمور ينتهى من الوحدة إلى الكثرة.

الثالث : ان وحدة الأمر تابع لوحدة المتعلق لا غير لأن وحدة الإرادة تابع لوحدة المراد فان تشخصها بتشخصه ، فلا يعقل تعلق إرادة واحدة بالاثنين بنعت الاثنينية والكثرة فما لم يتخذ المتعلق لنفسها وحدة لا يقع في أفق الإرادة الواحدة والبعث الناشر منها حكمه حكمها ، فما لم يلحظ في المبعوث إليه وحدة اعتبارية فانية فبه الكثرات لا يتعلق به

٣٨٠