تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

و (منها) قبح تكليف صاحب المروة بستر العورة فان الدواعي مصروفة عن كشف العورة ، فلا يصح الخطاب ، إذ أي فرق بين النهي عن شرب الخمر الموجود في أقاصي الدنيا ، وبين نهى صاحب المروة عن كشف سوأته بين ملأ من الناس ، ونظيره نهى المكلفين عن شرب البول وأكل القاذورات مما يكون الدواعي عن الإتيان بها مصروفة ، إذ أي فرق بين عدم القدرة العادية أو العقلية على العمل ، وكون الدواعي مصروفة عنها ، وما أفاده بعض الأعاظم من ان التكليف غير مقيد بالإرادة لأن التقييد بها غير معقول ، بخلاف القدرة العقلية والعادية ، قد وافاك جوابه ، فانّ التكليف لأجل إيجاد الداعي ولو لأجل الخوف والطمع في الثواب ، والتارك للشيء بالطبع ، سواء نهى المولى عنه أو لم ينهه عنه ، تارك له مطلقا ، فالزجر لغو أو غير ممكن لعدم تحقق ما هو المبادي للإرادة الجدية كما أوضحناه.

و (منها) يلزم على كون الخطاب شخصيا ، عدم وجوب الاحتياط عند الشك في القدرة ، لكون الشك في تحقق ما هو جزء للموضوع ، لأن خطاب العاجز قبيح ، والشك في حصول القدرة وعدمها ، شك في المصداق وهو خلاف السيرة الموجودة بين الفقهاء من لزوم الاحتياط عند الشك في القدرة ، ومنها لزوم الالتزام بان الخطابات وأحكام الوضعيّة مختصة بما هو محل الابتلاء لأن جعل الحكم الوضعي ان كان طبعا للتكليف فواضح ومع عدم التبعية والاستقلال بالجعل فالجعل انما هو بلحاظ الآثار ولهذا لا يمكن جعل حكم وضعي لا يترتب عليه أثر مطلقا فجعل النجاسة للخمر والبول للآثار المرتبة عليها كحرمة الشرب وبطلان الصلاة مع تلوث اللباس بها ومع الخروج عن محل الابتلاء لا يترتب عليها آثار فلا بدّ من الالتزام بان النجاسة والحلية وغيرهما من الوضعيات من الأمور النسبية بلحاظ المكلفين فيكون الخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما ولا أظن التزامهم بذلك للزوم الاختلال في الفقه والدليل العقلي غير قابل للتخصيص يكشف ذلك عن بطلان المبنى وعلى ما حققناه ، فكلها مندفعة ، فان الخطابات الإلهية فعلية في حق الجميع ، كان المكلف عاجزا أو جاهلا أو مصروفا عنه دواعيه ، أو لم يكن ، وان كان العجز والجهل

٣٤١

عذرا عقليّا ، وقس عليه الخروج عن محل الابتلاء ، فهو لا يوجب نقصانا في التكليف ، ولا بد من الخروج عن عهدته بترك ما يكون في محل الابتلاء وقد عرفت ان ما هو الشرط في صحة الخطاب القانوني غير ما هو الشرط في صحة الخطاب الشخصي ، من غير فرق بين التكليف المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال ، فالتكليف المعلوم لا بد من الخروج عن عهدته بالموافقة القطعية ، والاجتناب عن مخالفة القطعية والاحتمالية ومجرد كون أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أو مصروفة عنه الدواعي لا يوجب نقصانا في التكليف القانوني وان كان موجبا له في الشخص.

واما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه : فيمن رعفت فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه إلخ فقد حمله الشيخ الأعظم (قدس‌سره) على العلم الإجمالي بإصابة ظهر الإناء أو باطنه المحتوي للماء ثم علل عدم وجوب الاجتناب عن الماء بخروج ظهر الإناء عن محل الابتلاء ، وهو بمكان من الغرابة إذ كيف يكون ظهر الإناء الّذي بين يدي المكلف خارجا عن ابتلائه ، واما الحديث فلا بد من تأويله ، وحمله اما على الاجزاء الصغار التي لا يدركه الطرف ، وان كانت مرئية بالنظّارات ، إلّا ان الدم المرئي بها ليست موضوعة للحكم الشرعي ، ولا ينافى هذا الحمل بالعلم بإصابة الإناء فان العلم بها غير إدراك الطرف ، واما على إبداء الشك في أصل الإصابة مطلقا ، وعلى أي حال فهي بظاهرها مما عرض عنها الأصحاب

بحث وتنقيح

ثم انه على القول بكون الخروج عن محل الابتلاء مانعا عن تأثير العلم الإجمالي يقع البحث فيما إذا شك في خروجه عن محل الابتلاء لا من جهة الأمور الخارجية بل من جهة إجمال ما هو خارج عن مورد التكليف الفعلي ، فهل الأصل يقتضى الاحتياط أو البراءة واختار الأول شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) حيث قال : ان البيان المصحح للعقاب عند العقل وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين أمور حاصل ، وان شك في الخطاب الفعلي من جهة الشك في حسن التكليف وعدمه ، وهذا المقدار يكفى حجة عليه نظير

٣٤٢

ما إذا شك في قدرته على إتيان المأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا ، وهل له ان يقدم على الفعل ، بمجرد الشك في الخطاب الفعلي الناشئ من الشك في قدرته ، و (الحاصل) ان العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذرا للعبد في ترك الامتثال هذا ، وفيه ان التحقيق هو البراءة لأنه بعد القول بكون الابتلاء من قيود التكليف يرجع الشك إلى أصل التكليف ، ومجرد احتمال كون المبغوض هو المبتلى به لا يوجب تمامية الحجة على العبد بل له الحجة لاحتمال كون المبغوض في الطرف الآخر ، واما الشك في القدرة ، فلو قلنا بمقالة القوم فلا مناص عن البراءة ، لأن فعلية التكليف على مباني القوم من حدود التكليف وقيوده فالشك فيها شك في أصل التكليف نعم على ما قلنا من كون الخطابات القانونية فعلية في حق القادر والعاجز ، غير ان العاجز ، معذور في ترك امتثاله ، فعند الشك فيها لا مناص عن الاحتياط الا مع إحراز العذر وإقامة الحجة بعد تمامية الحجة من المولى ، فالشك في القدرة مصب البراءة على مباني القوم كالشك في الابتلاء لا على المختار فتدبر واما القول باستكشاف الملاك من إطلاق المادة ففيه ان إحراز الملاك من تبعات تعلق التكليف على مسلك العدلية ومع كون القدرة والابتلاء من قيوده وحدوده لا طريق لاستكشافه الا في بعض الأحيان المستكشف ذلك من الأمور الخارجية وهو لا يفيد لكونه أخص من المدعى كما ان القول بان القدرة العقلية والعادية غير دخيلة في الملاكات النّفس الأمرية بل هي من شرائط حسن الخطاب تخرص على الغيب لعدم العلم بالحركات الواقعية ومن المحتل دخالة القدرة فيها ولا يدفع هذا الاحتمال الا بإطلاق الدليل وهو مفقود فرضا الا على ما اخترناه

 ثم ان بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) استدل على وجوب الاحتياط تبعا للشيخ الأعظم (قدس‌سره) بإطلاق أدلة المحرمات وحاصل ما أفاد ما يلي ، ان القدر المسلم من التقييد ما هو إذا كان الخمر خارجا عن محل الابتلاء بحيث يلزم استهجان الخطاب في نظر العرف ، فإذا شك في استهجانه وعدمه للشك في إمكان الابتلاء بموضوعه أو

٣٤٣

عدمه فالمرجع هو إطلاق الدليل ، لأن المخصص المجمل بين الأقل والأكثر مفهوما لا يمنع عن التمسك بالعامّ فيما عدا القدر المتيقن من التخصيص وهو الأقل خصوصا اللبيات ، فانه يجوز التمسك بالعامّ فيها في الشبهات المصداقية فضلا عن الشبهات المفهومية والسر في ذلك هو ان العقل لا يخرج العنوان عن تحت العموم بل يخرج ذوات المصاديق ، الخارجية فالشك يكون شكا في التخصيص الزائد ، ولا يكون الشبهة مصداقية كالمخصصات اللبية (فان قلت) المخصصات اللبية الحافة بالكلام كما فيما نحن فيه يسرى إجمالها إلى العام كالمخصصات اللفظية المتصلة المجملة

 (قلت) : مضافا إلى انه يمكن منع كون المخصص هنا من الضروريات المرتكزة من الأذهان ان هذا مسلم إذا كان الخارج عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب كالفسق المردد بين مرتكب الكبيرة أو الأعم واما إذا كان عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشك في بعض آخر فلا ، لأن الشك يرجع إلى التخصيص لزائد.

(فان قلت) : التمسك بالإطلاق فرع إمكان الإطلاق الواقعي وفيما نحن فيه يكون الشك في صحة الإطلاق النّفس الأمري لاحتمال استهجان التكليف (قلت) : هذا ممنوع لأن التمسك بالإطلاق لو كان فرع الإمكان الواقعي لما جاز التمسك به مطلقا لأن كلية الموارد يصير الشك فيه من قبيل إمكان الإطلاق النّفس الأمري خصوصا على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فان الشك يرجع إلى الشك في وجود مصلحة أو مفسدة ، ويمتنع الإطلاق مع عدمهما ، فكما ان الإطلاق يكشف عن المصلحة النّفس الأمرية ، فكذلك يكشف عن عدم الاستهجان «انتهى كلامه» ، ولا يخفى ان في كلامه : إنظارا نشير إلى مهماتها «منها» ان المخصص اللبي يسرى إجماله إلى العام مطلقا ضروريا كان أو نظريا ، اما الأول ، فلأنه بحكم المتصل اللفظي ، يمنع عن انعقاد الظهور الا في العام المقيد بالعنوان المردد بين الأقل والأكثر كالعلماء العدول ، فلا يثبت حجيته الا في المتيقن لا المشكوك ، واما الثاني ، فلأنه بعد الانتقال إلى حكم العقل ولو بعد برهة من الدهر يستكشف عن ان ما تخيله من العموم

٣٤٤

كان امرا غير صحيح ، بل كان الكلام من أول الأمر مقيدا بغير عنوان المخصص لوجود حكم العقل في زمن الصدور وان كان المكلف غير ملتفت ، فما يظهر من كلامه من حصر سراية الإجمال بما إذا كان ضروريا لا نظريا غير سديد ، فان العقل يكشف عن ان الخطاب لم يكن متوجها إلى الخارج عن محل الابتلاء ، ففرق بين ورود المخصص منفصلا ، وبين الغفلة عن الواقع ، وحصول العلم بعد برهة بمحدودية الخطاب وتقييده من أول الأمر ، وان شئت قلت : ان المقام نظير كشف القرينة اللفظية الحافة بالكلام بعد حين ، فكما انها يسقط العام عن الحجية في غير القدر المتيقن ، فهكذا المخصص العقلي أضف إلى ذلك : ان منع كون المخصص هنا ضروريا مرتكزا في الأذهان ، قابل للمنع.

ومنها : ان إجمال المخصص الحاف بالكلام سواء كانت لفظيا متصلا به أو لبيا يسرى إلى العام ، نعم لو كان لفظيا منفصلا فلا يسرى ، لانعقاد ظهوره في جميع الافراد وحجيته في العموم إلى ان يقوم دليل آخر أقوى منه ، حتى يصح رفع اليد عن الحجة بالحجة ، والمفروض عدم قيامها الا في الأقل دون الأكثر ، واما الحاف بالكلام سواء كان لفظيا أو لبيا ، فيسري إجماله إليه لعدم انعقاد ظهور له الا في المقدار المتقيد ، والمفروض دوران الأمر في المخصص بين الأقل والأكثر ، فلا يكون العام حجة الا في القدر المتيقن ، ولأجل ذلك لا يجوز التمسك في الشبهات المصداقية في المخصص اللبي أيضا ، بلا فرق بينه والمخصص اللفظي (والحاصل) ان العام المحفوف بالعنوان المجمل المردد بين الأقل والأكثر ، ليس له ظهور الا في العام المقيد بالمجمل المردد بين الأقل والأكثر فلا يثبت حجيته الا في المتيقن لا المشكوك.

فان قلت : يمكن ان يكون سر عدم سرايته هو ان العقل يخرج ذوات المصاديق لا العنوان حتى يصير الشبهة مصداقية بل يصير من قبيل التخصيص الزائد ، (قلت) هذا ما أفاده بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) تبعا لما أفاده الشيخ الأعظم (طيب الله رمسه) إلّا ان ذلك ممنوع ، فان الافراد تخرج عن تحت العام عند العقل بملاك واحد ، وقد يخرج كل فرد بملاك يخصه ، فلو كان من قبيل الثاني كان لما ذكره من التوجيه

٣٤٥

وجه كما هو الحال في المخصص اللفظي إذا كان خروج كل فرد بعنوان يخصه واما إذا كان من قبيل الأول فلا ، لأن الإخراج كله بملاك واحد ، فخروج الفرد المشكوك خروجه لا يستلزم تخصيصا زائدا ، فلو قال المولى أكرم جيراني ، وحكم العقل بحرمة إكرام أعداء المولى ، فلا إشكال ان المخرج هو العنوان الوحداني ، والمخصص واحد لا كثير ، والشبهة مصداقية ، وخروج الفرد المشكوك لا يستلزم تخصيصا آخر ، فلا يجوز التمسك فيه بعين ما ذكر في المخصص اللفظي المتصل

فان قلت : ان ما ذكر انما يصح لو كانت الجهات تقييدية فيصير المخرج هو العنوان المقيد واما إذا كانت تعليلية فالخارج هي الافراد لأجل تلك العلة (قلت) : قد حقق في محله ان الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية ، فلو قيل لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، فالموضوع في القضية اللفظية انما هو الخمر لكونها مسكرا لكن ما هو المحرم لبا في إدراك العقل انما هو المسكر لا غير ، فظهر انه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبّي.

ومنها : ان ما أفاده من الفرق بين المخصص الّذي هو ذات مراتب كالخروج عن محل الابتلاء وما ليس كذلك كالفاسق فيجوز التمسك بالعامّ في الأول في اللفظي واللبي معا ، من غرائب الآراء إذ أي فرق بين الفسق والخروج عن محل الابتلاء حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأول ، مع ان الخروج عن طاعة الله له مراتب مختلفة ، فان مرتبة ارتكاب الصغائر ، غير مرتبة ارتكاب الكبائر وأضعف منها ، وهو يباين مع ارتكاب الموبقات من الذنوب مرتبة ، (وعلى ذلك) فربما يشك في ان الخارج عن العام هل هو مطلق من خرج عن طاعة الله ، أو الخارج عنه مرتبة خاصة منه ، كما ربما يقال : ان البلاد مختلفة ، فالواقع في أقاصي العالم يعد خارجا عن محل الابتلاء ، وانما الشك في الأواسط والأداني ، ولعل كون الفاسق ذات مراتب أولى من كونه ذات مراتب كما لا يخفى

أضف إلى ذلك ان ما ادعاه من الكبرى غير مسلم فان الإجمال يسرى إلى العام إذا كان المخصص متصلا ، وان كان مقولا بالتشكيك ، فلو قال المولى أكرم العلماء

٣٤٦

الا الأبيض منهم وشككنا في ان الخارج هل هو الأبيض الشديد أو الأعم منه فلا يجوز التمسك به في غير المتيقن خروجه ، لأنه من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس العام لا المخصص ، إذ ليس للكلام الا ظهور واحد ، فمع إجمال القيد لا يعقل عدم السراية.

ومع ذلك كله ، فعدّ المقام من قبيل الشبهة المفهومية غير صحيح لأن معناها ان المفهوم مجمل في دائرة المفهومية فلا يعلم انطباقه على موضوع حسب الوضع اللغوي أو العرفي (كالفاسق) إذ هو مجمل حسب المعنى الموضوع له ، فلا نعلم ان معناه هو مرتكب الكبائر ، أو الأعم فيكون الشك في انطباق مفهوم الفاسق على مرتكب الصغيرة ، واما إذا علم ان له مفهوما معينا ذات مراتب ، وشك في ان الخارج أي مرتبة منه ، فهو داخل في إجمال المراد وخارج عن الشبهة المفهومية لكون المفهوم مبيّنا.

ثم ان ما أفاده : من ان التمسك بالعموم لو كان مشروطا بإحراز إمكان الإطلاق النّفس الأمري لانسد باب التمسك بها لا سيما على مذهب العدلية

 ففيه انه فرق واضح بين قضية استهجان الخطاب وغيره فان البحث عن تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد بحث عقلي محض ، فقد تضاربت فيه آراء العدلية والأشاعرة وليس العلم باشتمال الموضوع على المفاسد والمصالح من مبادئ الاحتجاج في محيط العقلاء ، بل الخطاب عند الشك في التقييد والتخصيص تام متوجه إلى المكلف والأصل العقلائي الدائر عندهم يحكم بمطابقة الإرادة الاستعمالية والجدية ، فعند الشك في دخالة قيد ، أو خروج فرد تصير أصالتي العموم والإطلاق محكمة ، لتمامية ما هو ملاك الحجاج عندهم ، فحديث المصالح والمفاسد مما يغفل عنه العامة وانما يبحث عنهما العلماء الباحثون عن دقائق المسائل ، فلو سمع العبد في محيط العقلاء قول المولى أكرم العلماء يقف على ان تمام الموضوع هو العلماء ولو شك في دخول فردا ودخالة شيء يحكم بالعموم والإطلاق على عدم دخالة شيء أو عدم خروجه من

٣٤٧

غير التفات إلى إمكان إطلاق النّفس الأمري على مسلك العدلية ، واما المقام ، فاستهجان الخطاب في الموارد الخارجة عن محل الابتلاء ليس مخفيا على أحد ، فلو شك في استهجان الخطاب لأجل الشك في كونه مورد الابتلاء أولا ، لما صح التمسك بالإطلاق لكشف حاله ، إذ التمسك بالإطلاق فرع إحراز إمكانه بهذا المعني.

هذا كله على مباني القوم وقد عرفت انه لا مناص عن البراءة واما على المختار فلزوم الاحتياط مما لا غبار عليه ، ويعلم وجهه مما قدمناه.

القول في الشبهة غير المحصورة

وتوضيح حالها في ضمن أمور ـ الأول : لو وقف المكلف على تكليف فعلى قطعي وجداني بحيث لا يرضى المولى بتركه مطلقا فلا إشكال في لزوم اتباعه وقبح مخالفته سواء كان الأطراف محصورة أو غير محصورة ، نعم لو وقف على الحكم لأجل إطلاق الدليل أو عمومه ، فللترخيص فيه مجال فلا بدّ ، من ملاحظة دلالة ما يدل على الترخيص وتمامية دلالته كأدلة الحل وغيرها ، وقد وافاك في المحصور من الشبهة ان شمول أدلة الحل على أطراف المحصور ، وان كان لا يعد ترخيصا في المعصية في نظر العقل ، إلّا انه ترخيص في نظر العرف الّذي هو المحكم في هذه الميادين ، واما أطراف غير المحصور فسيأتي بيان الحال فيه ، وليعلم انه لا بد ان يتمحض البعث في الشبهة غير المحصورة من حيث هي هي مع قطع النّظر عن سائر العناوين المجوزة كالاضطرار والخروج عن محل الابتلاء أو العسر والحرج ، وما يظهر من الشيخ الأعظم من الاستدلال على الجواز بخروج بعض الأطراف أو أكثرها من محل الابتلاء ليس بسديد.

الثاني : قد اضطرب كلام القوم في ميزان الشبهة غير المحصورة ، كما اضطرب في بيان سرّ عدم وجوب الاجتناب عن بعض أطرافها أو جميعها وأسدّ ما قيل في المقام ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ان كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلا في طرف خاص بحيث لا يعتنى به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي فيكون في كل طرف يريد الفاعل ارتكابه ، طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه

٣٤٨

وان شئت توضيحه : فلاحظ حال العقلاء تريهم لا يعتنون ويعدون المعتني ضعيف القلب ، فلو سمع الرّجل ان واحدا من بيوت بلده التي فيها آلاف بيت قد أغرقه الماء ، أو وقع فيه حريق ، أو قرأ في جريدة ان واحدا من أهل بلده التي فيها مائة الف نسمة ، قد قتل تراه لا يبالي بما سمعه ، ولو صار بصدد التفتيش ، وأظهر الاضطرار والوحشة ، لاحتمال كون البيت بيته ، والمقتول ولده ، لعدّ ، ضعيف العقل أو عديمة والسر فيه هو ان كثرة الاحتمال يوجب موهومية المحتمل.

ثم ان شيخنا العلامة قد استشكل فيما ذكره بان الاطمئنان بعدم الحرام في كل واحد من الأطراف لا يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها ، و (فيه) ان الإيجاب الجزئي وان كان لا يجتمع مع السلب الكلي ، إلّا ان المنافاة انما يتحقق في المقام إذا لوحظت الافراد في عرض واحد لا إذا لوحظت كل واحد في مقابل الباقي ، فكل واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل الباقي يكون فيه احتمال واحد في مقابل الاحتمالات الكثيرة ، ولا إشكال في ضعف احتمال واحد في مقابل مائة الف احتمال ، لا يقال انا نعلم بان واحدا من هذه الأمارات مخالف للواقع ، ومعها كيف يجوز العمل بها معه لأنا نقول : ان العلم بكذب واحد من الأمارات غير المحصورة كالعلم بنجاسة إناء بين عدة غير محصورة حرفا بحرف ثم انه يمكن الاستدلال على حكم الشبهة غير المحصورة بروايات كثيرة.

منها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله : قال كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام بعينه ، فان ظهورها في العلم الإجمالي لا يكاد يشك غير انه خرج المحصورة بالإجماع أو بالعقل وبقي ما بقي.

والقول بان الشبهة غير المحصورة نادرة ، ضعيف جدّاً بل غالب الشبهات غير محصورة ، وقد يتفق كونها محصورة.

ومنها : الروايات الواردة في باب الجبن وقد مضي بعض القول في مداليله وإليك ما يناسب هنا ، منها مرسلة معاوية بن عمار عن أبي جعفر بعد ما سأله عن الجبن فأجاب عليه‌السلام سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال

٣٤٩

حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ، وقريب منها رواية عبد الله بن سليمان ، ولا يخفى ظهورها في الشبهة غير المحصورة ، ويؤيده بل يشهد عليه رواية أبي الجارود قال سألت أبا جعفر عن الجبن فقلت : أخبرني من رأي انه يجعل فيه الميتة فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين ، إذا علمت انه ميتة فلا تأكل ، وان لم تعلم فاشتر وبع وكل والله انى لأعترض السوق فاشترى بها اللحم والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان.

 وأورد على الاستدلال بها الشيخ الأعظم ، بإبداء الاحتمال بان جعل الميتة في الجبن في مكان واحد ، لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره الّذي هو مشكوك بدوي وبان المراد من قوله : ما أظن كلهم يسمون ، عدم وجوب الظن أو القطع بالتسمية والحلية بل يكفى أخذها من سوق المسلمين بناء على ان السوق أمارة شرعية للحل ولو أخذ من يد مجهول الحال إلّا ان يقال : ان سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي فلا مسوغ للارتكاب غير كون الشبهة غير محصورة ، ثم امر بالتأمل

 وأنت خبير بضعف ما أورده ، لأن حملها على الشبهة البدئية بعيد عن مساقها إذ هي كالنص في العلم الإجمالي خصوصا مع ملاحظة ذيلها ومعلوم ان ذيلها ليس أجنبيا عن الصدر ، وما احتمله في معنى قوله عليه‌السلام ما أظن إلخ بعيد ، لأن قوله هذا ظاهر في حصول القطع بعدم التسمية ، لكون الطائفتين ليستا من الطوائف الإسلامية ، وعلى أي حال فدلالة المرسلة لا غبار عليها لو لا ضعفها سندا ، ومثلها رواية «عبد الله بن سليمان» وفيها احتمال التقية لكون الميتة عبارة عن الإنفحة وهي طاهرة بإجماع الطائفة ، وقد أوضحنا حالها في محله.

ومنها : موثقة سماعة عن أبي عبد الله في بعض عمال بنى أمية وفيها : ان كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس ، ولا يبعد حملها على غير المحصورة

ومنها صحيحة الحلبي لو ان رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال ربا ولكن اختلط في التجارة بغيره حلالا ، كان حلالا طيبا فليأكله وان عرف منه شيئا

٣٥٠

معزولا انه ربا فليأخذ رأس ماله ويرد الربا

ومنها صحيحة أخرى له ، وغيرها من الروايات التي قد جمع بعضها السيد الفقيه اليزدي في حاشيته على المكاسب عند البحث عن جوائز السلطان ، ولا يبعد كون مورد أكثرها من قبيل الشبهة غير المحصورة ، وفي مقابلها روايات أخر محمولة على المحصورة كروايات التخميس فانها محمولة على ما جهل المقدار واحتمل كون الحرام مقدار الخمس والزيادة والنقيصة واما لو علم ان في ماله الّذي بلغ خمسين الف دينار ، دينارا من الحرام فلا إشكال في عدم وجوب الخمس ، وبالجملة دلالة الروايات على الشبهة غير المحصورة واضحة ، نعم يخرج منها بعض الموارد كما لو عرف صاحب المال فيجب له التخلص من ماله ، وتفصيل الكلام في باقي الأقسام في محله.

في بيان ما هو الميزان في الباب

وقد ظهر مما أوضحنا من مقالة شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ان ما هو الضابط في الشبهة غير المحصورة ، ان تكون كثرة الأطراف بمثابة لا يعتنى العقلاء باحتمال كون الواقع في بعض الأطراف في مقابل البقية لضعف الاحتمال لأجل الكثرة

 وقد نقل شيخنا الأعظم (قدس‌سره) كلمات في ضابطها عن الاعلام غير انه لا يهم الباحث ، لأن الدليل الوحيد ما عرفت من بناء العقلاء ودلالة الاخبار ، وليس عنوان غير المحصور واقعا في مصب رواية حتى نتكلف لبيان حده

 ثم انه يظهر من بعض أعاظم العصر ضابطا آخر فقال ما هذا حاصله : ان ضابطها ان تبلغ الأطراف حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل وشرب فخرج العلم بنجاسة حبة من حقة ، لإمكان استعمال الحقة مع ان نسبتها إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف ، فليس العبرة بكثرة العدد فقط إذ رب كثير تكون الشبهة فيه محصورة كالحنطة من الحقة ، كما لا عبرة بعدم تمكن الجمع فقط إذ ربما لا يتمكن عادة مع ان الشبهة محصورة ككون أحد الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لا بد من الأمرين ـ كثرة الأطراف ، وعدم التمكن العادي من الجمع ، وبهذا تمتاز

٣٥١

الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في المحصورة من انه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد من أطرافها ، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع ، فالشبهة الغير المحصورة ما تكون كثرة الأطراف بحد يكون عدم التمكن في الجمع في الاستعمال مستندا إليها ، ومن ذلك يظهر حكمها ، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية ، اما عدم الحرمة فلان المفروض عدم التمكن العادي منها ، واما عدم وجوب الموافقة القطعية فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية لأنها هي الأصل في باب العلم الإجمالي لأن وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف ، وتعارضها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية فيلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع التعارض بين الأصول ومعه لا يجب الموافقة القطعية.

وفيه اما أولا فان المراد من عدم التمكن من الجمع في الاستعمال ان كان هو الجمع دفعة ، فيلزم ان يكون أكثر الشبهات المحصورة ، غير محصورة واما ان يكون أعم منها ومن التدريج ولو في مدة طويلة من سنين متمادية فلا بد من تعيين ذلك الزمان الّذي لا يمكن الجمع التدريجي بين الأطراف فيه بل يلزم ان يكون أكثر الشبهات محصورة إذ قلما يتفق ان لا يمكن الجمع بين الأطراف ولو في ظرف سنين ، فتكون الشبهة على هذا الضابط محصورة وهذا لا يمكن الالتزام به ، «فان قلت» : ان ارتكاب جميع الأطراف مما لا يمكن غالبا ولو تدريجا في سنين متمادية لفقدان بعض الأطراف على ان تأثير العلم الإجمالي في التدريجيات محل بحث ، «قلت» ان خروج بعض الأطراف بعد تنجيز العلم غير مؤثر ، ولا يضر بتنجيز العلم الإجمالي في بقية الأطراف ، مع انك قد عرفت ان البحث ممحض في كون الشبهة غير محصورة مع قطع النّظر عن الجهات الأخر من فقدان بعض الأطراف ، على ان تأثير العلم في التدريجي من حيث الاستعمال مما لا إشكال فيه وفي التدريجي من حيث الوجود أيضا مؤثر على الأقوى.

واما ثانيا فلان مورد التكليف انما هو كل فرد فرد ، والمفروض قدرته عليه

٣٥٢

لا الجمع بين الأطراف حتى يقال بعدم قدرته على الجمع وما هو مورد للتكليف فالمكلف متمكن من الإتيان به لتمكنه من كل واحد ، والمكلف به غير خارج عن محل ابتلائه وما لا يكون متمكنا منه أعني الجمع فهو غير مكلف به ، واما حكم العقل بالجمع أحيانا فهو لأجل التحفظ على الواقع لا انه حكم شرعي ، وبالجملة : ان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي هو فعلية التكليف وعدم استهجان الخطاب ، والمفروض ان مورد التكليف عن الأطراف واقع في محله لتمكنه من استعمال كل واحد ، وان لم يتمكن من الجمع في استعمال ، وبذلك يظهر حرمة المخالفة الاحتمالية بارتكاب بعض الأطراف فضلا عن القطعية ، لفعلية الحكم ، وعدم استهجان الخطاب لكون مورد التكليف موردا للابتلاء ، وبذلك يظهر النّظر فيما أفاده : من عدم حرمة المخالفة القطعية ، وعدم وجوب الموافقة القطعية لأجل تفرع الثانية على الأولى.

الثالث : هل يجوز ارتكاب الجميع أو يجب إبقاء مقدار الحرام وقد فصل الشيخ الأعظم (قدس‌سره) فقال بعدم العقاب إذ لم يقصد ارتكاب الجميع من أول الأمر ولكن انجر الأمر إليه ، وبالعقاب فيما إذا قصد الجميع من أوله أو توصل به إلى ارتكاب الحرام ، والتحقيق ان يقال : ان العمدة في المقام هو اخبار الباب وقد عرفت ان الظاهر منها جواز ارتكاب الجميع ، نعم مقتضى ما اعتمد به شيخنا العلامة أعلى الله مقامه التفصيل ، فلو شرع المكلف في الأطراف قاصدا ارتكاب جميعها ولو في طول سنين لم يكن معذورا ، لأن التكليف بعد باق على فعليته ، وكذا لو قسم الأطراف بأقسام معدودة محصورة وأراد ارتكاب بعض الأقسام الّذي يكون نسبته إلى البقية نسبة محصورة كان تكون الأطراف عشرة آلاف وقسمها عشرة أقسام ، وأراد ارتكاب قسم منها فانه غير معذور فيه لأنه من قبيل الشبهة المحصورة ، لعدم كون احتمال الواقع في القسم الّذي أراد ارتكابه ضعيفا بحيث لا يعتنى به العقلاء.

الرابع بناء على ما ذكرناه من ان العقلاء لا يعتنون بالعلم بل الأمارة العقلائية قامت على عدم المعلوم في كل واحد منفردا عن غيره يسقط حكم الشك البدوي أيضا عن

٣٥٣

بعض الأطراف بعد سقوط العلم الإجمالي فلو علم بان مائعا مضافا بين الأواني المحصورة من الماء يجوز التوضي ببعض الأطراف لقيام الطريق العقلائي على عدم كونه مضافا مع انه لو شك في كونه مضافا بدوا لا يصح الاكتفاء بالوضوء به فحكم الشك البدوي يسقط عن بعض الأطراف واما على ما أفاده بعض الأعاظم من الضابط كما تقدم فلا يسقط حكم الشك لأن عدم حرمة المخالفة القطعية الجائية من قبل عدم إمكان الجمع في الاستعمال اللازم منه عدم وجوب الموافقة القطعية ، لا يلازم سقوط حكم الشك كما لا يخفى لكن الفاضل المقرر رحمه‌الله قال انه رحمه‌الله كان يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضا وهو لا يتجه على مختاره ومتجه على مختارنا

الخامس : في حكم الشبهة الوجوبية إذا كانت وجوبية فلو كان المدرك لعدم التنجيز هو الاخبار الواردة في المقام فالظاهر جواز المخالفة القطعية ، حتى يقف على الواجب أو الحرام بعينه ، واما على ما أفاده شيخنا العلامة من قيام الأمارة العقلائية فلو تمكن المكلف من الإتيان بمقدار نسبته إلى غير المتمكن نسبة محصور إلى محصور فيجب الاحتياط ، كما لو تمكن من الإتيان بالمائة من بين الألف ، فان نسبتها إلى الألف كنسبة الواحد إلى العشرة ، فالظاهر (ح) وجوب الموافقة الاحتمالية ، واما إذا لم يوجب ذلك انقلاب النسبة ، كما لو نذر شرب كأس واشتبه من بين غير محصور وتمكن من شرب الواحد منه ، فلا يجب الاحتياط لقيام الأمارة العقلائية على عدم كونه الواقع ، ولا يعتنى العقلاء بمثل هذا الاحتمال الضعيف.

في ملاقى الشبهة المحصورة

وتحقيق الحال فيه في ضمن أبحاث.

الأول : بعد ما علم من ضرورة الفقه وجوب الاجتناب عن ملاقى النجس القطعي وقع البحث في كيفية جعل هذا الوجوب فمن قائل وهو ابن زهرة ومن تبعه بان وجوب الاجتناب عن ملاقى النجس من شئون وجوب الاجتناب عن نفس النجس وليس وجوب الاجتناب عن الملاقى لأجل تعبد آخر وراء التعبد بوجوب الاجتناب عن النجس ، ويكون المرتكب للملاقى معاقبا على ارتكاب النجس لا على ارتكاب ملاقيه ، لعدم

٣٥٤

الحكم للملاقى مستقلا ، وبالجملة ليس هنا إلّا وجوب اجتناب واحد وهو وجوب الاجتناب عن النجس ولا يتحقق ذلك إلّا بالاجتناب عنه وعن حواشيه وملاقياته.

ومن قائل ـ وهو المشهور المنصور ـ بان الملاقى يختص بجعل مستقل في عرض وجوب الاجتناب عن النجس وهذا الوجوب مجعول على عنوان ملاقى النجس ، من دون ان يكون وجوبه عين وجوبه ومن شئونه فالاجتناب عن الملاقى امتثال مستقل كما ان الاجتناب عن النجس امتثال آخر ، وقس عليه العقاب والعصيان.

استدل ابن زهرة بقوله تعالى : والرجز فاهجر ولا يخفى عدم دلالته إذ هو يدل على وجوب الاجتناب عن الرجز ولا يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقى الرجز ، فان الرجز عبارة عن نفس النجس على ما عليه جملة من المفسرين ولا يدل على حكم ملاقيه.

وربما يستدل بما رواه عمر بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام : انه أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله فقال أبو جعفر : لا تأكله فقال الرّجل : الفأرة أهون عليّ من ان اترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر : انك لم تستخف بالفأرة وانما استخففت بدينك ان الله حرّم الميتة من كل شيء

 (وجه دلالته) انه جعل عدم الاجتناب من الطعام الّذي وقعت فيه الفأرة استخفافا للدين وبينه بان الله حرم الميتة من كل شيء ولو لا كون الاجتناب من الملاقى (بالكسر) من شئون الاجتناب من الملاقى لم يكن عدم الاجتناب من الطعام استخفافا بتحريم الميتة.

وفيه : مع ضعف سند الرواية ، واحتمال تفسخ الميتة في السمن بحيث حصل الامتزاج والاختلاط وصارا بحكم واحد في الاستعمال والاجتناب ، ان الاستدلال مبنى على ان قوله عليه‌السلام ان الله حرم الميتة من كل شيء مسوق لبيان نجاسة الملاقى للفأرة وهو خلاف الظاهر بل سيق لبيان رد قول السائل (ان الفأرة أهون عليّ من ان اترك طعامي لأجلها) بان ذلك استخفاف لحكم الله تعالى لتعلق حكمه على كل ميتة

٣٥٥

ويمكن الاستدلال على القول المشهور (ان وجوب الاجتناب عن الملاقى مجعول مستقلا) بمفهوم قوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء فان مفهومه ان الماء إذا لم يبلغ حد الكر ينجسه بعض النجاسات ، أي يجعله نجسا ومصداقا مستقلا منه ، وظاهره ان الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فردا من النجس مختصا بالجعل.

ويمكن ان يستدل أيضا بقوله : الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر أي حتى تعلم انه صار قذرا بواسطة الملاقاة واعطف عليه ما دل من الروايات والفتاوى ان الماء والأرض والشمس مطهرات للأشياء ، فان الظاهر منها ان الأشياء صارت نجسة فتطهر بالمذكورات. وبالجملة : لا إشكال في ان نجاسة الملاقى من ناحية نجاسة الأعيان النجسة التي يلاقيها لأجل السراية والسببية كما ان الظاهر منها كون الملاقي مختص بجعل آخر ووجوب مستقل.

ومن ذلك يعلم حكم الملاقى لأحد أطراف العلم الإجمالي فعلى القول الأول يجب الاجتناب لأجل تحصيل البراءة اليقينية عن الاشتغال اليقينيّ ، للشك في حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقى ، لأن وجوب الاجتناب عن الملاقى على فرض نجاسة الملاقى (بالفتح) ليس وجوبا وتكليفا ، مستقلا بل وجب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلق بالملاقى (بالفتح) فيجب الاجتناب عن الكل تحصيلا للبراءة ، وعلى القول المختار فالحكم هو البراءة لكن على تفصيل سيوافيك بيانه.

الثاني : ان العلم بالملاقاة قد يكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأطراف وقد يكون قبله ، وقد يكون مقارنا له وعلى أي حال قد يكون الملاقى خارجا عن محل الابتلاء رأسا ولا يعود إليه ، وقد يكون عائدا إليه بعد خروجه حين العلم بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ، والأمثلة واضحة.

مقتضى الأصل العقلي في ملاقى الأطراف

الثالث في بيان مقتضى الأصل العقلي في هذه الصور ، قد اخترنا في الدورة

٣٥٦

السابقة البراءة في هذه الصور مطلقا ، ولكن عدلنا في هذه الدورة إلى تفصيل يوافق مختار المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله وإليك بيان ما أوضحناه في الدورة السابقة على نحو الإجمال.

ان العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف منجز لها فإذا علم بالملاقاة أو بكون نجاسة الملاقى على فرض كونه نجسا من الملاقى (بالفتح) فهذا العلم الثاني لا يؤثر شيئا ، لأن العلم بنجاسة بعض الأطراف متقدم رتبة على العلم بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ، سواء كان بحسب الزمان مقارنا له أو متقدما عليه أو متأخرا عنه. وبالجملة : ان العلم الأول المتعلق بنجاسة أحد الظرفين منجز في الرتبة السابقة على تأثير العلم الإجمالي ، ومعه لا ينجز العلم الثاني لعدم إمكان تنجيز المنجز للزوم تحصيل الحاصل ، فإذا علم بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ثم علم نجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف وان نجاسة الملاقى (بالكسر) على فرضها تكون من الملاقى ، فالعلم الثاني مع كونه متأخرا زمانا ، ينجز أطرافه في الرتبة السابقة ، لأن معلومه يكون متقدما على المعلوم الأول والمناط في التنجيز هو تقدم المعلوم زمانا أو رتبة لا العلم ، كما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم في إحدى الأواني الثلاثة ثم علمنا بوقوع قطرة منه قبله في إحدى الإناءين منها ، (فحينئذ) يكون العلم الأول بلا أثر ، ولا يجب الاجتناب عن الطرف المختص به لأن العلم الثاني يؤثر في تنجيز معلومه في الزمان السابق على العلم الأول ، و (الحاصل) بعد تقدم تنجز الملاقى (بالفتح) على الملاقى بالرتبة يكون العلم المتعلق بالملاقى (بالكسر) والطرف في جميع الصور بلا أثر ، ولا معنى للتنجيز فوق التنجيز فيكون الملاقى بحكم الشبهة البدئية.

هذا ملخص ما أوضحناه في الدورة السابقة ، وقد لخصناه بحذف ما تكرر بيانه في الأبحاث المتقدمة ويظهر ضعفه في طي المباحث الآتية والتحقيق هو ما اختاره المحقق الخراسانيّ من التفصيل فانه أوجب تارة الاجتناب عن الطرف والملاقى

٣٥٧

(بالفتح) دون الملاقى وأخرى عن الطرف والملاقى والملاقى جميعا وثالثة عن الطرف والملاقى (بالكسر) دون الملاقى بالفتح فنقول توضيحا وتحقيقا لما أفاده قدس‌سره.

اما الصورة الأولى : فهي ما إذا كان العلم بالملاقاة متأخرا عن العلم بنجاسة أحد الأطراف ، وعلله هو قدس‌سره بأنه إذا اجتنب عن الملاقى (بالفتح) والطرف فقد اجتنب عن النجس في البين ، ولو لم يجتنب عما يلاقيه ، فانه على تقدير نجاسته ، فرد آخر من النجس قد شك في وجوده.

وتوضيحه وان كان فيما مر كفاية بالنسبة إلى هذه الصورة ـ ان يقال : ان الكشف والتنجيز من الأمور التي لا يقبل التعدد والاثنينية ، فلا يعقل ان ينكشف الشيء الواحد لدى العالم مرتين ما لم ينفصل بينهما ذهول أو نسيان ، ومثله التنجيز فان معناه ، تمامية الحجة ، وانقطاع العذر على العبد وهو لا يقبل التكرر ، فإذا تم الحجة بالنسبة إلى الطرف في العلم المتقدم أو حصل الانكشاف ، فلا معنى لأن يتم الحجة بالنسبة إليه أيضا في العلم الثاني الّذي تعلق بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ، كما لا معنى لتعدد الانكشاف وان شئت قلت : ان من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه متعلقا بالتكليف الفعلي في أي طرف اتفق وموجبا للإلزام على أي تقدير ، وهو مفقود في المقام فان القول بأنه يجب الاجتناب اما عن الملاقى (بالكسر) أو الطرف قول صوري فان الطرف يجب الاجتناب عنه على أي تقدير للعلم السابق سواء وجب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) أو لا ، ولأجل ذلك لو تعلق العلم الإجمالي بأمور قد سبق التكليف إلى بعضها معينا ، لم يحدث شيئا ولم يوجب تنجزا ، لأنه تعلق بأمر وجب الاجتناب عنه سابقا بلا ترديد ، والباقي مشكوك من رأس.

والحاصل : انا إذا سلمنا ان هاهنا علما ثانيا دائرا بين الطرف والملاقى ، لكنه تعلق بمعلوم مردد بين ما هو محكوم بالاجتناب قبل حدوث هذا العلم وما ليس كذلك ، ومعه كيف يحدث العلم الثاني تنجيزا على كل تقدير ، أو كشفا على كل تقدير ، مع ان الظرف كان منجزا ومنكشفا من قبل بركة العلم الأول ، والمنجز

٣٥٨

لا يتنجز ، والمنكشف لا ينكشف (هذا) وحكم هذه الصورة واضحة جدا قد اتفقت كلمتنا فيها في كلتا الدورتين وانما البحث في غيرها.

الصورة الثانية : أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الجميع فهي فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) والطرف بعد العلم بالملاقاة مع كون الجميع موردا للابتلاء ، فان السر في وجوب الاجتناب عن الجميع ، ان العلم بالملاقاة وان كان متقدما إلّا انه لا يحدث تكليفا ، فان الملاقاة الخارجي ليس موضوعا للحكم ما لم يعلم نجاسة الملاقى (بالفتح) ، وما هو الموجب للتكليف انما هو العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف وهو قد تعلق بالجميع في عرض واحد ، لأن العلم بالملاقاة المتقدم ، قد جعل الملاقى والملاقى عدلا واحدا ، فإذا تعلق العلم بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف ففي الحقيقة تعلق ببركة العلم بالملاقاة من قبل بنجاستها أو الطرف وسيأتي الكلام عن قريب في حال التقدم الرتبي فانتظر.

وإلى ذلك يشير (قدس‌سره) بأنه يتنجز التكليف بالاجتناب عن البين ، وهو الواحد أو الاثنين

 الصورة الثالثة أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف والملاقى بالكسر دون الملاقى فقد ذكر رحمه‌الله لها موردين (الأول) ما إذا تأخر العلم بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف ، عن العلم بالملاقاة ، وعن العلم بنجاسة الملاقى بالكسر أو الطرف كما إذا علم أولا بنجاسة ملاقيه بالكسر أو الطرف من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقى ، ثم ، حدث العلم بالملاقاة وحدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف ، والعلم بأنه ليس لنجاسة الملاقى بالكسر على تقدير ان يكون هو النجس الّذي تعلق العلم به أولا ، سبب الا جهة ملاقاته لأن المفروض انه ليس إلّا نجاسة واحدة في البين ، والسر في ذلك هو ما مر من ان شرط تنجيز العلم الإجمالي ان يكون متعلقا بالتكليف الفعلي على أي تقدير منجزا كذلك وقد عرفت انه لو سبق التكليف إلى بعض الأطراف قبل تعلق العلم الثاني لما يؤثر المتأخر أصلا لتردد متعلقه بينما كان واجب الاجتناب لو لا هذا العلم ، وما ليس كذلك فينحل العلم الثاني إلى قطعي الاجتناب

٣٥٩

ومحتمله ، ولا يصح ان يقال ان هذا واجب أو ذاك ، بل أحدهما واجب الاجتناب قطعا وهو الّذي سبق إليه التكليف ، والآخر مشكوك الوجوب

 وقس عليه المقام : فان العلم الأول قد نجز حكم كل واحد من الملاقى بالكسر والطرف والعلم الثاني قد تعلق بنجاسة الملاقى بالفتح والطرف ، والمفروض ان الطرف كان في ظرف حدوث العلم الثاني واجب الاجتناب وقد تم حجة المولى فيه إلى العبد ، ومعه لا يحدث العلم الثاني تكليفا على أي تقدير ، وبالجملة : ليس البحث في الملاقى بالكسر حتى يقال ان العدل في العلم الثاني هو الملاقى بالفتح ، بل البحث في الطرف الّذي هو عدل في كلا العلمين وقد ثبت تنجيزه قبل حدوث العلم الثاني فلا معنى للتنجيز بعده فينحل علم الثاني إلى قطعي الاجتناب وهو الطرف ومشكوكه وهو الملاقى بالفتح

 وان شئت قلت : ان شرطية منجزية العلم الإجمالي هو ان يكون كاشفا فعليا ومنجزا فعليا على جميع التقادير ومع العلم الأول بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف يكون العلم كاشفا فعليا عن التكليف بينهما ومنجزا فعليا على جميع التقادير ، فإذا حصل العلم بان نجاسة الملاقى (بالكسر) على فرض كونه نجسا فمن جانب الملاقى يحدث علم إجمالي ، لكنه لا يمكن ان يتصف بالكاشفية الفعلية ولا بالمنجزية الفعلية على جميع التقادير ، فانه على تقدير كون النجس هو الطرف يكون فعليا بالعلم الأول ومنجزا فعليا به ، ولا يعقل تعلق كشف فوق الكشف ، ولا تنجيز فوق التنجيز.

فان قلت : العلم الثاني يوجب بطلان العلم الأول وفساد زعم التنجيز ، لأن التنجيز فرع مطابقة العلم لنفس الأمر وقد كشف خلافه ، لأنه بعد حصول الثاني من العلمين الكاشف عن ان النجس اما هو الملاقى (بالفتح) أو الطرف نستكشف بطلان الأول الّذي تعلق بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف وعلمنا ان الّذي يليق ان يقع عدلا للطرف انما هو الملاقى (بالفتح) لا الملاقى.

وان شئت قلت : ان الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) فرع ثبوت وجوب الاجتناب

٣٦٠