تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

للأصول المحرزة ، وثالثا لغير المحرزة منها ، فأفاد (قدس‌سره) في الجمع عند تخلف الطرق ما هذا حاصله : ان المجعول فيها ليس حكما تكليفيا ، حتى يتوهم التضاد بينها وبين الواقعيات ، بل الحق ان المجعول فيها هو الحجية والطريقيّة ، وهما من الأحكام الوضعيّة المتأصلة في الجعل ، خلافا للشيخ (قدس‌سره) حيث ذهب إلى ان الأحكام الوضعيّة كلها منتزعة من الأحكام التكليفية ، والإنصاف عدم تصور انتزاع بعض الأحكام الوضعيّة من الأحكام التكليفية مثل الزوجية. فانها وضعية ويتبعها جملة من الأحكام كوجوب الإنفاق على الزوجة وحرمة تزويج الغير لها ، وحرمة ترك وطيها ، أكثر من أربعة أشهر إلى غير ذلك ، وقد يتخلف بعضها مع بقاء الزوجية ، فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منها ، وأي جامع بين هذه الأحكام التكليفية ، ليكون منشئاً لانتزاع الزوجية ، فلا محيص من أمثالها عن القول بتأصل الجعل ، ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات ، فانها متأصلة بالجعل ولو إمضاء لما تقدمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا يعتمدون عليها العقلاء في مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع ، فنفس الحجية والوسطية في الإثبات امر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار ، من دون ان يكون هناك حكم تكليفي منشأ لانتزاعه.

إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ، ظهر لك انه ليس فيها حكم حتى ينافى الواقع فلا تضاد ولا تصويب ، وليس حال الأمارات المخالفة ، الا كحال العلم المخالف فلا يكون في البين إلّا الحكم الواقعي فقط مطلقا ، فعند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيزه. وعند الخطاء يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون ان يكون هناك حكم آخر مجعول انتهى.

وفيما أفاده مواقع للنظر : اما أولا : فقد أشرنا إليه وسيوافيك تفصيله عند البحث عن حجية الأمارات العقلائية ، ومحصله انه ليس في باب الطرق والأمارات ، حكم وضعي ولا تكليفي وانما عمل بها الشارع كما يعمل بها العقلاء في مجاري

١٤١

أمورهم من معاملاتهم وسياساتهم ، وليس إمضاء الشارع العمل بالأمارات مستتبعا لإنشاء حكم ، بل مآله إلى عدم الردع وعدم التصرف في بناء العقلاء ، وما ورد من الروايات كلها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ، وقد اعترف به قدس‌سره فيما سبق ، ولكنه أفاد هنا ما ينافيه.

وثانيا : لو كان المستند للقول بجعل الوسطية والطريقية من جانب الشارع هو الاخبار الواردة في شأن الآحاد من الاخبار أو شأن مخبريها ، كقوله عليه‌السلام إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس وأشار إلى زرارة ، ومثل قوله عليه‌السلام واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، ومثل قوله عليه‌السلام عليك بالأسدي يعنى أبا بصير ، وقوله عليه‌السلام العمري ثقة ، فاسمع له وأطع فانه الثقة المأمون ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي سيجيء كثير منها في بابه ـ فلا شك انه لو كان المستند هذه الاخبار ، فالمجعول فيها ـ مع قطع النّظر عما قلنا من انها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ـ هو وجوب العمل على طبقها تعبدا على انها هو الواقع ، وترتيب آثار الواقع على مؤداها ، وليس فيها أيّ أثر من حديث جعل الوسطية والطريقية ،. نعم لو كان المدرك مفهوم آية النبأ ، يمكن ان يقال : انها بصدد جعل الكاشفية لخبر العادل ، ولكنه مع قطع النّظر عن الإشكالات المقررة في محله ، وعما احتملناه في الاخبار من كونها إرشادا إلى عمل العقلاء ، مدفوع بأنها بصدد جعل وجوب العمل على طبق قول العادل ، لا جعل المبينية والكاشفية ، وانما المبينية جهة تعليلية لجعل وجوب العمل ، وليست موردة للجعل

وثالثا : ان ما هو القابل للجعل في المقام انما هو وجوب العمل على طبق الأخبار ، ووجوب ترتيب الأثر على مؤداها ، واما الطريقية والكاشفية ، فليس مما تنالها يد الجعل فلان الشيء لو كان واجدا لهذه الصفة تكوينا ، فلا معنى لإعطائها لها ، وان كان فاقدا له كالشك ، فلا يعقل ان يصير ما ليس بكاشف كاشفا ، وما ليس طريقا ، طريقا ، فان الطريقية والكاشفية ، ليست امرا اعتباريا كالملكية ، حتى يصح جعلها بالاعتبار ، وقس عليه تتميم الكشف ، وإكمال الطريقية ، فكما ان اللاكاشفية ذاتية

١٤٢

للشك ، لا يصح سلبه ، فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتي للأمارات لا يمكن سلبها فما يناله الجعل ليس إلّا إيجاب العمل بمفادها والعمل على طبقها ، وترتيب آثار الواقع عليها ، ولما كان ذاك التعبد بلسان تحقق الواقع ، وإلغاء احتمال الخلاف تعبدا ، صح انتزاع الوسطية والكاشفية

وقس عليه الحجية ، فلان معناها كون الشيء قاطعا للعذر في ترك ما امر بفعله وفعل ما امر بتركه ومعلوم انه متأخر عن أيّ جعل ، تكليفا أو وضعا ، فلو لم يأمر الشارع بوجوب العمل بالشيء ، تأسيسا أو إمضاء فلا يتحقق الحجية ، ولا يقطع به العذر.

ورابعا : ان عدم إمكان انتزاع الزوجية عما ذكره من الأحكام ، لا لعدم الجامع بينهما ، بل لأجل كونها آثارا متأخرة عن الزوجية ، وهي بعد يعد موضوعا لهذه الأحكام المتأخرة ، فلا معنى ، لانتزاع ما هو المتقدم طبعا ، عما هو متأخر كذلك

 نعم ، هاهنا أحكام تكليفية ، يمكن ان يتوهم إمكان انتزاع الزوجية منها كالأوامر الواردة بالنكاح في الآيات أو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك ، ومع ذلك كله ، فالتحقيق ان الزوجية ليست من المخترعات الشرعية ، بل من الاعتبارات العقلائية ، التي يدور عليها فلك الحياة الإنسانية فيما ان الزوجية مما يتوقف عليه نظام الاجتماع ، ويترتب عليه آثار ومنافع لا تحصى ، قام العقلاء على اعتبارها ، نعم الشرائع السماوية قد تصرف فيها تصرفا يرجع إلى إصلاحها وبيان حدودها.

وخامسا : فبعد هذا الإطناب ، فالإشكال باق بعد بحاله. فان جعل الوسطية والطريقية والحجية للطرق والأمارات مع العلم بأنها ينجر أحيانا إلى المخالفة والمناقضة للواقع ، لا يجتمع مع بقاء الأحكام الواقعية على ما عليها من الفعلية التامة.

وبالحملة ، ان الإرادة الجدية الحتمية بالاحكام الواقعية ، لا تجتمع مع تعلق

١٤٣

مثل تلك الإرادة على جعل الوسطية للطرق التي ربما يوجب تفويت الواقع ، فان ذلك الجعل يلازم الترخيص الفعلي في مخالفة الأحكام الواقعية

 وقياس جعل الوسطية في الإثبات ، بالعلم المخالف للواقع أحيانا ، قياس مع الفارق فان العمل بالعلم المخالف ، ليس ترخيصا من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعية ، وانما هو ضرورة ابتلي به المكلف لا من جانب الشارع ، بل لقصور منه ، وهذا بخلاف ، جعل الحجية على الأمارة المؤدية إلى خلاف الواقع.

هذا كله إذا قلنا ببقاء الواقع على ما عليه من الفعلية ، أي باعثا وزاجرا ، واما إذا قلنا بأنه يصير إنشائيا ، أو فعليا بمرتبة دون مرتبة ، وان الشارع قد رفع اليد لأجل مصالح اجتماعية عن تلك الواقعيات ، فلا مضادة ولا منافاة بين الواقعي والظاهري ، ولا يحتاج إلى إتعاب النّفس ، وعقد هذه المباحث.

وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الخراسانيّ : حيث تخلص عن كافة الإشكالات بان الحجية غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية ، فان هذا التقريب لا يحسم مادة الإشكال كالقول بان أحدهما طريقي والآخر واقعي ، فان جعل الحجية والطريقية لما كان ينتهى أحيانا إلى مخالفة الواقع ومناقضته ، لا تجتمع مع فعلية الأحكام الواقعية.

ما أفاده في الأصول المحرزة

 ثم انه أفاد فيها ما هذا حاصله : ان المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على انه الواقع ، وإلغاء الطرف الآخر ، وجعله كالعدم ، ولأجل ذلك قامت مقام القطع الطريقي ، فالمجعول فيها ليس امرا مغايرا للواقع ، بل الجعل الشرعي تعلق بالجري العملي على المؤدى على انه هو الواقع ، كما يرشدنا إليه قوله عليه‌السلام في بعض اخبار قاعدة التجاوز : بأنه قد ركع ، فان كان المؤدى هو الواقع فهو ، وإلّا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون ان يتعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه ، فلا يكون ما وراء الحكم الواقعي حكم آخر حتى يناقضه ويضاده انتهى.

١٤٤

وفيه : ان الجري العملي والبناء العملي علي أحد طرفي الشك كما هو ظاهر كلامه مما لا تناله يد الجعل لأنه فعل للمكلف ، وما يصح جعله انما هو إيجاب الجري العملي ، فهو لا يفيد ، ولا يرفع غائلة التضاد بين الواقعية والظاهرية ، فان إيجاب الجري العملي على إتيان الشرط أو الجزء بعد تجاوز محله ، مع انه أحيانا يؤدى إلى ترك الواقع ، لا يجتمع مع فعلية حكم الجزئية والشرطية ، ولا يعقل جعل الهوهوية بين الواقع وما يخالفه أحيانا أضف إلى ذلك انه ليس من حديث الهوهوية عين ولا أثر في الأصول التنزيلية كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الاستصحاب وقاعدة التجاوز.

كلامه قدس‌سره في غير المحرزة من الأصول

 ثم انه قدس‌سره قد أفاد في هذا الباب ما هذا ملخصه : ان للشك في الحكم الواقعي اعتبارين «أحدهما» كونه من الحالات والطواري اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه كحالة العلم والظن ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضاد الحكم الواقعي لانحفاظ الحكم الواقعي عنده (ثانيهما) اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له ، وهو بهذا الاعتبار ، يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل ، ومنجزا للواقع وموصلا إليه ، كما انه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمّنا عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النّفس الأمرية ، فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ، فانه أهم من مفسدة حفظ نفس الكافر ، فيقتضى جعل حكم طريقي لوجوب الاحتياط في موارد الشك ، وهذا الحكم الاحتياطي انما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته ، ولذا كان خطابه نفسيا لا مقدميا لأن الخطاب المقدمي ما لا مصلحة فيه أصلا ، والاحتياط ليس كذلك لأن أهمية الواقع دعت إلى وجوبه ، فهو واجب نفسي للغير ، لا واجب بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفته ، لا على مخالفة الواقع لقبح العقاب عليه مع الجهل

 فان قلت : فعليه يصح العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أولا ، لكونه

١٤٥

واجبا نفسيا ، قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والّذي لا يدور الحكم مداره هو الأول دون الثاني ، ولا إشكال في ان الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط ، ولا يمكن ان يبقى في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظه ولكن لمكان جهل المكلف كان اللازم عليه ، الاحتياط تحرزا عن مخالفة الواقع.

ومن ذلك يظهر : انه لا مضادة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فان المشتبه ، ان كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإلّا فلا لانتفاء علته ، والمكلف يتخيل وجوبه لجهله بالحال ، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدمي ، وان كان من جهة أخرى يغايره

 والحاصل : انه لما كان إيجاب الاحتياط من متممات الجعل الأوّلي فوجوبه يدور مداره ولا يعقل بقاء المتمم (بالكسر) مع عدم المتمم ، فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضاد بينهما لاتحادهما في مورد المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضاد ، هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمم ، واما مع عدم الأهمية ، فللشارع جعل المؤمن بلسان الرفع ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي ما لا يعلمون ، وبلسان الوضع : مثل قوله عليه‌السلام كل شيء حلال ، فان رفع التكليف ليس من موطنه ليلزم التناقض ، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل لقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع ، والسر فيه انها تكون في طول الواقع لتأخر رتبته عنه ، لأن الموضوع فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع ، وغير موصل إليه ولا منجز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل ان تضاده ، و (بالجملة) الرخصة والحلية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحل ، تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط. وقد عرفت

١٤٦

ان إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع فما يكون في عرضه ، يكون في طول الواقع أيضا ، وإلّا يلزم ان يكون ما في طول الشيء في عرضه انتهى كلامه رفع مقامه

ولا يخفى ان في كلامه قدس‌سره مواقع للنظر. نشير إلى مهماتها

١ ـ ان أخذ الشك تارة بما انه من الحالات والطواري اللاحقة للحكم الواقعي ، وأخرى بما انه موجب للحيرة فيه ، لا يرجع إلى محصل ، لأنه تفنن في التعبير وتغيير في اللفظ ، ولو سلمنا ذلك حكما يرتفع غائلة التضاد بالاعتبار الثاني أعني جعله موضوعا بما انه موجب للتحير لكون المجعول والموضوع في طول الواقع ، كذلك يرتفع الغائلة بجعل الحكم على الشك بالاعتبار الأول ، لكون الشك في الشيء متأخر عن الشيء ، فجعل أحدهما رافعا دون الآخر لا محصل له ، والحق عدم ارتفاعها بكلا الاعتبارين ، لكون الحكم الواقعي محفوظا مع الشك والحيرة.

٢ ـ ان الحكم الواقعي ان بقي على فعليته ، وباعثيته ، فجعل المؤمن كأصالة البراءة مستلزم لترخيص ترك الواقع الّذي هو فعلى ومطلوب للمولى ، ومع هذا فكيف يرتفع غائلة التضاد ، وان لم يبق على فعليته وباعثيته (كما اخترناه من ان الأحكام الواقعية لا تصلح للداعوية) فالجمع بين الواقعي والظاهري حاصل بهذا الوجه بلا احتياج إلى ما أتعب به نفسه الزكية

 ٣ ـ ان ما أورده على نفسه : من ان لازم كون الاحتياط واجبا نفسيا ، هو صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أولا ، بعد باق على حاله ، وما تفصى به عنه : من عدم وجوب الاحتياط واقعا في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظه لكون وجوب حفظ المؤمن علة للحكم بالاحتياط لا علة للتشريع ـ لا يدفع الإشكال فان خلاصة كلامه (قدس‌سره) يرجع إلى ان وجوب الاحتياط دائر مدار وجود الحكم الواقعي (وعليه) فالعلم بوجود الحكم الواقعي يلازم العلم بلزوم الاحتياط كما ان العلم بعدمه يلازم العلم بعدم وجوب الاحتياط ، ويترتب عليه ان الشك في

١٤٧

الحكم الواقعي يستلزم الشك في وجوب الاحتياط. فكما ان الحكم الواقعي لا داعوية له في صورة الشك في وجوده ، فهكذا وجوب الاحتياط ، فلا يصلح للباعثية في صورة الشك ، ولو تعلق وجوب الاحتياط بمورد الشك الّذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمم آخر ، ويصير إيجاب الاحتياط (ح) لغواً ، فان موارد الاحتياط كافة مما يكون وجود الحكم الواقعي مشكوكا (كما في الاحتياط في الدماء والاعراض والأموال)

 وبذلك يظهر ان ما ذكره من ان المكلف لما لم يعلم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه أولا يجب كان اللازم هو الاحتياط تحرزا عن مخالفة الواقع ، غير واضح ، فان وجوب الاحتياط على النحو الّذي قرره ، لا يقصر عن الأحكام الواقعية ، فكما لا داعوية له في ظرف الشك في وجوده ، فهكذا ما هو مثلها أعني وجوب الاحتياط على ما التزم به (وعليه) يصير الاحتياط في عامة الموارد اللازمة في الشبهات البدوية لغوا باطلا ، فان الاحتياط في كافة الموارد انما هو في صورة الشك في الحكم الواقعي لا غير.

والتحقيق ما هو المشهور : من ان الاحتياط ليس محبوبا وواجبا نفسيا ، ومتعلقا لغرض المولى ، والغرض من إيجابه هو حفظ الواقع لا غير ، ولأجله لا يستلزم ترك الاحتياط عقوبة وراء ترك الواقع.

٤ ـ : ان ما ذكره في بعض كلامه : من ان متمم الجعل (أصالة الاحتياط) فيما نحن فيه يتكفل بيان وجود الحكم في زمان الشك فيه ، لا يخلو من ضعف ، لأنه مضافا إلى مخالفته لما قال سابقا من ان الاحتياط أصل غير محرز ، يستلزم كون الاحتياط أو إيجابه أمارة لوجود الحكم في زمان الشك ، وهو خلاف الواقع ، فان إيجاب الاحتياط مع الشك لغرض الوصول إلى الواقع ، غير كونه كاشفا عن الواقع

 ٥ ـ ما ذكره : من ان أصالة البراءة والحلية في طول الواقع ، لأنهما في عرض الاحتياط الّذي هو في طول الواقع ، غير واضح : فان التقدم الرتبي غير التقدم الزماني

١٤٨

والمكاني فان ما ذكره صحيح فيهما ، واما الرتبي فالتقدم والتأخر تابع لوجود الملاك في الموصوف فان مجرد كون الشيء في عرض المتأخر رتبة عن الشيء لا يستلزم تأخره عنه أيضا ، فان المعلول متأخر رتبة عن علته ، واما ما هو في رتبة المعلول من المقارنات الخارجية ، فليس محكوما بالتأخر الرتبي عن تلك العلة ـ كما هو واضح في محله وعند أهله ، واما حديث قياس المساواة ، فقد ذكر المحققون ان مجراها انما هو المسائل الهندسية فراجع إلى مظانها وأهلها.

تقريب آخر للجمع بين الواقعي والظاهري من الأحكام

وهو ما أفاده بعض محققي العصر (قدس‌سره) وخلاصة ما أفاده لرفع التضاد هو ان الأحكام متعلقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوري كونها غير الخارج ، وان كانت بالنظر التصديقي غيره ، مع وقوف الحكم على نفس العنوان وعدم سرايته إلى المعنون وانه قد ينتزع من وجود واحد عنوانان طوليان بحيث يكون الذات ملحوظة في رتبتين تارة في رتبة سابقة على الوصف ، وأخرى في رتبة لاحقة نظير الذات المعروضة للأمر التي يستلزم تقدم الذات عليه ، والذات المعلولة لدعوته ، المنتزع عنها عنوان الإطاعة التي يستلزم تأخر الذات عنها وكالجهات التعليلية التي أنيط بها الحكم فانه لا بد فيها من فرض وجود الوصف قائما بموصوفه والحكم في هذا الظرف على نفس الذات الملحوظة في الرتبة المتأخرة عن الوصف بلا أخذ الوصف قيدا للموضوع كالجهات التقييدية ، ومن هذا القبيل صفة المشكوكية لأنها جهة تعليلية لتعلق الحكم بالموضوع حسب ظاهر أدلتها لا تقييدية لموضوعاتها ولازم ذلك اعتبار الذات في رتبتين ، تارة في الرتبة السابقة على الوصف ، وأخرى في الرتبة اللاحقة ، فيختلف موضوع الحكم الظاهري والواقعي رتبة بحيث لا يكاد يتصور الجمع لهما في عالم عروض الحكم ، بخلاف الطولية الناشئة من الجهات التقييدية. لعدم طولية الذات رتبة ، ومحفوظيتها في رتبة واحدة فلا يمكن رفع التضاد كما أفيد (انتهى) ومن أراد التوضيح فليرجع إلى كتابه.

١٤٩

وفيما ذكره جهات من الخلل

 منها ان ما ذكره في المقدمة الأولى من ان كل حكم لا يتجاوز عن عنوان إلى عنوان آخر وان اتحدا وجودا صحيح جدا إلّا ان ما ذكره من ان الأحكام متعلقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوري كونها غير الخارج وان كانت بالنظر التصديقي غيره ـ غير صحيح ، فانه ان كان المراد ان الحاكم يختلف نظره التصوري والتصديقي عند الحكم ، فهو واضح الفساد ، وان أراد ان الحاكم لا يرى الاثنينية حين الحكم ، وان كانت المغايرة موجودة في نفس الأمر ، أو في نظرة أخرى فهو يستلزم تعلق الأمر بالموجود ، وهو مساوق لتحصيل الحاصل بنظره وبالجملة ان مآله إلى تعلق البعث إلى الأمر الخارجي فان إلقاء الصورة الذهنية من رأس وعدم التوجه إليها عند الحكم يستلزم تعلق البعث على الطبيعة الموجودة ، والظاهر ان منشأ ما ذكره هو ما اشتهر بينهم من انه لو تعلق الأحكام بالطبائع بما هي هي بلا لحاظ كونها مرآة للخارج ، يلزم كون الطبيعة مطلوبة من حيث هي هي وقد ذكرنا ما هو الحق في مباحث الألفاظ

 منها ان ما ذكره (قدس‌سره) من ان الذات في الجهات التعليلية والقضايا الطلبية الشرطية يلاحظ مرتين متقدما تارة ومتأخرا أخرى كما في باب الأوامر غير صحيح لا في المقيس ولا في المقيس عليه.

اما الثاني ، فان الأوامر والأحكام التي يعبر عنها بالزجر والبعث إلزاميا أو غير إلزاميّ ، ليست من قبيل الاعراض بالنسبة إلى موضوعاتها حتى يكون فيها مناط التأخر الرتبي ، بل لها قيام صدوري بالأمر ، كما ان لها إضافة اعتبارية بالنسبة إلى المأمور والمأمور به والآمر ، وانما قلنا اعتبارية لأنها تحليلات ذهنية ، لا يقابلها شيء في الخارج ، بحيث لولاه ، فهي ليست عرضا لا في الذهن ولا في الخارج.

واما الداعوية ، فلو كانت داعوية الأمر ، امرا تكوينيا حقيقيا ، كان لما ذكره وجه لأنه (ح) يتأخر الانبعاث عن البعث تأخر المعلول عن علته.

١٥٠

ولكن داعويته ليس إلّا إيقاعياً ، أي مبينا لموضوع الإطاعة فقط ، لا محركا للمأمور نحو الأمر ، ضرورة ان العبد انما ينبعث عن المبادي الحاصلة في نفسه من الخوف والرجاء ، واما مجرد الأمر فليس محركا ولو مع العلم به ، و (على هذا) فانبعاث العبد ليس من البعث حتى يقال ان الانبعاث متأخر عن البعث رتبة لعدم ملاك التأخر الرتبي

واما تأخر الانبعاث عن البعث زمانا وتصورا ، فهو لا يستلزم التأخر الرتبي الّذي لا يتحقق إلّا بين العلل والمعاليل.

واما المقيس : فلو سلم في المقيس عليه لأجل ان الذات تارة يلاحظ معروضة فيصير متقدمة وأخرى معلولة لدعوته ، فتصير متأخرة ، فلا نسلم في المقيس فان الجهات التعليلية ، ليست إلّا علة لتعلق الحكم بالموضوع فهي مقدمة على الحكم وتعلقه بالموضوع ، واما تقدمها علي الذات فلا وجه له ، فلو قلنا : العصير العنبي يحرم لغليانه فهنا موضوع وحكم وعلة ، فلا شك ان الذات مقدم على الغليان لكونه وصفا له ، والحكم متأخر عن الوصف لكونه علة له

 (وعلى ذلك) فتقدم العلة على الحكم ، تقدم رتبي ، وتأخره عنها أيضا كذلك ، واما تقدمها على الذات ، فليس له وجه ، ولا ملاك ، هذا مع ان القول بارتفاع التضاد بالجهات التقييدية أولى بارتفاعه من التشبث بالجهات التعليلية ، فانه يمكن ان يقال : ان بين عنواني الخمر والمشكوك فيه عموما من وجه ، لتصادقهما في الخمر المشكوك فيه مع كونه خمرا في الواقع وتفارقهما في الخمر المعلومة ، والمشكوك فيه إذا كان خلا ، فيمكن ان يكون أحد العنوانين مصبا للحلية ، وأخرى للحرمة ، كما في عنواني الصلاة والغصب لكن قد مر منا في مباحث القطع ما يرده أيضا ، للفرق بين المقامين ، فان الدليل الدال على وجوب الصلاة ، غير ناظر إلى ما يدل على حرمة الغصب وهذا بخلاف المقام فان الأدلة المرخصة ناظرة إلى العناوين المحرمة ، والشاهد عليه تحديد الحلية إلى زمن العلم بالخلاف ، ولأجل ذلك ، لا يجتمع الإرادة الحتمية التحريمية علي

١٥١

نحو الإطلاق مع الترخيص الفعلي لأجل الاشتباه ، أو جعل الطرق وإمضائها التي يؤدى أحيانا إلى خلاف الواقع

ومنها : ان ما ادعاه من ان صفة المشكوكية والمشتبهية ، جهات تعليلية خلاف ظاهر أدلة الباب ، فان الظاهر من حديث الرفع وروايات الحل والطهارة وأدلة الاستصحاب والشك بعد تجاوز المحل ، ان الأحكام متعلقة ، بالمشكوك بما انه مشكوك ، وغير المعلوم بما انه كذلك.

جولة فيما ذكره شيخنا العلامة

ان شيخنا العلامة قد نقل وجوها للجمع ، ونقل وجها عن السيد الجليل الأستاذ السيد محمّد الفشاركي ، ومحصله : عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر ، الشك في الأول.

وتوضيحه ان الأحكام تتعلق بالمفاهيم الذهنية من حيث انها حاكية عن الخارج فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية ، ثم المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الإطلاق ، وأخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في غير ذلك المقيد ، وقد يكون لوجود المانع وهذا الأخير مثل ان يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقا ، إلّا ان عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر الأهم فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيد الرقبة بالمؤمنة لا لعدم المقتضى بل لمزاحمة المانع وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتحد معه ، المخرج له عن المطلوبية الفعلية فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن بحيث يكون تعقل أحدهما لا مع الآخر دائما لا يتحقق الكسر والانكسار بين الجهتين فاللازم منه انه متى تصور العنوان الّذي فيه جهة المطلوبية ، يكون مطلوبا مطلقا لعدم تعقل منافيه ، ومتى تصور العنوان الّذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضا كذلك ، لعدم تعقل منافيه ، والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني أبدا لأن الحالات اللاحقة

١٥٢

للموضوع بعد تحقق الحكم ، وفي الرتبة المتأخرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه ، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق جهة المبغوضية فيه ، ويصير مبغوضا بهذه الملاحظة ، لا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ، لأن الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلا فعلا ، لأن تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النّظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم

ان قلت : العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعلق العنوان المتأخر فيجتمع العنوانان ، وعاد الإشكال

قلت : كلا فان تصور موضوع الحكم الواقعي مبني على تجرده عن الحكم ، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بد وان يكون بلحاظ الحكم ، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرد واللاتجرد «انتهى كلامه رفع مقامه»

وفيه أولا : ان ذلك مبنى على امتناع أخذ ما يأتي من قبل الأمر في دائرة موضوع الحكم ، كالشك في الحكم والعلم به ، وقد قدمنا صحة الأخذ في باب التعبدي والتوصلي واعترف (قدس‌سره) بصحته فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع

 وثانيا : ان تأخر الشك عن الحكم وتحققه بعد تعلقه بالموضوع ممنوع فان الشك في الشيء لا يستلزم تحقق المشكوك في الخارج كما هو واضح ، وإلّا لزم انقلاب الشك علما لو علم بهذه الملازمة ومع الغفلة ينقلب إذا توجه ، مضافا إلى ان تعلقه مع الغفلة دليل على بطلان ما ذكروا ما لغوية جعل الحكم على المشكوك من دون سبق حكم من الحاكم على الطبيعة المحضة ، فانما يلزم لو لم يكن للحاكم حكم أصلا ، وهو لا يستلزم تأخر جعل الحكم على المشكوك ، عن نفس الحكم على الذات الواقعي.

وثالثا : ان ما أفاده (قدس‌سره) من مزاحمة جهة المبغوضية ، مع جهة المحبوبية مرجعها إلى التصويب الباطل ، فان تلك المزاحمة ، يستلزم تضيق الحكم في المزاحم

١٥٣

(بالفتح) بحسب اللب ، وما ذكره من إطلاق الحكم بسبب الغفلة عن المزاحم غير مفيد ، فان الإهمال في الثبوت غير متصور ، فان الصلاة وان كانت واجبة في نفس الأمر ، إلّا ان الصلاة المشكوك حكمها ، لأجل ابتلائها بالمزاحم الأقوى ، ومزاحمة الجهة المبغوضية الموجود فيها في حال الشك ، مع المحبوبية الكامنة في ذاتها ، يستلزم تقيد الوجوب في ناحية الوجوب المتعلق بالصلاة ، ويختص الوجوب بغير هذه الصورة وينحصر بالصلاة المعلومة الوجوب ، فعاد الإشكال

 ورابعا : ان ما أفاده في دفع الإشكال من ان موضوع الحكم الواقعي هو الذات المجرد عن الحكم ، غير واضح ، فانه ان أراد من التجرد ، لحاظ الماهية مقيدة بالتجرد عن الحكم حتى يصير الموضوع هو الطبيعة بشرط لا ، فهو خلاف التحقيق ، فان متعلق الأوامر انما هو نفس الطبائع ، غير مقيدة بشيء من القيود حتى التجريد ، على انه أي لحاظ تجرد الموضوع عن الحكم يستلزم تصور الحكم في مرتبة الموضوع ، مع انه حكم بامتناعه وجعل الحالات اللاحقة للموضوع كالحكم والشك فيه ، مما يمتنع لحاظه في ذات الموضوع ، وان أراد من التجرد عدم اللحاظ أعني اللابشرط ، فهو محفوظ في كل مرتبة ، مرتبة الحكم الواقعي والظاهري ، فيصير مقسما لمعلوم الحكم ومشكوكه ، فعاد المحذور.

وبقي في المقام تقريبات ، ضربنا عنها صفحاً ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية

تأسيس الأصل في التعبد بالظنون

ولنقدم أموراً

الأول : اعلم ان للحجية معنيين ، الأول : الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع ، وبهذا المعنى تطلق الحجة على المعلومات التصديقية الموصلة إلى المجهولات وعلى الأمارات العقلائية أو الشرعية باعتبار كونها برهانا عقلائيا أو شرعيا على الواقع لا باعتبار صيرورتها

١٥٤

بعناوينها وسطا في الإثبات الثاني الغلبة على الخصم وقاطعية العذر وإطلاق الحجة بهذا المعنى على الأمارات أنسب ، ثم ان الحجية بالمعنى الأول تستلزم وجوداً وعدماً جواز الانتساب إلى الشارع وعدمه ، إذ ليس للطريقية والوسطية في الإثبات معنى سوى ذلك ، واما بالمعنى الثاني فلا تلازم بينهما أصلا ، فان الظن على الحكومة حجة بالمعنى الثاني. لكونه قاطعا للعذر ، ومع ذلك لا يصح معه الانتساب إليه.

الثاني ربما وقع الخلط بين عنواني التشريع والقول بغير علم ، فاستدل بما يدل علي حرمة القول بغير علم على حرمة التشريع ، مع ان بينهما فرقاً فان التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها وان شئت قلت : تغيير القوانين الإلهية ، والأحكام الإلهية بإدخال ما ليس في الدين فيه ، وإخراج ما هو منه عنه ، وهذا ما يسمى بدعة فلا كلام في حرمته ومبغوضيته ، واما تفسير التشريع بالتعبد بما لا يعلم جواز التعبد به من قبل الشارع فان أريد منه التعبد الحقيقي جدا ، فلا شك انه امر غير ممكن خارج عن اختيار المكلف ، إذ كيف يمكن التعبد الحقيقي بما لا يعلم انه عبادي ، فان الالتزامات النفسانيّة ليست واقعة تحت اختيار النّفس حتى توجدها في أي وقت شاء ، وان أريد منه اسناد ما لم يعلم كونه من الشريعة إليها ، فهو امر ممكن لكنه غير التشريع بل عنوان آخر محرم أيضا ، ويدل على حرمته ما ورد من حرمة القول بغير علم ، وما ورد من أدلة حرمة الإفتاء والقضاء بغير علم (على إشكال في دلالة القسم الثاني بلحاظ ان الحكم إنشاء لا اسناد إلى الشرع)

 ومما ذكرنا يظهر الخلط فيما أفاده بعض الأعاظم (قدس‌سره) حيث جعل العنوانين واحدا.

الثالث : الظاهر ان للتشريع واقعا قد يصيبه المكلف وقد لا يصيبه ، فان تغيير القوانين الشرعية كسائر المحرمات ، مبغوض واقعي ، قد يتعلق بها العلم وقد لا يتعلق فهو مبغوض بمناطها الواقعي ، كما ان القول بغير علم واسناد شيء إلى الشارع بلا حجة مبغوض بما له من المناط.

١٥٥

وما أفاده بعض أعاظم العصر (قدس‌سره) من انه ليس للتشريع واقع يمكن ان يصيبه أولا يصيبه بل واقع التشريع هو اسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك ، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن ـ غير واضح إذ قد عرفت ان التشريع غير الإسناد من غير علم ولا حجة ، وان الأول عبارة عن تغيير القوانين الإلهية ، والتلاعب باحكام الله تعالى ، وهو من العناوين الواقعية متصفة بالقبح كالظلم بل هو منه ، فلو جهل المكلف به لما اتصف بالقبح الفاعلي مع كون الفعل حراما واقعا.

الرابع ان التشريع بأي معنى فسر ، لا يسرى قبحه إلى الفعل الخارجي ، إذ لا وجه لتسرية القبح من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه ، كما هو المطرد في الأحكام العقلية ، و (على ذلك) فعلى القول بالملازمة فلا نستكشف من كون التشريع قبيحا عقلا ، إلا حرمة ذلك العنوان شرعا ، لا حرمة عنوان آخر مغاير معه ، وهذا واضح جدا.

فما أفاده بعض الأعاظم (قدس‌سره) من إمكان كون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فيكون التعبد بعمل لا يعلم التعبد به من الشارع موجبا لانقلاب العمل عما هو عليه. ويشهد على ذلك قوله عليه‌السلام رجل قضى بالحق وهو لا يعلم لدلالته على حرمة القضاء ، واستحقاق العقوبة عليه ، فيدل على حرمة نفس العمل غير واضح جدا ، فان إمكان كون القصد من الجهات المغيرة لا يدل على فعلية ما ادعاه من النتيجة ، إذ هي تابعة لأخس المقدمتين ، أضف إليه ، ان كون بعض العناوين مغيرا ، فما الدليل على ان هذه العناوين كذلك ، فالإشكال في كلية ما ادعاه ، وما استدل من الرواية. ضعيف ، فان حرمة القضاء مما لا كلام فيه ، وانما الكلام في حرمة العمل.

إذا عرفت ذلك : فنقول الحق في تقرير الأصل ما أفاده في الكفاية فانه الأنسب بالبحث الأصولي حيث قال : ان الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ، ولا يحرز التعبد به واقعا

١٥٦

عدم حجيته جزما بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا. وما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فكأنه خارج عن محط الكلام فراجع هذا

 ثم ان ما أفاد الشيخ الأعظم (قدس‌سره) في تأسيس الأصل : من حرمة التعبد بالظن الّذي لم يدل دليل على وقوع التعبد به ، إذا تعبدنا على انه من الشارع والالتزام به كذلك ، لا إذا أتى به رجاء إدراك الواقع ، فانه ليس بمحرم إلّا إذا استلزم طرح ما يقابله من الأصول والأدلة ، ثم استدل على مختاره بالأدلة الأربعة ، فيه مواقع للنظر.

منها : ان البحث عن الحرمة التكليفية للتعبد بالظن لا يناسب مع تقرير الأصل في المسألة الأصولية اللهم إلّا ان يرجع إلى نفى الحجية بإثبات الحرمة ، استدلالا على الملزوم (عدم الحجية) بوجود اللازم بناء على الملازمة بينهما والّذي دعاه إلى ذلك بنائه على عدم كون الحجية مجعولة وفيه منع الملازمة بينهما ولم يقم برهان عليه بل قام على خلافه وأورد عليه (قدس‌سره) نقوض. منها ما عن المحقق الخراسانيّ (قدس‌سره) قائلا بنفي الملازمة بين الحجية وصحة الاستناد ، مستشهدا ، بان حجية الظن عقلا على الحكومة في حال الانسداد ، لا توجب صحة الاستناد و «منها» ما عن بعض محققي العصر (قدس‌سره) : من ان الشك حجة في الشبهات البدوية قبل الفحص مع انه لا يجوز الانتساب إليه تعالى و «منها» ما عنه (قدس‌سره) من ان جعل الاحتياط في الشبهات البدوية كلها أو بعضها حجة على الواقع ، مع انه لا يصح معه الانتساب.

ويمكن ان يجاب عن الأول : بان الحجة في حال الانسداد هو العلم الإجمالي فيكون الحجة هو العلم لا الظن وسيوافيك لو ساعدنا الحال لبيان ما هو الحق في الانسداد ان ما يدعى من عدم كون العلم مقدمة ، ضعيف ، فان العلم الإجمالي بالاحكام مع عدم جواز الاحتياط والإهمال ، يوجب حكومة العقل بان اقرب الطرق إلى الواقع هو الظن ، فالظن ليس حجة بما هو ظن ، بل الحجة هو العلم الإجمالي ، واما الجواب عن ثاني النقوض ، ان الحجة ليس نفس الشك لأن قاعدة قبح العقاب بلا بيان غير محكمة مع وجود البيان في الكتب المعدة للبيان فالحجة الواصلة الواردة

١٥٧

في الكتب حجة على الواقع دون الشك نعم يمكن ان يجعل ذلك نقضا عليه ان كان محط البحث أعم من قبل الفحص وقس عليه ثالث النقوض فان إيجاب الاحتياط رافع لموضوع حكم العقل ، فليس الشك حجة بل الحجة هو الواقع أو إيجاب الاحتياط وهذا أيضا نقض عليه لا الشك البدوي.

ومنها ان ما استدل به من الأدلة غير حكم العقل مخدوش جدا بعد الغض عما تقدم منا من ان الالتزام الجزمي بما شك كونه من المولى أولا ، امر ممتنع لا حرام ، واما ضعف الأدلة اللفظية فلان الافتراء في قوله تعالى : «آلله أذن لكم أم على الله تفترون».

عبارة عن الانتساب إلى الله تعالى عمدا وكذبا إذا الافتراء لغة هو الكذب لا انتساب المشكوك فيه إليه وما ذكره صاحب المصباح من ان الافتراء وان كان لغة هو الكذب إلّا انه لوقوعه في مقابل قوله : اذن لكم يعم المقام أيضا ضعيف ، فان المراد من الاذن هو الاذن الواقعي لا الاذن الواصل حتى يقال بان عدم وصول الاذن يلازم كونه افتراءً كما لا يخفى

 والأولى الاستدلال على حرمة الانتساب بقوله تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ... إلى ان قال عزّ اسمه وان تقولوا على الله ما لا تعلمون ـ ، وبالأخبار الواردة في القول بغير علم ، لو لم نقل بكونها إرشاداً إلى حكم العقل واما الآية السابقة : آلله اذن لكم إلخ فظاهرها يأبى عن الإرشاد ، واما الإجماع فموهون بالعلم بمستنده نعم حكم العقل بقبح الانتساب بغير علم لا سترة فيه خصوصا إلى الله تعالى.

ومنها : ان ما أفاده من حرمة العمل بالظن إذا استلزم طرح ما يقابله من الأصول والأمارات ، لا يصح على مختاره ، لأن المحرم هو مخالفة الواقع لا الأمارات والأصول ، والأمر دائر بين التجري والمعصية

 تقرير الأصول في العمل بالظن

 وربما يقرر الأصل الأولى بالتمسك بالاستصحاب أعني أصالة عدم حجية الظن

١٥٨

وأورد عليه الشيخ بعدم ترتب الأثر العملي على مقتضى الاستصحاب لأن نفس الشك في الحجية موضوع لحرمة التعبد ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة واستشكل عليه المحقق الخراسانيّ (قدس‌سره) بوجهين.

أحدهما ان الحجية من الأحكام الوضعيّة وجريان الاستصحاب وجودا وعدما لا يحتاج فيها إلى أثر آخر وراءها كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة.

ثانيهما لو سلم الاحتياج إلى الأثر فحرمة التعبد كما تكون أثرا للشك في الحجية كذلك تكون أثرا لعدم الحجية واقعا فيكون الشك في الحجية موردا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك ، ويقدم الاستصحاب على القاعدة لحكومتها عليها ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها. وأورد على الوجهين بعض أعاظم العصر بعد ما لخص كلامه كما ذكرنا بما ملخصه.

اما الأول فلان الاستصحاب من الأصول العملية ولا يجري إلّا إذا كان في البين عمل ، وما اشتهر ان الأصول الحكمية لا تتوقف على الأثر ، انما هو فيما إذا كان المؤدى بنفسه من الآثار العملية لا مطلقا ، والحجية وان كانت من الأحكام الوضعيّة المجعولة إلّا انها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي ، والآثار المترتبة عليها : (منها) ما يترتب عليها بوجودها العلمي ككونها منجزة للواقع عند الإصابة ، وعذراً عند المخالفة و (منها) ما يترتب على نفس الشك في حجيتها كحرمة التعبد بها وعدم جواز إسنادها إلى الشارع ، فليس لإثبات عدم الحجية أثر الا حرمة التعبد بها ، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر أسوأ حالا من تحصيل الحاصل للزوم إحراز ما هو محرز وجدانا بالتعبد.

واما الوجه الثاني فلان ما أفاده : يعنى (المحقق الخراسانيّ) من ان حرمة التعبد بالأمارة تكون أثرا للشك في الحجية ولعدم الحجية واقعا ، وفي ظرف الشك يكون الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة له ففيه : انه لا يعقل ان يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر الشرعي في عرض الواقع ، مع عدم جريان الاستصحاب على

١٥٩

هذا الفرض أيضا ، لأن الأثر يترتب بمجرد الشك لتحقق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ولا تصل النوبة إلى إثبات الواقع ليجري الاستصحاب فانه في الرتبة السابقة على هذا الإثبات ، تحقق موضوع الأثر ، وترتب عليه الأثر ، فأي فائدة في جريان الاستصحاب ، وحكومته على القاعدة : انما تكون فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما يثبته القاعدة كقاعدتي الطهارة والحل واستصحابهما ، فان القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية بل مفادهما حكم ظاهري بخلاف الاستصحاب ـ وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الأكل ، وعلى ذلك يبتنى جواز الصلاة في اجزاء الحيوان الّذي شك في حليته ، إذا كان استصحاب الحلية جاريا ، كما إذا كان الحيوان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب وعدم جواز الصلاة في اجزائه إذا لم يجر الاستصحاب وان جرت فيه أصالة الحل ، فانها لا تثبت الحلية الواقعية وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ، فانه في مورد جريان القاعدة لا يجري الاستصحاب وبالعكس ، فالقاعدة تجري في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجري عند الشك في فعل المأمور به ، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عين الأثر المترتب على الشك. فالإنصاف انه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها (انتهى)

أقول قد عرفت سابقا ان التشريع وإدخال شيء في الشريعة وتبديل الأحكام عنوان برأسه ومبغوض شرعا ومحرم واقعي علم المكلف أولا كما ان القول بغير العلم وانتساب شيء إلى الشارع بلا حجة قبيح عقلا ومحرم شرعي غير التشريع وبمناط مستقل خاص به فالشك في الحجية كما انه موضوع لحرمة التعبد وحرمة الانتساب إلى الشارع موضوع لاستصحاب عدم الحجية وحرمة التشريع وإدخال ما ليس في الدين فيه وعليه يكون الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة للشك بمعنى انه مع استصحاب عدم جعل الحجية وعدم كون شيء من الدين يخرج الموضوع عن القول

١٦٠