تهذيب الأصول

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الجاهل من غير استفصال ، واما ما ذكره أخيرا وان التعميم يحتاج إلى التخصيص ولسانه آب عنه ، فيرد عليه مضافا إلى ان التخصيص لازم على أي وجه فان الجاهل الغافل المقصر خارج من مصب الرواية ، ان ذلك دعوى مجردة ، فان لسانه ليس على وجه يستهجن في نظر العرف ورود التخصيص به كما لا يخفى

وما أيده به بعضهم مقالة الشيخ ، فيرد عليه ان الجهل ليس علة للإتيان بالشيء فان وجود الشيء في الخارج معلول لمبادئه ، نعم ربما يكون العلم بالحكم مانعا ورادعا عن حصول تلك المبادي في النّفس ، وعليه فالمناسب جعل الباء بمعنى «عن» ولو سلم كونها للسببية ، فليس المراد من السببية ، المعنى المصطلح (صدور الفعل عنه) بل بمعنى دخالتها في العمل في الجملة فيصح ان يقال ان الارتكاب يكون لجهالة مع الفحص عن الحكم وعدم العثور عليه.

٦ ـ ومن الروايات : ما رواه ثقة الإسلام في باب البيان والتعريف عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن ابن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم فدلت علي ان التكليف فرع التعريف ، وإيتاء القدرة الّذي عليه قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها ، ولا يكلف نفسا الا وسعها ، وقد استدل بهما الإمام في رواية عبد الأعلى كما تقدم ، والمعنى المتبادر منها حسب مناسبة الحكم والموضوع شرطية التعريف والإيتاء في كل التكاليف على كل فرد فرد من المكلفين حتى يتم الحجة بالنسبة إلى كل واحد منهم ، وان التعريف للبعض ، لا يكفى في التكليف على الجميع ، لأن المقصود انما هو إتمام الحجة وهو لا يتم إلّا إذا حصل الأمران عند كل واحد واحد منهم ، وعلى ذلك فلو بحث المكلف عن تكليفه فحصا تاما ولم يظفر به ، وان صدر من الشارع حكمه غير ان الحوادث عاقت بينه وبين تكليفه لم يصدق انه عرفه وآتاه

فان قلت : قد رواه ثقة الإسلام أيضا في باب حجج الله عزوجل على خلقه وهو مذيّل بجملة ربما توهم خلاف ما ذكرنا وإليك الرواية : عدة من أصحابنا

٢٤١

عن أحمد بن محمد بن خالد عن علي بن الحكم عن أبان الأحمر عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لي اكتب فأملى عليّ ان من قولنا ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى إلخ.

فان ظاهر الرواية ان التعريف والإيتاء كانا قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ومن المعلوم ان المراد من هذا التعريف (عندئذ) هو التوحيد الفطري بالله وصفاته ، لا المعرفة بأحكامه فيكون أجنبيا عن المقام ، و (ح) فالتقطيع من ناحية الراوي.

قلت : ما ذكر من الذيل لا يضر بما نحن بصدده ، فان ما بعده شاهد على ان المقصود هو التكليف بالاحكام الفرعية فإليك الذيل : وامر فيه بالصلاة والصوم فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة فقال انا أنميك وانا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذ أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام انا أمرضك وانا أصحك فإذا شفيتك فاقضه. فعلى هذا فلا يمكن الأخذ بظاهر الرواية لأن ظاهرها ان إرسال الرسل وإنزال الكتب بعد الاحتجاج بما آتاهم وعرّفهم فلا بدّ ان يقال : ان المقصود منه ان سنة الله تعالى هو الاحتجاج على العباد بما آتاهم وعرفهم وهي منشأ لإرسال الرسل والتعريف ، ولأجل ذلك تخلل لفظة «ثم» بين الأمرين.

فان قلت : ما دل من الاخبار على لزوم الاحتياط وارد على هذه الرواية ، فان التعريف كما يحصل ببيان نفس الأحكام ، كذلك يحصل بإلزام الاحتياط في موارد الأحكام.

«قلت» لو لم نقل بحكومتها على اخبار الاحتياط فلا أقل بينهما التعارض ، فان مفاد الرواية ان الاحتجاج لا يتم إلّا ببيان نفس الأحكام وتعريفها ، فلو تم الاحتجاج بإيجاب الاحتياط مع انه ليس بواجب نفسي ، ولا طريق إلى الواقع لزم إتمام الحجة.

٢٤٢

بلا تعريف وهو يناقض الرواية وان شئت قلت : ان المعرفة بالاحكام موجبة للاحتجاج ، وبما انه في مقام الامتنان والتحديد تدل على انه مع عدم المعرفة لا يقع الاحتجاج ولا يكون الضيق والكلفة كما دل عليه ذيل الرواية الثانية ، ولزوم الاحتياط لا يوجب المعرفة بالاحكام ضرورة عدم طريقيته للواقع لا حكما ولا موضوعا فلو احتج بالاحتياط لزم الاحتجاج بلا تعريف ، بل لا يبعد حكومتها على أدلة الاحتياط لتعرضها لما لم يتعرض به أدلة الاحتياط ، لتعرضها لنفي الاحتجاج ما لم يعرّف ولم يبين كما لا يخفى.

٧ ـ ومن الروايات ما رواه المحدث الكاشاني عن ثقة الإسلام في باب البيان والتعريف بإسناده عن اليماني قال سمعت أبا عبد الله يقول ان امر الله عجيب إلّا انه قد احتج عليكم بما عرفكم من نفسه ، وهذه الرواية قريبة مما تقدم ، وليس المراد من قوله : بما عرفكم من نفسه ، هو تعريف ذاته وصفاته ، بل الظاهر هو تعريف أحكامه وأوامره ونواهيه ، فيرجع معنى الحديث إلى ان بيان الأحكام عليه تعالى دون غيره.

٨ ـ ومن الروايات : ما أرسله الصدوق ورواه الشيخ الحر في كتاب القضاء في الباب (١٢) عن محمد بن علي بن الحسين قال قال الصادق كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى واسناد الصدوق متن الحديث إليه بصورة الجزم والقطع شهادة منه على صحة الرواية وصدورها عنهم عليهم‌السلام في نظره (قدس‌سره) ، وهذا الإرسال بهذه الصورة (من دون ان يقول وعن الصادق) حاك عن وجود قرائن كاشفة عن صحة الحديث ومعلومية صدوره عنده كما لا يخفى.

واما فقه الحديث ففيه احتمالات فان قوله مطلق اما ان يراد منه اللاحرج من قبل المولى في قبال الحظر العقلي لكونه عبدا مملوكا ينبغي ان يكون صدوره ووروده عن رأي مالكه ، أو يراد الإباحة الشرعية الواقعية ، أو الإباحة الظاهرية المجعولة للشاك ، (ثم) المراد من النهي اما النهي المتعلق بالعناوين الأولية أو الأعم منه ومن الظاهري كالمستفاد من الاحتياط ، (ثم) المراد من الورود اما الورود المساوق للصدور واقعا سواء وصل

٢٤٣

إلى المكلف أم لا أو الورود على المكلف ، المساوق للوصول إليه ، وتمامية دلالة الحديث انما يتم لو دل على الإباحة الظاهرية المجعولة للشاك فيما لم يصل إلى المكلف نهى سواء صدر النهي عن المولى أولا.

ثم ان بعض الأعيان المحققين قد اعتقد بامتناع إرادة بعض الاحتمالات أعني كون المطلق بمعنى الإباحة الشرعية واقعية كانت أو ظاهرية فيما إذا أريد من الورود هو الصدور من الشارع ، اما الأول (كون المطلق بمعنى الإباحة الواقعية والمراد من الورود هو الصدور) فأفاد في وجه امتناعه ما هذا ملخصه : ان الإباحة الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع لخلوه عن المصلحة والمفسدة فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع ، المفروض انه لا اقتضاء وفرض عروض عنوان آخر مقتض للحرمة مخالف لظاهر الرواية الدالة على ان الحرمة وردت على نفس ما وردت عليه الإباحة ، ولو أريد من ورود النهي تحديد الموضوع وتقييده بان ما لم يرد فيه نهى مباح فهو مع كونه خلاف الظاهر فاسد لأنه ان كان بنحو المعرفية فهو كالاخبار بأمر بديهي لا يناسب شأن الإمام ، وان كان بنحو التقييد والشرطية فهو غير معقول لأن تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد حدوثا أو بقاء غير معقول لأن عدم الضد ليس شرطا لوجود ضده.

واما الثاني (كون المطلق بمعنى الإباحة الظاهرية والورود بمعنى الصدور) فأفاد انه يمتنع لوجوه «منها» لزوم تخلف الحكم عن موضوعه التام فانه مع فرض كون الموضوع وهو المشكوك موجودا يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع مع الشك واقعا فلا يعقل ان يتقيد الا بورود النهي على المكلف ليكون مساوقا للعلم المرتفع به الشك و (منها) ان الإباحة إذا كانت مغياة بصدور النهي واقعا أو محددة بعدمه والغاية والقيد مشكوك الحصول فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم صدوره لفعلية الإباحة ، واما الأصل فان كان لمجرد نفى الحرمة فلا مانع منه إلّا انه ليس من الاستدلال بالخبر وان كان للتعبد بالإباحة الشرعية واقعية أو ظاهرية فقد علم امتناع ذلك مطلقا ، وان كان للتعبد بالإباحة بمعنى اللاحرج فهي ليست من مقولة

٢٤٤

الحكم ولا هي موضوع ذو حكم ، ومنها ان ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة ، ومقتضى فرض عدم الحرمة الإبقاء ، هو فرض عدم الحرمة حدوثا ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الأمر ، فلا معنى لجعل الإباحة الظاهرية ، وليست الغاية غاية للإباحة الإنشائية حتى يقال انه يحتمل في فرض فعلية الشك صدور النهي واقعا بل غاية الحقيقة الإباحة الفعلية بفعلية موضوعها وهو المشكوك ، وحيث ان المفروض صدور النهي بقاء في مورد هذه الإباحة الفعلية فلذا يرد المحذور المزبور.

أقول : في كلامه مواقع للنظر «منها» ما أفاده في امتناع الأول من ان الإباحة الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع فلا يعقل ورود النهي على نفس الموضوع ففيه ان اللااقتضاء والاقتضاء لو كانا راجعين إلى نفس الموضوع لكان لما ذكره وجه ، إلّا ان الأحكام الشرعية وان كانت مجعولة عن مصالح ومفاسد ، لكن لا يلزم ان يكون تلك المصالح أو المفاسد في نفس الموضوعات حتى يكون الاقتضاء واللااقتضاء راجعا إليه بل الجهات الخارجية مؤثرة في جعل الأحكام بلا ريب ، وأوضح شاهد على ذلك هو نجاسة الكفار والمشركين فان جعل النجاسة عليهم ليس لأجل وجود قذارة أو كثافة في أبدانهم كما في سائر الأعيان النجسة بل الملاك لهذا الجعل ، الجهات السياسية ، فان نظر المشرع تحفظ المسلمين عن مخالطة الكفار والمعاشرة معهم ، حتى تصون بذلك أخلاقهم وآدابهم ونواميسهم ، فلأجل هذه الأمنية حكم على نجاستهم ، (فحينئذ) فمن الممكن ان يكون الموضوع مقتضيا للحرمة ، لكن الموانع منعت عن جعلها ، أو المصالح السياسية اقتضت جعل الإباحة الواقعية ، فلو كان الشارع حاكما بحلية الخمر في دور الضعف وان كان تراها ذات مفسدة مقتضية للتحريم وجعل الحرمة ، لكان أشبه شيء بالمقام.

و (منها) انه يمكن جعل ورود النهي تحديدا للموضوع بكلا الوجهين من المعرفية والشرطية بلا محذور. اما الأول ، فلان ما هو كالبديهي انما هو الإباحة بمعنى اللاحرجي قبال الحظر واما الإباحة الواقعية المجعولة الشرعية فليس كذلك لأنها

٢٤٥

لا تحصل إلّا بجعل الجاعل ، بخلاف اللاحرجية ، (فان قلت) يلزم) اللغوية (ح) إذ بعد ما حكم العقل باللاحرجية فلا مجال لجعل الإباحة الواقعية (قلت) انه منقوض (أولا) بالبراءة الشرعية مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، و (ثانيا) نمنع لغوية الجعل بعد كونها ذات آثار لا تترتب إلّا بجعل تلك الإباحة الواقعية ولا يغني عنها ما يحكم به العقل ، ضرورة انه مع الشك في ورود النهي من الشارع يمكن استصحاب الحلية المجعولة بعد الإشكال في جريان أصالة عدم ورود النهي لأجل كونها أصلا مثبتا وبدونها لا يجوز استصحاب اللاحرجية لعدم كونها حكما شرعيا ولا موضوعا ذا أثر على انه يمكن منع اللغوية ، بان جعلها لرفع الشبهة المغروسة في الأذهان من ان الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر حتى يرد منه الترخيص.

واما الثاني أعني أخذ عدم الضد شرطا لوجود الضد الآخر ، فالمنع عنه يختص بالأمور التكوينية كما حقق في محله واما الأمور الاعتبارية التي لا يتحمل أحكام التكويني كالتضاد وغيره فلا ، وقد أوضحنا في بعض المباحث انه لا تضاد بين الأحكام فلأجل ذلك يمكن ان يجعل عدم أحد الضدين شرطا لوجود الضد الآخر.

ومنها ما أفاده من امتناع إرادة الإباحة الظاهرية من المطلق مع كون الورود الواقعي غاية أو تحديدا للموضوع لأجل تخلف الحكم من موضوعه التام ففيه ان الموضوع على التحديد هو المشكوك الّذي لم يرد فيه نهى واقعا ، وهو غير المشكوك الّذي ورد فيه نهى (وبالجملة) لو كان الموضوع للإباحة الظاهرية هو المشكوك بما هو هو المجامع مع ورود النهي واقعا ، يلزم تخلف الحكم (الإباحة الظاهرية) عن موضوعه (المشكوك) فمع كون الموضوع وهو المشكوك موجودا ليس معه الحكم أعني الإباحة لأجل ورود النهي واقعا ، واما لو كان الموضوع المشكوك الّذي لم يرد فيه نهى واقعا ، فلو ورد هنا نهى لانتفى ما هو موضوع الإباحة بانتفاء أحد جزئيه فليس هنا موضوع حتى يلزم انفكاك الحكم عن موضوعه نعم لو كان غاية فالموضوع وان كان هو المشكوك بما هو هو وهو محفوظ مع ورود النهي ، لكن لا مانع من تخلف الحكم عن موضوعه إذا اقتضت المصالح الخارجية لذلك وما ذكر من الامتناع ناش من قياس التشريع

٢٤٦

على التكوين بتخيل ان الموضوعات علل تامة للأحكام كما هو المعروف وهو غير تام وقد عرفت ان المصالح الخارجية ومفاسدها ، لها دخالة في تعلق الأحكام كما مر في نجاسة الكفار ، وطهارة العامة في حال الغيبة لأجل حصول الاتفاق والاتحاد حتى دلت الاخبار ، على رجحان معاشرتهم والحضور في جماعاتهم إلى غير ذلك

 وعلى ذلك فالمشكوك يمكن ان يكون حلالا إلى أمد لاقتضاء العصر وحرا ما إلى زمان آخر ، وان شئت أخذت الحوادث المقارنة قيدا محدودا ، وبتغيرها يتغير الحكم

واما إجراء الأصل فنختار انه للتعبد بالإباحة الشرعية واقعية أو ظاهرية وما أفاد : من انه قد علم امتناع ذلك مطلقا. قد علمت صحته ومعقوليته أضف إلى ذلك ، ان ما أفاد تحت ذلك العنوان «إجراء الأصل» ظاهر في كونه دليلا مستقلا مع انه في الإباحة الظاهرية مصادرة جدا اللهم ان يتشبث بما أفاده قبله فلا يكون ذلك دليلا مستقلا ، ثم ان الأصل الجاري في المقام ، اما أصالة عدم الحرمة فسيوافيك الإشكال فيه ، وان كان أصالة عدم ورود النهي حتى يثبت الحلية الواقعية أو الظاهرية فسيوافيك انه من الأصول المثبتة لأن تحقق ذي الغاية مع عدم حصوله غايته من الأحكام العقلية ، والشك في تحقق ذيها وان كان مسببا عن تحقق نفس الغاية وعدمها ، إلّا انه ليس مطلق السببية مناطا لحكومة السببي على المسببي ما لم يكن الترتب شرعيا ، وان كان الأصل أصالة بقاء الإباحة الواقعية أو الظاهرية ، فلا مانع منه ، والقول ان الاستصحاب لا يجري في الأحكام الظاهرية ، صحيح ، لكن المقام ليس من افراده لأن ذلك فيما إذا كان نفس الشك كافيا في ترتب الأحكام لأن الحكم في المقام ليس مرتبا على نفس الشك ، بل عليه مغيا بعدم ورود النهي الواقعي ، وهذا لا يكفى فيه الشك أصلا حتى لا تحتاج إلى الاستصحاب

 واما ما أفاده في ثالث إشكالاته : فلانا نمنع استلزام عدم الحرمة الا بعد ورود النهي ، عدم تحقق الشك فان تحققه ضروري مع الشك في الورود وعدمه ، فان المكلف إذا التفت إلى حرمة شرب التتن وعدمها محتملا ورود النهي واقعا ،

٢٤٧

فلا محالة يتحقق في نفسه الشك ، وهو كاف في جعل الحكم الظاهري ، سواء كان الحكم الظاهري هو إيجاب الاحتياط حتى يرد الترخيص ، أو الترخيص حتى يرد النهي ، وقد أوضحنا عدم لغوية هذا الجعل كما تقدم

ثم هذا كله على القول بان موضوع الحلية الظاهرية هو الشك في الحكم الشرعي المجعول ، ويمكن ان يقال : ان موضوعه هو الشك في كون الأشياء علي الحظر وعدمه ، أو الشك في الملازمة بين حكم العقل والشرع إذا قلنا بالحظر عقلا فيكون قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى ناظرا لكلا الشكين فلو شك في ان الأصل في الأشياء هو الحظر أو عدمه ، تفيد الرواية كونها على الإباحة ، وكذا لو قلنا بان الأصل الأولى هو الحظر ولكن شككنا في الملازمة و (الحاصل) يكون قوله عليه‌السلام ناظرا إلى ما إذا شك في الحكم الشرعي لأجل الشك في ان الأصل في الأشياء هو الحظر أو عدمه ، أو لأجل الشك في الملازمة ، فهذا الشك محقق مطلقا حتى مع العلم بعدم ورود النهي في الشرع ، لأن متعلق الشك كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هل هو الحظر أولا وهذا لا ينافى العلم بعدم ورود النهي من الشارع ، وهذا نحو آخر من الحكم الظاهري المجعول في حق الشاك في الحكم الواقعي ، وعلى هذا يكون عامة إشكالاته واضحة الدفع خصوصا الثالث منها فانه على فرض تسليمه لا يرد في هذا الفرض كما لا يخفى.

المختار في معنى الرواية

هذا كله محتملات الرواية حسب الثبوت ، واما مفادها حسب الإثبات فلا شك ان معنى قوله عليه‌السلام «حتى يرد فيه نهى» ان هذا الإطلاق والإرسال باق إلى ورود النهي ، وليس المراد من الورود هو الورود من جانب الشارع لانقطاع الوحي في زمان صدور الرواية ، والحمل على النواهي المخزونة عند ولى العصر بعيد جدا ، فانه على فرض وجود تلك النواهي عنده فتعين ان يكون المراد من الورود هو الوصول على المكلف وهذا عرفا عين الحكم الظاهري المجعول في حق الشاك إلى ان يظفر على الدليل و (الحاصل) ان قوله «يرد» جملة استقبالية ، والنهي المتوقع وروده في زمان الصادق

٢٤٨

ليست النواهي الأولية الواردة على الموضوعات ، لأن ذلك بيد الشارع ، وقد فعل ذلك وختم طوماره بموت النبي وانقطاع الوحي ، غير ان كل ما يرد من العترة الطاهرة كلها حاكيات عن التشريع والورود الأولى ، وعلى ذلك ينحصر المراد من قوله «يرد» على الورود على المكلف أي الوصول إليه حتى يرتفع بذلك ، الحكم المجعول للشاك ، وهذا عين الحكم الظاهري.

واما احتمال كون الإطلاق بمعنى اللاحظر حتى يكون بصدد بيان حكم عقلي ومسألة أصولية أو كلامية ، أو بمعنى الحلية الواقعية قبل الشرع المستكشف بحكم العقل الحاكم بكون الأشياء على الإباحة ، وبملازمة حكم العقل والشرع ، ففي غاية البعد ، فان ظواهر هذه الكلمات كون الإمام بصدد بيان الفتوى ، ورفع حاجة المكلفين ، لا بيان مسألة أصولية أو كلامية أو عقلية ، ولو فرض كونها بصدد بيان الحكم العقلي ، أو بيان التلازم يشكل إثباته بالرواية ، لعدم صحة التعبد في الأحكام العقلية أو ملازماتها كما لا يخفى.

٩ ـ ومن الروايات : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المنقولة في أبواب ما يحرم بالمصاهرة عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن الرّجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبدا فقال عليه‌السلام اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك ، قلت : بأي الجهالتين أعذر بجهالة ان ذلك تحرم عليه أم بجهالة انها في العدة قال عليه‌السلام إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بان الله تعالى حرم عليه ذلك ، وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط ، قلت فهو في الأخرى معذور قال : عليه‌السلام نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في ان يزوجها.

وجه الدلالة : ان التعبير بالأهونية في جواب الإمام ، وبالأعذرية ، لا يناسب الأحكام الوضعيّة ، فان كون الجهل عذرا وموجبا لعدم التحريم الأبدي لا مراتب له فلا بدّ من الحمل على الحكم التكليفي ، إذ هو الّذي يتفاوت فيه بعض الاعذار ، ويكون بعضها أهون من بعض ، فالغافل المرتكب للمحرم ، أعذر من الجاهل الملتفت المرتكب له وان كان ارتكابه بحكم أصل البراءة ، و (عليه) فالرواية دالة على

٢٤٩

كون الجهل مطلقا عذرا في ارتكاب المحرمات ، وان كان الاعذار ذات مراتب ، والجهالات ذات درجات.

واما ما عن بعض محققي العصر (قدس‌سره) من تقريب دلالتها بان قوله عليه‌السلام (فقد يعذر الناس بما هو أعظم) دال على معذورية الجاهل من حيث العقوبة عند الجهل الشامل بإطلاقه للمعذورية عن العقوبة والنكال الأخروي ، فضعيف جدا لأن قوله (فقد يعذر) لا يستفاد منه الإطلاق ، لأن «قد» فيه للتقليل لا للتحقيق.

وعلى أي تقدير التمسك بها للمقام محل إشكال لأن التعليل بأنه كان غير قادر على الاحتياط يجعلها مختصة بالغافل وهو غير محل البحث. وإلغاء الخصوصية مع التفاوت الفاحش لا يمكن في المقام

١٠ ـ ومن الروايات قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. أقول قد صدر هذه الكبرى عنهم عليهم‌السلام في عدة روايات.

منها في صحيحة عبد الله بن سنان المنقولة في أبواب ما يكتسب به عن أبي عبد الله : كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه

 منها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه‌السلام المنقولة في الأطعمة المباحة بعد السؤال عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

منها ما رواه البرقي بسنده عن معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال كنت عند أبي جعفر فسئل رجل عن الجبن فقال : أبو جعفر عليه‌السلام انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعلم انه حرام فتدعه بعينه و (منها) رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله في الجبن قال كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة ، و (منها) موثقة مسعدة بن صدقة ،

٢٥٠

قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب إلخ.

هذه جملة من الروايات المذكورة فيها هذه الكبرى ، مع اختلاف يسير ، وما يظهر من الشيخ الأعظم من كون قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام رواية مستقلة غير هذه الروايات ، فلم نقف عليه ، والظاهر ان الكبرى المذكورة في رواية عبد الله بن سليمان عين ما ذكر في صحيحة ابن سنان لوحدة العبارة ، وان كانت الأولى مصدرة بحكم الجبن ، فيكون الأولى مختصة بالشبهات الموضوعية ولأجل ذلك يشكل تعميم صحيحة ابن سنان على الحكمية ، أضف إلى ذلك قوله : بعينه ، ومنه ، وفيه ومادة العرفان المستعملة في الأمور الجزئية ، فان كل واحد من هذه الأمور وان كان في حد نفسه قابلا للمناقشة ، إلّا ان ملاحظة المجموع ، ربما تصير قرينة على الاختصاص أو سلب الاعتماد بمثل هذا الإطلاق ومثل تلك الصحيحة موثقة مسعدة بن صدقة فان الأمثلة المذكورة كلها من الشبهات الموضوعية وفيها إشكالات عويصة.

الاستدلال على البراءة بالإجماع والعقل

اما الإجماع : فلا يفيد في المقام أصلا ، لكون المسألة مما تظافرت به الأدلة النقليّة ، وحكم به العقل ، فمن القريب جدا ان يكون المدرك لإجماعهم هو تلك الأدلة واما دليل العقل ، فلا إشكال ان العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، أي بلا حجة وهذا حكم قطعي للعقل يرتفع موضوع ذاك الحكم بوصول البيان إلى المكلف بالعنوان الأولى أو بإيجاب الاحتياط والتوقف في الشبهات وهذا مما لا إشكال فيه.

ثم انه يظهر عن بعضهم انه لا يحتاج الأصولي إلى هذه الكبرى لأن الملاك في استحقاق عقوبة العبد في مخالفة مولاه هو عنوان الظلم ، فانّ مخالفة ما قامت عليه

٢٥١

الحجة خروج عن رسم العبودية وهو ظلم من العبد إلى مولاه ، يستوجب العقوبة ، واما مع عدم قيام الحجة فلا يكون ظالما فلا يستحق العقوبة وهو كاف في المقام ، واما كون العقاب بلا بيان قبيحا ، فغير محتاج إليه فيما يرتئيه الأصولي وان كان في نفسه صحيحا.

أقول : ان العقل مستقل بوجوب إطاعة المنعم ، وقبح مخالفته ، واستحقاق المتخلف للعقوبة ، وهذا الحكم (استحقاقه للعقوبة) ليس بمناط انطباق عنوان الظلم عليه ، بل العقل يستقل بهذا ، مع الغفلة عن الظلم ، على ان كون مطلق المخالفة ظلما للمولى محل بحث وإشكال هذا أولا ـ (واما ثانيا) ، فلان المرمي في المقام هو تحصيل المؤمن عن العقاب حتى يتسنّى له الارتكاب وهو لا يحصل إلّا بالتمسك بهذه الكبرى التي مآلها إلى قبح صدور العقاب من المولى الحكيم العادل ، واما مجرد دفع الاستحقاق بمناط ان الارتكاب ليس بظلم فلا يكفى في ذلك ، لأن دفع الاستحقاق عن ناحية الظلم وحصول الطمأنينة من تلك الناحية لا يصير مؤمنا عن عامة الجهات ما لم ينضم إليه الكبرى المذكورة.

وربما يقال : ان مناط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب حتى من غير بيان وأصل إلى المكلف فانه لم يحصل في الأول تفويت لمراد المولى ولم تتم مبادئ الإرادة الآمرية فلا مقتضى لاستحقاق العقاب بخلاف الثاني فان ملاك عدم الاستحقاق فيه عدم استناد فوت المطلوب إلى العبد «انتهى» وفيه ان ما ذكر من الفرق غير فارق وما ذكر من الفرق لا يتجاوز عن بيان خصوصية الموردين واما اختلافهما في المناط فلا يستفاد منه ، بل المناط فيهما واحد وهو قبح العقاب بلا حجة ، سواء لم يكن بيان من رأس أو كان ولم يصل إليه فالعقاب في كلا القسمين عقاب بلا جهة ولا حجة ، وكلاهما من مصاديق الظلم والمناط في كلا القسمين واحد كما لا يخفى.

جولة حول وجوب دفع الضرر المحتمل

ربما يتوهم ورود حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل على الحكم العقلي

٢٥٢

المذكور من قبح العقاب بلا بيان بتوهم ان الأول بيان بلسانه فيصير العقاب مع البيان وهذا فاسد سواء أريد من الضرر العقاب الأخروي أو أريد غيره ، (اما الأول) فلان من الواضح ان الكبرى بما هي هي لا ينتج شيئا في عامة الموارد ، ما لم ينضم إليه الصغرى ، فالعلم بوجوب دفع الضرر كالعلم بقبح العقاب بلا بيان لا ينتجان إلّا إذا انضم إلى كل واحد صغراه ، فيقال في الأولى : ان العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة ، أو ترك محتمل الوجوب ، محتمل ويجب دفع الضرر المحتمل ، فينتج وجوب الاحتراز عن محتمل التكليف ، ويقال في الثانية ، ان العقاب على محتمل التكليف بعد الفحص التام وعدم العثور عليه ، عقاب بلا بيان ، والعقاب بلا بيان قبيح أي يمتنع صدوره عن المولى الحكيم العادل ، فينتج ان العقاب على محتمل التكليف ممتنع إذا عرفت ذلك فنقول : ان القياس الثاني مركب من صغرى وجدانية ، وكبرى برهانية فالنتيجة المتحصلة منهما قطعية بتية ، واما الأول فالصغرى فيه ليس امرا وجدانيا فعلية ، بل صحة صغراه يتوقف على أمور ، اما تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه أو كون المولى غير حكيم أو غير عادل أو كون العقاب بلا بيان امرا غير قبيح ، فلأجل واحد من هذه الأمور يصير العقاب محتملا ، والمفروض عدم تحقق واحد منها ، فظهر ان الصغرى في الثاني وجدانية ، قطعية فعلية ، اما الصغرى في الأول معلقة على تحقق واحد هذه الأمور والمفروض عدم تحققها ، فهذا القياس تام فعلى غير معلق على شيء وتمامية ذاك مبنية ومعلقة على بطلان القواعد المسلمة ، ولا شك عندئذ حكومة القياس المنظم من المقدمات الفعلية ، على المتوقف على أمور لم يحصل واحد منها بمعنى ان القياس الثاني دافع لصغرى القياس الأول ولعله إلى ذلك ينظر كلمات القوم ، وإلّا فظاهر كلماتهم من ورود إحدى الكبريين على الأخرى غير صحيح ، فان النزاع ليس بين الكبريين ، بل صحتهما مما لا إشكال فيه وصدقهما لا يتوقف على وجود مصداق لصغراه إذا لعقاب بلا بيان قبيح ، كان بيان في العالم أولا ، كما ان دفع الضرر المحتمل واجب

٢٥٣

كان الضرر محتملا أولا ، فاحتمال الضرر في بعض الموضوعات وتحقق البيان كذلك غير مربوط بحكم الكبريين وموضوعهما فلا يكون إحدى الكبريين واردة أو حاكمة على الأخرى قط بل أحد القياسين بعد تمامية مقدماته وجدانا أو برهانا يدفع صغرى القياس الآخر بالبيان المتقدم.

واما الثاني أعني ما إذا أريد من الضرر ، غير العقاب الأخروي الموعود جزاء للأعمال ، فان أريد منه اللوازم القهرية للأعمال التي يعبر عنه بتجسم الأعمال وتجسد الأفعال بتقريب انها ليست من العقوبات السياسية المجعولة ، حتى يرتفع بحكم الفعل بل صور غيبية لأفعال الإنسان ، وقد استدل أصحاب هذا الرّأي بعدة آيات واخبار ظاهرة فيما قالوه (وعليه) فلا بدّ من دفع هذا الاحتمال «فنقول» ان ما هو المقرر عند أصحاب هذا القول ، ان الأعمال التي تبقى آثارها في النّفس هي الآثار الحسنة النورانية أو السيئة الظلمانية واما مطلق الأعمال مما هي متصرمة في عالم الطبع فلا يمكن تحققها في عالم آخر ، ولا تكون تلك الأفعال موجبة لخلاقية النّفس صورا غيبية تناسب تلك الأفعال ، وبالجملة : لوازم الأعمال هي الصور المتجسدة بتبع فعالية النّفس إذا خرجت عن الجسد في البرازخ أو بعد الرجوع إليه في القيمة الكبرى فالأفعال الطبيعية التي لم تورث في النّفس صورة لا يمكن حشرها وتصورها في سائر العوالم ، ومناط هذه التصورات هو الإطاعة والعصيان لا إتيان مطلق الأفعال.

وان أريد به الضرر الدنيوي ففيه ان احتمال مطلق الضرر ولو كان دنيويا غير واجبة الدفع ما لم يوجب احتمال العقاب (فان قلت) ان مع احتمال الضرر يحكم العقل بقبح الارتكاب ، وبالملازمة تثبت الحرمة (قلت) : مضافا إلى ان ارتكاب الضرر ليس قبيحا ، بل هو بلا داع عقلائي سفه ، ان لازم ذلك البيان ، هو العلم بالتكليف في صورة احتماله (فتأمل) (فان قلت) ان احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح وهو مستلزم لاحتمال العقاب وقد علم وجوب دفعه (قلت) مضافا إلى ما أوردنا على الأول من ان ارتكاب الضرر بلا داع عقلائي سفه لا قبيح ومعه لا سفه ولا قبح ، يرد عليه ان الضرر بوجوده

٢٥٤

الواقعي لا يؤثر في القبح بل على فرضه لا بد من العلم به ، فالعلم به موضوع للقبح فمع احتمال الضرر لا يكون قبيحا جزما

أضف إلى ذلك ان الشبهة الموضوعية والوجوبية مشتركتان مع الشبهة التحريمية في هذه التوالي المدعاة ، فلو كانت للافعال لوازم قهرية مؤذية لصاحبها لكان على الشارع الرءوف الرحيم إيجاب الاحتياط حتى يصون صاحبها عن هذه اللوازم القهرية ، فالترخيص فيها إجماعا بل ضرورة دليل على بطلان تلك المزعمة ، وانه ليس هاهنا ضرر أخروي أو دنيوي واجب الدفع كما لا يخفى وأظن ان هذا المقدار من الأدلة كاف في إثبات البراءة الشرعية ، ولنعطف عنان الكلام إلى مقالة الأخباريين.

استدلال الأخباري على وجوب الاحتياط بوجوه

قد استدلوا بوجوه : منها : الآيات : وهي على وجوه : (منها) ما دل على حرمة الإلقاء في التهلكة كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، و «فيه» ان ملاحظة سياق الآيات يرشدنا إلى المرمي منه ، فانها نازلة في مورد الإنفاق للفقراء وسد عيلتهم وأداء حوائجهم بإعطاء الزكاة والصدقات حتى يتحفظ بذلك نظم الاجتماع ، ويتوازن أعدال المجتمع ولا ينفصم عروة المعيشة لأرباب الأموال بالثورة على ذوي الثروة ، فان في منعهم عن حقهم إلقاء لنفوسهم إلى التهلكة ، أو في مورد الإنفاق في سبيل الجهاد ، لأن في ترك الإنفاق مظنة غلبة الخصم إلى غير ذلك من محتملات و (اما مورد الشبهة) فليس هاهنا اية هلكة لا أخروية بمعنى العقاب لقيام الأدلة على جواز الارتكاب ، ولا دنيوية ، إذ لا يكون في غالب مواردها هلكة دنيوية

 ومنها : ما دل على حرمة القول بغير علم : كقوله تعالى : وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبون هينا وهو عند الله أعظم (النور ـ الآية ١٥) وقوله تعالى أتقولون على الله ما لا تعلمون (الأعراف ـ الآية ٢٧) وجه الدلالة ان الحكم

٢٥٥

بجواز الارتكاب تقول بلا علم وافتراء عليه تعالى قال الشيخ الأعظم ولا يرد على أهل الاحتياط لأنهم لا يحكمون بالحرمة بل يتركون لاحتمالها وهذا بخلاف الارتكاب فانه لا يكون إلّا بعد العلم بالرخصة والعمل على الإباحة ، والظاهر منه ارتضائه بهذا الفرق ولهذا أجاب عن الإشكال بان فعل الشيء المشتبه حكمه ، اتكالاً على قبح العقاب بلا بيان ليس من ذلك.

وأنت خبير : بان النزاع بين الأخباري والأصولي في وجوب الاحتياط وعدمه لا في الترك وعدمه فالأخباري يدعى وجوب الاحتياط ويحكم به ، والأصولي ينكر وجوبه ، ويقول بالبراءة والإباحة فكل واحد يدعى امرا ويقيم عليه أدلة ، والجواب عن أصل الاستدلال ، انه سيوافيك في مباحث الاستصحاب ان المراد من العلم واليقين في الكتاب والسنة الا ما شذ ، هو الحجة ، لا العلم الوجداني ، والمنظور من الآيات هو حرمة الفتوى بلا حجة ، والتقول بلا دليل ، من الكتاب والسنة والعقل ، (وعليه) فليس الأصولي في قوله بالبراءة متقولا بغير الدليل ، لما سمعت من الأدلة المحكمة الواضحة

 ومن الآيات : ما دل على وجوب الاتقاء حسب الاستطاعة والتورع بمقدار القدرة مثل قوله سبحانه : فاتقوا الله ما استطعتم وقوله : عزّ اسمه وجاهدوا في الله حق جهاده (الآية) وقوله عزّ شأنه : فاتقوا الله حق تقاته

 وأجاب عنه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه : بان الاتقاء يشمل المندوبات وترك المكروهات ، ولا إشكال في عدم وجوبهما فيدور الأمر بين تقييد المادة بغيرهما وبين التصرف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان حتى لا ينافى فعل المندوب وترك المكروه ، ولا إشكال في عدم أولوية الأول ان لم نقل بأولوية الثاني من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب حتى قيل انه من المجازات الراجحة المساوي احتمالها مع الحقيقة «انتهى» وفيه اما أولا : فان شمول الاتقاء لفعل المندوب وترك المكروه مورد منع ، فان التقوي عبارة عن الاحتراز عما يوجب الضرر ، أو يحتمل في فعله أو تركه الضرر ، وليس المندوب والمكروه بهذه المثابة ، واما شموله لمشتبه

٢٥٦

الحرمة أو الوجوب ، فلاحتمال الضرر في فعله أو تركه ويشهد على المعنى المختار الاستعمالات الرائجة في الكتاب والسنة ، واما ثانياً ، فلو سلم كون استعمال الهيئة في غير الوجوب كثيرا إلّا ان تقييد المادة أكثر ، بل قلما تجد إطلاقا باقيا على إطلاقه وهذا بخلاف هيئة الأمر فهي مستعملة في الوجوب واللزوم في الكتاب والسنة إلى ما شاء الله (أضف) إلى ذلك ان ترجيح التصرف في الهيئة على التصرف في المادة يوجب تأسيس فقه جديد ، ولا أظن انه (قدس‌سره) كان عاملا بهذه الطريقة في الفروع الفقهية ، وان تكرر منه القول بترجيح التصرف في الهيئة على المادة في مجلس درسه.

نعم يتعين في المقام التصرف في الهيئة دون المادة لا لكون ذلك قاعدة كلية بل لخصوصية في المقام ، لأن الآية شاملة للشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية ولو حملنا الآية على الوجوب بلا تصرف في مفاد الهيئة ، يستلزم تقييد الآية ، وإخراج بعض الأقسام ، مع ان لسانها آبية عن التقييد. بل التقييد يعد امرا بشيعا ، وكيف يقبل الطبع ان يقال اتقوا الله حق تقاته الا في مورد كذا وكذا. فلا مناص عن التصرف في مفاد الهيئة بحمل الطلب على مطلق الرجحان. حتى يتم إطلاقه. ولا يرد عليها تقييد أو تخصيص. وليس الأصولي منكرا لرجحان الاحتياط أبدا (أضف) إلى ذلك ان الآيات شاملة للمحرمات والواجبات المعلومة ولا إشكال في امتناع تعلق الأمر التعبدي بوجوب إطاعتهما فيجب حمل الأوامر فيها على الإرشاد فتصير تابعة للمرشد إليه. فلو حكم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته يتعين العمل على طبق المرشد إليه : وان لم يثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه. لا بد من العمل أيضا على طبقه.

احتجاج الأخباري بالسنة

وهي على طوائف : الأولى ما دل على حرمة القول أو الإفتاء بغير علم وقد أوضحنا المراد من تلك الطائفة عند البحث عن الآيات الدالة على حرمة القول بغير علم فراجع

٢٥٧

الثانية ما دلت على الرد على الله ورسوله والأئمة من بعده وإليك نماذج من تلك الطائفة منها رواية حمزة الطيار : انه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعها منها قال له كف واسكت ثم قال أبو عبد الله انه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد على أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق قال الله تعالى فاسألوا أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون. و (فيه) ان الظاهر من الأمر بالكف اشتمال الخطبة على المطالب الاعتقادية «فاذن» النهي راجع إلى التقول فيها بلا رجوع إلى أهل الذّكر ولو سلم كونها أعم من الاعتقادية ، فالنهي حقيقة راجع إلى الإفتاء فيها بلا رجوع إلى أهل الذّكر ، فلا ترتبط بالمقام ، فان الأصولي انما أفتى بالبراءة بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة.

منها : رواية جميل بن صالح عن الصادق عليه‌السلام قال قال رسول الله في كلام طويل إلى ان قال : وامر اختلف فيه فرده إلى الله.

ومنها : رواية الميثمي عن الرضا عليه‌السلام في اختلاف الأحاديث : قال : وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا.

و (منها) رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه : ان علي بن الحسين عليهما‌السلام قال لا بان بن عياش يا أخا عبد قيس ان صح لك امر فاقبله ، وإلّا فاسكت تسلم وردّ علمه إلى الله فانه أوسع مما بين السماء والأرض.

و (منها) : رواية جابر : عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصية له لأصحابه قال : إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وروده إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا

 (ومنها) : رواية عبد الله بن جندب عن الرضا : في حديث : ان هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترهم بالشبهة ولبّس عليهم امر دينهم (إلى ان قال) والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحير ورد ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه.

والجواب عن الكل : بان شيئا منها غير مربوط بالمقام بل اما مربوط بالتقول

٢٥٨

بلا رجوع إلى أئمة الدين ، أو مربوط بالفتوى بالآراء والأهواء من غير الرجوع إليهم والأصولي لا يفتى في اية واقعة من دون الرجوع إلى أئمة الحق و (بالجملة) أدلة الحل مستندة للأصولي في الفتوى بالحكم الظاهري : وأدلة البراءة المؤيدة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مستند له في الفتوى بعدم وجوب الاحتياط فتلك الأدلة واردة على تلك الروايات.

الثالثة : ما دل على التوقف بلا تعليل (منها) : مرسلة موسى بن بكر قال : أبو جعفر لزيد بن علي : ان الله أحل حلالا وحرم حراما (إلى ان قال) فان كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك وإلّا فلا ترو منّ امرا و (منها) رواية زرارة عن أبي عبد الله : لو ان العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا (وفيه) ان الرواية ناظرة إلى الإنكار بلا دليل ، وستر الحق بلا جهة ، وأين هي من الدلالة على رد البراءة المستفادة من الكتاب والسنة ، وهذه الرواية مربوطة بالأصول وشبهات أهل الضلال.

و (منها) : كتاب أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف : فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه (وفيه انها راجعة إلى الشبهة الموضوعية كما هو غير خفي على من لاحظ الكتاب و (منها) كتابه إلى مالك الأشتر : اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور (إلى ان قال) أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور (وفيه) انه راجع إلى أدب القاضي في المرافعات التي لا تخرج عن حدود الشبهة الموضوعية ، فكيف يستدل على المقام ـ مع انه سوف يوافيك عن الجميع جوابا آخر فانتظر و (منها) خطبة منه عليه‌السلام فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتفون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصى (إلى ان قال) ويعملون في الشبهات (وفيه) انها راجعة إلى المارقين أو القاسطين من الطغاة الخارجين عن بيعته ، المحاربين لإمام عصره و (منها) : وصيته عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام : يا بنى دع القول فيما لا تعرف و (منها) وصية

٢٥٩

آخر له لا تخرج عن حدود الأولى.

وملخص الجواب عن هذه الطائفة مع ما عرفت المناقشة في أكثرها انها مما تلوح منها الاستحباب فان كلمات الأئمة لا سيما أمير المؤمنين مشحونة بالترغيب إلى الاجتناب عن الشبهات ، وبهذه الطائفة ينسلك في الروايات التي يستشم منها الوجوب مثل ما رواه الشهيد في الذكرى قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، مع احتمال ان يكون المراد منه رد ما يريبك (أي المشتبه) إلى غيره حتى يتضح معناه : وفي وزان ما تقدم من تلك الطائفة قوله عليه‌السلام أورع الناس من وقف عند الشبهة وقوله عليه‌السلام لا ورع كالوقوف عند الشبهة ، فان الروايتين وما قارنهما من الروايات في المعنى أقوى شاهد على الحمل على الاستحباب.

الرابعة : اخبار التثليث (منها) رواية النعمان بن بشير : قال سمعت رسول الله يقول : ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو ان راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات و (منها) رواية سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قال جدي رسول الله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة (إلى ان قال) وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي من تركها صلح له امر دينه ، وصلحت له مروته وعرضه ومن تلبس بها وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى ان يرعاها في الحمى أقول هذه الروايات صريحة في الاستحباب ضرورة ان الرعي حول الحمى لم يكن ممنوعا ، غير ان الرعي حوله ، ربما تستوجب الرعي في نفس الحمى فهكذا الشبهات ، فانها ليست محرمة غير ان التعود بها كالقعود بالمكروهات ربما يوجب تجري النّفس وجسارته لارتكاب المحرمات بل في هذه الروايات شهادة على التصرف في غيرها لو سلمت دلالتها ، الخامسة ما دل على التوقف معللا بأن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات كما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام قال الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وفي رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام الوقوف

٢٦٠