رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

حيث يشاء (١).

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز أن يكون المعنى : ولو ترى أيها السامع ، وجوابه محذوف ، تقديره : لرأيت أمرا فظيعا ، و «لو» و «إذ» كلاهما للمضيّ ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود ، و «إذ» ظرف للرؤية (٢).

(الْمُجْرِمُونَ) مبتدأ ، خبره : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ)(٣) ، أي : مطأطئوها حياء وندما ، (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : أبصرنا صدق موعدك ووعيدك ، وسمعنا منك صدق رسلك.

وقيل : المعنى : أبصرنا وسمعنا بعد أن كنا عميا وصمّا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٩٨) ، ومجاهد (ص : ٥١٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٤٣) وعزاه للطبري.

(٢) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥١٧).

(٣) انظر : إعراب القرآن للنحاس (٣ / ٢٩٤).

٨١

قال قتادة : أبصروا حين لم ينفعهم البصر ، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع (١).

وفيه إضمار ، تقديره : يقولون ربنا أبصرنا. وموضعه من الإعراب : النصب على الحال ، أو هو خبر ثان للمبتدأ.

وفي قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) إشعار بأن الإيمان والعمل الصالح منوط بمشيئة الله تعالى وتقديره وردّ لقولهم : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً).

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) قال ابن السائب : سبق القول مني (٢).

وقال غيره : وجب القول مني.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي : من عصاة الفريقين.

والقول الذي حق من الله : قوله تعالى لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥].

قوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : فذوقوا العذاب بترككم الاستعداد ليومكم هذا ، أو بترككم الاستعداد ليومكم هذا ، أو بترككم الإيمان به.

(إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم في العذاب.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٥ ـ ٣١٠٦). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٤٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الماوردي (٤ / ٣٥٩).

٨٢

قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧)

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) وعظوا وخوّفوا بها (خَرُّوا سُجَّداً) سقطوا على وجوههم ساجدين ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قالوا : سبحان الله وبحمده ، (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن تعفير وجوههم لله تعالى.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ترتفع وتنبو عنها ، من قولك : جفا الشيء عن الشيء وتجافا عنه ؛ إذا نبا عنه ولم يلزمه (١).

والمضاجع : فرش النوم ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (٢)

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) حال (٣) ، على معنى تتجافى جنبهم داعين ربهم (خَوْفاً وَطَمَعاً) لأجل خوفهم من عقابه وطمعهم في ثوابه.

قال عطاء ومجاهد : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة (٤).

أخرج الترمذي عن أنس في قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قال :

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : جفا).

(٢) البيت لعبد الله بن رواحة ، وهو في : البحر (٧ / ١٩٧) ، والدر المصون (٥ / ٣٩٨) ، والطبري (٢١ / ١٠٢) ، والقرطبي (٥ / ٢٠٩ ، ١٤ / ١٠٠ ، ١٥ / ٥٢) ، والماوردي (٤ / ٣٦١) ، وزاد المسير (٥ / ٣٦٢) ، وروح المعاني (٢٣ / ٤٨).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ١٩٠) ، والدر المصون (٥ / ٣٩٨).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٦) عن أنس رضي الله عنه. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٣) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٥٤٥ ـ ٥٤٦) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك. ومن طريق آخر عن ابن عباس ، وعزاه لابن مردويه.

٨٣

«نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى : العتمة» (١).

وأخرج أبو داود عنه قال : «كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون» (٢).

وقال أبو الدرداء : هم الذين يصلون العشاء والصبح في جماعة (٣).

وقال الحسن وكثير من المفسرين : هم المتهجدون بالليل (٤) ، وهو اختيار الزجاج (٥) ؛ لقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) قال : لما كان قيام الليل عملا يستسرّ الإنسان به جعل لفظ ما يجازى عليه أخفى.

وفي الحديث : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ بن جبل : إن شئت أنبأتك بأبواب الخير؟ قلت : أجل يا رسول الله. قال : الصوم جنّة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله. قال : ثم قرأ هذه الآية : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ)(٦).

قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) قرأ حمزة ويعقوب والحلبي عن عبد الوارث عن أبي عمرو : «أخفي» بسكون الياء ، وحرّكها الباقون

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٤٦ ح ٣١٩٦).

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٣٥ ح ١٣٢١) وفيه : «يتيقظون» ، بدل : «يتنفلون».

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٣٩).

(٤) أخرجه الطبري (٢١ / ١٠١). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٣٦٢) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٥٤٨) وعزاه لابن نصر وابن جرير.

(٥) انظر : معاني الزجاج (٤ / ٢٠٧).

(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ١١ ح ٢٦١٦) ، وأحمد (٥ / ٢٣١ ح ٢٢٠٦٩) ، والحاكم (٢ / ٤٤٧ ح ٣٥٤٨).

٨٤

بالفتح (١). فمن أسكن الياء جعله فعلا مستقبلا ، على معنى : ما [أخفي](٢) أنا لهم ، ومن فتحها جعله فعلا ماضيا لم يسمّ فاعله.

و «ما» استفهامية ، أو بمعنى : الذي.

وقرأ ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو هريرة : «من قرّات أعين» على الجمع (٣).

قال ابن عباس : هذا مما لا تفسير له ، والأمر أعظم وأجلّ مما يعرف تفسيره (٤).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، اقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٥).

قال الزجاج (٦) : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : مفعول له.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٦٩) ، والكشف (٢ / ١٩١) ، والنشر (٢ / ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥٢) ، والسبعة (ص : ٥١٦).

(٢) في الأصل : أو خفي.

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٤٠) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٨) ، والبناء في : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٢).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٣).

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ١١٨٥ ح ٣٠٧٢) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤ ح ٢٨٢٤).

(٦) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٨).

٨٥

لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (٢٢)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) السبب في نزولها : ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنا أحدّ منك سنانا ، وأبسط منك لسانا ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال له علي : اسكت ، فإنما أنت فاسق ، فنزلت هذه الآية (١).

وقال شريك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل (٢).

قال الزجاج (٣) : «من» لفظها لفظ الواحد ، وهي تدل على الواحد وعلى الجماعة ، فجاء (لا يَسْتَوُونَ) على معنى : لا يستوي المؤمنون والكافرون.

ويجوز أن يكون (لا يَسْتَوُونَ) للاثنين ؛ لأن معنى الاثنين معنى الجماعة.

ثم أخبر عن منازل المقربين فقال : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى).

__________________

(١) أخرجه ابن عدي في الكامل (٦ / ١١٨) ، والخطيب في تاريخه (١٣ / ٣٢١) ، وأبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني (٥ / ١٥٣). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٤) ، وأسباب النزول (ص : ٣٦٣) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٥٥٣) وعزاه لأبي الفرج في كتاب الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤١).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٨).

٨٦

وقرأ ابن مسعود : (جَنَّةُ الْمَأْوى)(١).

وقرأ الحسن والنخعي والأعمش : «نزلا» بسكون الزاي (٢) ، وذلك كله.

والذي بعده مفسّر إلى قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أخرج مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب في قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) قال : «مصائب الدنيا ، والروم ، والبطشة أو الدخان. شكّ شعبة في البطشة أو الدخان» (٣).

قال ابن مسعود وقتادة : ما أصابهم يوم بدر (٤).

وقال النخعي : سنون أخذوا بها (٥).

قال مقاتل (٦) : أخذوا بالجوع سبع سنين.

وقال مجاهد : القتل والجوع (٧).

__________________

(١) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٤١) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٩).

(٢) مثل السابق.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٥٧ ح ٢٧٩٩).

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٤٩ ح ٣٥٥١) ، والطبراني في الكبير (٩ / ٢١٣ ح ٩٠٣٨) ، والطبري (٢١ / ١٠٩) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١١٠) كلهم عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٥٤) وعزاه للفريابي وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود.

(٥) أخرجه الطبري (٢١ / ١١٠).

(٦) تفسير مقاتل (٣ / ٣٠).

(٧) أخرجه الطبري (٢١ / ١١٠) ، ومجاهد (ص : ٥١١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٥٥) وعزاه للفريابي وابن جرير.

٨٧

وكل هذه الأقوال داخلة في قول أبي بن كعب.

قال الزجاج (١) : وجملته : أن كل ما يعذّب به في الدنيا فهو العذاب الأدنى ، والعذاب الأكبر : عذاب الآخرة.

وقال البراء : العذاب الأدنى : عذاب القبر (٢).

وقال جعفر بن محمد : العذاب الأدنى : غلاء السعر ، والأكبر : خروج المهدي بالسيف (٣).

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الإيمان والطاعة.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) قال صاحب الكشاف (٤) : «ثم» هاهنا للاستبعاد. والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد [في العقل والعادة](٥) ، كما تقول لصاحبك : وجدت [مثل](٦) تلك الفرصة ثم لم تنتهزها ؛ استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه «ثمّ» في بيت الحماسة :

لا يكشف [الغمّاء](٧) إلا ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها (٨)

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٨).

(٢) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤١).

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٥).

(٤) الكشاف (٣ / ٥٢٢).

(٥) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) في الأصل : منك. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٧) في الأصل : الغمات. والتصويب من مصادر البيت.

(٨) البيت لجعفر بن علبة الحارثي. انظر : الحماسة البصرية (١ / ١٥٠) ، والبحر المحيط (٧ / ١٩٩) ، ـ

٨٨

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن [رآها](١) واستيقنها واطلع على شدتها.

فإن قلت : هلّا قيل : إنا منه منتقمون؟

قلت : لما جعله أظلم من كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر [من](٢) الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢٥)

قوله تعالى : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) اختلفوا في تأويلها ؛ فقال أبو العالية ومجاهد وقتادة : المعنى : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى (٣).

قال المفسرون : وعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلقى موسى قبل أن يموت ، ثم لقيه ليلة الإسراء

__________________

ـ والكشاف (٣ / ٥٢٢).

(١) في الأصل : زارها. والمثبت من الكشاف (٣ / ٥٢٢).

(٢) في الأصل : عن. والمثبت من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه الطبري (٢١ / ١١٢) ، ومجاهد (ص : ٥١١) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١١٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٥٦) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي العالية. ومن طريق آخر عن مجاهد ، وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٨٩

على ما صحّت به الأخبار (١).

قال الزجاج (٢) : الذي جاء في التفسير : لا تكن في شك من لقاء موسى ، ودليله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] ، فالمعنى : فلا تكن يا محمد في مرية من لقائه ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة الخطاب له ولأمته في هذا الموضع ، أي : فلا تكونوا في شك من لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موسى.

قال الزجاج (٣) : وقيل أيضا : «فلا تكن في مرية من لقائه» : أي : من لقاء موسى الكتاب (٤) ، وتكون الهاء «للكتاب» ، ويكون في «لقائه» ذكر موسى.

ويجوز أن تكون الهاء ل «موسى» ، و «الكتاب» محذوف ؛ لأن ذكر الكتاب قد جرى كما جرى ذكر موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال (٥) : وهذا والله تعالى أعلم أشبه بالتفسير.

وقال أبو علي الفارسي (٦) : وفي ذلك مدح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امتثاله ما أمر به ، وتنبيه

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٦) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٥).

ولقاء موسى عليه‌السلام بسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تم في ليلة الإسراء والمعراج في السماء ، وراجعه موسى عليه‌السلام عدة مرات في فريضة الصلاة حتى خففت من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة ، وقد أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب : كيف فرضت الصلوات في الإسراء (١ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ح ٣٤٢).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٩).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٩).

(٤) لقائه : بمعنى : تلقّيه.

(٥) أي : الزجاج (٤ / ٢٠٩).

(٦) لم أقف عليه في الحجة.

٩٠

على الأخذ بمثل هذا الفعل.

وقيل : فلا تكن في مرية لقاء موسى ربه.

وقيل : من لقاء الأذى كما لقي موسى.

(وَجَعَلْناهُ) يريد : الكتاب ، في قول الحسن (١).

وموسى ، في قول قتادة (٢).

(هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي : من بني إسرائيل أئمة قادة في الخير ، وهم العالمون العاملون.

وقيل : الأنبياء.

(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) يدعون الناس إلى العمل بما في التوراة ، (لَمَّا صَبَرُوا). وقرأ حمزة والكسائي : «لما» بكسر اللام وتخفيف الميم (٣). وبها قرأت أيضا ليعقوب من رواية رويس عنه.

ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود : «بما صبروا» (٤) ، جعلوا «ما» مصدرية ، على معنى : جعلناهم أئمة لصبرهم.

ومن شدّد جعل «لمّا» بمعنى : حين.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٦) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٥) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٤).

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ١١٢). وذكره الماوردي في تفسيره (٤ / ٣٦٦) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٥٥٦).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٦٩) ، والكشف (٢ / ١٩٢) ، والنشر (٢ / ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥٢) ، والسبعة (ص : ٥١٦).

(٤) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٤٤) ، وأبو حيان في : البحر (٧ / ٢٠٠).

٩١

وقال أبو علي (١) : جعله كالمجازاة ، إلا أن الفعل المتقدم أغنى عن الجواب ، كما أنك إذا قلت : أجيئك إن جئت ، تقديره : إن جئت أجئك ، [فاستغنيت](٢) عن الجواب بالفعل المتقدم على الشرط.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي : بين الأنبياء وأممهم ، أو بين المؤمنين والكافرين ، ودخلت «هو» هاهنا فصلا ، ومثله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر : ١٠] ، قوله تعالى : (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤].

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)(٢٧)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «نهد» بالنون (٣). وقد سبق تفسيره في آخر طه (٤).

والضمير في قوله : (لَهُمْ) لأهل مكة ، (يَمْشُونَ). وقرئ شاذا : «يمشّون» بالتشديد (٥) ، (فِي مَساكِنِهِمْ) أي : يمرّون في متاجرهم على مساكنهم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) المطر أو السيل (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ)

__________________

(١) الحجة (٣ / ٢٧٨).

(٢) في الأصل : فإن استغنيت. والتصويب من الحجة ، الموضع السابق.

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٤٤).

(٤) عند الآية رقم : ١٢٨.

(٥) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٦ / ٢٦٧) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٦٤).

٩٢

قال الزمخشري (١) : هي التي جرز نباتها ، أي : قطع ؛ إما لعدم الماء ، وإما لأنه رعي وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جرز. ويدل عليه قوله : (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) قد ذكرنا فيما مضى أن الفتح يكون بمعنى : القضاء والحكم ، ويكون بمعنى : النصر.

فإن أريد الأول ـ وهو قول أكثر المفسرين ـ كان المعنى : ويقول كفار مكة تكذيبا واستهزاء واستبعادا : متى هذا القضاء والقصد الكائن بين المؤمنين والكافرين (٢). يريدون : يوم القيامة ، أو يوم وقوع الحكم بعذابهم في الدنيا ، على قول السدي (٣).

وإن أريد الثاني ؛ فالمعنى : متى فتح مكة ونصركم عليها. وهذا قول ابن السائب والفراء وابن قتيبة (٤).

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٥٢٣).

(٢) ذكره الطبري (٢١ / ١١٦) ، والماوردي (٤ / ٣٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٤).

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٥).

(٤) معاني الفراء (٢ / ٣٣٣) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٣٤٧) ، وتفسير الماوردي (٤ / ٣٦٨) ، وزاد المسير (٦ / ٣٤٥).

٩٣

فإن قيل : كيف يصح هذا القول والله تعالى يقول : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) وإيمان من آمن يوم فتح مكة نافع لهم؟

قلت : المعنى : لا ينفع الذين إيمانهم في حال القتل ومعاينة سلطان الموت ، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق.

وقال ابن عباس : المعنى : لا ينفع من قتل من الكفار يومئذ إيمانهم بعد الموت (١).

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (٢) ، وكان خالد بن الوليد دخل من غير الطريق التي دخل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقيه جماعة منهم سهيل بن عمرو فقاتلوه ، فصاح خالد في أصحابه ، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من قريش ، وأربعة من هذيل وانهزموا ، وجعل يقتل من لقي ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل إليه : ارفع السيف ، والقدرة الإلهية توقع في سمعه ، ضع السيف (٣).

إذا ثبت ذلك فنقول : يقال : آمنت فلانا إيمانا وأمانا.

فالمعنى : لا ينفعهم إيمانهم الذي جعل لهم ، ولا يدفع عنهم العذاب النازل بهم.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون لمعذرة أو توبة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٦).

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٤٠٧ ح ١٧٨٠).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٥).

٩٤

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال ابن عباس : منسوخ بآية السيف (١).

(وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم ومواعيدي فيهم بالهلاك ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) هلاكك.

وقرأ ابن السميفع : (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) بفتح الظاء (٢) ، على معنى : إنهم أحق أن ينتظروا هلاكهم ، أو أن الملائكة ينتظرونه.

والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٦).

(٢) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ٢٠٠) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٤٠٠).

٩٥

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي ثلاث وسبعون آية ، وهي مدنية بإجماعهم.

أخبرنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي ، أخبرنا أحمد بن مظفر بن سوسن التمار ، أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز ، أخبرنا أبو بكر (١) محمد بن العباس بن نجيح ، حدثنا يعقوب بن يوسف (٢) ، حدثنا القاسم بن الحكم (٣) ، حدثنا مسعر (٤) ، عن عاصم ، عن زر (٥) ، عن أبي بن كعب قال : «كم آية تدعون

__________________

(١) في الأصل زيادة لفظة : «بن». وهو خطأ ، انظر ترجمته في : تاريخ بغداد (٣ / ١١٨) ، وسير أعلام النبلاء (١٥ / ٥١٣ ـ ٥١٤).

(٢) يعقوب بن يوسف بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب بن الضحاك ، أبو عمرو القزويني ، كان ثقة (تاريخ بغداد ١٤ / ٢٨٦).

(٣) القاسم بن الحكم بن كثير بن جندب بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن إبراهيم بن كعب العرني ، أبو أحمد الكوفي ، قاضي همدان ، صدوق فيه لين ، مات سنة ثمان ومائتين (تهذيب التهذيب ٨ / ٢٧٩ ، والتقريب ص : ٤٤٩).

(٤) مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالي العامري الرواسي ، أبو سلمة الكوفي ، أحد الأعلام ، ثقة ثبت فاضل ، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، والتقريب ص : ٥٢٨).

(٥) زر بن حبيش بن حباشة بن أوس بن بلال ، وقيل : هلال الأسدي ، أبو مريم ، ويقال : أبو مطرف الكوفي ، مخضرم أدرك الجاهلية ، كان عالما بالقرآن قارئا فاضلا ، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين (تهذيب التهذيب ٣ / ٢٧٧ ، والتقريب ص : ٢١٥).

٩٦

سورة الأحزاب؟ قال : اثنين وسبعين أو ثلاثا وسبعين ، قال : فقال : كانت توازي سورة البقرة وأكثر. وقد قرأت فيها : الشيخ والشيخة [إذا زنيا ف](١) ارجموهما البتة نكالا من الله» (٢).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣)

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي : دم على التقوى ، أو ازدد منه ، أو هو مما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد : أمته.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) لا تقبل لهم [رأيا](٣) ولا مشورة.

قال المفسرون : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع ، وكان قد بايعه ناس منهم على النفاق ، فكان يلين لهم جانبه ويسمع منهم ، وقدم عليه في الموادعة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السلمي ، فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع وندعك وربك ، وأعانهم على ذلك القول رؤساء المنافقين.

ويروى : أن أهل مكة حين قدموا المدينة نزلوا على عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب بن قشير ، فلما عرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذكرنا ، همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) زيادة من مسند أحمد (٥ / ١٣٢).

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ١٣٢ ح ٢١٢٤٥).

(٣) زيادة من الكشاف (٣ / ٥٢٧).

٩٧

والمسلمون بقتلهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

فيخرّج في قوله تعالى وجه آخر : أي : اتق الله في نقض العهد.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالصواب والخطأ ، أو بما يكون منهم ، (حَكِيماً) في تدبيره.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث : (تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يريد : الكافرين والمنافقين ، وكذلك : (بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٢) بالياء فيهما على المغايبة ، وقرأ الباقون بالتاء (٣).

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال ابن عباس : كان المنافقون يقولون : إن لمحمد قلبين ، قلبا مع أصحابه وقلبا معنا ، فنزلت هذه

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٣٦٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٤٧).

(٢) عند الآية رقم : ٩ من سورة الأحزاب.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٧٠) ، والكشف (٢ / ١٩٣) ، والنشر (٢ / ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥٢) ، والسبعة (ص : ٥١٨ ـ ٥١٩).

٩٨

الآية (١).

وقال السدي وكثير من المفسرين : نزلت في جميل بن معمر الفهري (٢) ، وكان وقادا ظريفا لبيبا حافظا لما يسمع ، وكان يقول : إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فكانت قريش تسميه ذا القلبين ، فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم جميل بن معمر ، فتلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده وأخرى في رجله ، فقال : يا معمر : ما حال الناس؟ قال : انهزموا. قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال : ما شعرت إلا [أنهما](٣) في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده (٤).

وقال الزجاج (٥) : أكثر ما جاء في التفسير : أن عبد الله بن خطل كانت تسميه قريش : ذا القلبين.

وروي أنه كان يقول : إن لي قلبين أفهم بكل واحد منهما أكثر ما يفهم محمدا ، فأكذبه الله تعالى فقال : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(٦).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٤٨ ح ٣١٩٩) وقال : هذا حديث حسن ، وأحمد (١ / ٢٦٧ ح ٢٤١٠) ، والطبري (٢١ / ١١٨) ، والحاكم (٢ / ٤٥٠ ح ٣٥٥٥) ، والضياء المقدسي في المختارة (٩ / ٥٣٩ ـ ٥٤٠ ح ٥٢٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٦١) وعزاه لأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣١١٢).

(٣) في الأصل : نهما.

(٤) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٣٦٥) ، وزاد المسير لابن الجوزي (٦ / ٣٤٩).

(٥) معاني الزجاج (٤ / ٢١٣ ـ ٢١٤).

(٦) أخرجه الطبري (٢١ / ١١٨) وذكره الماوردي (٤ / ٣٧٠).

٩٩

ثم قرن هذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له فقال تعالى : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أمّا ، وكانت الجاهلية تطلّق بهذا الكلام ، فأنزل الله تعالى كفارة الظّهار في سورة المجادلة.

ومعنى الكلام : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن كأمهاتكم في التحريم. وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم الظّهار وأحكامه في سورة المجادلة.

واختلف القرّاء في قوله تعالى : (اللَّائِي) ؛ فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بتحقيق الهمزة وياء ساكنة بعدها ، وكذلك قالون وقنبل إلا أنهما اجتزاء بالكسرة عن الياء. وقرأ أبو عمرو والبزي وورش بتخفيف الهمزة من غير ياء بعدها (١).

قال أبو علي (٢) : القياس أن تجعل بين بين.

وقال بعض أصحاب ابن مجاهد : كان ابن كثير وأبو عمرو يقرآن بتخفيف الهمزة فتصير ياء ساكنة ، وزعم أنه كذلك ضبط ، وكذلك اختلافهم في التي في المجادلة (٣) والطلاق(٤).

قال أبو علي (٥) : من قرأ بإثبات الياء فهو القياس ؛ لأن اللائي وزنه : فاعل ، مثل : شائي.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٧١) ، والكشف (٢ / ١٩٣) ، والنشر (١ / ٤٠٤) ، والإتحاف (ص : ٣٥٢) ، والسبعة (ص : ٥١٨).

(٢) الحجة (٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠).

(٣) عند الآية رقم : ٢.

(٤) عند الآية رقم : ٣.

(٥) الحجة (٣ / ٢٧٩).

١٠٠